إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

ألسياسة العامة للامام علي عليه السلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ألسياسة العامة للامام علي عليه السلام


    السياسة العامة للإمام علي (عليه السلام)
    السياسة الإدارية | السياسة الداخلية | السياسة الاقتصادية | السياسة الاعلامية

    <B>أشرنا في فصول هذا البحث إلى حقيقة ثابتة هي أن الفرصة لم تتح للإمام لإنشاء الدولة بكامل مؤسساتها المعروفة كما هي اليوم ولو كانت الفرصة مواتية للإمام لتطبيق نظريته في الدولة بصورة كاملة والتي أعلن عنها لمالك الأشتر لامتلكنا اليوم تُراثاً ذو قيمة حضارية عن دولة الإمام علي، لكن انشغال الإمام في الصراع المرير ودخوله في معركة بعد خروجه من أخرى فوّت عليه وعلى الأمة فرصة ذهبية في إنشاء دولة تستند إلى القانون وتقر للإنسان بحقوقه وتضع أمامه الواجبات ولتكشف من خلاله دولة الإمام علي الكثير من مجاهيل السياسة الإسلامية. لكن وعلى رغم افتقار الإمام لتلك الفرصة التي كان ينتظرها لإرساء دعائم الكيان الإسلامي إلا أن المقدار الذي جرى تطبيقه من الفكر السياسي للإمام من خلاله ومن خلال ولادته ليس بالشيء القليل، وقد ألمحنا في الموضوعات السابقة إلى قسم وسنضيف ما لم نشر إليه في هذا الفصل.


    لكن قبل أن نخوض غمار الحديث عن السياسات العامة للإمام كان لابدّ من الإشارة إلى حقيقة هامة هي.. أننا لا نستطيع أن نفهم الإمام ونفهم دوافع سياساته ومتبنياته في الحكم إلا من خلال ما يلي:
    1ـ القرآن وما جاء فيه من قواعد للحكم.
    2ـ السيرة النبوية وما تبناه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من أساليب الحكم.
    3ـ الإسلام وما يطمح إليه ويسعى إلى تحقيقه في بناء المجتمع الفاضل وبناء الفرد المؤمن بتركيز المبادئ والقيم التي جاء بها القرآن.
    4ـ المسلمون الذين بايعوا الإمام أمير المؤمنين والذين عارضوا الفجوات في حكم الخليفة عثمان وحكم ولاته.. فكان على الإمام أن يكون وفياً لهؤلاء.
    5ـ ومن خلال الإمام نفسه حياته قبل أن يستلم المسؤولية، زهده وتقواه وتمسكه بالحق وعدم المساومة والمداهنة مع الباطل حتى لو كلّفه ذلك دمه.


