أسباب تأخر تطبيق دولة العدل الإلهي في الأرض
ماهر آل شبر
لأن البشرية في ذلك الوقت لم تستوعب بعد النظرية الإلهية المتكاملة للعدل، ولمتحدث فيها المفاسد وسفك الدماء وأشكال الظلم والمشاكل والفظائع التي حدثت فيالتاريخ فيما بعد على مر الدهور والأزمان، فكيف تُطالب البشرية بتطبيق العدل وهي لاتعرف له معنى، فهي لم تر الظلم لتعرف الأمر المعاكس له.
فلو قلنا لأحد ما مثلاً لا يجوز لك شرب الخمر وهو لم يرى خمراً أبداً في حياتهولا يعرف له معنى لكان طلبنا هذا غير منطقي.
ولهذا السبب أيضاً تم إدخال آدم (عليه السلام) الجنة فترة من الزمن ثم أُخرجمنها فكان إدخاله فقط ليتعلم طريقة إغواء الشيطان ويتعرف على تلبيس إبليس عليهاللعنة، إي فترة تعليمية قبل بدء مرحلة التكليف والمحاسبة على الأعمال.
ولذلك يعتقد الشيعة بعصمة آدم (عليه السلام) وأن مخالفته للأمر الإرشادي لم تكنمعصية حيث لم يدخل بعد المرحلة العملية، وإنما قال الله له
( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (1)،
أي بالكد في الدنيا والتعب في العمل لتحصيل الرزق كما نصت على ذلك أكثر التفاسيربدليل قوله تعالى ) فتشقى( ولم يقل سبحانه فتشقيا لأن الرجل هو الذي تجب عليهالنفقة على زوجته وهو الذي يكد على عياله في العادة، ثم أنه من الواضح من الآياتالسابقة في سورة البقرة التي تتحدث عن إخبار الله سبحانه وتعالى الملائكة ) إنيجاعل في الأرض خليفة( أن الله عز وجل خلق آدم من البداية ليعيش في الأرض لا فيالجنة.
ثانياً: ابتلاء البشر واختبارهم:
لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار للإنسان وأعطاهحرية الاختيار للطريق الذي يريد أن يسلكه في الحياة وفي الآخرة يثاب المحسن ويعاقبالمسيء، فلو أجبر سبحانه العباد منذ البداية على الطاعة والإيمان لانتفت الحكمة منهذا الاختبار، ففي دولة المهدي (عليه السلام) تقل فرص الاختيار وتضيق الطرق علىالملحدين والمنحرفين، فإما أن يهتدي الشخص بمحض إرادته - خصوصاً بعد أن يرى دلائلصدق الإمام وعدله - أو يُجبر على الإسلام والطاعة رغماً عن أنفه، أو عليه أن يختارالموت بسيف الإمام إذا ما أصر على عناده واستكباره، كما قال سبحانه وتعالى:
( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كرهالمشركون).
وقوله تعالى:
( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) (3 ).
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير الآية السابقة قال: (إذا قام القائم (عليه السلام) لا يبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداًرسول الله)(4).
وعن حذيفة بن اليمان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
(لو لم يبقى من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله فيه رجلاً اسمه اسمي وخلقهخلقي يكنى أبا عبد الله، يبايع له الناس بين الركن والمقام، يرد الله به الدينويفتح له فتوحاً، فلا يبقى على وجه الأرض إلا من يقول لا إله إلا الله)(5).
كما أن الله سبحانه جعل الحياة الدنيا مجال للصراع بين الخير والشر فكان لهذاجولة وللثاني جولة أخرى وهكذا، وحتى الفترات التي انتصر فيها الحق بقيادة بعضالأنبياء (عليهم السلام) لم تستمر طويلاً إذ أعقبها عصور من الظلم والإفساد، فكانلابد إذاً أن تكون الخاتمة للحق والعدل والانتصار للخير في نهاية الصراع فلا يقومبعده للشر قائمه، فلو كانت دولة الحق في منتصف الطريق ثم انتهت وجاءت بعدها دولالظلم فلا معنى لدولة العدل هذه وحينئذٍ ستكون جولة فقط في هذا الصراع الدائر بينالحق والباطل.
فلابد إذاً أن تكون دولة العدل الإلهي هذه في نهاية المطاف وخاتمة للصراع وقبلقيام الساعة كما قال تعالى
( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهمالوارثين) (6).
