
الإمام المرشد الشيخ محمد مهدي شمس الدين (قده)
الجمعية الخيرية الثقافية - بيروت 1977
حديثنا في هذه الأمسية عن وضعية الإنسان في الحياة في نظر الإسلام وكيف وما هو التصوّر الإسلامي للحياة الإنسانية، الحياة منسوبة إلى الإنسان. قبل أن نتعرّف على التصوّر الإسلامي لهذه المسألة، علينا أن نتعرّف على التصوّر الإسلامي لهذه المسألة، علينا أن نتعرف على التصورات غير الإسلامية إلى هذه المسألة لنستطيع المقارنة من جهة ولنستطيع في النتيجة الإستتنتاج والحكم بصورة عادلة من جهة أخرى . فإن كثيراً من الأوهام التي يطلقها الناس وكأنها أحكام تنشأ من انهم لا يحيطون بوجهات النظر كلها بالمسألة المراد بحثها وإنما يتعرفون على وجهة نظر واحدة فقط ثم يتخذون موقفهم، وهذا خطأ لأن الحكم العادل على الأحداث والأشخاص والمواقف لا يكون إلا بعد الإلمام بالموضوع المراد الحكم عليه من جميع الزوايا. ونحن لا بد لنا من التعرف على وجهات النظر الاخرى لمعرفة التصوّر الإسلامي فيها. هذه مقدّمة، ومقدّمة اخرى ربما يتساءل البعض أو الكل عن جدوى أمثال هذه الأبحاث، ما فائدتها لنا في أيامنا هذه، فلنبحث الأمور العملية اليومية في حياتنا، الحقيقة إننا كما نحن بحاجة غلى أن نبحث بإستمرار أمورنا اليومية نحن بحاجة ايضاً بأن يكون تصرفنا في الحياة اليومية تصرّفاً مطبوعاً بطابع الإرتجال والآنية ( الموقف الذي ينبني على إنفعال موقت). ونحن دائماً نتعلم من الله ونتعلّم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنجد أن الله تعالى وفي وحيه العظيم إلى رسوله كان يثير قضايا العمل دائماً لأنه لا يمكن أن يكون عمل وحركة بلا رؤيا فكرية سليمة وصحيحة بالنسبة للمشكلة العملية المراد بحثها. إذاً هناك فائدة لا شك فيها من بحث هذه الأمور والعبارة الإنجيلية المشهورة: (( ليس بالخبز وحده نستطيع أن نحيا )) .
والإنسان كائن يتكامل من خلال الفكر والحركة. فلا بد من إستمرار هذه الأمور موضوعاً لإعادة النظر والإيضاح .
هاتان مقدّمتان لهذا الحديث، نتعرّف أولاً لوجهات النظر السائدة أو التي كانت سائدة بالنسبة إلى هذا الموضوع: وضعية الإنسان في الحياة .
بإستثناء الإسلام هناك نظرتان وتصوّران، التصور المادي والتصور الصوفي، كانتا سائدتين في كل العصور وإن كانت إحدى النظرتين قد إكتسبت مساحة كبرى من الأرض .
في الماضي، كانت النظرة أو التصوّر الصوفي هو السائد والغالب، في هذا العصر التصور المادي هو السائد والغالب. وكما في الماضيؤ لم تلغ الصوفية دور المادة كذلك التصوّر المادي …
إذاً الآن ندخل في التعرف إلى التصوّر المادي لهذه المسألة: عملياً، من ناحية عملية لا نظرية، النظرة المادية لوضعية الإنسان في الحياة تلغي وجود الله، النظرة المادية تقول: الإنسان يحيا بدون إله، يوجد بدون إله، ويحيا بدون إله ويموت بدون إله . طبعاً نظرياً هذا لا ينافي أن بعض المجتمعات المادية تعترف نظرياً بوجود الله ولكنها مع إعترافها هذا، عملياً هي مادية تلغي وجود الله وتأثيره في الحياة ووضعية الإنسان في الحياة. الإيمان الشكلي الذي يتجسّد في المعابد وفي الممارسات الشكلية للديانة، هذا هو الحضور النظري للإله . لكن الله في هذا التصور المادي عملياً غائب لا وجود له على الإطلاق .