    كان يفترض بالذين انتقدوا سياسة الإمام وهم عدد لا بأس به من الكتاب المعاصرين الإسلاميين والمستشرقين أن ينتزعوا أنفسهم من القوالب السياسية المتعارف عليها حالياً وأن يتعايشوا مع القرآن والسنة ومقاصد الإسلام وقيمه، والمسلمين الذين بايعوا الإمام، والإمام نفسه، حينذاك كان باستطاعتهم أن يكتبوا بموضوعية وببصيرة ثاقبة ولما تجرّأ بعضهم القول بأن الإمام علي (عليه السلام) رجل غير حازم على الإطلاق ولا يمكن أن يوصف قائدٌ من طرازه بأنه سياسي ناجح (1)، كما ذكره هادي العلوي في مؤلفه في السياسة الإسلامية الفكر والممارسة.
    كيف استطاع هذا الكتاب أن يكتشف أن علياً ليس بسياسي ناجح؟
    فهل بتركه لطلحة والزبير ليغادرا المدينة ويتآمرا عليه مع علمه بقصدهما ويقينه بأنهما يتآمران عليه وكان باستطاعته منعهما من الفرار أم بقراره وإزاحة معاوية عن الولاية؟
    أم لأنه لم يقتل عمرو بن العاص لما كشف له عن عورته؟
    أم لأنه عفا عن مروان بن الحكم وعفا عن عبد الله بن الزبير وترك أم المؤمنين تعود إلى المدينة معزّزة مكرّمة.
    هل لأن علياً الذي لم يُقم حكماً بوليسياً يعتقل الناس فيه على الظنة ويحاكمهم على التهمة؟
    وهل لأنه ترك أجنحة المعارضة لتنشط وتعمل بحرية شاملة؟
    وهل لأنّه أراد أن يكون وفياً للذين بايعوه للخلافة؟
    وهل لأنه لم يرد كرسياً مزخرفاً ولا حاشية ولا حرساً خاصاً كما هو المتعارف عند السلاطين والملوك؟
    هل لهذه الأسباب أصبح عليٌ سياسياً غير ناجح؟ فما هو مقياس التقييم. وما هي السياسة التي يفهمها الكاتب؟ هل هي الميكافيلية التي يُمارسها حكام الجور؟
    لو نظر المؤلف إلى علي بنظرة إنصاف ولو لمرة واحدة لوجد أن علياً سياسي ناجح بدليل أن البشرية اليوم تمجّد مواقفه وتكرّم اسمه وتحفظ نهجه وتهتدي بكلماته. فأين معاوية اليوم من علي (عليه السلام).
    إذن لا يخدعنا النجاح المؤقت الذي أحرزه معاوية بالدهاء والحيلة، فما الذي أعقب هذا النجاح؟ أين هو معاوية اليوم في أية زاوية من التاريخ؟ وأين هو علي الذي أصبح العظماء يلهثون باسمه ويستلهمون من حكمته في نهج البلاغة؟
    فلهذا المؤلف ولغيره ولكل من يريد الحقيقة نقول اقرأوا علياً بتمعّن ثم بعد ذلك احكموا عليه. هل كان سياسياً أم لا؟ ونحن هنا نُدلي ببعض ما أرّخه لنا المؤرخون من فنون السياسة التي مارسها الإمام علي في الشؤون المختلفة.




    </B>
    أولاً: السياسة الإدارية




    <B>كان التنظيم الإداري في الدولة الإسلامية يقوم على نظام الولايات فكانت الدولة مقسمة إلى مجموعة ولايات: ولاية الكوفة، وولاية البصرة، وولاية الشام، وولاية مصر، وولاية البحرين.
    وبمجيء الإمام علي إلى الخلافة عزّز هذا النظام وذلك بأن أعطى للوالي صلاحيات واسعة فتحول الحكم إلى نمط من اللامركزية، ويلاحظ هذا التغيّر في نمط تنظيم الولاية من ولايته (عليه السلام) لمالك الأشتر عندما ولاّه مصر، فقد أعطى لواليه صلاحية تشكيل مجلس للشورى وأعطاه صلاحية تعيين العمال وعزلهم وأعطاه صلاحية وضع الخطط الاقتصادية والثقافية. وأكثر من ذلك منح واليه صلاحية وزارة الخارجية في تشخيص العلاقات في حالتي الحرب والسلم وهو غير موجود في نظام الولايات المعمول به حالياً في بعض الدول المتقدمة.
    والولاية بهذه الصلاحيات بحاجة إلى والي قوي يتمكن من الإدارة، فكان يدقق كثيراً في اختيار الولاة وعرف عنه شدته في الاختيار وعدم التساهل مع الوالي الضعيف وعُرف عنه أيضاً حرصه على محاسبة الولاة في الصغيرة والكبيرة ومشهورٌ عنه محاسبته لابن حنيف في رسالته المعروفة التي ذكر فيها:
    (أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تُستطاب لك الألوان..). إلى آخر الرسالة (2).
    هكذا كان دقيقاً في المحاسبة حتى على أمرٍ صغير اقترفه الوالي وهو حضوره مأدبة ليس فيها أحد من الفقراء.
    وفي زمن الإمام توسعت الولايات، خاصة الكوفة التي أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية. أما البصرة فقد ساهمت في المعارك ودخلت الصراع فتحولت إلى تجمّع بشري متهيئ دائماً للقتال. ومع اتساع هاتين الولايتين اللتين كانتا تمدّان الدولة بالجنود كان لابدّ من تقسيم إداري لهما فقسّم الإمام الكوفة إلى سبع أسباع وقسّم البصرة إلى أربعة أرباع. وهذا التقسيمات كانت إدارية وليست عسكرية كما اعتقد البعض (3).
    فقد أورد المجلسي في (بحار الأنوار) عن عاصم بن كليب عن أبيه قال إنه قال: أتى عليّ بمال من أصفهان، وكان أهل الكوفة أسباعاً، فقسّمه سبعة أقسام (4).


