بدايةً نعزي الامام المنتظر (عج) والعالم الاسلامي باستشهاد مولانا المسموم الامام جعفر بن محمد الصادق روحي وارواح العالمين له الفداء وعظم الله اجورنا واجوركم بهذا المصاب ورزقنا واياكم شفاعته وزيارته في الدنيا والاخرة0وهذه نبذة مختصرة عن حياة الامام الصادق (ع)لانغالي في القول اذا قلنا ان الامام جعفر الصادق (ع) هو اعظم شخصية في تاريخ الفكر الاسلامي والرائد الاول للحضارة الاسلامية، وان المتمعن في سيرة هذا الرجل العظيم لينبهر امام حقيقة عقله الجبار الذي بنى للانسانية اروع ما يمكن ان يبنيه من اصول حضارة الدنيا ورفاهيتها، اضافة الى ما انطوت جوارحه من ورع وزهد وتقوى وفقه استمدت منه المذاهب الفقهية التشريعية لائمة علماء المسلمين، فدانوا لهذه الروح العلمية التي انعكس ضوؤها على شتى العلوم، ففي صدر كل علم تجد صورة للامام جعفر الصادق مشرقة شامخة كالشمس تمد بأشعتها الى الاجيال.ولد الامام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (ع) في المدينة المنورة في السابع عشر من ربيع الاول سنة 83 للهجرة في اجل واكرم وارفع واعظم بيت في تاريخ البشرية جمعاء، امه فاطمة المكناة بـ(ام فروة) بنت القاسم بن محمد بن ابي بكر، قام الامام علي بن الحسين (زين العابدين) (ع) بتربية ورعاية حفيده الامام الصادق (ع) مدة اثنتي عشرة سنة فنهل منذ صباه من منهل الوحي واستقى من المعارف الالهية التي كان يفيض عليه بها جده (ع) والتي اخذها بدوره عن آبائه الطاهرين عند جدهم رسول الله (ص) فهم خزائن العلم وينبوع الحكم.وتوفي الامام زين العابدين (ع) فآلت الامامة الى ابنه الامام الباقر ابو الامام جعفر الصادق (ع) زعيم المدرسة العلمية المحمدية، فقام بدوره مقام ابيه في تربية الامام الصادق وتعليمه.في هذه البيئة الطاهرة التي اذهب الله عنها الرجس نشأ الامام الصادق (ع) فورث خصال الانبياء، وفي هذه المدرسة النبوية تلقى علومه الالهية فكان مهيئاً لحمل اعباء الامامة والزعامة العلمية في عصره؛ كانت الفترة التي عاشها الامام الصادق (ع) فترة محنة تمر بها الامة وهي محنة الجور الاموي فكانت نهايته دمويةً كبدايته وقامت دولة بني العباس وهي تلبس لباس الدين وترفع شعار الدعوة لآل محمد والانتقام من اعدائهم ولكن قناعهم زال بمجرد وصولهم الى السلطة فاصبحوا امتداداً لسلفهم الامويين، في ذلك المعترك الرهيب برزت شخصية الامام الصادق (ع) وهو يحمل للامة مبادئ الاسلام وينشر تعاليمه ويرفع صوت الانكار على الظلم ويدعو للاصلاح بكل جهد فكانت دعوته لتنوير الرأي العام والحض على التمسك بالقرآن الكريم، وقد توسعت دعوته وانتشر دعاته فاصبحت مدرسته منهلاً لرجال الامة ومصدراً لعلوم الاسلام، وكان طابع مدرسته (ع) من بين المدارس الاسلامية هو استقلالها الروحي وعدم خضوعها لنظام السلطة ولم تفسح المجال للحكام ان يتدخلوا في شؤونها او تكون لهم يد في توجيهها، ولم يتسن لذوي السلطة استخدامها في مصالحهم الخاصة فهي قد أنشئت لمحاربة الظالمين، ومن خلال هذا النهج الذي سارت