وعن مقاتـل بن سليمان في تفسير قوله تعالى
( وإنه لعلمٌ للساعة) (7)،
قال: (هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون إمارات ودلالات الساعةوقيامها)(8)، وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا: (هو عيسى بن مريم حينما ينزل منالسماء في آخر الزمان ويصلي خلف المهدي، لأن ظهوره (عليه السلام) يُعلم به مجيءالساعة لأنه من أشرا طها)(9).
ولقد حرصت أكثر الأحاديث التي تكلمت عن الإمام المهدي (عليه السلام) على التأكيدبأنه لا يكون إلا في آخر الزمان وبعضها بالقول لو لم يبقى إلا آخر يوم من الدنياوبعضها بالقول قبل قيام الساعة.
فعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
(ابشروا بالمهدي فإنه يأتي في آخر الزمان على شدة وزلازل يسع الله لهالأرض عدلاً وقسطاً)(10).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال:
(المهدي يخرج في آخر الزمان)(11).
وعنه أيضاً (صلى الله عليه وآله) قال:
(يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي يملأ الأرضعدلاً كما ملئت جوراً، فذلك هو المهدي)(12).
وعنه أيضاً (صلى الله عليه وآله) قال:
(لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئتقبله ظلماً يكون سبع سنين)(13).
ثالثاً: النضج الفكري:
لأن البشرية في ذلك الوقت لم تصل بعد لمرحلة النضج الفكري وكانت تسير نحوالتكامل الإنساني في تطور مستمر في الفكر والثقافة وتحصيل العلوم وحصول التجاربوغير ذلك من التطور البشري.
ولذلك كانت رسالة كل نبي من الأنبياء أو الرسل أكثر شمولاً لمتطلبات الحياةومتطلبات العصر من الرسول السابق له ومكملة لرسالته، إلى أن جاء النبي محمد (صلىالله عليه وآله) حينما وصلت البشرية لمرحلة من التطور الفكري بحيث تستطيع أن تستوعبهذا المشروع الإلهي الكبير فوضع الدستور المتكامل للحياة والذي يمثل أيضاً دستورالدولة الإلهية الموعودة، ونزلت هذه الآية
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (14).
وبذلك أُكملت الرسالات السماوية ووضعت النظرية المتكاملة لأهل الأرض وجاءت رسالةالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) خاتمة لجميع الرسالات وناسخة لها جميعاً.
ولعل هناك من يتساءل مادام الدين قد اكتمل، والبشرية وصلت لمرحلة النضج الفكريعندما جاء النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلماذا لم تطبق هذه الحكومة الإلهية فيحينها على كل الأرض؟ ومادام قد وُضع الدستور المتكامل لكل البشر فلماذا لم يوضعموضع التنفيذ الفعلي في جميع المعمورة؟ ولماذا يبشر النبي بالمهدي من ولده في آخرالزمان وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً ؟ ولماذا لا يكون النبيمحمد (صلى الله عليه وآله) هو المنفذ لهذه الحكومة الموعودة ؟
والجواب أن البشرية في ذلك الوقت واقعاً وصلت لمرحلة النضج الفكري بحيث تستطيعفهم هذا المشروع الإلهي الكبير، إلا أنها لم تصل بعد لإمكانية التطبيق العملي لهذاالدستور الكامل في جميع الكرة الأرضية ولم تصل بعد لمرحلة الاستعداد الحقيقيللتطبيق الفعلي لهذا المشروع.
فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا راجعنا الروايات التالية نفهم أنه في زمن المهدي (عليه السلام) لن يكون هناك غني وفقير...! فحينما يطبق العدل على الجميع سيكون الكلغنياً ولا وجود للمحتاجين في ذلك المجتمع المثالي.
فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(يخرج المهدي حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويطاف بالمال فيأهل الحواء ـ أي أهل الحي ـ فلا يوجد أحد يقبله)(15).
وعنه (صلى الله عليه وآله) قال:
(أبشركم بالمهدي يقسم المال صحاحاً بالسوية ويملأ الله قلوب أمة محمدغنى، ويسعهم عدله حتى يأمر منادياً فينادي: من له في مال حاجة)(16).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
(فحينئذٍ تُظهر الأرض كنوزها وتُبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍموضعاً لصدقته ولا لبره لشمول الغنى جميع المؤمنين)(17).