مثلاً، الحضارة الرأسمالية: عادةً وخطأً يتصور أن في العالم الحديث موقفان: موقف العالم الراسمالي وموقف العالم الماركسي، وأن موقفهما متباين الواحد عن الآخر وإن الإنسان الماركسي ليس لديه إله …
من الناحية العملية العالمين كلاهما مادي، وكلاهما الله مرفوض منهما معاً، يوجد فرق نظري وهو أن في العالم الرأسمالي توجد كنائس، يوجد قس، يوجد صلاة ولكن هذه ممارسات شكلية ونظرية اما عملياً فلا يوجد أي تاثير لإله في العالم الرأسمالي ….
لنضرب الآن هذا المثل:
نتصور : رجل أميركي، يوم عمل في حياة رجل أميركي، أو نموذج آخر من العالم الرأسمالي، هذا ينشئ علاقات عاطفية مع رجال أو نساء وعلاقات تجارية أو سياسية مع جماعات … ويتصرّف في يومه العملي على إعتبار أن الله غير موجود ، هو إنسان عملي وليس إنساناً غيبياً، وهو يضع قوانينه بنفسه ولا يتلقى قوانينه من الله وهذه النظرة هي التي جعلت التشريع في كل المجالات في يد الإنسان وجعلته فيما يقولون سيد نفسه وسيد مصيره. إذاً هذا الإنسان المادي يؤمن بالله إيماناً شكلياً، هذا الإنسان يحيا دون أن يكون في حياته أي وجود لله أو دخالة لله . وهذا الموقف الخالي من وجود الله له نتيجة وهي أن هذا الإنسان يمارس الحياة ممارسة غريزية: نحن نأكل لأن غريزة الجوع مثلاً، تجعلنا نشعر بحاجة إلى الأكل. الإنسان المادي كل حياته، السياسية، الإجتماعية، الإقتصادية، العاطفية … تقوم على أساس الغريزة .
في علاقاته العاطفية الجنسية والعامة، هو يفكّر تفكيراً مادياً عملياً نفعياً هو يتبنّى أن أي موقف يجب أن يؤدي إلى منفعة له وإلا فهو موقف غير عملي لأنه لا توجد مثل عليا وإنما هناك مثل برجماتية نفعية .
إن غريزة الخوف من الفقر، الخوف من المرض، الخوف من السقوط الإجتماعي وغريزة الإستملاك تسيطر، كل هذا لأن الله غير موجود عملياً.
هذا الإنسان المادي إتجاه الإنسان الآخر، أي إنسان هو سلبي، وهو ينظر نظرة حذر وشك إلى الناس وهو قبل أن ينشئ أية علاقة مع أية جماعة من الناس يعمل حسابات عملية. في هذا التصور المادي الخالي عن الله، ربما كما قلنا توجد مؤسسات عبادة ولكن العبادة تفقد روحها، تتحوّل العبادات إلى طقوس، إلى حركات جسدية شكلية محضة بدون ان تعبّر هذه الحركات عن موقف داخلي، نفسي أو عقلي. تصوّر هذه الحالة بأن العبادة هي طقس غير صادق، لأن الحركة عندما لا تعبّر عن معناها أو الكلمة لا تعبّر عن معناها يكون هناك شكل بدون مضمون .
إذاً يمكن ان نلخّص التصور المادي لوضعية الإنسان في الحياة أنه تصور وضعية خالية عن وجود الله عملياً وإن كانت، ربما، تعترف بوجود الله نظرياً دون ان تسمح لله بأن يكون له تأثير فاعل في علاقاتها وعواطفها وآثارهذا التصور أن ممارسة الحياة والعيش تكون بوحي الغريزة وان العلاقة بين الإنسان والآخرين تكون سلبية وان العبادة تكون طقسية وشكلية .
وهذا هو التصور المادي السائد الآن وهو الذي كان موجوداً في الماضي في بعض المراكز (عند اليونان). التصور الثاني لوضعية الإنسان في الحياة بإستثناء الإسلام هو التصور الصوفي وهو التصور الذي كان سائداً في الماضي بشكل مطلق والتي تقلّصت دائرة سيادته الآن لمصلحة التصور المادي لكنه لا يزال سائداً الآن في بعض الزوايا من هذا العالم .
