السلام عليكم اقدم لكم هذه القصة المعبرة لكاتبها الرادود عبد الشهيد الثور
عندما نعب الغراب
ليلا عندما تهاجر الشمس إلى موعد قريب بالرجوع وعندما يهبط السواد على الأرض تهبط معه الرغبة في الدعة والقرار , عند ذلك تأوي الأجساد إلى فرشها تلقي عليها تعبا تشبث بها منذ الصباح... وكما يخلد العباد إلى أسرتهم أوسدت رأسي الخفيف وسادة نحيفة وما كادت الثواني تعبرني حتى عبرني الكرى وحلق بي في عالم لا يبعد عن واقعي كثيرا ...رأيتني أنفتل من بيتي مبكرا , ومع أول خطوة أجترحتها خارج بيتي ...على الشجرة الراسخة أمام بيتي لمحت غرابا كأنما الليل صار أجنحة يحلق بها ...حط على الشجرة الواقفة قبالي ... نعب في وجهي ثلاثا , وصفق جناحاه بأغصان الشجرة ملقيا كثيرا من أوراقها ضحايا جناحيه الليليين0
بقي النعيب يجترني لمرات ولا يمل من آذاني حتى أستويت بعيدا عن منزلي ... حينها غادرني النعيب وأنجلى عن سمعي ... عند منتصف النهار وعندما أنهت الشمس نصف دوامها في الأرض وأستقرت في نقطة الزوال وانتصبت الظلال عمودية , عدت إلى منزلي أحمل في مستقبلي طموحا يمتد لسنين وسنين , والأمل مساحته أوسع ما كانت حينها0
وفي سعة ذلك الأمل باغتني الغراب ناعبا فضاقت مساحة الأمل حتى انكمشت على بعضها واضمحلت من أمامي ... نعب الغراب ثانية فكان نعيبه يحبس الأنفاس من حولي ويحجبها عن الوصول إلي , حتى أسود الفضاء وخفتت الخفقات في قلبي وباتت تنذرني بالختام وتكشف لي أسترة ما كنت أراها قبل الآن 0
انفجر النعيب الثالث بانقضاء النفس الأخير وتهاوى الجسد فوق الأرض مسلوب الحياة ... بادرني أهلي مسعفين ومعولين وآملين ...عيني تلاحقهم وتلاحق جسدي المحمول معهم , صرت أراقبهم بذهول ...كيف لي أن أراني محمولا على أعطاف أحبتي ؟! وأرى مشاعرهم ل دموعهم فقط ...هاهم يخافون فقدي والتشتت في متاعب الحياة 0
أنبأهم الطبيب بموتي ... وعادوا بينما جسدي أدخلوه إلى ثلاجة متخمة بأجساد مغلفة بخرق بيضاء ... بعضها انتشرت الدماء على أجزاء واسعة منها , هؤلاء أيضا كانوا قبل أيام ربما مثلي يملأون الحياة صخبا وضجيجا ... وجوه يدرج على قسماتها الصمت القاتل ... في ثلاجة تبعث الزمهرير من مسامها , ترسله على الأجساد المملؤة بالسكون الأبدي0
تسلم الأهل جثتي باردة , تقلصت الدماء في أعضائها وتجمدت شحمة العين وتصلب الشعر من فقدان حرارة الحياة .. مابرحت أهبط من علو مقتربا إلى وجوههم لعلهم يشعرون بوجودي , ولكن وكأنهم لا يبصرون... يحدقون في فراغ شاسع ....أودعوني في تابوت خشبي غطوه بقطعة من القماش خضراء تزينها آية الكرسي وعددا من التهليلات ...غطوني وصعد التابوت على الأكتاف يتهادى متمايلا , كنت أراني جسدا يختض فوق قاعة التابوت , تسير به الأيدي إلى نهاية المطاف ... تصاعد التهليل من أطراف الجنازة وعلى أطراف الجنازة من هنا وهناك متفرجون ما يبرحون يلقون نظرة على الجنازة المقبلة ويعودون إلى ما كان يشغلهم ...وكأني لم أمت ولا يعني لهم موتي شيئا , كثيرون كنت أسمعهم منهمكين في أحاديث جانبية , وبعضهم يحدث بالنكات ...وجسدي في باطن التابوت0
تسير الجنازة وبعض من الأصدقاء لمست في وجوههم تأثرا مؤقتا زال مع انصرافهم عن جنازتي ...عجبا يادنيا لوفائك المزعوم ولأهلك المغالطين ...أكثر ما يسر منهم ترحمهم علي ترحما باردا كعبارة لا تكلفهم شيئا يلقونها كما يلقون النظرات الغافلة من أعينهم 0
