إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام

    <B><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 24pt; FONT-FAMILY: Lotus">الصديقه فاطمه الزهراء

  • #2
    <B><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 24pt; FONT-FAMILY: Lotus">الصديقه فاطمه الزهراء

    تعليق


    • #3
      مأساة فدك والعوالي
      أحسن كلام نفتتح به هذا البحث، وأصدق حديث نبدأ به في هذا الموضوع هو كلام الله تعالى، ومَن أصدق من الله قيلاً؟ ومَن أصدق من الله حديثاً؟
      قال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
      هذه الآية كما تراها خطاب من الله عز وجل إلى حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) يأمره أن يؤتي ذا القربى حقه، فمن ذو القربى؟ وما هو حقه؟
      لقد ذكرنا - في آية القربى أو آية المودة - أن المقصود من القربى هم أقرباء الرسول وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فيكون المعنى: وأعطِ ذوي قرباك حقوقهم.
      روى عن أبي سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً وسلّمه إليها، وهو المروي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) وهو المشهور بين جميع علماء الشيعة.
      وقد ذكر ذلك من علماء السنة عدد كثير بطرق عديدة، فمنها:
      صرَّح في (كنز العمال) وفي مختصره المطبوع في الهامش من كتاب (المسند) لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: (وآت ذا القربى حقه) قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة لك فدك.
      قال: رواه الحاكم في تاريخه وفي ص177 من الجزء الرابع من تفسير (الدر المنثور) للسيوطي أنه أخرج البزار وأبو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية: (وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فدكاً.
      قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: وقد روى من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب: أنه لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) دعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدك.
      فما هي فدك؟
      التحدث عن فدك يشمل الموارد الآتية:
      ما هي فدك؟
      2 - هل كانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة أم للمسلمين عامة؟
      3 - هل دفع الرسول فدكاً إلى ابنته فاطمة الزهراء نحلة وعطية في حياته أم لا؟
      4 - هل يورّث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم لا؟
      5 - هل كانت السيدة فاطمة الزهراء تتصرف في فدك في حياة أبيها الرسول أم لا؟
      أما الأول: فقد ذكر اللغويون أقوالهم في فدك:
      في القاموس: فدك قرية بخيبر. وفي المصباح: فدك - بفتحتين - بلدة بينها وبين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة وهي مما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله).
      وفي معجم البلدان للحموي، باب الفاء والدال: فدك: بالتحريك، وآخره كاف قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقبل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) في سنة سبع صلحاً، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث، واشتد بهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك فهو مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
      الثاني: وأما كيف صارت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقد قال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)(1) أفاء الله أي ردّ الله ما كان للمشركين على رسوله بتمليك الله إياه منهم أي من اليهود الذين أجلاهم (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) أوجف خيله أي أزعجه في السير، والركاب هنا - الإبل، والمعنى ما استوليتم على تلك الأموال بخيولكم أي ما ركبتم خيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليها (ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء) أي يمكّن الله رسله من عدوهم من غير قتال، بأن يقذف الرعب في قلوبهم، فجعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء، وليست من قبيل الغنائم التي توزّع على المقاتلين.
      (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) أي من أموال كفار أهل القرى (فلله) (وللرسول) أي جعل تلك الأموال ملكاً لرسوله (ولذي القربى) يعني قرابة النبي (واليتامى والمساكين وابن السبيل) من القربى.
      روى الطبرسي عن ابن عباس قال: نزل قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى..) في أموال كفار أهل القرى، وهم قريظة وبني النضير وهما بالمدينة وفدك وهي في المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله، يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنها كلها له، فقال أناس: فهلاّ قسَّمها؟ فنزلت الآية.
      وقد مر عليك كلام الحموي في معجم البلدان حول فدك أنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
      الثالث: وقد مرّ عليك ما ذكره المحدثون في تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) إن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطماً فدكاً.
      وهاك مزيداً من الأدلة حول الموضوع تأكيداً لهذا البحث:
      ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة، والشيخ السمهودي في تاريخ المدينة أن عمر قال: إني أحدثكم عن هذا الأمر: إن الله خصَّ نبيّه في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره فقال: (ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير)، فكانت هذه خالصة لرسول الله.. الخ.
      الرابع: إذن فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات أن فدك كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً بعنوان النحلة والعطية بأمر الله تعالى حيث أمره بقوله: (وآت ذا القربى حقه).
      الخامس: يستفاد من تصريحات المؤرخين والمحدّثين أنَّ السيدة فاطمة الزهراء كانت تتصرف في فدك، وأنَّ فدك كانت في يدها.
      فمنها تصريح الإمام أمير المؤمنين بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب الذي أرسله إلى عثمان بن حُنيف وهو عامله على البصرة فإنه ذكر فيه.. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحَكَم الله.. الخ(2).
      وذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إن أبا بكر انتزع من فاطمة فدك.. الخ.
      ومعنى كلام ابن حجر أن فدك كانت في يد الزهراء (عليها السلام) من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبو بكر منها.
      وقد روى العلامة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة (بعد استيلائه على فدك) دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا بنية إن الله قد أفاء أبيك على أبيك بفدك، واختصَّه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، وإنه قد كان لأُمّك خديجة على أبيك مهر، وإن أباك قد جعلها لك بذلك، وأنكحها لك ولولدك بعدك قال: فدعا بأديم ودعا بعلي بن أبي طالب فقال: أكتب لفاطمة بفدك نِحلة من رسول الله. فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ومولىً لرسول الله وأم أيمن.
      ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستولى أبو بكر على منصة الحكم ومضت عشرة أيام. واستقام له الأمر بعث إلى فدك مَن أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
      كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أنها كانت ذات اليد، أي كانت متصرفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلا بالدليل والبيّنة. كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر) وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البيّنة لأنها ذات اليد.
      الوجه الثاني: أنها كانت تملك فدك بالنحلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
      الوجه الثالث: أنها كانت تستحق فدك بالإرث من أبيها الرسول ولكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبينة، وطالبوها بالشهود على النحلة، وأنكروا وراثة الأنبياء.
      وبإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقها بكل وجه من هذه الوجوه.
      ولهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أوّلاً، ثم طالبت بها عن طريق الإرث ثانياً كما صرّح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 ص39 قال: إن فاطمة أتت أبا بكى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت: إن فدك نحلة أبي، أعطانيها حال حياته. وأنكر عليها أبو بكر وقال: أُريد بذلك شهوداً فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر فشهدت لها أُم أيمن فقال لها: أبِرَجُلٍ وامرأة تستحقينها؟؟
      وذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى؟
      فقال: هاتي على ذلك بشهود فجاءت أُم أيمن فقالت: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال: بلى. قالت: فاشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وآت ذا القربى حقه..). فجعل فدك لها طعمة بأمر الله تعالى. فجاء عليّ (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة ادَّعت في فدك وشهدت لها أُم أيمن وعليّ، فكتبته لها. فأخذ عمر الكتاب من فاطمة، فتفل فيه فمزَّقه، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي.
      وفي سيرة الحلبي ج3 ص39 أن عمر أخذ الكتاب فشقّه.
      نعود إلى ما ذكره الطبرسي قال: فلما كان بعد ذلك جاء عليّ (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مَلَكته في حياة رسول الله؟؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أن رسول الله جعله لها وإلا فلا حق لها فيها فيه! فقال عليّ: يا أبا بكر تحكم بيننا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه فادَّعيت أنا فيه مَن تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها، وقد مَلَكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادَّعوها شهوداً كما سألتني على ما ادَّعيت عليهم؟؟
      فسكت أبو بكر فقال: يا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهي فيء للمسلمين، لا حقَّ لك ولا لفاطمة فيه!!.
      فقال عليّ (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا). فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم! قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أُقيم عليها الحد كما أُقيم على نساء المسلمين!!! قال عليّ: كنت إذن عند الله من الكافرين! قال: ولِمَ ؟ قال: لأنك رددت شهادة الله بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدك وزعمت أنها فيء للمسلمين وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على المدعي، واليمين على من ادُّعي عليه.
      قال: فدمدم الناس، وأنكر بعضهم بعضاً، وقالوا: صدق - والله - عليّ.
      وقد روى العلامة في كشكوله عن المفضَّل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) رواية لا تخلو من فائدة نذكرها بصورة موجزة قال:
      لما قام أبو بكر بن أبي قحافة بالأمر نادى مناديه: من كان له عند رسول الله دين أو عدة فليأتني حتى أقضيه.
      وجاء جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي، وادَّعى كلٌّ منهما على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنجز أبو بكر لهما.
      فجاءت فاطمة إلى أبي بكر تطالب بفدك والخمس والفيء فقال: هاتي بينة يا بنت رسول الله، فاحتجت فاطمة (عليها السلام) بالآيات وقالت: قد صدّقتم جابراً بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي ولم تسألوهما البيّنة وبَيّنتي في كتاب الله، وأخيراً طالبوها بالشهود، فبعثت إلى عليّ والحسن والحسين وأُم أيمن وأسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر (أي زوجة أبي بكر) وشهدوا لها بجميع ما قالت. فقالوا: أما علي فزوجها، وأما الحسن والحسين فابناها وأما أُم أيمن فمولاتها، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم، وقد كانت تخدم فاطمة وكل هؤلاء يجرّون إلى أنفسهم.
      فقال عليّ: أما فاطمة فبضعة من رسول الله ومَن آذاها فقد آذى رسول الله، ومن كذَّبها فقد كذَّب رسول الله.
      وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنة، من كذَّبهما فقد كذّب رسول الله، إذ كان أهل الجنة صادقين.
      وأما أنا فقد قال رسول الله: أنت مني وأنا منك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، والراد عليك هو الراد عليَّ من أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني.
      وأما أُم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنة، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها.
      فقال عمر: أنتم كما وصفتم به أنفسكم، ولكن شهادة الجارّ إلى نفسه لا تقبل فقال عليّ: إذا كنا نحن كما تعرفون ولا تنكرون وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل وشهادة رسول الله لا تقبل فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذا ادَّعينا لأنفسنا تسألنا البيّنة فما من معين يعين، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بينة ولا حجة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
      ثم قال لفاطمة: انصرفي حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
      ولما رأت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنحلة ولم تنجح مساعيها، جاءت تطالب حقها عن طريق الإرث، واتخذت التدابير اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائية واسعة النطاق وهي تعلم أن السلطة لا يخضعون للدليل الواضح والبرهان القاطع، فقد قال الشاعر: وآية السيف تمحو آية القلم.
      وكل قوم تحكم فيهم الدكتاتورية فإن المنطق فاشل ولا يجدي فائدة.
      وعلى كل فللسيدة فاطمة هدف آخر، وهو يتحقق قطعاً، وهدفها تسجيل مظلوميتها في سجل التاريخ، وكشف الغطاء عن أعمال القوم ونواياهم، فقررت أن تذهب إلى المسجد وتخطب خطبة تتحقق بها أهدافها الحكيمة.
      وقبل أن نذكر الخطبة لا بأس بذكر رواة الخطبة ومصادرها من كتب الفريقين الشيعة والسنة لنعلم مدى أهمية هذه الخطبة لدى أهل البيت باعتبارها وثيقة تاريخية تثبت مظلومية أهل البيت، ومدى الاضطهاد والعنف والكبت الذي قام به بعض الأفراد تجاه أُسرة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا ندّعي أننا استوعبنا جميع المصادر، بل ذكرنا ما عثرنا عليه من الوثائق التاريخية.
      1 - السيد المرتضى علم الهدى المتوفي 436 في كتاب (الشافي) يروي هذه الخطبة بإسناده عن عروة عن عائشة.
      2 - السيد ابن طاووس في كتاب (الطرائف) بإسناده عن الزهري عن عائشة.
      3 - الشيخ الصدوق بإسناده عن زينب بنت عليّ (عليه السلام).
      4 - ويروي بطريق آخر بإسناده عن زيد بن علي الشهيد عن عمته زينت بنت عليّ عن أُمها فاطمة الزهراء (عليها السلام).
      5 - وهكذا يروي بإسناده عن أحمد بن محمد بن جابر عن زينب بنت عليّ (عليها السلام).
      6 - ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة يروي عن كتاب (السقيفة) تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري بأربعة طرق.
      بإسناده عن رجال من أهل البيت عن زينب بنت عليّ (عليها السلام).
      (ب) بإسناده عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام).
      (ج) بإسناده عن الإمام الباقر بن عليّ (عليهما السلام).
      (د) بإسناده عن عبد الله بن الحسن (عليهما السلام).
      7 - عليّ بن عيسى الأربلي في كتابه (كشف الغمة) يروي عن كتاب (السقيفة) للجوهري.
      8 - المسعودي في (مروج الذهب) يشير إلى هذه الخطبة.
      9 - الطبرسي في كتاب (الاحتجاج).
      10 - أحمد بن أبي طاهر في كتاب (بلاغات النساء).
      إلى غير هؤلاء ممن يطول الكلام بذكرهم، وإسناد هذه الخطبة إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الأمور المسلّمة عند أهل العلم من المؤرخين وغيرهم.
      ونقل ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة عن السيد المرتضى أنه قال: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني عن علي بن هارون عن عبيد الله بن أحمد عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد (الشهيد) بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كلام فاطمة عند منع أبي بكر إياها فدك وقلت له: إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة.
      فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم، وقد حدثني أبي عن جدي يبلغ بها فاطمة على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جدُّ أبي العيناء.
      وقد حدّث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسين يذكر عن أبيه هذا الكلام ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف ينكرون هذا من كلام فاطمة وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ويحققونه؟ ولولا عداوتهم لنا أهل البيت!!.
      هذا بعض ما ظفرنا به من المصادر لخطبة سيدة النساء، ولعل غيرنا من الباحثين يجدون المزيد من المصادر لهذه الخطبة.
      بقيت هنا كلمة نذكرها كجملة معترضة، ثم ننتقل إلى الخطبة وشرحها بإذن الله.

