
بقلم الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (قده)
تمثّل الشهادة في تاريخ نمو الشخصية الإنسانية إحدى المعالم الكبرى في مسيرة هذا النمو نحو الإكتمال، كالحب والوفاء والإيثار، وما إليها من أخلاق تتجاوز بالإنسان ذاته نحو محيط الإنسانية الأوسع.
بل إن الشهادة تمثّل في رأينا ذروة هذه المعالم، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان في نموّه الروحي وتكامله الإنساني، لأنها تعني هبة كل شيء شخصي، وكل متعة ذاتية للآخرين ومن أجلهم، مع ما يصاحبها في الغالب من عذاب جسدي. بينما أخلاق الحب والوفاء والإيثار، يمكن للإنسان أن يحتفظ معها بجانب كبير من ذاتياته ومصالحه الشخصية.
ومن هنا كانت الشهادة ذروة العطاء الإنساني.
ومن هنا فهي لا تتاح لكل إنسان، لأن تحقيقها يتوقف على توفر شروط موضوعية لا يكون الموت شهادة بدونها.
الشهادة في مدلولها القضائي، هي إظهار الحقيقة لأجل إثباتها في صراع وخصومة بين شخصين أو جماعتين يختلفان ويتنازعان على حق من الحقوق يدّعيه كل واحد منهما لنفسه، فيأتي الشاهد ليظهر حقيقة الموقف.
ومن هنا فلا بد أن يكون هذا الشاهد منفصلاً عن الطرف المبطل الظالم، أو المبطل المخطئ، إنفصالاً تاماً، ومتحداً مع الطرف المحق إتحاداً تاماً، لا من موقع ذاتيّ أو مصلحيّ، وإنما من موقع موضوعيّ خالص، لا مجال فيه لأية نزعة ذاتية، إلا نزعة الإنتصار للحق .
أمّا الشهادة في مدلولها الإيماني الحضاري الإجتماعي في الصراع بين الحق والباطل، وبين العدل والطغيان، فإنها تحتوي المفهوم السابق للشهادة وتزيد عليه وتتجاوزه.
فمفهوم الشهادة هذا لا يمكن أن يحمله أيّ إنسان كما قلنا، وإنما يمكن أن يبلغه فريق خاص من الناس.
ذلك لأن الناس صنفان: فمن الناس من تكون حياته ( فكره- ذكاؤه- شبكة علاقاته الإجتماعية- ثروته- قدرته الجسدية- حواسّه). مسخّرة لخدمة مصالحه الذاتية، الشخصية والعائلية، ويكون كل فعل من أفعاله مسخراً لخدمة ذاتية، دون أن تكون ثمة أية رؤية للحياة وللمجتمع تتجاوز هذا الهدف، وهذا الإنسان هو ما اصطلحنا على تسميته في بعض أحاديثنا بالإنسان (( المسطّح)).
الإنسان الذي تشغل حياته مساحة واسعة أو ضيقة من حياة الناس حوله، دون أن يكون لها أي عمق، ودون أن يكون لها أية أبعاد أخرى في حياة الآخرين، إنه يبادلهم المنافع ويبادلهم الخدمات، ولكن من منطلق ذاتي محض، لا ينظر إلى مصالحهم وإلى سعادتهم أو شقائهم، وإنما ينظر فقط إلى مصلحته الخاصة.
قد يكون هذا الإنسان صالحاً بمقدار ما يكون عادلاً، وبمقدار ما يكون ملتزماً بالقوانين، ولكنه بالتأكيد ليس إنساناً رسالياً، ويستحيل عليه أن يكون شهيداً.
ومن الناس من يشارك الآخرين في حياته، لا من منطلق ذاته ومصلحته، وإنما من منطلق مصالح الآخرين وهمومهم ومصائرهم، أي أنه يتجاوز ذاته نحو الآخرين، ويجعل من حياته مشروعاً عاماً يخدم من خلاله الآخرين، على خلاف الصنف الأول، الذي لا تعدو حياته أن تكون مؤسسة خاصة مغلقة، وهذا الإنسان هو ما اصطلحنا على تسميته في بعض أحاديثنا بالإنسان (( المكعّب)).
إنه الإنسان الذي تشغل حياته مساحة كبيرة أو صغيرة من حياة الآخرين، ولكن لا من منطلق ذاتي ونفعي، وإنما من منطلق غيري وتضحوي يجعل حياته مشاعاً، يعود بالنفع والخير على الآخرين، الذين لا يرجو منهم نفعاً، ولا جزاء ولا شكوراً.
