الدين والسياسة، قطيعة أم حوار
متى يفتح النقاش؟مراد صافي/كاتب
ليس في نيتي هنا فتح أي باب للجدل العقيم بين مفهومين متقابلين ومختلفين ''الدين والسياسة'' بالرغم من أن الإشكال الأمّ، الجوهري تقريبا الذي طرح عند العرب منذ بداية رغبتهم في النهوض أو نهضتهم التي ربطوها بغزوة نابليون لمصر ارتبط بمشكلة العلاقة مع الدين، هل نتقدم بالدين؟ أم بالقطع معه؟ وظل الإشكال قائما لحد اليوم حتى تصوره البعض معضلة في حد ذاتها، بمعنى يستحيل الخروج من هذه الدائرة المغلقة فالدين مقدس عند الشعوب العربية، ولايمكن بتاتا أو بأي شكل زعزعة العلاقة به، ولايمكن أن يحدث في العالم العربي ماحدث في الغرب إثر رغبتهم في النهوض أي القطع مع الديني قطعا نهائيا وتجريده من هالته القدسية التي كان يتحكم فيها أيضا في وجدان الشعوب الأوربية عامة·
وبالتالي كان على العرب إيجاد صيغ تفكير وطرائق مختلفة في محاولة القطع مع الدين وكان ذلك في سياقات مختلفة خاصة في مرحلة المد الماركسي التي زعزعت من سلطة القوى الغيبية المتحكمة في المجتمع، ولكن كانت زعزعة ايديلوجية تحريضية استفزازية أكثر منها عملية قطع حقيقية بمعنى أنه بمجرد سقوط النموذج الاشتراكي عاد الدين بقوة ليحتل زمام الأمور، أيضا لم يستطع التفكير العقلاني الذي حاول هو الآخر فرض تصورات مختلفة في هذا المجال من تكوين قاعدة كبيرة له في الواقع الذي ظل لأسباب لها علاقة بالتخلف والتبعية والعجز عن التنمية والفقر مرتبطا في داخله بهذا المقدس الذي يشكل حصانة وسند في معترك الحياة اليومية· وبالتالي ظلت الأصوات التي تطرح فكرة القطيعة غير متبناة اجتماعيا وعاجزة على فرض نفسها شعبيا بل أي موقف مخالف للدين هو دائما موقف يضع نفسه في جبهة الأقلية المستغربة التي ترغب في فصل الأمة عن معناها الحضاري وجوهرها العقائدي وهويتها الحقيقية· أو على الأقل هذه هي التهم الجاهزة التي تسوق في مجال كهذا من طرف أصحاب هذا الاتجاه المتصاعد اليوم في ظل سياق عالمي يشجع المواجهة بين الحضارات وعدم التعايش بين الأديان والحرب بينها··الحالة الجزائرية
إذا أخذنا الجزائر كنموذج لضرورة عملية القطع التي كان من المفروض أن تتبناها النخبة الحاكمة كطريقة لتحقيق علمانية مفتوحة وتعددية مقبولة وليس مناورة ولعب على حبال متعددة كما هو الشأن في كافة الأنظمة العربية غير الديمقراطية والتي تستغل دائما ''خطر الديني'' لكي تكبح أو تصمت العقل النقدي على مناقشة البديهيات الأساسية للحرية وما شابه ذلك، أي تترك البعبع الذي يخيف حاضرا لكي تنسى النخبة المثقفة خيارها الديمقراطي وهي تعرف نتائجه مسبقا عندما يقحم الدين كعامل سياسي حاسم والجزائر أصبحت مضرب المثل أو النموذج الذي يضرب به المثل في تهديد الأنظمة العربية للقوى المعارضة من العلمانيين والديمقراطيين ومن سار في طريقهم ومع ذلك مع ما حدث في الجزائر من عنف باسم الدين، أو من أجل تطبيق الحكم الديني فإن الجزائر لاتزال مأسورة بهذا ''الديني المقدس''، محكومة به ومرتبطة بحضوره المهيمن والقوي· والنظام الحاكم يعمل على تشجيعه ودعمه دون أن يقوم بأي جهد معتبر من اجل تحرير المجتمع من قبضة المتكلمين باسمه·