      السر في مُطَالَبَةِ فَاطِمَة الزهْراء (عليها السلام) بفَدك
      من الممكن أن يقال: أن السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرة في طلب حقوقها؟
      وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علوِّ النفس وسمو المقام؟
      وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟
      وما الدافع بسيدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكليف، وتتجشّم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟؟
      هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع.
      أولاً: إن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أَرادوا أن يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون عليّ فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قالوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا من حوله.
      ثانيا: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد.
      وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجة أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أُخرى سبعين ألف دينار ولعل هذا الاختلاف في واردها حسب اختلافهم السنين.
      وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها.
      ثالثاً: إنها كانت تطالب (من وراء المطالبة بفدك) بالخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
      فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت عليّ بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة وشهود.
      رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلا بد للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقه، لأنه حقه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه، وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق.
      خامساً: إن الإنسان وإن كان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإنه مع ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة.
      أما ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أزهد الزهاد كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مرَّ كلامه (صلى الله عليه وآله) حول أموال خديجة في ص39.
      سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقه المغصوب، فإن الأمر لا يخلو من أحد وجهين:
      إما أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة.
      وإما أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنه مظلوم، وأن أمواله غصبت منه.
      هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإن المظلوم يعرّفه للأجيال أنه غير صادق فيما يدَّعي.
      سابعاً: إن حملة المبادئ يتشبثون بشتى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك من يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك.
      ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب (قلوب كافة الطبقات) هو التظلّم وإظهار المظلومية فإن القلوب تعطف على المظلوم كائناً من كان، وتشمئز من الظالم كائناً من كان.
      وهذه خطة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم.
      وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها.
      لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل المطالبة بحقها.
      إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
      كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات وسيدة المحجبات.
      كانت هذه النقاط مهمة جداً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كله.
      خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالية، منظمة، منسقّة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع.
      بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذَّة، ومكانتها السامية.
      وتُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء.
      وأما الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لا بدَّ من الاستعانة بذهن القارئ.
      كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهّفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.
      جلست السيدة في المكان المعدّ لها خلف الستر، ولعل دخولها يومذاك كان لأول مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
      فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، وأنَّت أنَّة.
      إنني أعجز عن التعبير عن تحليل تلك الأنَّة، ومدى تأثيرها في النفوس.
      أنَّة واحدة فقط - بلا كلام- تهيّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء.
      أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنّة من المعاني؟
      ولماذا أجهش الناس بالبكاء؟
      وهل الأنَّة الواحدة تُبكي العيون، وتُجري الدموع وتُحرق القلوب؟
      هذه ألغازٌ لا أعرف حلَّها، ولعل غيري يستطيع حلّ هذه الألغاز!!!.