إذاً فلنا أن نسأل من الذي سوف يعمل في الأعمال الشاقة والمتعبة في ذلك الزمان،ومن الذي سيعمل في بعض الأعمال الدنيئة كمهنة الزبال مثلاً أو خلافه مادام الكلغنياً ولديه المال الكافي...؟
والجواب أنه بعد أن ترى البشرية من الظلم والفجائع مالا تطيقه، وبعد امتلاءالأرض جوراً وظلماً، وبعد تجربة جميع الأطروحات الفكرية والاجتماعية والاقتصاديةوبعد فشلها جميعاً، ستصل البشرية لحالة من اليأس بحيث تطلب فيها إقامة دولة العدلالإلهي الموعودة.
وستطالب البشرية بتطبيق هذا المشروع الإلهي الكبير في الأرض مهما كلفها الأمر،وسيعمل الجميع حينئذٍ لإنجاح هذه الحكومة العادلة وحتى إذا استدعى الأمر للعمل فيالأعمال الشاقة طلباً للأجر والثواب من الله فقط.
ولقد جاء في بعض الأخبار أنه في زمان الإمام المهدي (عليه السلام) لن يكون هناكأجر مالي للبضائع في أثناء البيع وإنما الصلاة على محمد وآل محمد فقط...!
وحتى إذا قلنا بعدم صحة هذه الأخبار إلا أنه لن يكون هناك مانع عند أحد ما منالعمل في الأعمال الشاقة والدنيئة مادام في ذلك قيام الدولة الإسلامية وبقاؤهاوديمومتها.
ولذلك كان بعض من مهام الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من بعد النبي (صلى اللهعليه وآله) هو إيصال الأمة إلى هذه المرحلة من الاستعداد والجاهزية.
فعن بريد العجلي قال: قيل لأبي جعفر الباقر (عليه السلام)
إن أصحابنا بالكوفة جماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك، فقال (عليهالسلام): يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته ؟ فقال: لا، فقال(عليه السلام): فهم بدمائهم أبخل، ثم قال: إن الناس في هدنة نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدودونؤدي أماناتهم حتى إذا قام القائم جاءت المزاملة ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذحاجته لا يمنعه(18).
وكان كل إمام من الأئمة (عليهم السلام) يقوم بمهام تتناسب مع مرحلة التطور فيالأمة والوضع الاجتماعي الذي يعاصره، فنرى الإمام الحسين (عليه السلام) يقوم بثورةضد يزيد، بينما الإمام زين العابدين يركز على جانب التربية بالدعاء والعبادة، بينمانرى الإمامين الباقر والصادق يركزان على المجال العلمي والفقهي.
وحينما وصلت الأمة في زمان الإمام العسكري (عليه السلام) لمرحلة من التطور بحيثتستطيع تحمل أعباء غيبة الإمام عنها حدثت الغيبة الصغرى ومن بعدها الغيبة الكبرىبالتدريج حيث سبق ذلك انقطاع الأئمة السابقين للمهدي (من بعد الإمام الرضا) عنالاتصال المباشر بالأوساط الاجتماعية لوضعهم تحت الإقامة الجبرية في دورهم وتحتالملاحظة الدائمة من قِبل السلطات الحاكمة آنذاك، وكذلك اتخاذ الأئمة نظام الوكلاءبينهم وبين عامة شيعتهم ومواليهم تمهيداً لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
الهوامش:
1- سورة طه الآية 117.
2- سورة التوبة الآية 33.
3- سورة آل عمرانالآية 83.
4- تفسير العياشي مجلد 1 ص 182 ، المهدي في القرآن ص 15.
5- المنار المنيف ص 148، الحاوي للسيوطي ج 2 ص 63.
6- سورة القصص الآية 5.
7- سورة الزخرف الآية 61.
8- البيان في أخبار صاحب الزمان ص 528، كشف الغمة ج 3 ص 280، ينابيع المودة ص 301.
9- تفسير التبيان مجلد 9 ص 211، مسند أحمد ج 1 ص 317، الدر المنثور ج 6 ص20.
10- دلائل الإمامة ص 467، إثبات الهداة ج 7 ص 147.
11- غيبة الطوسي ص 178، منتخب الأثر ص 168، إثبات الهداة ج 3 ص 502.
12- تذكرة الخواص ص 363، منتخب الأثر ص 182 ح 1، إثبات الهداة ج 3 ص 607.
13- فرائدالسمطين ج 2 ص 324، دلائل الإمامة ص 251، كشف الغمة ج 3 ص 258.
14- سورةالمائدة الآية 3.
15- عقد الدرر في أخبار المنتظر ص 241 ح 276.
16- معجمأحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 92.
17- الإرشاد للمفيد ج 2 ص 384، كشف الغمة ج 3 ص 265.
18- بحار الأنوار ج 52 ص 372 ح 164، درر الأخبار ص 404 ح