بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أوزعنا تمييز الحق من الباطل، والهمنا تزئيل المحلى من العاطل، ووفقنا لتفريق الملح الاُجاج(1) من النمير العذب السائل، وسددنا لمعرفة الذهب من الرّخام، والشهير من الخامل، ولم يجعلنا من مرجحي المرجوح على الفاضل، وهدانا بالخطاب البيّن الفاصل، وسكب علينا من نعمه ومننه السحاب الهاطل، وصيرنا ممن يصيبه من فضله ومنّه طلّ وابل.
وقصم ظهور الكذابين بتفضيح المنقدين الاماثل، واخزاهم بفضيحة العاجل وعذاب الاجل، وقيض للمفترين والوضاعين من العذاب والنكال ماهو شديد هائل، وأتاح للخادعين والماكرين أغلالاً وحديداً لا يحتمله حامل. وصان شرعه ودينه بالنّاقدين المحققين عن كذبات كلّ مفتر خاتل، وجعل الكذّابين والخدّاعين لا يحصلون بسعيهم وكدّهم وجدّهم في تخرص الاباطيل على طائل، حيث وسم على الحقّ والصّدق من السّمات والمحائل(2)، وعلى
____________
(1) قولهم ملح اجاج، قرئ بالكسر فالسكون، وقرئ بفتح الميم وكسر على فَعِل وخفف وقصر عليه.
ملح اجاج: وهو الشديد الملوحة والمرارة / لسان.
(2) المحائل: جمع محل: وهي المكر والكيد، والمماحلة: المكايدة / لسان.
الكذب والبهتان من البراهين والدلائل بما لا يشتبه على كلّ متدرب عاقل.
والصلاة والسلام على نبيّه الكريم المعتام لانقاذ الخلق من شرك الشرك ومصائد الخبائل(1)، المختار للصّدع بالشرع المبين والاضطلاع باعباء الدين، المنتخب من جرثومة(2) الاطائب والافاضل، النّاجه(3) الواقص(4) الرادع لبدع كلّ معاند وجاهل، المستأصل شأفة الاضاليل، والمجتاح اُسّ الاعاليل، المخلّص من الذل الشامل، الهادي الى محجة الصواب وسنن الثواب، ولَقِمَ السنّة والكتاب النازل، فاعتدل بعنايته كلّ زائغ مائل. واستقام بهدايته كلّ معوج مائل.
وعلى آله الكرام البررة الطاهرين الذين هم مصادر الانوار، ومطالع الاسرار، وحفظة الذمار، فهم المنقذون شيعتهم من البوائق والغوائل، والموضّحين لمحبّيهم طريق الجنّة والنار، والمروّجين لصحاح الاثار وصوادق الاخبار، اللاجين لنا المنهج السابل، الكاشفين الصادعين عن أكاذيب الاشرار وأراجيف الفجار، الموصلين أشياعهم الى النعيم المقيم، والثواب الغير الزائل، فلهم عند الله شرف قديم وعزّ صميم، وسناء نور غير آفل، وولائهم والتشبث بذيلهم الطاهر ينعش الخسيس السّافل.
وبعد، فيقول العبد الضئيل حامد حسين بن المولى العلاّمة السيّد محمّد قلي أحلّه الله دار الكرامة:
إنّ الله لما بعث نبيّه، هدى الامم وصان من النقم، وأبان عن جليل النعم،
____________
(1) الخبال: الفساد، أو نوع من الجِنّ / لسان.
(2) الجرثومة بالضم والسكون أصل الشيء. [ المؤلف ].
(3) النجه: الزجر والردع، ونجه على القوم: طلع / لسان.
(4) وقصت الشيء: إذ كسرته / لسان.
بعدما كانت الاصنام بينهم منصوبة، والاثام بهم معصوبة، لا يهتدون الى طريق، ولا يوضعون إلاّ في الحريق، ولا يقتحمون إلاّ في مضلع(1) المضيق، ودَبَّ ودرج الشيطان في حجورهم، وباض وفرخ في صدورهم، قد شبّت فيهم لظى الفتن، واتقدت بينهم نار المحن والاجن ; فألف بينهم وأخرج الضغائن الكامنة في صدورهم، وأصلح فواسد امورهم، وأزاح كثير شرورهم، وديّث(2) الكفرة الاشرار بالقمأة(3) والصّغار، والبسهم ثوب الذل والاحتقار، فسامهم بالخيف وضرب عليهم بالقصف، فغزاهم في عقر دورهم حتى ذلّوا، وأستاصل عرقاتهم حتى قلّوا، وشنّ عليهم الغارات حتى سئموا وملّوا.