    فالراوي يقول: (وكان أهل الكوفة) ولم يذكر شيئاً عن الجنود أو الجيش. منها يتبين أن نظام التقسيم السباعي كان تقسيماً إدارياً وليس عسكرياً وذلك لتسهيل إدارة الولاية. من كل ما تقدم نلاحظ أن هناك أهدافاً محددة كان الإمام يسعى إلى تحقيقها من خلال تنظيمه الإداري وهذه الأهداف هي:
    1ـ تخفيف العبء عن المركز بتوزيع المسؤوليات والمهام على الولايات المختلفة.
    2ـ تسهيل عملية التوزيع لبيت المال.
    3ـ تعميق مبدأ التعددية السياسية والاجتماعية في ظل الإمامة التي تقوم بدور الجامع لهذه التعدديات.


    وقد لاحظنا الفروقات الاجتماعية بين أهالي الولايات المختلفة الشام، مصر، الكوفة، البصرة. وحتى الولاءات السياسية مختلفة في هذه الولايات، فالتعددية هي ظاهرة قائمة لا يمكن نكرانها لكنها بحاجة إلى مظلة تساهم في توجيه هذه التعددية لأهداف مشتركة تتبناها الدولة الإسلامية.




    </B>
    ثانياً: السياسة الداخلية




    <B>هناك خيط ارتباط بين السياسة الإدارية والسياسة الداخلية ونقاط افتراق بينهما، فالإدارة هي تنظيم للمجتمع بينما السياسة الداخلية تأمين وضع أفضل للمجتمع في الأمن والاستقرار فالسياسة الإدارية هي تقسيم المجتمع الإسلامي إلى مراكز ووحدات بينما السياسة الداخلية تعنى بتوحيد هذا المجتمع وجعله مجتمعاً متقارباً متآخياً مساهماً في العمل الجاد.


    وكان للإمام علي (عليه السلام) محاور في سياسته الداخلية ظلّ متمسكاً بها طيلة فترة حكمه هذه المحاور هي:
    1ـ تعزيز وحدة الأمة الإسلامية في وقت دبّ فيه الشقاق والاختلاف أجزاء من الجسد الإسلامي، فقد كافح أمير المؤمنين ظاهرة التمزّق أيّما مكافحة فكان يوصي المسلمين:


    (وألزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة) (5).


    نظر الإمام إلى واقع المسلمين وكيف تفرقوا إلى أحزاب، قسمٌ في الشام يوالون معاوية، وقسمٌ مع طلحة والزبير فلم يكن أمامه إلا أن يقدم النصح لكن كانت الصدور تضيق لسماع النصيحة وكانت الرغبة في الحرب تدفعها حثيثاً نحو المواجهة مع الإمام، فعلى رغم الجهود التي بذلها الإمام للوقوف بوجه الرغبة بالحرب إلا أنها كانت أقوى من أي شيء..
    2ـ كسب مودة الرعية


    بعض الحكومات لا شأن لها بالرعية سواء كانت إلى جانبها أم كانت في الطرف المعاكس منها لكن عند الإمام يختلف الأمر فللرعية مكانة مرموقة في فكر الإمام وخططه فعلى الوالي أن يكسب ود الرعية وبدون ذلك لا تتحقق المشاركة المطلوبة فالإمام يؤسس كياناً للدولة مبنياً على مشاركة الرعية.
    يقول لمالك الأشتر: (وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور - وقلّة استثقال دولهم وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع - وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر) (6).


    فالسياسة الحسنة التي يتبعها الوالي ستؤدي حتماً إلى كسب مودة الرعية وإلى كسب المساندة المستمرة من قبلهم للحكومة.
    3ـ وفي مناطق التوتر فسياسة الوالي تقوم على مبدأين.
    أ: الإحسان.
    ب: انتزاع عقد الخوف من قلوبهم.