      رؤوس نُقَاط الخطْبَة
      اختارت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لخطبتها هذا الأُسلوب للبداية والنهاية إنها لم تكتف بالتركيز على مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمين عيون المعارف الإلهية، وتكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، وتبيِّن لهم علل الشرائع والأحكام وضمناً تهيئ الجو لكلامها المقصود وهدفها المطلوب.
      وهذه رؤوس أقلام الخطبة ومواضيعها:
      الحمد والثناء على الله.
      التوحيد الاستدلالي.
      النبوة.
      التحدث عن العهد الجاهلي.
      إنجازات الرسول.
      توجيه الخطاب إلى الحاضرين.
      التحدث عن القرآن.
      بيان علل الشرائع وفلسفة الإسلام.
      الدخول في صميم الموضوع.
      حوادث فترة الرسالة.
      موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث.
      بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.
      بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت
      توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة حول الإرث.
      إقامة الأدلة والبراهين.
      توجيه العتاب إلى الأنصار وتوبيخهم.
      جواب رئيس الدولة.
      تزييف كلامه وتفنيد مغالطاته.
      اعتذار رئيس الدولة.
      توجيه الخطاب إلى الحاضرين، شكوى إلى رسول الله.


      1 - سورة الحشر: آية7.
      2 - نهج البلاغة باب (المختار من رسائله (عليه السلام) ).

      تعليق


      • #4
        روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه، أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك، وبلغها ذلك.
        لاثت خمارها على رأسها(1).
        واشتملت بجلبابها.
        وأقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها(2).
        تطأُ ذيولها(3).
        ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4).
        حتى دخلت على أبي بكر.
        وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم(5).
        فنيطت دونها ملاءة(6).
        فجلست ثم أنَّت أنَّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجَّ المجلس
        ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم(7).
        افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها.
        فقالت (عليها السلام):
        الحمد لله على ما أنعم.
        وله الشكر على ما ألهمْ.
        والثناء بما قدّم.
        من عموم نعمٍ ابتداها.
        وسبوغ آلاءٍ أسداها(8).
        وتمام مننٍ والاها.
        جمَّ عن الإحصاء عددُها(9).
        ونأى عن الجزاء أمدها(10).
        وتفاوت عن الإدراك أبدها.
        وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها(11).
        واستحمد إلى الخلائق بإجزالها.
        وثنّى بالندب إلى أمثالها(12).
        وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
        كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها.
        وضمَّن القلوب موصولها(13).
        وأنار في التفكير معقولها.
        الممتنع من الأبصار رؤيته.
        ومن الألسن صفته.
        ومن الأوهام كيفيته.
        ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها(14).
        وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها(15).
        كوَّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته(16).
        من غير حاجة منه إلى تكوينها.
        ولا فائدة في تصويرها.
        إلا تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته.
        وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته.
        وإعزازاً لدعوته.
        ثم جعل الثواب على طاعته.
        ووضع العقاب على معصيته.
        ذيادة لعبادة من نقمته(17).
        وحياشةً لهم إلى جنته(18).
        وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله.
        اختاره وانتجبه قبل أن اجتبله(19).
        واصطفاه قبل أن ابتعثه.
        إذ الخلائق بالغيب مكنونة.
        وبستر الأهاويل مصونة.
        وبنهاية العدم مقرونة
        علماً من الله تعالى بمآئل الأُمور(20).
        وإحاطة بحوادث الدهور.
        ومعرفة بمواقع المقدور.
        ابتعثه الله إتماماً لأمره.
        وعزيمةً على إمضاء حكمه.
        وإنفاذاً لمقادير حتمه.
        فرأى الأُمم فِرَقاً في أديانها.
        عُكَّفاً على نيرانها.
        وعابدة لأوثانها.
        منكرة لله مع عرفانها.
        فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) ظُلمَها(21).
        وكشف عن القلوب بُهمها(22).
        وجلى عن الأبصار غُمَمها(23).
        وقام في الناس بالهداية.
        وأنقذهم من الغواية.
        وبصَّرهم من العماية.
        وهداهم إلى الدين القويم.
        ودعاهم إلى الصراط المستقيم.
        ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار.
        ورغبةٍ وإيثار.
        فمحمَّد (صلى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة.
        قد حفَّ بالملائكة الأبرار.
        ورضوان الرب الغفَّار.
        ومجاورة الملك الجبَّار.
        صلى الله على أبي.
        نبيّه، وأمينه على الوحي وصفيّه.
        وخيرته من الخلق ورضيّه.
        والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