البعض منهم لم يتورع عن شتمي حتى بعد أن ذكره أحدهم بحديث الرسول (ص) قال له : إذكروا محاسن موتاكم ...رحت أحلق على الرؤس استطلع النوايا مكشوفة أمامي حتى كدت أموت لو كان يستطاع الموت بعد الموت ... نوايا تخجل ونوايا تصيبني بالدهشة ونوايا تفتك باللب من الحيرة , هؤلاء هم من كانوا يظهرون لي غير حقائقهم , لشدما كنت مخدوعا بظواهرهم ... أسفا على كثير منهم , ولكن حين لا يفيد تأسفي, أصبحت ماضيا بالنسبة لهم ..أصبحت جنازة توارى وتنسى ولا تستحق أكثر من الترحم عند أفضلهم0
سجوا جسدي على مرمرة خضراء ايذانا بتغسيلي , شرع ثلاثة بتغسيلي , ونظري يتابع أيديهم تمر على جسدي بالماء والسدر والكافور , حتى إذا فرغوا وأدرجوني في الخرقة البيضاء الأخيرة حيث لن تفارقني حتى تسلبني منها ديدان الأرض 0 أبرزوني في نعشي للخارج وقدموني مسجى وأصطفوا خلفي بوجوه تتمايز مشاعرها ....بين مكبر ما جاوز التكبير فمه , ومردد لما يتلو إمامهم على ميتهم (أنا) , وقلوب كثيرة سادرة في أشغالها والتزاماتها 0
صرخت في وجوه أكثرهم :أوما أصبحت عبرة لكم ؟ أوما صرت تجربة تستأنفون بها يومكم بعمل جديد ؟ ... ولكن لا من مجيب ولا من سامع لي ...عندما أنهوا صلاتهم بأقصى ما أوتوا من سرعة تناولوا نعشي مبادرين بي إلى تلك الحفرة التي أراها على بعد ليس بالبعيد جدا في القبور ... ما أسرعكم على التخلص مني تخلص المدهوش من عقرب فاجأه ... ألا أشفقتم على من عاشركم دهرا؟ وقضى بينكم الساعات لا يملكم ولا تسأمون جلسته! ... في تربة باردة برودة الصقيع أنزلوا جسدي المغلف ببياض الكفن 0
ولا زال هناك متفرجون على موتي بين القبور , تشغلهم أحاديث تجاربهم , منفردين عن المتحلقين على قبري ينتظرون مواراتي ... كشف أحدهم وجهي من غطاء الكفن وأوسدني تربة سيد الشهداء , وترك وجهي مكشوفا ... راح الملقن يلقنني .... إذا جاءك الملكان الكريمان وسئلاك من ربك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك ؟ فأجبهم بلسان طلق غير غلق , الله ربي ومحمد نبي وعلي إمامي ... حتىأنهى كامل تلقينه على رأسي ... رأيتني ميتا لا يطرف لي جفن ولا تجيد الحروف طريقا إلى فمي ولا يستطيع الهواء بقوته على بعث العواصف أن يبعث جزء من نفس في صدري ,خامدة أعضائي ينخر في قدرتها الفناء رهين خرقة صافية وليت أعمالي كصفائها 0
المحبون أول من عجل بإغلاق فتحات الضياء فوق جسدي المسجى على جانبه الأيمن.... تضايق الضياء فوقي إلى أن صار لا نصيب لي منه إلا من الفوهة المطلة على وجهي المطل على الواقفين بخده الأيسر .... وأنا أراقبني وأراقب أيدي المحبين تغتال اللحظات الأخيرة بينهم, أطبق الظلام على وجهي منهيا العالم الخارجي من وجودي , وفي كتلة من الديجورأخذت تتنقل نظراتي ....في كل قطعة من ذلك الديجور سواد بحجم الضياع لا تتخلص منه إلا بضياع أقسى من الأول ... وتلك الأرض الباردة التي كانت تشبه الجليد أخرجت من رحمها حمما من كل جهة لها أفواه من أطرافها ... في جزء يسير من اللحظة أصبحت كما لايحصى من القطع , في كل قطعة كما من الألم لا يقاس , وفي كل ألم صرخة إستغاثة .....آه...فززت من النوم على أثر صرختي 0
تفقدت ما حولي , وجدتني نائما في فراشي في حياتي الدنيا ...الحمد لله لازلت حيا وماهي إلا أضغاث أحلام مرت على عيني ... قرأت المعوذات تكرارا ونهضت وتناولت كوبا من الماء أصرف به عطش القبر... عند الصباح تعوذت بالله من الشيطان وبكرت بالخروج إلى عملي ....عند بروزي من الباب كان الغراب ذاته يحط على الشجرة ......