الفهم السائد خطأ هو أن النظرة الصوفية تناقض النظرة المادية، إذا كانت الاخيرة تعني التغيب الكامل لله فالفهم الخاطئ السائد هو ان النظرة الصوفية تعني وجود الله أكثر من اللازم. قد لا يكون هناك ملحد وصوفي في نفس الوقت وهو موجود حديثاً وقديماً. عند اليونان كان من بين الملاحدة صوفيون في العصر الحديث، هناك تيار فلسفي كبير وواسع وعميق التأثيرفي الحياة الأوروبية هم الذين يسمونه فلاسفة العبث. ينطلقون لتصورهم لوضعية الإنسان في الحياة من نظرة صوفيين. اتباع سارتر ملاحدة وصوفيون .
ما هو منشأ التصور الصوفي ؟
مثلاً: نحن الآن في قاعة لها حدود من جهاتها الست ولها مساحة معينة، لنفترض أن إنساناً في هذه القاعة وليس هناك من يهديه، ربما يكون بسيطاً، وهو سليم الحواس ولكنه غير قادر على تحديد المسافات، وهذه حالة مرضية ثابتة علمياً، فإنه سيعجز حتماً عن تحديد موقعه من الغرفة، هو عاجز لا يدرك وضعيته وموقعيته في هذه القاعة منسوباً إلى مسافاتها وحدودها، هذا الإنسان إذا أراد أن يتصرّف في هذه القاعة، إذا اراد ان يتحرّك فسيعاني من متاعب كثيرة لأنه لا يستطيع أن يرسم لنفسه الابعاد اللازمة .
إن منشأ التصور الصوفي لوضعية الإنسان في الحياة هو:
إن الإنسان لا يدرك موقعه في العالم وحينما يكون كذلك فغن الإنسان يحس بالعبث، ويرى أن الحياة عبث وبلا معنى ومملوءة بالآلام وليس لها هدف معقول، وإن الفضيلة مثل الرذيلة، وإن الشر مثل الخير حينئذ تحصل عنده، بأشكال مختلفة، مواقف مختلفة جداً.
فهذ الإنسان يكون ضائعاً لأنه لا يعرف موقعه في الحياة بشكل عام ولأنه لا يعرف موقعه وعلاقته بالطبيعة بشكل خاص- الطبيعة من أرض، وفضاء وسماء، وحياةنباتية، وحياة حيوانية – الإنسان الذي لا يدرك، ولا يعي حقيقة هذه العلاقة يشعر بالضياع .
الوجوديون، سارتر يقول: الإنسان وحيد، يولد وحيداً، ويموت وحيداً. ماذا سيكون شعور هكذا إنسان بالنسبة للحياة، سيكون طبعاً ان الحياة همّ وراحته الكبرى أن تنتهي.
أما الصوفيون المؤمنون، ما هو منشأ الضياع عندهم ، السبب هو أن المؤمن الصوفي لا يعي العلاقة الصحيحة بين الله والعالم.
مثلاً عندما يرى أن الله يتحقق في الشجر، في الجدار، في …، يكون إدراكه مهزوزاً وغير صحيح وغير طبيعي وينتج عن ذلك آراء وتصرفات غير طبيعية .
المنشأ إذاً يتلخص بكلمتين هو أن التصور الصوفي نتيجة لعدم إدراك الإنسان بشكل صحيح لموقعه هو من العالم إما نتيجة الإلحاد، وإما نتيجة لإيمان غير متوازن.
ما هي آثار التصور الصوفي لوضعية الإنسان المسلم؟:
أول هذه الآثار وأكبرها هو السلبية المطلقة من الحياة. المادي، عنده إيجابية أكثر من اللازم والصوفي عنده سلبية من الحياة أكثر من اللازم.