    يقول الإمام أمير المؤمنين في وصية له إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة:
    (واعلم أن البصرة مهبط إبليس - ومغرسُ الفتن، فحادِث أهلها بالإحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم. وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلطتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجمٌ إلا طلع لهم آخر. وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام وإن لهم بنا رحماً ماسة وقرابة خاصة نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون على قطيعتها فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشرٍّ فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك ولا يغيلنّ رأيي فيك والسلام) (7).
    فالدولة التي ينشئها أمير المؤمنين هي دولة المحبة، كلّ فرد فيها يحبّ الفرد الآخر ولا يريدها دولة قائمة على الخوف فتلك هي الدول المستبدة التي تقوم سياستها على الإرهاب والقمع. فهناك من يرى أن خير معين للحاكم على الحكم هو خوف الرعية منه وهذه هي النظرة الميكافيلية. بينما علي (عليه السلام) لا يرى إلا الحب سبيلاً لبناء الدول والجماعات والحب لا ينمو إلا بالإحسان. والإحسان هو أكبر من العدل، بل هو العدل وإضافة.
    وتتجلى في عبارات أمير المؤمنين لواليه عبد الله بن عباس الدقة في التعبير وهي تعكس المستوى الرفيع الذي بلغه الفكر السياسي لدى الإمام أمير المؤمنين.


    وبالحب والإحسان تتوثق العلاقة بين الحاكم والرعية ويستتب الأمن والاستقرار.
    4ـ مكافحة الأحقاد من بين العوامل المؤدية إلى سلب الأمن والاستقرار عامل الأحقاد الدفينة بين الناس والذي يؤدي بطبيعة الحال إلى الانتقام وبالتالي إلى انتشار الجريمة في المجتمع. فقد جاء الإمام ليضع أمام ولاته قاعدة ذهبية هي:


    أطلق عن الناس عُقدة كل حقدٍ واقطع عنك سبب كل وتر فأكثر عوامل التمرد على الحكومات ناشئة من الأحقاد الدفينة التي لا تجد نفسها متنفساً إلا الانفجار بوجه الحاكم.
    5ـ حضور الحاكم الدائم بين الناس: فوجود الحاكم بين الناس يسهل له الاتصال بهم وسماع مشاكلهم ومحاولة حلها أما الاحتجاب فسيسد الأبواب بوجه الناس الذين يريدون طرح مشكلاتهم والبحث عن حلولٍ.


    يقول الإمام علي (عليه السلام):
    (وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضيق، وقلّةُ علم بالأمور) (8).
    وكان الإمام يركز أهداف هذه السياسة من خلال تربيته للمجتمع ولأصحابه، فقد جمع بعض المؤلفين نصائحه إلى الأمة وإلى أصحابه في فصول مستقلة ويستطيع كل من يريد المزيد مراجعة تلك الكتب للاطلاع على أهمية الجانب البنائي في منهج الإمام علي (عليه السلام).
    فالإمام يدرك أن القضايا لا تحل عبر الأوامر الصادرة من القمة إلى القاعدة، بل إن هناك أموراً لابدّ وأن تسبق الأوامر وهي النصيحة.. وهي تمهّد السبيل للاقتناع بالأوامر فرسائله بأجمعها تقريباً تبتدئ بالنصيحة حتى مع أعدائه كان يبدأ بالنصيحة قبل أن يبدأ بتحذيرهم والتأكيد على النصيحة جزءٌ من استراتيجية الإمام لأنه يعتقد في الحاكم أنه مُربٍّ للأمة قبل أن يكون حاكماً. يقول الإمام:
    (إنه ليس على الإمام إلا ما حُمِّل من أمر ربه: الإبلاغ في الموعظة والاجتهاد في النصيحة والإحياء للسنة. وإقامة الحدود على مستحقيها) (9).
    والحاكم باستقامته يرتدع أصحاب الغي، ويمتنع من تسوّل له نفسه العبث بأمن البلاد واستقراره. وكان من أعظم ما تركه الإمام من قواعد لو كتب بماء الذهب لكان قليلاً هذه القاعدة. بالسيرة العادلة يقهر المُناوئ (10).
    فالسياسة العادلة هي السبيل المواجهة الفوضويين والرافضين والمعارضين للسلطة. وقد استطاع الإمام بتطبيقه لهذه القاعدة أن يسقط أكبر المناوئين له، وينتزع عنهم أسلحتهم الفتاكة في التخريب والتزييف كما مرّ سلفاً.