        شرحها
        (الحمد لله على ما أنعم) إن شكر المنعم واجب شرعاً وعقلاً وعرفاً، يستحق الحمد على ما أنعم الظاهرية كالحياة والصحة ونحوها.
        (وله الشكر على ما ألهم) من النعم الباطنية، كالعلم والمعرفة، والغرائز التي ألهم الإنسان وغير الإنسان إيّاها، فإن الإلهام إلقاء في القلب والنفس كالتلقين، وهو تعليم على وجه لا سبيل لأحد للوقوف عليه.
        (والثناء بما قدّم) لله تعالى نعم قد أخّرها إلى الدار الآخرة، وهي الجنة ونعميها وغير ذلك ولله تعالى نعم قد قدّمها في هذه الدنيا، قدّمها على بقية النعم، وإليك بعض التفصيل:
        (من عموم نعم ابتداها) النعم العامة التي ابتداها الله تعالى كالماء والهواء والتراب والنار وقبلها نعمة الإيجاد والخلق، والنعم الابتدائية كالجاذبية في الأرض، والمسافة المعينة المحدودة بين الأرض والقمر، وبين الأرض والشمس والغطاء الجوي المحيط بالكرة الأرضية المسمى بالطبقة النتروجينية، وغير ذلك ممّا علم به البشر وما لم يعلمه، ابتداها الله قبل أن يستحقها البشر.
        (وسبوغ آلاء أسداها) الآلاء السابغة أي النعم الشاملة الكاملة التامة، وأسداها: أعطاها، كنعمة الأعضاء والجوارح والمشاعر والمدارك التي يشعر ويدرك بها الإنسان وغير الإنسان.
        (وتمام منن والاها) المنن: جمع منّة. وهي النعمة والعطية والإحسان، وليس المقصود - هنا - المنّة بمعنى المنّ وهو عدّ الإحسان الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) وقال: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى) ووالاها من الموالاة وهي المتابعة في الإعطاء، أي نعمة بعد نعمة، فالنعم الإلهية متواصلة متواترة.
        (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها) المقصود أن كلمة: (لا إله إلا الله) يعود معناها إلى الإخلاص، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) فقد قيل: إن المقصود من الإخلاص هو جعله خالصاً من النقائص كالجسم والعرض، وما شاكلهما من النقائص، وكمال الإخلاص له نفي الصفات، أي الصفات الزائدة على ذاته لأن كل موجود متصف بصفته، وصفته غير ذاته، فالإنسان غير العلم، والعلم غير الإنسان ولكن الله تعالى علمه عين ذاته، وبقية صفاته كلها عين ذاته، ولهذا الموضوع بحث مفصّل عند العلماء مذكور في الكتب الكلامية.
        (وضمّن القلوب موصولها) أي إن الله تعالى ألزم القلوب المعنى الذي تصل إليه كلمة (لا إله إلا الله) وهو معنى التوحيد الفطري، أي جعل القلوب على هذه الفطرة، قال تعالى: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) والفطرة: الملة، وهي الدين الإسلام والتوحيد، وهي التي خلق الناس عليها ولها وبها، ومعنى ذلك أن الله تعالى خلقهم وركّبهم وصوّرهم على وجه يدل على أن لهم صانعاً قادراً عالماً حياً قديماً واحداً، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء.
        (وأنا في الفكر معقولها) أي بسبب التفكير والتعقل أوضح الله المعنى الذي يوصل إليه بعد التدبر والتعمّق، أي معنى كلمة التوحيد، والمقصود منه التوحيد النظري، وقد مضى الكلام عن التوحيد الفطري، ومعنى التوحيد النظري: التفكّر في الدلائل والبيّنات، والنظر في الآيات في الآفاق وفي أنفسهم.
        (الممتنع عن الأبصار رؤيته) حيث أن الله تعالى ليس بجسم، ولا جوهر ولا عرض، والعين لا تدرك ولا ترى إلا الأجسام والأعراض، وهي الأمور التي تعرض الجسم، كالألوان والطول والعرض وما شابه ذلك، وحيث أن الإدراك بالبصر إنما يتحقق بانعكاس صورة المرئي في عدسة العين، أو اتصال أشعة العين إلى ذلك الشيء المرئي، وحيث أن الله تعالى ليس بجسم فلا يمكن انعكاسه في العين، ولهذا من المستحيل أن تدركه العيون ولا يمكن لأي موجود أن يرى الله تعالى ويدركه بالعين، كما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وليس هذا الامتناع خاصاً بالرؤية، بل بجميع الحواس الظاهرة كالسامعة والشامة والذائقة واللامسة.
        ومن المؤسف جداً أن بعض طوائف المسلمين يعتقدون أن الله تعالى جسم، ويصرّحون بهذا الاعتقاد الفاسد الساقط عبر الإذاعات، رافعين أصواتهم: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا وهو راكب على حمار!!
        وليس هذا ببعيد من طائفةٍ أصول دينهم وفروعه محمول على أكتاف رجل يصفونه بالكذب والتزوير والتلاعب، واختلاق الروايات وإسنادها إلى رسول الله وغيره، ويكتبون أن عمر بن الخطاب ضربه بالدرّة ومنعه عن الحديث لكثرة الأكاذيب التي كان يختلقها ويصوغها في بوتقة الدجل والتزوير.
        وسمعت أيضاً من بعض مدّعي العلم - عبر الإذاعة -: أن الرسول رأى ربه ليلة المعراج رؤية عين.
        يا للكفر، يا للإلحاد، يا للزندقة، يا للجهل.
        القرآن يقول: لا تدركه الأبصار، والجهال يقولون: تدركه الأبصار، يتركون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويخأذون بقول مخلوق إن لم نقل إنه كذاب فهو جاهل يخطئ ويصيب.
        وإذا كان بعض المسلمين يجهلون أو ينحرفون عن التوحيد الذي هو أصل الدين فكيف بالنبوة والإمامة والمعاد؟ وكيف بفروع الدين والأحكام الفقهية والأمور الدينية والقضايا الشرعية؟
        (ومن الألسن صفته) أي لا يمكن وصف الله تعالى كما لا يمكن رؤيته، وكيف يستطيع الإنسان أن يصف شيئاً لم يره، ولم يحط به إحاطة، كما قال علي (عليه السلام): (ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود) لأنه صفائه عين ذاته، فكما إنه لا يمكن إدراك ذاته كذلك لا يمكن إدراك صفاته التي هي عين ذاته.
        (ومن الأوهام كيفيته) إن الله تعالى جعل للإنسان قوى باطنية، وهي الحواس الخمس الباطنية، وهي الذاكرة والحافظة والواهمة والمفكرة والحس المشترك والواهمة هي القوة التي تدرك بها الأشياء الجزئية، كأن يتصوّر الإنسان امرأة جميلة، أو قصراً شاهقاً أو حديقة غنّاء، أو ما شابه، وكل ما تصوّره الإنسان أو توهمه فهو مخلوق، ولا يستطيع الإنسان أن يتصوّر الخالق تصوّراً صحيحاً حقيقياً، أي لا يستطيع أن يعلم كيف هو؟ وهو تعالى لا يكيّف بكيف؟ أي لا يمكن تصوّر الكيفية في ذاته.
        (ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها) أي خلق الله الكائنات لا من مادة، أي أوجدها وما كانت موجودة، ويقول الماديون: لا يمكن أن يوجد شيء إلا من مادة، والمادة أصل الأشياء.
        فإذا سألتهم: وما المادة من أي شيء وجدت؟ وأين وجدت؟ ومن أوجدها؟ تراهم يسكتون ولا يحيرون جواباً، لأنهما إذا قالوا: إن المادة وجدت من غير مادة. قلنا لهم: فما المانع أو توجد الموجودات الأخرى من غير مادة؟ وإذا قالوا: إن المادة وجدت من مادة أخرى نسألهم: المادة الأخرى من أي شيء وجدت؟ وهكذا وهلمّ جراً.
