قتل الرجال وحرق الخيام وسلب النساء .. تلك هي المعادلة
بعدسة: محمد الصواف
يبدو من التاريخ أن سنة الحرق والسلب، يتوارثها الحكام الظالمون في كل أمة وكل زمان ومكان، فأي ديكتاتور إذا ما أراد النيل من معارضيه سواء أكانت معارضتهم سلمية أم مسلحة يبدأ باعتقالهم ثم تصفيتهم جسدياً ثم إضرام النار في بيوتهم وهدمها على رؤوس ساكنيها من ذوي المعارضين ومتعلقيهم ومن أيدهم أو أحب عملهم أو دعا لهم ولو بمحض القول أو الإشارة. وتنطوي هذه المعادلة ذات الطرف الواحد(القتل + الحرق+ السلب) على عدد من المؤشرات ومنها : أن الحاكم ونتيجة لطغيانه وتفرده في الحكم وعدم الرد عليه أو التعديل لقراراته، بل التسليم الدائم والطاعة العمياء والخضوع التام له، وعدم مناقشته فيما يسنه من قوانين، وكثرة التزلف والتملق، وطلب العفو من جلالته على أبسط الأخطاء، وخوف عقوبته وبطشه والطمع في تكريمه وثوابه، وما إلى ذلك من أمور المصانعة التي تقوم بها الحاشية والحراس والخدم ومثلهم الوزراء والمستشارون وتقلدهم فيها الأمة المحكومة رهباً ورغباً..
لمّا يصل الأمر بالنسبة للحاكم إلى هذه الدرجة من حرية التصرف في كل (من وما) حوله والتملك لكل ما يريد تملكه متى شاء وكيف نوى، عندئذ، يبدأ هذا الحاكم بالنظر إلى نفسه وكأنه الرب والإله المسيطر على مطلق الكون، ويتضخم إحساسه بذلك شيئاً فشيئاً حتى الإيمان والتصديق الكامل بألوهيته الواقعية.
ومن هنا يبدأ أتوماتيكياً بإسباغ صفات الجلال الرباني على شخصيته وأفعاله وأقواله وتصبح بعد حين كلها مقدسة، ومن أبرز صفات الإله ثواب الجنة لمن أحب من عبيده وعقاب النار لمن أبغض منهم. وحتى هذه النار التي تحرق المعارضين هي نار مقدسة ينبغي تقديم القرابين لها تلو القرابين فيما تبقى صيحتها أبدية(هل من مزيد؟).
وما زلنا بصدد الحديث عن عاشوراء فلنستجلي ظاهرة الحرق من خلال تلك اللحظة التاريخية العظيمة التي احتضنت أعظم كارثة إنسانية وخلفت أكبر فاجعة ومأساة عرفتها البشرية وأسست لأشرف نهج في رفض ألوهية الحاكم المستبد وإيقافه عند حده.
لقد أوعزت القيادة العامة للجيش الأموي الذي حارب الحسين وأصحابه وقتلهم جميعاً في ساعة من نهار اليوم العاشر من شهر المحرم الحرام، أوعزت بحرق خيام آل النبي(صلى الله عليه وآله) فحمل الجند أقبسة من النار وهم ينادون : (أحرقوا بيوت الظالمين).
وتنصّ بعض المصادر على أنّ عمر بن سعد أمر بحرق الخيام بما فيها من النساء والأطفال. وما هي إلا دقائق مضت بين الأمر وتنفيذه حتى التهبت النار في خيم آل النبي وشوهدت بنات الرسالة وعقائل الوحي تفرّ من خباء إلى خباء، أمّا اليتامى فقد علا صراخهم وتعلّق بعضهم بأذيال عمّته زينب لتحميه من اللهواء، وهام بعضهم على وجهه لا يلوي على شيء.
ولفظاعته لم يغب ذلك المنظر عن بال الإمام زين العابدين(عليه السلام) طيلة المدّة التي عاشها بعد الموقعة، ولطالما ذكره متحسراً (والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين). المقصود بالظالمين ـ طبعا ـ المعارضين لنظام الحكم وكل من تسول له نفسه أن يقول (لا) بوجه الديكتاتور.