عبدالشهيد الثور
7نوفمبر 2006
عندما نعب الغراب
ليلا عندما تهاجر الشمس إلى موعد قريب بالرجوع وعندما يهبط السواد على الأرض تهبط معه الرغبة في الدعة والقرار , عند ذلك تأوي الأجساد إلى فرشها تلقي عليها تعبا تشبث بها منذ الصباح... وكما يخلد العباد إلى أسرتهم أوسدت رأسي الخفيف وسادة نحيفة وما كادت الثواني تعبرني حتى عبرني الكرى وحلق بي في عالم لا يبعد عن واقعي كثيرا ...رأيتني أنفتل من بيتي مبكرا , ومع أول خطوة أجترحتها خارج بيتي ...على الشجرة الراسخة أمام بيتي لمحت غرابا كأنما الليل صار أجنحة يحلق بها ...حط على الشجرة الواقفة قبالي ... نعب في وجهي ثلاثا , وصفق جناحاه بأغصان الشجرة ملقيا كثيرا من أوراقها ضحايا جناحيه الليليين0
بقي النعيب يجترني لمرات ولا يمل من آذاني حتى أستويت بعيدا عن منزلي ... حينها غادرني النعيب وأنجلى عن سمعي ... عند منتصف النهار وعندما أنهت الشمس نصف دوامها في الأرض وأستقرت في نقطة الزوال وانتصبت الظلال عمودية , عدت إلى منزلي أحمل في مستقبلي طموحا يمتد لسنين وسنين , والأمل مساحته أوسع ما كانت حينها0
وفي سعة ذلك الأمل باغتني الغراب ناعبا فضاقت مساحة الأمل حتى انكمشت على بعضها واضمحلت من أمامي ... نعب الغراب ثانية فكان نعيبه يحبس الأنفاس من حولي ويحجبها عن الوصول إلي , حتى أسود الفضاء وخفتت الخفقات في قلبي وباتت تنذرني بالختام وتكشف لي أسترة ما كنت أراها قبل الآن 0
انفجر النعيب الثالث بانقضاء النفس الأخير وتهاوى الجسد فوق الأرض مسلوب الحياة ... بادرني أهلي مسعفين ومعولين وآملين ...عيني تلاحقهم وتلاحق جسدي المحمول معهم , صرت أراقبهم بذهول ...كيف لي أن أراني محمولا على أعطاف أحبتي ؟! وأرى مشاعرهم ل دموعهم فقط ...هاهم يخافون فقدي والتشتت في متاعب الحياة 0
أنبأهم الطبيب بموتي ... وعادوا بينما جسدي أدخلوه إلى ثلاجة متخمة بأجساد مغلفة بخرق بيضاء ... بعضها انتشرت الدماء على أجزاء واسعة منها , هؤلاء أيضا كانوا قبل أيام ربما مثلي يملأون الحياة صخبا وضجيجا ... وجوه يدرج على قسماتها الصمت القاتل ... في ثلاجة تبعث الزمهرير من مسامها , ترسله على الأجساد المملؤة بالسكون الأبدي0
تسلم الأهل جثتي باردة , تقلصت الدماء في أعضائها وتجمدت شحمة العين وتصلب الشعر من فقدان حرارة الحياة .. مابرحت أهبط من علو مقتربا إلى وجوههم لعلهم يشعرون بوجودي , ولكن وكأنهم لا يبصرون... يحدقون في فراغ شاسع ....أودعوني في تابوت خشبي غطوه بقطعة من القماش خضراء تزينها آية الكرسي وعددا من التهليلات ...غطوني وصعد التابوت على الأكتاف يتهادى متمايلا , كنت أراني جسدا يختض فوق قاعة التابوت , تسير به الأيدي إلى نهاية المطاف ... تصاعد التهليل من أطراف الجنازة وعلى أطراف الجنازة من هنا وهناك متفرجون ما يبرحون يلقون نظرة على الجنازة المقبلة ويعودون إلى ما كان يشغلهم ...وكأني لم أمت ولا يعني لهم موتي شيئا , كثيرون كنت أسمعهم منهمكين في أحاديث جانبية , وبعضهم يحدث بالنكات ...وجسدي في باطن التابوت0
تسير الجنازة وبعض من الأصدقاء لمست في وجوههم تأثرا مؤقتا زال مع انصرافهم عن جنازتي ...عجبا يادنيا لوفائك المزعوم ولأهلك المغالطين ...أكثر ما يسر منهم ترحمهم علي ترحما باردا كعبارة لا تكلفهم شيئا يلقونها كما يلقون النظرات الغافلة من أعينهم 0