        فالاعتقاد بأن الله تعالى خلق الأشياء لا من شيء أفضل وأسلم من نظريات الماديين. (وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها) أوجد الله تعالى الأشياء لا من مادة ولا من شيء بلا اقتداء بأحد في تصويرها، انظر إلى الاختراعات الحديثة إنما اقتدى مخترعوها بأشياء أخرى، صنعوا الطائرة حينما نظروا إلى الطيور وكيفية طيرانها، وكيف تلصق رجليها إلى بطنها وقت الطيران، وترسل رجليها حين الهبوط، وصنعوا الغواصة حينما نظروا إلى السمكة تغوص في الماء متى شاءت، وتطفو على الماء متى أرادت.
        وهكذا التطورات في المصانع والمعامل كلها من احتذاء أمثالها، والاقتداء بأشباهها ولكن الله تعالى أوجد الكائنات بلا احتذاء ولا اقتداء ولا اتباع بموجودات أخرى مماثلة ومشابهة لتلك الكائنات.
        (كوّنها بقدرته) أوجد الله تعالى الأشياء بقدرته الجامعة الكاملة، بدون مشاركة من أحد، بقدرته وقوته وتمكّنه على الإيجاد والتكوين، لا باستعمال الأدوات والآلات.
        (وذرأها بمشيئته) أي خلقها بإرادته دون قوله: وحسب إرادته في الكيفية والصورة والشكل والهيئة والعدد، وبقية الخصوصيات، خلقها بمشيئته بلا إجبار، وبإرادته التي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون.
        (من غير حاجة منه إلى تكوينها) أي إن الله تعالى خلق الكائنات بلا حاجة منه إلى إيجادها وتكوينها مثل أن يستأنس بهم، أو يستعين بهم في الأمور، فله تعالى الكمال الكامل بجميع معنى الكلمة، ولا طريق للاحتياج إلى ذاته المقدسة.
        (ولا فائدة له في تصويرها) أي لم تكن لله تعالى فائدة في إحداث تلك الصور والأشكال والهيئات، فإذا نفينا الحاجة والفائدة في التكوين والتصوير ينبغي أن نعلم السبب في ذلك، لأن الفعل بلا سبب لغو، وتعالى الله عن ذلك.
        (إلا تثبيتاً لحكمته) وفي نسخة (تبييناً) وعلى كل تقدير، فالمعنى أن المقصود من الإنشاء والتكوين والإيجاد هو إظهار الحكمة الإلهية، وهو تعالى يعلم تلك الحكمة البالغة التي اقتضت إيجاد الكائنات، ولعل من تلك الحكمة إن الله تعالى خلق الكائنات لكي يعرف.
        (وتنبيهاً على طاعته) أي خلق الخلائق كي ينبّههم على وجوب طاعته، والانقياد لأوامره، لقوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) والإطاعة والعبادة إنما تحصل بعد المعرفة وما قيمة العبادة بغير معرفة؟ وما قيمة المعرفة بدون إطاعة وعبادة؟
        (وإظهاراً لقدرته) قدرة الله تعالى كانت موجودة، وإنما أراد إظهار شيء من قدرته فخلق الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، وأودع في كل واحد من هذه الموجودات آيات من القدرة، فخلق الكواكب والمجرّات، والأفلاك والسماوات، وخلق الكريات الحمر والبيض في الدم، وخلق الذرة وجعل لها قوائم، إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره.
        وملخص القول: إن كل موجود من الموجودات تتجلى وتظهر فيه قدرة الله على الإبداع.
        (وتعبداً لبريته) خلق الله الموجودات كي ينقادوا لأوامره، وينزجروا عن نواهيه، والعبادة هي الانقياد والطاعة.
        (وإعزازاً لدعوته) أي خلق الله الأشياء لتكون تقوية للبراهين والحجج التي يستدلّ بها الداعون إلى الله تعالى من الأنبياء وغيرهم.
        (ثم جعل الثواب على طاعته) الإنسان لا يندفع نحو العمل إلا بدافعين: دافع الرغبة وهو الطمع لجلب الخير، ودافع الرهبة وهو الخوف من المكروه، فالتاجر يتجر طلباً للمنافع وخوفاً من الفقر، والطالب يتعلم ويدرس طلباً للثقافة أو التوظف، وهرباً من الجهل الذي يحول بينه وبني الصعود إلى مدارج الكمال.
        والإنسان لا ينقاد ولا يطمع إلا طمعاً في الأجر والثواب، وخوفاً من العذاب والعقاب وانطلاقاً من هذه الحكمة جعل الله الثواب وهو الأجر مع التقدير والاحترام جزاء لطاعة والانقياد.
        (ووضع العقاب على معصيته) أي جعل قانون العقوبة للعاصين، المخالفين لأوامره المتجاوزين لأحكامه، لماذا؟
        (ذيادةً لعباده من نقمته) وضع الله تعالى قانون العقوبة لأجل ردع العباد ومنعهم عن ارتكاب الأعمال التي توجب نقمته أي عقوبته.
        (وحياشةً لهم إلى جنته) أي جعل الثواب والعقاب لمنع العباد عن المعاصي، وسوقهم إلى طريق الجنة، أي الأعمال التي يستحق الإنسان بها الجنة، وقد مرّ معنى الحياشة في شرح الكلمات.
        (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) أقرّت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالشهادتين بعد أن شرحت كلامها شرحاً كافياً حول التوحيد، فانتقلت إلى ذكر النبوة وما يدور في هذا الفلك، فاعترفت لأبيها - أولاً - بالعبودية الكاملة أي الانقياد والخضوع لله تعالى، وهي درجة يبلغها الإنسان باختياره مع العلم أن النبوة مرتبة تحصل للنبي بغير سعي منه.
        ثم اعترفت له بالرسالة، أي إنه نبي مرسل من عند الله تعالى إلى الخلائق بشريعة سماوية ومن المؤسف أن كلمة (الرسالة) صارت تستعمل - في زماننا - في كل مبدأ حق أو باطل، وفي كل فكرة صحيحة أو سقيمة.
        (اختاره وانتجبه قبل أن أرسله) انتقاه الله من أهل العالم كما ينتقي أحدنا الفرد الكامل الممتاز من أفراد عديدة، فالفاكهة الواحدة نختارها من مئات أمثالها بعد أن نرى فيها المزايا المتوفرة المستجمعة فيها، المفقودة في غيرها، من حيث الحجم واللون والنضج والطعم والنوع وما شابه ذلك.
        وهكذا اختار الله محمدا (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يرسله، أي إن أهلية الرسول - واستحقاقه لهذا المنصب الخطير وهو النبوة - كانت ثابتة ومعلومة عند الله تعالى قبل أن ينزل الرسول إلى ساحة العمل والجهاد والدعوة إلى الله، وما كانت - هناك - حاجة للاختبار والامتحان حتى تظهر مواهبه واستعداده وتقبّله للمسؤولية، بل كان الله يعلم كفاءة الرسول لهذا العبء الثقيل.
        (وسمّاه قبل أن اجتبله) أي سماه الله محمداً قبل أن يخلقه أو سمّاه (كالخطيبة) يقال في حقها: (سمّيت لفلان) أي تقرّر تزويجها من فلان، فالمعنى - ولا مناقشة في الأمثال - أن الله تعالى قد قرّر في سابق علمه أن يكون محمد (صلّى الله عليه وآله) رسول الله، أو سمّاه الله لأنبيائه قبل أن يخلقه.
        (واصطفاه قبل أن ابتعثه) أي اختاره الله تعالى قبل أن يرسله نبيّاً.
        (إذ الخلائق بالغيب مكنونة) إن الله تعالى اصطفى محمداً واختاره واجتبله في الوقت الذي كانت الخلائق وهم الناس غير موجودين، بل كانوا في الغيب مختفين مستورين، أي كانوا في علم غيب الله، وما كان لهم وجود في الخارج بحيث ما كان يمكن إدراكهم.
        (وبستر الأهاويل مصونة) هذه الجملة تفسير لما قبلها، والأهاويل: جمع أهوال وهي جمع هول، وهو الخوف والأمر الشديد والمقصود: وحشة ظلمات الغيب.