لا شك أن هذه الطريقة الوحشية في تصفية الخصوم لها جذور نفسية غائرة في عمق التاريخ السياسي الشرقي خاصة. ففي المقطع الزمني الذي اصطلح عليه (الجاهلية) كانت القبائل المتفرقة متعادية فيما بينها تغزو بعضها بعضاً للحصول على رغيف إضافي أو للتمتع بشهوة من نوع آخر هي شهوة إذلال الآخرين.
وكان الرجال يتملكون النساء بالأسر ويمارسون معهن أبشع ألوان الظلم والعذاب النفسي والجسدي تعبيراً عن الفحولة التي يتغنى بها الجاهلي ويقدم لها القرابين ويقيم عليها البراهين. كانت النساء تسلب كل حقوقها حتى الكلام بصوت مسموع. وكان الرجل إذا بشر ببنت اسود وجهه واكفهر حنقاًً. ويبادر على الفور لـ(طم عاره) وذلك بوأد البنت قبل أن يشيع خبرها مع الركبان!.
نزعة التملك ونزوة إذلال الآخر هذه، ترسبت على ما يبدو في شخصية الأعرابي وانتقلت معه جيلاً بعد جيل، فلم تستطع المدنية ولا حتى الديانات أن تصلح ما أفسدته الجاهلية على المستوى النفسي والاجتماعي لدى الكثير من الناس، بالرغم من تأثيرها القوي على صعيد التمظهر الشعائري والتمثل الظاهري للتعاليم الدينية.
وإذا كانت المسألة بهذا الشكل والإنسان يعيش حالة التوحد والفقر والتزاحم على الرغيف الواحد، فما بالك لو أصبح بعدئذ الحاكم الأوحد لبلادٍ بعرض ٍوطول وخدم وحشم ومتملقين؟! سيتفاقم الوضع ويزداد سوءاً بالتأكيد..
يزيد بن معاوية بحكم طبيعته والبيئة التي نشأ وتربى فيها وبحكم العامل الوراثي، استغل هذه النزعات الجاهلية والنزغات الشيطانية لدى الكثير من أتباعه وقادة جيشه فمنّاهم بالأموال وأغراهم بالمناصب وأغدق عليهم بالشهوات مقابل إخماد نار (الفتنة) وهي تعني هنا (المعارضة) وكيف لا يهرع الرجال إلى قمع النهضة الإسلامية خاصة وأن قائدها هو الحسين(عليه السلام).. ذلك الرجل المتحضر الرفيع الأخلاق السامي المبادئ النبيل الغايات الشريف المقاصد...إلخ.. ما يعني بالطبع لذة متعاظمة، لأن ممارسة الإذلال لكرام الناس وسادتهم تمنح فرصة أكبر للتلذذ وتأكيد الذات المتماهية في الحقارة والدنس.
بعد حرق الخيام عمد أراذل أهل الكوفة، إلى سلب حرائر النبوة وعقائل الوحي، فنهبوا ما عليهن من حلي وحلل، وتجرأ أحدهم على السيدة اُم كلثوم فسلب قرطيها، وأسرع آخر نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي، فقالت له : ما لك تبكي؟ فأجابها : كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! ولمّا أنكرت عليه وطلبت منه أن لا يسلبها، أجاب : (أخاف أن يأخذه غيري) ياله من منطق جاهلي!!
ثم تناهبوا جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع، كما اعتدوا بالضرب على النساء بكعوب رماحهم فصرن يلذن بعضاً ببعض من الرعب، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الحسين مغشياً عليها لشدّة ما تعرضت له من ضرب وشتم.
هكذا يكون المجد الذي يطلبه الحاكمون وبهذه الطريقة تشاد الصروح.. قتل وحرق بالنار ومصادرة حقوق الآخرين والاعتداء عليهم بالتنكيل والتهميش والإقصاء وبعد ذلك السبي والأسر والسجن لمن يعارض الملك. وهل من جاهلية أكبر من هذه؟!
http://www.14masom.com/malf_aashora/1428/010.htm