    </B>
    ثالثاً: السياسة الاقتصادية




    <B>رست السياسة الاقتصادية في الإسلام على مبدأ العدالة، فالعدالة هي منطلق في هذه السياسة وهي هدفٌ في نفس الوقت.
    وعلي (عليه السلام) الذي قَبِل بخلافة الدولة الإسلامية من أجل بعث قيم الإسلام من جديد وضع نصب عينيه هذا الهدف المقدس. ولن تتحقق العدالة إلا عندما ينتهي الفقر في المجتمع.
    يقول الإمام: (فما جاع فقيرٌ إلا بما مُتّع به غني) (11).


    ومن أجل تحقيق العدالة وإنهاء حالة الفقر قام الإمام بوضع سياسة حكيمة مبتنية على تحليل دقيق للوضع الاقتصادي الذي كان يختاره العالم الإسلامي في تلك الفترة. والخطوات التي قام بها ضمن تلك السياسة الاقتصادية هي:
    1ـ دعم الإنتاج


    نظر الإمام علي إلى المجتمع الإسلامي فوجد الفقر يدبّ في أوصاله وكان الفقر أحد أسباب الثورة على الخليفة عثمان. فبدأ بمكافحته بالمناداة بفكرة الإنتاج. وباحترام العمل وتكريم العامل الذي يعمل في الأرض والمصنع.
    ففي وصيته لمالك الأشتر قال الإمام علي (عليه السلام):
    (ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات، وأوصي بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمرفق ببدنه. فإنهم مواد المنافق وأسباب المرافق) (12).
    ثم يوجهه إلى أهمية الإنتاج وإن له الأولية. وبداية التفكير يجب أن يكون في الإنتاج قبل أخذ الخراج.
    ولتكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج. لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة من طلب الخراج بغير عمارة أخرج البلاد وأهلك العباد. وكان قد بدأ بنفسه.
    فعلى رغم مشاغله الكثيرة في إدارة شؤون البلاد الإسلامية لم يترك العمل في الأرض. عن زرارة عن أبي جعفر قال لقي رجلٌ أمير المؤمنين (عليه السلام) وتحته وسق من نوى، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال: مائة ألف عذق إن شاء الله، وقال: فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة (13).
    وكان يخرج الإمام ومعه أحمال النوى فيقال له:
    يا أبا الحسن ما هذا معك؟ فيقول: نخلٌ إن شاء الله فيغرسه فما يغادر منه واحدة (14).
    والذي بهذا القدر من الإنتاج لابدّ وأن يكون ثرياً. وفعلاً كان الإمام علي ثرياً لكنه كان يصرف أمواله في الخير. فقد ذكر الكليني في الكافي أن أمير المؤمنين أعتق ألف مملوك من ماله وكديده (15).


    والظاهر أنه أعتق هذا العدد في أيام حكمه لمعالجة مشكلة حادة كانت تواجه المجتمع الإسلامي وهي مشكلة الرق.
    2ـ والإنتاج بحاجة إلى تبادل السلع لتكتمل الحلقة الاقتصادية، والمبادلة بحاجة إلى التجارة.


    من هنا جاءت سياسة الإمام الاقتصادية في تنشيط التجارة، فقد أوصى بالتجار خيراً، لكنه في نفس الوقت كافح الأمراض الاقتصادية التي تُصيب التجارة والتجّار. فمن وصيته لمالك الأشتر:
    (وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرة للعامة، وعيبٌ على الولاة فامنع من الاحتكار) (16).


    وكافح الإمام (عليه السلام) الربا الذي كان مستشرياً بسبب الجهل بالأحكام الشرعية، فدعا التجار إلى التفقه في الدين: (من اتجر بغير فقه فقد ارتطم في الرّبا) (17).
    3ـ مراقبة السوق


    فالغش ورفع الأسعار هما من أهم العوامل المؤدية إلى اضطراب الوضع الاقتصادي فكان لابدّ من مراقبة السوق. وبالإضافة إلى الجهاز الذي شكّله لأداء هذه الوظيفة كان يقوم بنفسه بهذا العمل. كان يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعهُ الدرّة على عاتقه، وكان لها طرفان. ويقف على سوق سوق فينادي: يا معشر التجار، ويأخذ بتقديم النصح لهم، وكانوا يمسكون أيديهم ويصغون بآذانهم ويرمقونه بأعينهم حتى إذا فرغ من كلامه قالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين (18).