إن حياته ذات أبعاد، وأبعادها هي الآخرون. هذا الإنسان، هو إنسان صاحب قضية، فحياته ذات بعد معنوي تشكله القضية، وحياته غنية بمقدار ما في قضيته من غنى، ونبيلة بمقدار ما في قضيته من صوابية وصدق، وهو قادر على أن يكون صالحاً بمقدار ما يكون منسجماً مع قضيته العادلة، ورسالي بمقدار ما يعطي من حياته لهذه القضية، وهو إنسان يمكن أن يكون شهيداً. هذا الصنف من الناس، هم الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الصنف الأول، إنسان محدود يبدأ في الرحم وتنتهي حياته الدنيا في القبر، ولا يترك في حياة الناس وراءه أي خير، هذا إذا لم يترك في حياتهم ألواناً من الشر، والصنف الثاني إنسان غير محدود، يبدأ في الرحم، وتنتهي حياته الدنيا في القبر ولكنه يترك في حياة الناس ألواناً من الخير والسعادة، وتبقى حياته نابضة فيهم، وتضحياته سعادة وتقدماً في حياتهم، وذكراه قدوة لهم تزيد من أمثاله الذين ينسجون على منواله.
إن إمكانية الشهادة لهذا الصنف من الناس، تزيد بإطراد بمقدار ما تكون قضيته شاملة وعادلة ومستقبلية وبمقدار ما يعطي من حياته لهذه القضية، وأولئك الذين تكون قضيتهم شاملة للبشرية جمعاء، عادلة ومستقبلية، ويتّحدون بها إتحاداً كاملاً، فيعطونها كل حياتهم ووجودهم ومستقبلهم، هم المؤهلون للشهادة تأهيلاً كاملاً، إنهم الذين تقل عندهم فرص الموت وتكثر لديهم فرص الشهادة.
إن حياتهم تكون في هذه الحالة إستشهاداً مستمراً، إنهم الشهداء الأحياء الذين ينتظرون قضاء نحبهم في سبيل الله وهذه النوعية من الناس ينطبق عليها قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
ومن هنا فلا شهادة بدون قضية تجعل من حياة الإنسان مشروعاً لخدمة الآخرين، وتجعل حياته عاملاً إيحابياً ومباركاً في حياتهم.
هذا الإنسان حين يتحد مع قضية إنسانية عادلة مستقبلية، وينفصل ويسير في درب الشهادة يكون شاهداً على ظلم الظالم، وطغيان الطاغي، ويستمر في هذه الشهادة لا بالكلمات، وإنما بالحياة بحيث تتحول حياته (فكره – ذكاؤه – شبكة علاقاته الإجتماعية – ثروته – قدرته الجسدية – حواسّه ) إلى شهادة مستمرة من أجل القضية وجمهورها، وضد الطغيان ورموزه، وتستمر شهادته في التصاعد وتستمر في الإتساع، وتستمر شهادته في الوضوح والنصاعة إلى أن تبلغ ذروتها بتقديم حياته نفسها، في سبيل القضية ومن أجل جمهورها، تقديمها لا عن إكراه وإنما بحب وشوق، ومن خلال عذاباته الجسدية والنفسية، في سبيل القضية ومن أهلها، يبلغ سعادته الكبرى بالشهادة.
نتذكر هنا لإيضاح هذا المفهوم قول أبي الشهداء الإمام الحسين (ع) في خطبته في المدينة حين أزمع التوجه نحو الإستشهاد (( .. خط الموت علة ولد آدم مخط القلادة على جيد القتاة، وما أولهني إلى اسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشاجوفاً واجرية سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا اهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابري، لن تشذّ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى)).
إن الوله هو اسمى وأعلى مراتب الحب والعشق، إنه الذروة التي تستقطب كل وعي الإنسان وإمكاناته نحو مركزها، ونلمس هذه الظاهرة الروحية في جميع النصوص التي تحدثنا عن الحالة الكيانية للشهداء في ذروة إندفاعهم نحو الشهادة.
إننا نلمس من خلال النصوص التي تحاول أن تصور هذه الظاهرة الروحية، وهي بالتأكيد عاجزة عن تقديمها إلينا بشكل كامل، نلمس أن هؤلاء الشهداء كانوا يستشعرون ذروة السعادة في هذه الذروة من الإندفاع نحو الشهادة نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة .
*****
ومن هنا فثمة بون شاسع، وفرق نوعي بين الموت وبين الشهادة.
الموت نهاية طبيعية لكل حي، ولكن الشهادة ليست نهاية لكل حياة.
الموت قدر إلهي ثابت، والشهادة نعمة نادرة ليست مجّانية كسائر النعم الإلهية. وإنما هي نعمة تقتضي شروطاً لا بد من تحقيقها، هي القضية العادلة المستقبلية، والإتحاد بالقضية، وبيع النفس لله من خلال هذه القضية.
ولأن الشهادة نعمة غير مجانية فإن الله تعالى هو الذي يختار الشهداء وليست الصدفة هي التي تصنع الشهداء. يقول الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز : ( … وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).
فالشهادة إتخاذ واصطفاء واختيار من الله ومن هنا قلنا أنها نعمة غير مجانية.
ويؤكد هذ المعنى ما حفلت به السنة الشريفة، وخاصة ما يتعلّق منها بالحقل التربوي والتوجيهي من التعبير عن الشهادة بأنها رزق ومن إشتمال كثير من نصوص الأدعية التربوية الشريفة على نصوص تتضمن التوجه إلى الله بالدعاء طلباً لرزق الشهادة.