لماذا يتزوج الصوفي ليشقى اولاده، لماذا يبني ؟ لعب بلعب؟، شيء بلا معنى، هو سلبي امام العمل من أجل الحياة، هذا الموقف من جانبهؤلاء الصوفيون المتدينون والملحدون يسهل مهمة الطغيان والطغاة. إذا كنا لا نهتم لإعمار الحياة، وإغنائها، وإذا كنا نراها بلا معنى وعبثاً ولهواً. فلماذا نهتم بها. يأتي الطاغية فلا يقاوم لأن مقاومته عبث وباطل، فالشر مثل الخير … نحن في الحياة نقف على رمال متحركة ومياه جارية . أكثر الطغاة في التاريخ، قديماً وحديثاً، وجدوا نوافذ لطغيانهم من خلال الوجود الصوفي .
في الأثر الديني الإسلامي هناك الآثار التي تتحدث عن أن الله قد عذّب أقواماً كان فيهم قليل من المؤمنين وكثير من الكافرين، أما سبب تعذيب المؤمنين فهو سكوتهم على الوضع القائم.
(( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا)).
إذاً آثار التصور الصوفي أولاً: السلبية أمام الحياة والطبيعة، هذا في الحياة العملية، أما في الحياة السياسية فتسهيل مهمة الطغيان وفي الحياة الشخصية تعذيب الجسد ( وهو نتيجة للسلبية إزاء الحياة والطبيعة) في الحياة العقلية والثقافية : المادية .
التصوّر الصوفي يشوّه الحياة والإنسان والمجتمع، كما يشوّه التصور المادي على حد المساواة.
الآن نستطيع أن نتعرف على التصور الإسلامي لوضعية الإنسان في الحياة .
أولاً: الإنسان ليس شيئاً واحداً وإنما هو كائن مزدوج، كائن ثنائي الطبيعة ليس جسداً وليس روحاً، ليس عقلاً وليس مادة، وإنما هو شيء من كل هذا، شيء من الروح، وشيء من الجسد …………
هذا الإنسان ذو الشخصية المركبة ( أي غير بسيطة)، يمكن ان يوجد تصور معين يلغي أحد جانبي الإنسان ( تصور صوفي يلغي الجانب المادي، تصور مادي يلغي الجانب المعنوي للإنسان).
إذاً إذا كان الإنسان ثنائياً فلا يمكن أن يوضع له تصور يلبي ويعطي كل ذي حق حقه، ويعطي كل عنصر من عناصر الإنسان ما يستحقه .
توجد عشرات النماذج للتعليم في القرآن : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ). ( إعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) . الإمام علي (عليه السلام).
والنص يوضح أن الإنسان ذو طبيعة مركبة من شيئين .
ما هي العلاقة بين النفس والجسد، أو بين الروح والجسد؟ وقديماً كانت موضع جدل. في التصور الإسلامي هناك دلائل تؤكد العلاقة بين النفس والجسد .
إن الطعام له آثار نفسية وجسدية، وكذلك تعاطي الزنا، وغقامة الصلاة لها آثار جسدية. إذاً هناك علاقة ما بين الروح والجسد، هما يتبادلان التأثير وضعية الجسد، نموه علاقاته، إيجابياته وسلبياته لها آثار روحية ونفسية ايضاَ بالإضافة إلى آثارها المادية .
قديماً، مسألة تبادل التأثير بين الروح والجسد كانت علمياً وفلسفياً موضع شك. العلم الحديث أصبح يتجه إلى الإذعان بأن هناك علاقة ما بين الروح والجسد .
هذه الثنائية، إذا إعترفنا بأحد جانبيها دون الاخر بأحد جانبيها دون الآخر فنحن إما ماديين أو صوفيين، إذا إعترفنا بالإثنين معاً ولم ندرك ولم نع العلاقة الديناميكية بينهما، نصبح شخصيتين ( يكون قديساً في النهار، ومجرماً في الليل). إذا آمنا ووعينا وجود العنصرين معاً ولم ندرك العلاقة بينهما نصاب بإنفصام الشخصية .
من إدراكنا ووعينا لمسألة العلاقة بين الروح والجسد نستطيع التوصل إلى معرفة شخصية المسلم ..
الإنسان من خلال تكامله مع نفسه، يشعر بأنه في إتحاده مع المجتمع وإنسجامه مع الطبيعة والكون يوجد الإنسان المسلم المتجانس.