    وقد سمعه أبي مطر وهو رجلٌ من أهل البصرة كان يبيتُ في مسجد الكوفة، سمعهُ في وسط السوق وهو يقول: (يا معشر التجّار إياكم واليمين الفاجرة، فإنها تنفق السلعة وتمحق البركة) (19).
    4ـ الاقتصاد في الإنفاق


    إسراف الولاة وكبار الموظفين أحد أسباب إفلاس الخزينة، والدول التي تريد أن تبني اقتصاداً متيناً، عليها أن تُخضع نفقاتها لسياسة اقتصادية محكمة، وهذا الذي فعله علي (عليه السلام). فقد وجد من أسباب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المسلمون في عهد عثمان هو إسراف الولاة وكبار الموظفين على أنفسهم وتبذيرهم لأموال بيت المال. فكان يحاسب ولاته أشدّ المحاسبة وبلغت به هذه المحاسبة حداً إنه كان يطلب إلى عماله أن يدققوا أقلامهم ويقاربوا بين السطور وحذف العبارات الزائدة والاقتصار على المعنى.
    ففي رسالته إلى عماله:
    (أدقوا أقلامكم وقاربوا سطوركم، واحذفوا عني فضولكم واقصدوا قصد المعاني، وإياكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الأضرار) (20).


    إلى هذا المستوى بلغ الإمام في محاسبة ولاته على الحفاظ على أموال بيت المال، فإذا كان المطلوب من الوالي أن يقتصد في كتابة الرسالة إلى هذا الحد. فكيف سيكون اقتصاده في الأمور الأخرى.
    5ـ التعجيل في التوزيع


    من سياسة الإمام أنه لم يدخر شيئاً في بيت المال. فكان يسرع في توزيع ما وصله من الصدقات.
    عن هلال بن مسلم الجحدري، قال سمعتُ جدي حرة أو حوّة قال: شهدتُ علي بن أبي طالب (عليه السلام) أتي بمالٍ عند المساء فقال: أقسموا هذا المال: فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخره إلى غدٍ. فقال لهم: تقبلون أن أعيش إلى غدٍ، فقالوا: ماذا بأيدينا، قال: فلا تؤخروه حتى تقسموه فأتى بشمع فقسموا ذلك المال من تحت ليلتهم (21).
    وكان وراء هذا التعجيل في عملية توزيع المال هدفان أحدهما سياسي والآخر اقتصادي. فأما الهدف السياسي فهو:
    إن ادخار المال هو مفسدة للسلطة وإن ما حدث في عهد الخليفة عثمان هو ناتج عن ادخار الأموال وعندما تتجمع وتتراكم بأعداد كبيرة يزداد المتزلفين حول الحاكم طمعاً في الحصول على قسم منها. في نفس الوقت يرى الحاكم نفسه قوياً بما لديه من أموال فيأخذ في صرفها على منافعه الشخصية لكسب المؤيدين والمتزلفين. ويصرف قسم منها لكمّ أفواه الناقدين والمعارضين والإمام لا يخشى على نفسه من الادخار، بل كان يخشى على المسلمين. ويخشى على من يأتي من بعده فأراد أن يضع منهجاً في السياسة الاقتصادية ينتفع به الآخرين.


    أما الفائدة الاقتصادية، فإن الإسراع في توزيع الأموال كان سيؤدي إلى زيادة الإنتاج، إذ الإنتاج بحاجة إلى رأسمال مستمر. ووصول الرأسمال بصورة سريعة سيُزيد من الطاقة الإنتاجية للأمة سواء لمن يعمل في الأرض أو الصناعة أو من لا يعمل ويجد في المال وسيلة للعمل.
    6ـ المساواة في تقسيم الأموال


    فالمساواة في التقسيم تؤدي حتماً إلى أن تكون القوة الشرائية لجميع المسلمين متقاربة، الأمر الذي سيؤدي إلى انحسار التفاوت الطبقي بين المسلمين والتخفيف من ظاهرة الفقر.
    وقد أبلغ أمير المؤمنين ولاته بهذه القاعدة:


    (ألا وإن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواءٌ يردون عندي عليه ويصدرون عنه) (22).
    7ـ الاكتفاء الذاتي في الإنفاق