        (وبنهاية العدم مقرونة) نهاية الشيء حدوده وآخره، والمقصود أن الخلائق كانت بعيدة عن الوجود أي كانت معدومة.
        (علماً من الله بمآئل الأمور) من ذلك الوقت اختار الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) بسب علمه بعواقب الأمور وما ترجع إليه الأمور، كان الله يعلم عواقب البشر، وعواقب حالاتهم وشؤونهم، وعواقب رسالة النبي وبعثته، ومواهبه وكفاءته للرسالة بسبب اتصافه بالأخلاق الحميدة والصفات الجميلة، ولهذا اختاره للرسالة من ذلك الوقت.
        وقد صرحت أحاديث كثيرة جداً مروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أن أول ما خلق الله نور محمد (صلّى الله عليه وآله) وهكذا قوله (صلّى الله عليه وآله): إن الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق آدم أو قبل أن يخلق السماوات والأرض باثنتي عشر ألف سنة أو أربعة وعشرين ألف سنة، وغيرها من الروايات الواردة في الكتب المعتبرة.
        (وإحاطة بحوادث الأمور) وبسبب إدراكه تعالى جميع ما يدرك من الوقائع التي تحدث وتتجدد على مر الأعوام والقرون.
        (ومعرفة بمواقع المقدور) وبسبب معرفته بأزمنة الأمور وأمكنتها التي قضاها، والمصالح التي رآها تعالى.
        (ابتعثه الله إتماماً لأمره) بعث الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) إتماماً للحكمة التي خلق الله الأشياء لأجلها، ولعل المقصود هو ختم النبوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله).
        (وعزيمة على إمضاء حكمه) وإرادة قوية أكيدة لإنفاذ حكمه وقضائه، وتقديره في خلقه.
        (وإنفاذاً لمقادير حتمه) وإجراء لمقدوراته الواجبة التي لا يمكن إسقاطها، وهي المقادير المحتومة التي لا تتغير ولا تتبدل.
        وهنا تتحدث السيدة فاطمة الزهراء عن الحياة الدينية والتفسّخ العقائدي في ذلك العهد:
        (فرأى الأمم فرقاً في أديانها) رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أهل الأرض على أديان متفرقة، من يهود ونصارى ومجوس، وصابئة وملاحدة وزنادقة.
        (عُكّفاً على نيرانها) ملازمة على عبادة النار، ومواظبة عليها، وهم المجوس الذين كانوا يقدّسون النار إلى حد العبادة، بل ويبنون بيوتاً للنار، ويحافظون على إبقائها كي لا تنطفئ.
        (عابدة لأوثانها) جمع وثن وهم الصنم المصنوع من خشب أو حجارة أو غيرها من التماثيل في كنائسهم وبيعهم، ينحنون أمامها، ويركعون ويسجدون لها بقصد العبادة.
        (منكرة لله مع عرفانها) جاحدة لله تعالى مع معرفتهم به تعالى كما قال عزّ وجلّ: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) والمقصود أنهم كانوا يعرفون الخالق والصانع بالفطرة والوجدان والعقل، إذ أنهم كانوا يعلمون أن كل مصنوع لابدّ له من صانع، ويعلمون أن الكائنات مخلوقة ولم يدّع أحد من المخلوقين أنه خلق الشمس والقمر والسماء والأرض، فلابدّ من الاعتقاد بوجود صانع لها.
        (فأنار الله بمحمد (صلّى الله عليه وآله) ظلمها) أزال الله تعالى - بجهود الرسول وجهاده - تلك الظلمات، ظلمات تلك الأمم، ظلمات الكفر والشرك والجهل، أي إن الأدلة والبراهين التي احتج بها الرسول كانت كفيلة للقضاء على تلك النظريات التي تأسست عليها عبادة النيران والأوثان، وليس المقصود أن الرسول قضى على جميع الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة بمعنى إزالتها عن الوجود، بل أثبت أن الإسلام هو الحق وغيره باطل.
        (وكشف عن القلوب بهمها) كشف الله - بمحمد (صلّى الله عليه وآله) - عن القلوب مشكلاتها، والأمور المخفية المستورة عنها، كالاعتقاد بالتوحيد والحشر والنشر في القيامة، إذ كانت تلك الأمور من المشاكل الغامضة عندهم، ولكنها انحلّت وانكشفت ببركة الرسول.
        (وجلى عن الأبصار غممها) وكشف وأوضح عن العيون الظلمة المبهمة المستولية عليها، والمقصود من الظلمة - هنا - الانحرافات العقائدية التي كانت كالظلمة على أعينهم ولهذا ما كانوا يبصرون الحقائق بسبب تلك الظلمة.
        (وقام في الناس بالهداية) قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بإراءة الطريق للناس ونصب لهم العلامات الدالة على الحق والحقيقة، على التوحيد والنبوة والمعاد.
        (وأنقذهم من الغواية) أنقذهم من الضلالة التي كانوا يعيشون فيها، ويموتون عليها، الضلالة في العقائد، في الأخلاق، في الآداب والسلوك، في العادات والتقاليد فكأنهم مغرقون في البحر، فأنقذهم الرسول من الغرق، وأسعفهم من الهلاك.
        (وبصّرهم من العماية) جعلهم أصحاب بصر وبصيرة، فالأعمى - لغةً - هو الذي لا يرى شيئاً، والأعمى - مجازاً - هو الذي لا يدرك الحقائق كما هي، فإذا تعلم صار بصيراً.
        (وهداهم إلى الدين القويم) للهداية معاني عديدة، منها إراءة الطريق لمن لا يعرف الطريق، ومنها الإيصال إلى المطلوب، ولقد قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالهداية بكلا المعنيين: أراهم طريق السعادة وأوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
        (ودعاهم إلى الصراط المستقيم) أي الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.
        (ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار) أي توفّاه الله وأخذه إلى عالم الآخرة بسبب الرأفة لا الغضب والسخط، وباختيار منه لا بإجبار وإكراه أو باختيار من الله تعالى له الآخرة وإرادة منه تعالى، وفضّل له الآخرة على الدنيا كما قال عزّ وجلّ: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى).
        (فمحمد (صلّى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة) من مشاكلها ونوائبها، وما كان يرى فيها من أنواع الأذى والمخالفة، فإن الموت راحة لأولياء الله، وإن حياة الأنبياء حياة متعبة لأنها جهود وجهاد، ومشقة وعناء.
        (قد حُفّ بالملائكة الأبرار) الذين حفّوا به والتفوا حوله، ورافقوا روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى إلى أعلى عليين.
        (ورضوان الرب الغفار) الذي شمله في ذلك العالم بصورة أوسع، لأن الدنيا تضيق عن ظهور جميع آثار رضى الله، ولكن الآخرة واسعة المجال. (ومجاورة الملك الجبار) فهو في حفظ الله وذماره وقريب من ثوابه وألطافه.
        (صلى الله على أبي، نبيه وأمينه على الوحي وصفيّه) الأمين الذي أُؤتمن على الوحي والرسالة وصفيّه الذي اصطفاه من خلقه.
        (والسلام عليه ورحمة الله وبركاته) وفي نسخة: (فمحمد (صلّى الله عليه وآله) في راحةٍ من تعب هذه الدار، موضوعاً عنه أعباء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار).