الحضور الإلهي، ليس حضوراً شكلياً، وإنما هوحضور عملي، كل مايخطر على البال من شيء، الله في المسلم المتكامل ، الله حاضر فيه .
جاء في القرآن الكريم قوله: ( ولا ينفقون نفقة صغيرة، ولا كبيرة ولايقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ).
الله حاضر حضوراً عملياً في كل الحياة، ولكن حضور الله لا يلغ دور الإنسان، ولا يشل حركة الإنسان، الله موجود، والإنسان موجود، الله يفعل، والإنسان يفعل، حينئذ يتكامل الله مع الإنسان .
إن كل الفقه الإسلامي تقريباً، في كل مجال من المجالات، تشريعاته وقوانينه تمثل نماذج لوضعية الإنسان في الحياة، ولحضور الله المطلق، وحضور الإنسان الحر .
وهذا نموذج يؤكد ما سبق:
الإنسان حينما يأكل الطعام، حينما يشرب الماء، حينما يمارس الجنس ( المشرّع)، نجد ان هناك صيغ وأدعية خاصة لكل من هذه الأعمال .
واخيراً فإن التصور الإسلامي لوضعية الإنسان في الحياة إذا وضع موضع التنفيذ تكون نتيجته إنساناً متكاملاً يتمتع بالسلام من جميع جوانبه .
والإنسان كائن يتكامل من خلال الفكر والحركة. فلا بد من إستمرار هذه الأمور موضوعاً لإعادة النظر والإيضاح .
هاتان مقدّمتان لهذا الحديث، نتعرّف أولاً لوجهات النظر السائدة أو التي كانت سائدة بالنسبة إلى هذا الموضوع: وضعية الإنسان في الحياة .
بإستثناء الإسلام هناك نظرتان وتصوّران، التصور المادي والتصور الصوفي، كانتا سائدتين في كل العصور وإن كانت إحدى النظرتين قد إكتسبت مساحة كبرى من الأرض .
في الماضي، كانت النظرة أو التصوّر الصوفي هو السائد والغالب، في هذا العصر التصور المادي هو السائد والغالب. وكما في الماضيؤ لم تلغ الصوفية دور المادة كذلك التصوّر المادي …
إذاً الآن ندخل في التعرف إلى التصوّر المادي لهذه المسألة: عملياً، من ناحية عملية لا نظرية، النظرة المادية لوضعية الإنسان في الحياة تلغي وجود الله، النظرة المادية تقول: الإنسان يحيا بدون إله، يوجد بدون إله، ويحيا بدون إله ويموت بدون إله . طبعاً نظرياً هذا لا ينافي أن بعض المجتمعات المادية تعترف نظرياً بوجود الله ولكنها مع إعترافها هذا، عملياً هي مادية تلغي وجود الله وتأثيره في الحياة ووضعية الإنسان في الحياة. الإيمان الشكلي الذي يتجسّد في المعابد وفي الممارسات الشكلية للديانة، هذا هو الحضور النظري للإله . لكن الله في هذا التصور المادي عملياً غائب لا وجود له على الإطلاق .
مثلاً، الحضارة الرأسمالية: عادةً وخطأً يتصور أن في العالم الحديث موقفان: موقف العالم الراسمالي وموقف العالم الماركسي، وأن موقفهما متباين الواحد عن الآخر وإن الإنسان الماركسي ليس لديه إله …
من الناحية العملية العالمين كلاهما مادي، وكلاهما الله مرفوض منهما معاً، يوجد فرق نظري وهو أن في العالم الرأسمالي توجد كنائس، يوجد قس، يوجد صلاة ولكن هذه ممارسات شكلية ونظرية اما عملياً فلا يوجد أي تاثير لإله في العالم الرأسمالي ….