    بينما كانت الصدقات تتجمع في العاصمة الإسلامية، فقد أوصى أمير المؤمنين ولاته أن ينفقوا هذه الصدقات على المحتاجين في بلدانهم وما تبقى عن الحاجة يتم إرساله إلى العاصمة.
    بعث الإمام إلى قثم بن العباس عامله إلى الكوفة:
    (وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلافات وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قبلنا).
    وتقوم سياسة الإمام في الأموال على مبدأ توحيدي هو أن المال هو لله، وأن الناس هم عيال الله، فكان لابدّ من الإسراع في إيصال هذه الأموال إلى المحتاجين، إما لدعم القدرة الشرائية وإما لدعم الإنتاج، وفي الحالتين سيزداد الإنتاج لأن القوة الشرائية عند المشتري ستزيد من إنتاج البائع. كما وإن المنتج بحاجة إلى الأموال كي يتمكن من توسيع مجالات الإنتاج لديه.




    </B>
    رابعاً: السياسة الإعلامية




    <B>ترك لنا الإمام أمير المؤمنين تراثاً زاخراً بالخُطب والكلمات وكانت الكلمة سلاحاً من أسلحته التي استخدمها في معاركه كلّها.
    فعليّ ليس الشجاع فقط في المواجهة العسكرية. بل هو الشجاع أيضاً في المواجهة الكلامية، فهذا نهج البلاغة يحمل لنا صورة متكاملة عن أعلام علي (عليه السلام).
    وضع الإمام نصب عينيه هدفاً هاماً هو إطفاء باطل أو إحياءٌ حق (23).


    والكلمة هي إحدى الوسائل الهامة في إطفاء الباطل وإحياء الحق. فقد توسل بها كلما وجد الحاجة إليها، وكلما أراد أن يتجنّب المواجهة العسكرية. وكان لإعلامه أثرٌ كبير في زعزعة معنويات الأعداء وفي التحام جنوده، وفي انضمام أعداد غفيرة من الأعداء إلى صفوفه. والراصد لإعلام أمير المؤمنين يجدُ أنه يقوم على مبادئ وأسس متينة. أهم هذه الأسس:
    1ـ قول الحق: فكان يقول الحق ولا يهابُ أحداً حتى لو كان الحق مراً. وكان يقول لأصحابه عندما عيّن أحد ولاته: (فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق) (24).


    ووصى ابنيه الحسن والحسين: (وقولا الحق) (25).
    وسلك هذه السياسة في وقتٍ أصبح فيه من النادر من يقول الحق.
    قال والألم يعتصره: (واعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليلٌ واللسان عن الصدق كليل واللازم للحق ذليلٌ).
    نسمع من هذه الكلمات صوت الوجع في أعماق الإمام، كيف آل إليه مصير المجتمع الإسلامي وهكذا كان وحده في تلك الصحراء المقفرة عاشقاً للحق. يوم كان شاباً يتبعُ أثر ابن عمه محمد (صلّى الله عليه وآله) ويوم كان معارضاً لحكم الخلفاء الراشدين ويوم أصبح خليفة للمسلمين، فقد قال الحق وقالها حتى على نفسه: (وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجلٌ شجاع ولكن لا علم له بالحرب..
    لله أبوهم وهل أحدق منهم أشدّ لها مراساً وأقدمُ فيها مقاماً مني، لقد نهضتُ بها وما بلغتُ العشرين، وها أنذا قد ذرفتُ على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع) (26).
    فالإمام ينقل لنا الدعاية الموجهة ضده ثم يردّها ويعترف بمشكلاته وما لحق به من أصحابه.


    وكان يعاتب أصحابه ويحاسبهم ويكشف ثغراتهم ولا يهمه بعد ذلك إن استفاد الأعداء من ذلك، طالما أنه يقول الحق.
    2ـ الامتناع عن السباب والشتائم: المتفحص للإعلام في الزمن الجاهلي وفي فترات من العصر الأموي يجد أن السباب أحد عناصر الإعلام الذي تمارسه الأطراف المتنافسة والمتصارعة. وكان دأب معاوية وعمرو بن العاص هو السبّ أيضاً. فماذا سيكون موقف الإمام علي (عليه السلام)؟ فهل سيمارس الإعلام بالشكل الذي مارسه الآخرون أم إنه سيتمسك بمبادئه ويلتصق بقيمه التي جاء إلى الحكم من أجل تثبيتها في المجتمع؟