        1 - لاثت: شدّت. والخمار: ثوب يغطى به الرأس.
        2 - اللّمة - بضم اللام وتخفيف الميم -: الجماعة: الحفدة، الخدم.
        3 - كناية عن شدة التستر.
        4 - ما تنقص مشيتها عن مشية أبيها من حيث الوقار والكيفية.
        5 - الحشد: الجماعة
        6 - نيطت: علّقت والملاءَة الإزار والثوب الليّن الرقيق.
        7 - النشيج: صوت البكاء مع التوجع. والفورة: الشدّة.
        8 - سبوغ النعم: اتساعها.
        9 - جمَّ: كثر.
        10 - نأى: بَعُد. وهكذا تفاوت.
        11 - ندبهم: دعاهم والاستزادة: طلب زيادة الشكر. وهكذا استحمد.
        12 - ثنى بالندب: أي كما أنه ندبهم لاستزادتها كذلك ندبهم إلى أمثالها من موجبات الثواب.
        13 - جعل القلوب محتوية لمعنى كلمة التوحيد.
        14 - أحدثها.
        15 - الاحتذاء: الاقتداء. وحذو النعل بالنعل أي قطع النعل على مثال النعل وقدرها.
        16 - ذرأها: خلقها.
        17 - ذيادة: منعاً.
        18 - حياشة لهم: سوقهم.
        19 - اجتبله: فطره.
        20 - المآئل: جمع مئال - أي المرجع.
        21 - ظُلم: جمع ظلمة.
        22 - البُهم: جمع بهمة وهي مشكلات الأمور.
        23 - الغمم - جمع غمّة - الشيء الملتبس المستور.

        تعليق


        • #5
          من كتاب فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد

          للعلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني

          http://www.14masom.com/14masom/02/mk...ok03/index.htm




          تعليق

          المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
          حفظ-تلقائي
          x

          رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

          صورة التسجيل تحديث الصورة

          اقرأ في منتديات يا حسين

          تقليص

          لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

          يعمل...
          X