معجزة انا اعطيناك الكوثر
في الواقع ـ أيها الأصدقاء ـ أنّ الإنسان يُدهَش ـ عندما يفكّر في الأعداد الكبيرة الهائلة لذرية رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ ويشتمل عليه إحساس بحدوث (معجزة) كبرى امتدّت خلال التاريخ.. وما تزال قائمةً مشهودة. وهذه المعجزة هي تصديق لإخبار قرآني كان قد وقع في مكة قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وقبل تأسيس الدولة في المدينة المنوّرة.
لقد أنزل الله عزّوجلّ على رسوله المضطهَد ( سورة الكوثر )، لتعلن هذا الخبر المدهش الذي ظلّت مصاديقه العملية تخترق الأزمنة.. بل لتتّسع مصاديقه وتزداد تفتّحاً كلّما أوغَلَ الزمن واستطالت القرون والأجيال، حتّى إذا استطلعنا واقع العالَم المعاصر وجدنا ( المعجزة ) حاضرةً بأجلى صورها وأوسع مداليلها.
والخبر الذي نزلت سورة الكوثر المباركة لتذيعه في الناس.. قد جاء في أعقاب حادثة في مدينة مكة يوم كانت عاكفة على أوثانها ومقيمة على تقاليدها الجاهلية وقيمها المتفسّخة لا تبرحها ولا تفارقها. يومَها.. لم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وآله ـ الصادع برسالة ربّه الهادية ـ من ذريّةٍ ذكور يمتدّ من خلالهم نَسَبيّاً عبر الزمان. وقد اتّخذ أحدُ أقطاب الكفر الجاهلي في مكّة ( وهو العاص بن وائل السَّهمي ) هذه النقطة ذريعةً لمحاربة الرسالة الإلهية والغضّ من شأن حامل الرسالة صلّى الله عليه وآله.. فكان يبثّ في المحافل القرشية والتجمّعات المكيّة أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله رجُل أبتَر لا عقب له، فهو مقطوع النسل مبتور الذريّة! وكان هذا ممّا يَعيبُ به رسولَ الله صلّى الله عليه وآله ويعيّره به.. في محاولة منه بائسة لمحاضرة الرسالة والرسول، ولإطلاق نوع من الحرب النفسية الآثمة العقيم.
نزلت ( سورة الكوثر ).. لا لتقول ـ وحسب ـ إن رسول الله مُنزّه عن هذه الصفة التي أُثيرت حوله ظلماً وعدواناً، بل لتبشّر أيضاً بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله تخرج من صُلبه المبارك ذريّة كثيرة وفيرة، وينحدر منه صلّى الله عليه وآله نسل كثير كثير.. اختارت السورة للتعبير عن هذه الكثرة الكاثرة لفظة ( الكوثر ) التي تعني: الخير الكثير.
ولم يُترَك ذلك الجاهل المفتري دونما عقاب ودون أن يُكال له الصاع صاعَين، فتُخبر الآيةُ الأخيرة من هذه السورة الكريمة بأنّ العاصَ بن وائل عدوَّ رسول الله وشانئه ومُبغضه هو الأبتر، وليس رسول الله. وقد تحقّق هذا بالفعل، فانقطع نسل العاص واندثر ولم يبق له من أثر. وما يُقال عن أُبوّته لعمرو بن العاص إنّما هو موضع شك وأكثر من الشك؛ ذلك أن المصادر التاريخية تشير إلى أنّه لم يكن من صُلبه.
نقرأ معاً ـ أيها الأصدقاء ـ سورة الكوثر المباركة:


وهكذا نلاحظ: أنّ موضوع السورة هو هذه الإثارة العدوانية الظالمة، والإجابة عنها إجابة إلهيّة واعدة صادقة لا تتخلّف؛ فانّ الله تعالى ناصر الرسول وحبيبه هو الذي تكفّل بالإجابة، فأعطى رسوله هذا الكوثر


ونلاحظ ثانياً أنّ التعبير بالفعل الماضي « أعطيناك » الدالّ على التحقق في الماضي.. يعني أنّ تحقق هذا الإعطاء هو من المسلّمات الواقعية وكأنّه قد حدث وتمّ من قبل.
ونلاحظ كذلك: أنّ الموضوع كان خطيراً ومهماً وحيوياً جداً، بحيث اختصّتَ به سورة مستقلة من سور القرآن العظيم.
ونلاحظ أيضاً: أنّ التعبير في السورة جاء مباشراً مركّزاً.. بدأ بالبشارة للنبيّ صلّى الله عليه وآله بكثرة الذريّة ـ إظهاراً للحماية والمحبة ـ وانتهى بالإخبار الصادق عن انقطاع نسل الشانئ الأبتر الذي حُرم الوَلَد إلى الأبد.. ممّا يكشف عن خطورة الموضوع وعظَمة الوعد، وبركة الذريّة النبوية الطاهرة، في مقابل ضآلة أعدائهم الممحوقين التالفين.