لنضرب الآن هذا المثل:
نتصور : رجل أميركي، يوم عمل في حياة رجل أميركي، أو نموذج آخر من العالم الرأسمالي، هذا ينشئ علاقات عاطفية مع رجال أو نساء وعلاقات تجارية أو سياسية مع جماعات … ويتصرّف في يومه العملي على إعتبار أن الله غير موجود ، هو إنسان عملي وليس إنساناً غيبياً، وهو يضع قوانينه بنفسه ولا يتلقى قوانينه من الله وهذه النظرة هي التي جعلت التشريع في كل المجالات في يد الإنسان وجعلته فيما يقولون سيد نفسه وسيد مصيره. إذاً هذا الإنسان المادي يؤمن بالله إيماناً شكلياً، هذا الإنسان يحيا دون أن يكون في حياته أي وجود لله أو دخالة لله . وهذا الموقف الخالي من وجود الله له نتيجة وهي أن هذا الإنسان يمارس الحياة ممارسة غريزية: نحن نأكل لأن غريزة الجوع مثلاً، تجعلنا نشعر بحاجة إلى الأكل. الإنسان المادي كل حياته، السياسية، الإجتماعية، الإقتصادية، العاطفية … تقوم على أساس الغريزة .
في علاقاته العاطفية الجنسية والعامة، هو يفكّر تفكيراً مادياً عملياً نفعياً هو يتبنّى أن أي موقف يجب أن يؤدي إلى منفعة له وإلا فهو موقف غير عملي لأنه لا توجد مثل عليا وإنما هناك مثل برجماتية نفعية .
إن غريزة الخوف من الفقر، الخوف من المرض، الخوف من السقوط الإجتماعي وغريزة الإستملاك تسيطر، كل هذا لأن الله غير موجود عملياً.
هذا الإنسان المادي إتجاه الإنسان الآخر، أي إنسان هو سلبي، وهو ينظر نظرة حذر وشك إلى الناس وهو قبل أن ينشئ أية علاقة مع أية جماعة من الناس يعمل حسابات عملية. في هذا التصور المادي الخالي عن الله، ربما كما قلنا توجد مؤسسات عبادة ولكن العبادة تفقد روحها، تتحوّل العبادات إلى طقوس، إلى حركات جسدية شكلية محضة بدون ان تعبّر هذه الحركات عن موقف داخلي، نفسي أو عقلي. تصوّر هذه الحالة بأن العبادة هي طقس غير صادق، لأن الحركة عندما لا تعبّر عن معناها أو الكلمة لا تعبّر عن معناها يكون هناك شكل بدون مضمون .
إذاً يمكن ان نلخّص التصور المادي لوضعية الإنسان في الحياة أنه تصور وضعية خالية عن وجود الله عملياً وإن كانت، ربما، تعترف بوجود الله نظرياً دون ان تسمح لله بأن يكون له تأثير فاعل في علاقاتها وعواطفها وآثارهذا التصور أن ممارسة الحياة والعيش تكون بوحي الغريزة وان العلاقة بين الإنسان والآخرين تكون سلبية وان العبادة تكون طقسية وشكلية .
وهذا هو التصور المادي السائد الآن وهو الذي كان موجوداً في الماضي في بعض المراكز (عند اليونان). التصور الثاني لوضعية الإنسان في الحياة بإستثناء الإسلام هو التصور الصوفي وهو التصور الذي كان سائداً في الماضي بشكل مطلق والتي تقلّصت دائرة سيادته الآن لمصلحة التصور المادي لكنه لا يزال سائداً الآن في بعض الزوايا من هذا العالم .
الفهم السائد خطأ هو أن النظرة الصوفية تناقض النظرة المادية، إذا كانت الاخيرة تعني التغيب الكامل لله فالفهم الخاطئ السائد هو ان النظرة الصوفية تعني وجود الله أكثر من اللازم. قد لا يكون هناك ملحد وصوفي في نفس الوقت وهو موجود حديثاً وقديماً. عند اليونان كان من بين الملاحدة صوفيون في العصر الحديث، هناك تيار فلسفي كبير وواسع وعميق التأثيرفي الحياة الأوروبية هم الذين يسمونه فلاسفة العبث. ينطلقون لتصورهم لوضعية الإنسان في الحياة من نظرة صوفيين. اتباع سارتر ملاحدة وصوفيون .