*****
وتتناسب حيوية كل أمة وروح الإنبعاث في كل جماعة طرداً وعكساً مع إنتشار روح الشهادة، وتصوراتها بين أفراد تلك الأمة والجماعة ومع كثرة الشهداء الأحياء وندرتهم في تلك الأمة والجماعة. فكلما نما في الأمة عدد هؤلاء الشهداء الأحياء كلما كانت الأمة أقدر على النهوض وأقرب إلى تحقيق أهدافها من خلال تحقيق قضيتها، وكلما ندر في الأمة عدد هؤلاء الشهداء الأحياء كانت الأمة أعجز عن النهوض، وأقرب إلى أن تكون منالاً سهلاً لأعدائها والمتربصين بها، وهذا قانون حياتي تاريخي ينطبق على كل الأمم في كل العهود وفي جميع الحضارات. ويمكن أن تقدم مثالاً له من حياة الإسلام بين عهد الرسول (ص) وبين عهد الإمام الحسين (ع).
ففي عهد الرسول كانت روح الشهادة بين أصحابه شائعة كالهواء والنور، فحقق الإسلام والمسلمون إنتصارات تجاوزت كل القوانين العادية للتاريخ، لأن عاملاً نوعياً هو عامل الشهادة، غيّر المعطيات العادية لحركة التاريخ، واستمرت هذه الإندفاعة بفضل هذه الروح حتى حققت للإسلام في عهد الخلفاء الأولين إنتشاره الأعظم.
أما في عهد الإمام الحسين (ع) مع إنتشار الإسلام وإنتشار ثقافته ونمو مجتمعه فقد كانت روح الشهادة ضئيلة تشبه النجوم في ظلمات الليل بحيث لم يستطع كل الظلم الأموي، وكل التحدّي الحسيني العلويّ الإسلامي، أن يولّد إلا عدداً محدوداً من الشهداء تمثل نخبتهم شهداء كربلاء، مما إقتضى من الإمام الحسين (ع) وقد أدرك هذه الحقيقة المرعية، أن يقوم بثورته العظيمة والإنتحارية من أجل أن يفجّر في الأمة الإسلامية روح الشهادة من جديد، لتغدو كالنور والهواء كما كانت في عهد رسول الله (ص) ولتستأنف الأمة بهذه الروح جهادها من أجل العدالة والكرامة الإنسانية للمستضعفين، كل المستضعفين في الأرض، ومن هذا المنظور يمثل أنظار الحسين (ع) شهداء كربلاء، أعلى ذروة نوعية في سجل الشهادة والشهداء في تاريخ الإسلام كله، لأنهم صمموا على نيل الشهادة التي رزقهم الله إياها في حالة من الهزيمة للأمة، أمام قوى الطغيان، وهذا ما يميّزهم عن شهداء العهد النبوي الذين صمموا على نيل الشهادة التي رزقهم الله إياها، في حالة من إندفاع الأمة نحو مواجهة قوى الطغيان وفي حالة كانت الشهادة في حياة الأمة كالنور والهواء.
عن التضحية العظمى التي جعلت شهداء كربلاء، يتجاوزون حياتهم نحو الآخرين ومن أجل الاخرين، الذين كان موقفهم موقف المشارك المتعاطف: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل* وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين).
إني لا ادرس شهداء كربلاء إحياءً لذكرهم (فهم احياء عند ربهم يرزقون).. وإنما لاصل حياتي بحياتهم، فأتعلم منها وأستشعر بها روح الشهادة، ولأنشره في الناس ليستذكروا روح الشهادة هذه في زمن طغت على الأمة الإسلامية روح الترف، وضمرت فيه روح الشهادة، وطغت فيه مثل الحياة المادية التي تجرّد الإنسان من أية قضية تجعل من حياته مشروعاً يتجاوز ذاته نحو الآخرين ومن أجل الآخرين. وانحسرت فيه روح الإسلام التي هي قضية الأمة التي تستطيع أن تحرر نفسها بها نفسها،وتحرر الآخرين من أغلال الإستعمار الجديد في العالم الثالث والعالم الإسلامي، ومن أغلال إسرائيل ووجودها العدواني الرجعي في العالم العربي. فلم تستطع الأمة أن تتجاوز أغلال عبوديتها وتخلّفها، ولن تستطيع أن تستعيد دورها الحضاري والسياسي في العالم بدون أن تنمو في فكرها وعقلها وجميع وجوه حياتها روح الشهادة التي تولد الشهداء الأحياء الذين يستطيعون أن يقودوا خطى الأمة نحو النصر في طريقهم نحو ختم حياتهم بالشهادة.
إن هذا هو الطريق الوحيد للخروج بالأمة مما هي فيه، وهذا هو الشرط التغيير الوحيد الذي يجب أن يتوفر في معظم أفراد لتستطيع أن تغير ما يحيط بها ويحل فيها من بلاء، بعد أن تغيّر ما بنفسها من عوامل التخلّف والضعف والهزيمة ( إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّر ما بأنفسهم).
وسيبقى الحسين (ع) وأنصاره معلمين كباراً، وروّاداً عظاماً في عملية التغيير التي يمثّل النبيّ وآل بيته الأطهار (ع) روادها في كل عصر ولكل جيل .