البعض منهم لم يتورع عن شتمي حتى بعد أن ذكره أحدهم بحديث الرسول (ص) قال له : إذكروا محاسن موتاكم ...رحت أحلق على الرؤس استطلع النوايا مكشوفة أمامي حتى كدت أموت لو كان يستطاع الموت بعد الموت ... نوايا تخجل ونوايا تصيبني بالدهشة ونوايا تفتك باللب من الحيرة , هؤلاء هم من كانوا يظهرون لي غير حقائقهم , لشدما كنت مخدوعا بظواهرهم ... أسفا على كثير منهم , ولكن حين لا يفيد تأسفي, أصبحت ماضيا بالنسبة لهم ..أصبحت جنازة توارى وتنسى ولا تستحق أكثر من الترحم عند أفضلهم0
سجوا جسدي على مرمرة خضراء ايذانا بتغسيلي , شرع ثلاثة بتغسيلي , ونظري يتابع أيديهم تمر على جسدي بالماء والسدر والكافور , حتى إذا فرغوا وأدرجوني في الخرقة البيضاء الأخيرة حيث لن تفارقني حتى تسلبني منها ديدان الأرض 0 أبرزوني في نعشي للخارج وقدموني مسجى وأصطفوا خلفي بوجوه تتمايز مشاعرها ....بين مكبر ما جاوز التكبير فمه , ومردد لما يتلو إمامهم على ميتهم (أنا) , وقلوب كثيرة سادرة في أشغالها والتزاماتها 0
صرخت في وجوه أكثرهم :أوما أصبحت عبرة لكم ؟ أوما صرت تجربة تستأنفون بها يومكم بعمل جديد ؟ ... ولكن لا من مجيب ولا من سامع لي ...عندما أنهوا صلاتهم بأقصى ما أوتوا من سرعة تناولوا نعشي مبادرين بي إلى تلك الحفرة التي أراها على بعد ليس بالبعيد جدا في القبور ... ما أسرعكم على التخلص مني تخلص المدهوش من عقرب فاجأه ... ألا أشفقتم على من عاشركم دهرا؟ وقضى بينكم الساعات لا يملكم ولا تسأمون جلسته! ... في تربة باردة برودة الصقيع أنزلوا جسدي المغلف ببياض الكفن 0
ولا زال هناك متفرجون على موتي بين القبور , تشغلهم أحاديث تجاربهم , منفردين عن المتحلقين على قبري ينتظرون مواراتي ... كشف أحدهم وجهي من غطاء الكفن وأوسدني تربة سيد الشهداء , وترك وجهي مكشوفا ... راح الملقن يلقنني .... إذا جاءك الملكان الكريمان وسئلاك من ربك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك ؟ فأجبهم بلسان طلق غير غلق , الله ربي ومحمد نبي وعلي إمامي ... حتىأنهى كامل تلقينه على رأسي ... رأيتني ميتا لا يطرف لي جفن ولا تجيد الحروف طريقا إلى فمي ولا يستطيع الهواء بقوته على بعث العواصف أن يبعث جزء من نفس في صدري ,خامدة أعضائي ينخر في قدرتها الفناء رهين خرقة صافية وليت أعمالي كصفائها 0
المحبون أول من عجل بإغلاق فتحات الضياء فوق جسدي المسجى على جانبه الأيمن.... تضايق الضياء فوقي إلى أن صار لا نصيب لي منه إلا من الفوهة المطلة على وجهي المطل على الواقفين بخده الأيسر .... وأنا أراقبني وأراقب أيدي المحبين تغتال اللحظات الأخيرة بينهم, أطبق الظلام على وجهي منهيا العالم الخارجي من وجودي , وفي كتلة من الديجورأخذت تتنقل نظراتي ....في كل قطعة من ذلك الديجور سواد بحجم الضياع لا تتخلص منه إلا بضياع أقسى من الأول ... وتلك الأرض الباردة التي كانت تشبه الجليد أخرجت من رحمها حمما من كل جهة لها أفواه من أطرافها ... في جزء يسير من اللحظة أصبحت كما لايحصى من القطع , في كل قطعة كما من الألم لا يقاس , وفي كل ألم صرخة إستغاثة .....آه...فززت من النوم على أثر صرختي 0
تفقدت ما حولي , وجدتني نائما في فراشي في حياتي الدنيا ...الحمد لله لازلت حيا وماهي إلا أضغاث أحلام مرت على عيني ... قرأت المعوذات تكرارا ونهضت وتناولت كوبا من الماء أصرف به عطش القبر... عند الصباح تعوذت بالله من الشيطان وبكرت بالخروج إلى عملي ....عند بروزي من الباب كان الغراب ذاته يحط على الشجرة ......
عبدالشهيد الثور
7نوفمبر 2006