ما هو منشأ التصور الصوفي ؟
مثلاً: نحن الآن في قاعة لها حدود من جهاتها الست ولها مساحة معينة، لنفترض أن إنساناً في هذه القاعة وليس هناك من يهديه، ربما يكون بسيطاً، وهو سليم الحواس ولكنه غير قادر على تحديد المسافات، وهذه حالة مرضية ثابتة علمياً، فإنه سيعجز حتماً عن تحديد موقعه من الغرفة، هو عاجز لا يدرك وضعيته وموقعيته في هذه القاعة منسوباً إلى مسافاتها وحدودها، هذا الإنسان إذا أراد أن يتصرّف في هذه القاعة، إذا اراد ان يتحرّك فسيعاني من متاعب كثيرة لأنه لا يستطيع أن يرسم لنفسه الابعاد اللازمة .
إن منشأ التصور الصوفي لوضعية الإنسان في الحياة هو:
إن الإنسان لا يدرك موقعه في العالم وحينما يكون كذلك فغن الإنسان يحس بالعبث، ويرى أن الحياة عبث وبلا معنى ومملوءة بالآلام وليس لها هدف معقول، وإن الفضيلة مثل الرذيلة، وإن الشر مثل الخير حينئذ تحصل عنده، بأشكال مختلفة، مواقف مختلفة جداً.
فهذ الإنسان يكون ضائعاً لأنه لا يعرف موقعه في الحياة بشكل عام ولأنه لا يعرف موقعه وعلاقته بالطبيعة بشكل خاص- الطبيعة من أرض، وفضاء وسماء، وحياةنباتية، وحياة حيوانية – الإنسان الذي لا يدرك، ولا يعي حقيقة هذه العلاقة يشعر بالضياع .
الوجوديون، سارتر يقول: الإنسان وحيد، يولد وحيداً، ويموت وحيداً. ماذا سيكون شعور هكذا إنسان بالنسبة للحياة، سيكون طبعاً ان الحياة همّ وراحته الكبرى أن تنتهي.
أما الصوفيون المؤمنون، ما هو منشأ الضياع عندهم ، السبب هو أن المؤمن الصوفي لا يعي العلاقة الصحيحة بين الله والعالم.
مثلاً عندما يرى أن الله يتحقق في الشجر، في الجدار، في …، يكون إدراكه مهزوزاً وغير صحيح وغير طبيعي وينتج عن ذلك آراء وتصرفات غير طبيعية .
المنشأ إذاً يتلخص بكلمتين هو أن التصور الصوفي نتيجة لعدم إدراك الإنسان بشكل صحيح لموقعه هو من العالم إما نتيجة الإلحاد، وإما نتيجة لإيمان غير متوازن.
ما هي آثار التصور الصوفي لوضعية الإنسان المسلم؟:
أول هذه الآثار وأكبرها هو السلبية المطلقة من الحياة. المادي، عنده إيجابية أكثر من اللازم والصوفي عنده سلبية من الحياة أكثر من اللازم.
لماذا يتزوج الصوفي ليشقى اولاده، لماذا يبني ؟ لعب بلعب؟، شيء بلا معنى، هو سلبي امام العمل من أجل الحياة، هذا الموقف من جانبهؤلاء الصوفيون المتدينون والملحدون يسهل مهمة الطغيان والطغاة. إذا كنا لا نهتم لإعمار الحياة، وإغنائها، وإذا كنا نراها بلا معنى وعبثاً ولهواً. فلماذا نهتم بها. يأتي الطاغية فلا يقاوم لأن مقاومته عبث وباطل، فالشر مثل الخير … نحن في الحياة نقف على رمال متحركة ومياه جارية . أكثر الطغاة في التاريخ، قديماً وحديثاً، وجدوا نوافذ لطغيانهم من خلال الوجود الصوفي .
في الأثر الديني الإسلامي هناك الآثار التي تتحدث عن أن الله قد عذّب أقواماً كان فيهم قليل من المؤمنين وكثير من الكافرين، أما سبب تعذيب المؤمنين فهو سكوتهم على الوضع القائم.
(( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا)).
إذاً آثار التصور الصوفي أولاً: السلبية أمام الحياة والطبيعة، هذا في الحياة العملية، أما في الحياة السياسية فتسهيل مهمة الطغيان وفي الحياة الشخصية تعذيب الجسد ( وهو نتيجة للسلبية إزاء الحياة والطبيعة) في الحياة العقلية والثقافية : المادية .
التصوّر الصوفي يشوّه الحياة والإنسان والمجتمع، كما يشوّه التصور المادي على حد المساواة.