    فهو إمام ومن مسؤولية الإمام تربية الأمة على قيم الحق والمسؤولية..
    وما هو رأى الإمام بأسلوب السباب وهل يقبل به كطريق للرد على تخرصات الأعداء؟ يقف الإمام بين أصحابه ليعلنها صراحةً:
    (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين.. ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر..).
    إذاً نقلُ الحقائق كما هي، بلا زيادة ولا نقيصة هو الشيء الصواب وهذا هو الإعلام الذي يريده علي، وصف الأعمال وذكر الحال بل إشارات ولا سبّ ولا سباب..
    فهو الأسلوب الأمثل الذي سيحقق الهدف المناقبي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم يبدأ الإمام يعلّم أصحابه طريقة الإعلام الجيد:
    (وقلتُم مكان سبكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به).
    إذاً هناك رسالة للإعلام يسعى من أجلها الإمام وهي كشف الحقائق وعرضها بطريقة حيادية دون زيادة أو نقيصة، وهذه قيمة من قيم الإسلام، ولا يمكن تحقيق هذه القيمة إلا بوسائل إسلامية.
    وكان هذا هو دأب الإمام (عليه السلام) في إعلامه. فلنلاحظ ذلك في استعراضه لمراحل الصراع بينه وبين أهل الشام:
    (وكان بدءُ أمرنا أنّا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا. الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براءٌ فقلنا: تعالوا نداوِ ما لا يُدركُ اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامة حتى يشتد الأمر ويُستجمع، فتقوى على وضع الحقّ مواضعه، فقالوا: بل تداويه بالمكابرة، فأبوا حتى جنحت الحروب وركدت ووقدت نيرانها وحمشت فلما ضرستنا وإياهم ووضعت مخالبها فينا وفيهم، أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا، وسارعناهم إلى ما طلبوا حتى استبانت عليهم الحجة وانقطعت فيهم المعذرة فمن تمّ على ذلك منهم فهو الذي أنقذه الله من الهلكة ومن لجّ وعادى فهو الراكس الذي ران الله على قلبه، وصارت دائرة السوء على رأسه) (27).


    إن التدقيق في هذه الخطبة تكشف لنا عن خصائص الخطاب السياسي للإمام علي (عليه السلام) وقد ذكرنا جانباً منها في موضوعات سابقة فلا موجب للتكرار..
    3ـ الدعوة إلى الحوار: قامت سياسة الإمام علي (عليه السلام) كما ذكرنا على مبدأ السلام وتجنّب الحرب وكانت خطة الإمام لتحقيق هذا الهدف، هي تحويل الصراع إلى محاورة مباشرة بينه وبين أعدائه، أو بين من ينتدبه لهذه المهمة وبين أعدائه، وقد ذكرنا هذا الجزء من الإعلام أثناء التطرق إلى المواجهة التي قامت بين الإمام (عليه السلام) وخصومه سواء في الجمل وصفين أو النهروان.


    </B>
    الهوامش:
    1- انظر هادي العلوي في السياسة الإسلامية الفكر والممارسة، ص83.
    2- الدليل، ص721.
    3- انظر هامش صفحة (ج) من الغارات للثقفي.
    4- بحار الأنوار: ج41، ص118.
    5- الدليل: ص575.
    6- الدليل: ص452.
    7- الدليل: ص544.
    8- الدليل: ص699.
    9- الدليل: ص438.
    10- الدليل: ص438.
    11- الدليل: ص892.
    12- الكافي: ج5، ص74-75.
    13- الكافي: ج5، ص75.
    14- الكافي: ج75، ص74.
    15- الدليل: ص716.
    16- الدليل: ص716.
    17- الدليل: ص717.
    18- بحار الأنوار: ج41، ص105.
    19- الثقفي، الغارات، ص65.
    20- بحار الأنوار: ج41، ص105.
    21- بحار الأنوار: ج41، ص107.
    22- الدليل: ص731.
    23- الدليل: ص688.
    24- الدليل: ص686.
    25- الدليل: ص686.
    26- الدليل: ص525.
    27- الدليل: ص564.

    http://www.14masom.com/14masom/03/imam-mnhjsy/index.htm
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X