طبعا ليست الدعوة للقطيعة مع الديني بمعنى التخلي عن الدين فذلك أمر غير منطقي، وغير مقبول، إلى جانب أنه مستحيل تقريبا، وحتى في الغرب لم يحدث ذلك، ولن يحدث أمر كهذا لأسباب لاتحتاج لتعديد، أو شرح، ولكن ما نقصده هنا هو أن المطلوب هو تحرر النظرة المجتمعية من طغيان الحضور الديني الذي يفقد المجتمع رؤيته المدنية ويصبح معتقلا في منظور غيبي اتكالي لايعتمد فيه الفرد على نفسه وإرادته، وإنما يبقى مشلول العقل والإرادة والحركة، أي غائب عن الفعل المحرك للتاريخ، الفعل الذي يبني رؤية مستقبلية متفائلة للحياة بدل أن يعلق كل آماله على ما تتيحه له حياة الآخرة· أي حياة ما بعد الموت كما يتفنن الدعاة على صياغة مجتمع أخروي ينتظر نهايته بدل أن يبني حياته في دنياه الأرضية التي يعيشها·لقد أصبح الخطاب الديني المبرمج لأفئدة الناس وعقولهم خطاب إلغائي لقدرة الفرد على التعايش مع الأخريين إلا من كان موافقا للقاعدة ومرتبطا بالجماعة فالخطاب الديني ضد الفرد والفردانية ضد الواحد الذي يفكر بإرادته، ويقرر بنفسه، ويختار بحرية مصيره، وأنا لا أتحدث عن التعليم الدينية التي نجدها أكثر حداثة وتنويرا من خطابات المتكلمين باسم الدين أحيانا ولكن هذا التراث الديني المرتبط بتقاليد تحقر الحرية والفردانية المستقلة وتحتكر الحقيقة في التفسير والتأويل وتضطهد ضمن هذا الاختيار حق الآخر في التفكير وتصادر رأيه برؤيتها الأحادية والواحدة للمعنى النصي ولاتترك أي مجال للنقاش والاختلاف حتى من أولئك المعترف بهم عند هؤلاء فالترابي مؤخرا قدم بعض الاجتهادات الجليلة وهي خطوة أولى ولكن سرعان ما تحول الترابي الخارج عن نسق الخطاب الدوغمائي الحرفي إلى مبتدع ومنحرف بدل مجتهد ومحدث بالفعل وهذا ما يحدث مع كل رأي مخالف أو تصور نقدي مغاير حتى من داخل الحقل الديني والمشتغلين فيه·
قطيعة نعم ولم لا؟
خرجت الجزائر من حرب شرسة استغل فيها الدين بطرق ميكيافيلية وتحول إلى وسيلة للقتل الوحشي والعنف الدموي أي إلى الوجه الأكثر وحشية ودموية وتفاجأ المجتمع الجزائري الذي كان منساق وراء يوتوبيا دينية ومثالية رومانسية عقائدية ضمن رغبته في التغيير والخروج من عباءة نظام سياسي قاد البلاد إلى الانسداد والفشل التامين ما يمكن أن ينجر وراء ذلك عندما لايحضر العقل النقدي المفكر والضمير المسئول وعرف عينيا وواقعيا ما يمكن أن ينجر من وراء الخطابات الدينية التي لا تستخدم الفعل النقدي ولاتقبل التعددية والرأي المخالف فباسم الدين قتل الأطفال أو ذبحوا وقطعت الرؤوس واغتصبت النساء ودمر بلد بأكمله تقريبا في مرحلة من المراحل وخرج المجتمع الجزائري منهارا عصبيا ولكن قابل في تلك اللحظة التاريخية المهمة لفعل القطيعة مع المتكلمين باسم الدين، قطيعة حقيقية