الآن نستطيع أن نتعرف على التصور الإسلامي لوضعية الإنسان في الحياة .
أولاً: الإنسان ليس شيئاً واحداً وإنما هو كائن مزدوج، كائن ثنائي الطبيعة ليس جسداً وليس روحاً، ليس عقلاً وليس مادة، وإنما هو شيء من كل هذا، شيء من الروح، وشيء من الجسد …………
هذا الإنسان ذو الشخصية المركبة ( أي غير بسيطة)، يمكن ان يوجد تصور معين يلغي أحد جانبي الإنسان ( تصور صوفي يلغي الجانب المادي، تصور مادي يلغي الجانب المعنوي للإنسان).
إذاً إذا كان الإنسان ثنائياً فلا يمكن أن يوضع له تصور يلبي ويعطي كل ذي حق حقه، ويعطي كل عنصر من عناصر الإنسان ما يستحقه .
توجد عشرات النماذج للتعليم في القرآن : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ). ( إعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) . الإمام علي (عليه السلام).
والنص يوضح أن الإنسان ذو طبيعة مركبة من شيئين .
ما هي العلاقة بين النفس والجسد، أو بين الروح والجسد؟ وقديماً كانت موضع جدل. في التصور الإسلامي هناك دلائل تؤكد العلاقة بين النفس والجسد .
إن الطعام له آثار نفسية وجسدية، وكذلك تعاطي الزنا، وغقامة الصلاة لها آثار جسدية. إذاً هناك علاقة ما بين الروح والجسد، هما يتبادلان التأثير وضعية الجسد، نموه علاقاته، إيجابياته وسلبياته لها آثار روحية ونفسية ايضاَ بالإضافة إلى آثارها المادية .
قديماً، مسألة تبادل التأثير بين الروح والجسد كانت علمياً وفلسفياً موضع شك. العلم الحديث أصبح يتجه إلى الإذعان بأن هناك علاقة ما بين الروح والجسد .
هذه الثنائية، إذا إعترفنا بأحد جانبيها دون الاخر بأحد جانبيها دون الآخر فنحن إما ماديين أو صوفيين، إذا إعترفنا بالإثنين معاً ولم ندرك ولم نع العلاقة الديناميكية بينهما، نصبح شخصيتين ( يكون قديساً في النهار، ومجرماً في الليل). إذا آمنا ووعينا وجود العنصرين معاً ولم ندرك العلاقة بينهما نصاب بإنفصام الشخصية .
من إدراكنا ووعينا لمسألة العلاقة بين الروح والجسد نستطيع التوصل إلى معرفة شخصية المسلم ..
الإنسان من خلال تكامله مع نفسه، يشعر بأنه في إتحاده مع المجتمع وإنسجامه مع الطبيعة والكون يوجد الإنسان المسلم المتجانس.
الحضور الإلهي، ليس حضوراً شكلياً، وإنما هوحضور عملي، كل مايخطر على البال من شيء، الله في المسلم المتكامل ، الله حاضر فيه .
جاء في القرآن الكريم قوله: ( ولا ينفقون نفقة صغيرة، ولا كبيرة ولايقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ).
الله حاضر حضوراً عملياً في كل الحياة، ولكن حضور الله لا يلغ دور الإنسان، ولا يشل حركة الإنسان، الله موجود، والإنسان موجود، الله يفعل، والإنسان يفعل، حينئذ يتكامل الله مع الإنسان .
إن كل الفقه الإسلامي تقريباً، في كل مجال من المجالات، تشريعاته وقوانينه تمثل نماذج لوضعية الإنسان في الحياة، ولحضور الله المطلق، وحضور الإنسان الحر .
وهذا نموذج يؤكد ما سبق:
الإنسان حينما يأكل الطعام، حينما يشرب الماء، حينما يمارس الجنس ( المشرّع)، نجد ان هناك صيغ وأدعية خاصة لكل من هذه الأعمال .
واخيراً فإن التصور الإسلامي لوضعية الإنسان في الحياة إذا وضع موضع التنفيذ تكون نتيجته إنساناً متكاملاً يتمتع بالسلام من جميع جوانبه .