ثمّ إنّه لمّا مضى لسبيله، واختار دار رحيله، قلبوا لاهله ظهر المجن، وانقلبوا على أعقابهم متقاحمين في الفتن، انكروا ما عاينوا بعيونهم وسمعوا بأسماعهم، فالظوا(4) لهم النصوص الصادعة، وأقاموا في مدافعتهم عن مقامهم على انكار الشمس الطالعة.
ولكن في خلافة ثلاثتهم الاُول، ولقرب الزمان بفقد الرسول الكريم، ووجود جمع كثير وجمّ غفير من المميزين بين الحق والباطل السَّقيم، لم يجترؤا على أن يفتروا الاكاذيب الصريحة، والمجعولات القبيحة في الوصيّ والال، أو يصرفوا مناقبهم الجميلة ومحامدهم الجليلة الى كلّ معاند ضال، وإن كان يتفق ذلك على الشذوذ والندور، فإن البليّة قد ابتدأت من ارتحال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الى دار
____________
(1) الاضلاع: الامالة / لسان.
(2) المدّيث: المذلّل / لسان.
(3) قمأ الرجل: ذلّ وصغر / لسان.
(4) اللظاظ: الحرب / لسان.
السرور والحبور، ومع ذلك فقد جلّت الرّزية وعظمت البليّة، وكبرت البلوى وكثرت الشكوى، وتفاقم الخطب الفادح، وتعاظم الابتلاء على كلّ متدين ناصح، فبدت فان أمرها كما قال امير المؤمنين (عليه السلام):
(انجذم فيها حبل الدين، وتضعضعت(1) سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الامر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عُصِي الرحمن، ونُصر الشيطان، وخذل الايمان، فانهارت دعائِمه، وتنكرت معالمه، ودرست سُبله، وعَفت شُرُكُهُ، [ أطاعوا الشيطان ] فسلكوا مسالكه ووردوا مناهله... الخ)(2).
فعند ذلك كثر الافتراء والافتعال، وشاع الزور والبهتان والانتحال، في أرباب التقشف والهتوك والتنطع(3)، المظهرين للفضل والكمال، فما ترى فيهم محدّثاً إلاّ يضع الاخبار، ولا فاضلاً إلاّ يفتعل الاثار، ولا راوياً إلاّ منهمكاً في الكذب والزور، ولا عالماً إلاّ هاوياً في الفجور والثبور، فقلبوا كلّ فضيلة جميلة لعلي (عليه السلام)وأولاده الامجاد الى خلفائهم وأتباعهم الاوغاد، ثم لم يقتصروا على ذلك حتى وضعوا في الوصي والال الكرام، ما يثلب ويغضّ منهم (عليهم السلام).
فرأيت أن أصنّف رسالة لم يسبقني أحد الى تصنيفها، ولم يبادرني مبادر الى ترصيفها، لا يعلم فضلها وجلالة شأنها إلاّ الراسخون، ولا يدرك غورها وقعرها إلاّ الشامخون، أُثبت فيها وضع أحاديث كثيرة، وكذب روايات غير
____________
(1) في المصدر [ تزعزعت ].
(2) نهج البلاغة: الخطبة الثانية.
(3) التنطع في الكلام: التعمق فيه مأخوذ منه، وفي الحديث: (هلك المتنطعون) هم المتعمقون المغالون... / لسان.
نزيرة من هذا القبيل، أفصحت عن كذبها وافترائها على لسان أئمتهم ونقادهم، وحذاقهم ومهرتهم الموسومين بالتعظيم والتبجيل، الذين يفزعون الى كلامهم ويعتمدون على أحكامهم، فأمّا أنقل التصريح بوضعها وكذبها عنهم صريحاً، أو أذكر من المقدّمات الصريحة والدلائل الصحيحة بثبت الوضع.
ولا يخفى! إنّ أصحابنا أعلى الله أقدارهم، وجعل في بحبوحة الجنّة قرارهم، وإن تعرضوا في مواضع عديدة لذكر دلائل سديدة في مصنفاتهم المفيدة، على وضع بعض أحاديث فضائل الخلفاء وأضرابهم، وهتك أستار الواضعين وأحزابهم، على نهج الاستطراد والتضمين لا على طريقة الجمع والتدوين، فإنّ ذلك من خصائص نعم الله الجليل على هذا العبد القاصر الضئيل.
وسميت هذه الرسالة بـ «شوارق النصوص في تكذيب فضائل اللصوص»، ورتّبتها على ستة أبواب وخاتمة
تعليق