ومَن يُتابع أخبار ذريّة النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ من خلال حركة التاريخ ـ يجد أمراً عَجَباً وحالةً مدهشة.. تجعل الإحساس بالإعجاز الإلهي حاضراً في الوعي، يزداد كلَّ يوم تفتّحاً ويزداد وضوحاً.
وهنا نلاحظ:
أولاً: أنّ هذه الأعداد التي لا تُحصى من ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله قد امتدّت عبر أحقاب التاريخ وتتابُع الأزمنة والعصور، ولم تنقطع في أيّ وقت من الأوقات.. بل إنّ هذه الأعداد الغفيرة الوفيرة إنّما تزداد كثرتها بمرور الزمان وتتضاعف عبر الأجيال.
ثانياً: أنّ هذه الأعداد المتكثرة المنتشرة في كل مكان من المعمورة إنما هي من نسل بنتٍ واحدة للنبيّ صلّى الله عليه وآله هي الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام، ولم تُعقب غيرُها من بنات النبيّ قطّ. أمّا أبناؤه الذكور فقد شاء الله تبارك وتعالى أن يتوفّاهم وهم صغار السن.
ثالثاً: أنّ هذه الكثرة في ذريّة الصدّيقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها.. قد اخترقت العصور اتّساعاً وتقدّماً إلى الأمام، على الرغم من المحاولات الطاغوتية العامدة إلى إبادتها والقضاء عليها، أو الحدّ من عنفوانها وفيضانها على أقلّ تقدير. وطيلة حكم بني أُميّة وبني العباس.. شَهِد أبناءُ السيدة الزهراء عليها السّلام أنواعَ القتل والاستئصال والتشريد والسجن والتعذيب. وكانوا يُقَتَّلون أحياناً تقتيلاً جماعياً في مذابح مروِّعة لا تُبقي ولا تَذَر.. مثل: مذبحة كربلاء الدامية، ومذبحة فَخّ قرب مكة، ومذبحة بني الحسن عليه السّلام بأمر المنصور العباسي، ومثل المذبحة الواسعة للأسرة الفاطمية في مصر بعد سيطرة صلاح الدين الأيوبي على هذا البلد.
رابعاً: أنّ هذه الكثرة في ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله من الصدّيقة فاطمة والإمام علي بن أبي طالب عليهما السّلام.. ليست كثرة من الوجهة العددية وحدها، بل هي أيضاً كثرة في المواقع العلمية والمعنوية والقيادية قد أهّلت السادة ( الشرفاء ) ليكونوا طيلة التاريخ على قمّة التيّارات العلمية والمعنوية والاجتماعية والسياسية والتحرّرية. ومن يتصفّح مصادر التاريخ وكتب تراجم الرجال الكثيرة تبهره كثرة الرجال من السادة والشرفاء الذين كانوا منطلقات غنية في كلّ المجالات، وكانوا المبادرين إلى المكرمات والسموّ الأخلاقي والمعنوي.
إنّ هذا الإخبار الغيبي الذي نطق به القرآن الكريم وصدّقته الأزمنة المديدة وتصدّقه كلُّ لحظة من لحظات الحاظر.. إنما هو المعجزة الراسخة الباقية التي نشعر إزاءها بالاعتزاز، ونتعامل معها بمزيد من التصديق والإيمان.
والكوثر بهذا المعنى المتجسِّد المبارك المستمر قد ذكره المفسّرون من الشيعة والسنّة، أو ذكروا أنّه أحد معاني هذه السورة المباركة التي أُنزلت في ذريّة النبيّ صلّى الله عليه وآله.
الكوثر في تفسير ( مجمع البيان ) للطبرسي هو النسل والذريّة، ويضيف هذا العالم الكبير: وقد ظهرت الكثرة في نسله صلّى الله عليه وآله من ولد فاطمة عليها السّلام.. حتّى لا يُحصى عددهم، واتّصل إلى يوم القيامة مددهم.
وفصّل الفخر الرازي وهو يفسّر السورة الكريمة، فذكر أنّ الكوثر هو أولاده صلّى الله عليه وآله. واستدلّ على هذا المعنى بقوله: لأنّ هذه السور إنّما أُنزلت ردّاً على مَن عابَه عليه السّلام بعدم الأولاد. فالمعنى: أنّه يُعطيه نسلاً يبقون على مَرّ الزمان.. فانظُرْ: كم قُتل من أهل البيت، ثمّ العالَم ممتلئ منهم، ولم يبقَ من بني أميّة أحدٌ يُعبأ به. انظُر: كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السّلام، والنفس الزكية وأمثالهم.
وحذا العلاّمة أبو الثناء الآلوسي حذوَ الفخر الرازي في ذكره لتفسير الكوثر بأبناء السيدة فاطمة الزهراء عليها السّلام، وخَتَم بالقول: وهم ـ والحمد لله ـ كثيرون قد ملأوا البسيطة.
وللحديث بقيه ارجو ان تعرفوا
تعليق