ومهمة، قابل من إحداث نقلة نوعية في الخطاب والحياة، لكن هذه النقلة لم تحدث، أو لم تتوج بفعل القطيعة الضرورية للخروج من تراكمات وثقل السلطات الغيبية الكثيرة، بل بالعكس ماحدث هو أنه تم إعادة تبجيل الخطاب الديني من جديد لحسابات سياسية قصيرة الرؤية ومحدودة النظر، وعاد المجتمع المنهك من حرب العشر سنوات الأخيرة ليصبح فريسة أكثر لهيمنة الخوف والتملص من المسؤولية الفردية ''لمجتمع يسعفه تفسير فيضانات باب الوادي وزلزال بومرداس على أنه عقاب من الله'' وعندما ينتشر وعي بهذه الضحالة يعني انه يعيش في غياب تام لأي قدرة على تحمل مسار التاريخ وعاجز تمام العجز على الخروج من معتقل السماء إلى فسحة الحياة التي يعيشها، وغير واعي برهانات البحث الموضوعي ليهزم الفشل والاتكالية والضعف المرتبطة بأسباب مادية وموضوعية وليس لأن الله يعاقب عباده المنحرفين· وطبعا هذه الوثوقية إلى جانب أنها ترضي المتكلمين باسم الدين ترضي كذلك أنظمة الحكم التي تغيب عنها الديمقراطية·
ولكن الحديث عن المجتمع يعني الحديث عمن يسير المجتمع بتركه يجنح لرؤاه الغيبية وينام فيها مخدرا بدل حل مشاكله الحقيقة التي يعاني منها منذ سنوات ولهذا فان المسؤولية تقع على عاتق من يترك القافلة تسير لوحدها من دون توجيه أو رعاية لأن هذا المجتمع الذي عانى تاريخيا من صنوف كثيرة من العنف ضد ذاته وأصالته يبقى عاجزا حتما إن لم تقم نخبته بدورها في إعادة بناء تصوراته من جديد عبر الإعلام والتعليم وفضاءات المجتمع المدني المغيبة والمسيجة والمقفول عنها نهائيا في حاضرنا اليوم·كان يمكن حدوث قطيعة بين الديني والسياسي في فترة مابعد العنف لأن المجتمع كان مهيأ لشيء كهذا ولكن ضيعنا الفرصة وضاع معها حلم تغيير حقيقي· حلم دولة مدنية حقيقية·
عودة الديني بأقنعة مختلفة
رغم ذلك ما يحدث اليوم في الجزائر من عودة الديني بقوة إلى الساحة الاجتماعية ليس كخطابات سياسية فقط التي أصبحت منهزمة ولكن يقظة ومنتبهة لجمع الثروة والمال وإنما كتصرفات تدل على أن هذا الوعي الاجتماعي المعاد صياغته وفق تصورات عقائدية خطيرة مرتبطة بوضعية سوسيولوجية خطيرة للفئات الكبرى من المجتمع والتي تجد نفسها منجذبة من جديد لدعوات العنف الجهادي وقد صار النموذج الجهادي في أفغانستان والعراق يغري كثيرا اليوم وقد يعيد الجزائر من جديد لوجه ذقنا مرارته لسنوات·
أخلص للقول أن الأمر ليس دعوة لقطع الإنسان الجزائري عن دينه المكون الجوهري لهويته ولا المس بعقيدته أي بروحانيته التي هي حق من حقوقه، ولكن للقطع مع تلك الخطابات التي تريد أن تصهر الكل في بوتقة واحدة، ورؤية واحدة، والتي تحولنا جميعا لرهائن محتجزون ضمن أفق ضيق، وأهداف غيبية وننسى رهانات التحول والبحث عن مسالك للتقدم الذي نحن في أمس الحاجة إليه· والأهم من ذلك الدعوة للنقاش فلم يعد بوسعنا اليوم تطارح القضايا الجادة في بلدنا رغم ما نزعمه من جو الحرية، ومن ديمقراطية الإعلام·منقول لتعميم الفائدة..