عليه والطابع الذي اختصت به فانها اصبحت عرضةً لنزاع دائم بينها وبين السلطة الجائرة يشتد ويتضخم، وقد حاول المنصور ان يستميل الامام الصادق (ع) في عدة مرات ولكن محاولاته باءت بالفشل فكتب له مرة (لولا تخشانا كما تخشانا سائر الناس) فاجابه الامام (ع) (ماعندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له)، وبهذا يتجلى موقف الامام الصادق (ع) من السلطة الجائرة وهو النهج الذي امر اتباع مدرسته ان ينهجوه.هذا موقف الامام الصادق (ع) من الاهواء السياسي، اما مواقفه الفكرية والعقائدية فقد واجه الامام (ع) عدة تيارات كانت تهدف الى هدم الاسلام ومنها من تسربل بلباس الدين كعلماء السلطة واذنابهم والمغالين فجابه الامام (ع) هذه التيارات وفضحها في الوسط الاسلامي؛ كما انتشر في ذلك الوقت التيار الملحد وظهرت الزنادقة وطرحوا الشبهات فكان للامام الدور الاكبر في مقارعتهم بالسلاح العلمي واخضاعهم بالحجج المنطقية، ولولا الامام لتمكن هؤلاء من اشاعة اجواء الكفر والالحاد في قلب الاسلام، وابرز مناظرات الامام الصادق (ع) في هذا المجال هو الكتاب الذي دونه المفضل بن عمرو باملاء الامام الصادق (ع) وتضمن مناظرته مع احد الزنادقة وسماه بكتاب التوحيد ويعرف (بتوحيد المفضل) وهو دروس قيمة تحتوي على دلائل التوحيد ومحكم البراهين على وجود الصانع الحكيم من بيان هيئة العالم وتأليف اجزائه وخلق الانسان واعضائه، وقد شرحه الاستاذ الطبيب محمد الخليلي شرحاً وافياً في مجلدين وطبقه على العلوم الحديثة.لقد استطاع الامام الصادق (ع) مجابهة هذه التيارات وان يفرض وجوده عليها بفكره وعلمه كما استطاع ان ينشأ مدرسة هي عبارة عن جامعة جمعت افذاذ العلماء في شتى العلوم، فهذا جابر بن حيان (ابو الكيمياء) تتلمذ على يد الامام الصادق وجمع افادات الصادق (ع) له في كتاب بلغ ألف ورقة، ولما ذاع صيته في الآفاق اعترف بفضل استاذه فقال: (والله لولا مولاي الصادق (ع) لما وصل الي منه حرف واحد) وهذا ابو حنيفة يقول: (لولا السنتان لهلك النعمان)، وغيره وغيره حيث كان الامام الصادق (ع) مهوى الافئدة وملاذ طلاب العلوم فهو تارة عالم في الكيمياء يثير القضايا والنظريات العلمية وتارة عالم في الفلك يرصد حركات الفلك والمنظومات الشمسية وتارة طبيب حاذق يقوم بتشريح جسم الانسان ويبين الامراض والاسقام وعللها وطرق معالجتها؛ هذا من الجانب العلمي، اما من الجانب الروحي فهو العالم الرباني والوجه الملائكي والامام القدوة لكل عالم وتقي، فكان يحضر درسه اربعة آلاف من العلماء الكبار في الحديث والتفسير وغيرها من العلوم اضافة الى طلاب الفلسفة الذين وجدوا في الامام الصادق ضالتهم فانظموا الى مدرسته التي تعّد اول مدرسة فلسفية في الاسلام، ففي كل مسجد وفي كل حلقة لشتى العلوم تجدهم يتحدثون بعلمه وفقهه حتى قال احدهم (ادركت في جامع الكوفة تسعمائة شيخ من اهل الدين والعلم كلهم يقولون حدثني جعفر بن محمد).لقد نبغت شخصية الامام الصادق (ع) وشاع ذكره في الآفاق واصبح سيد علماء الامة وقائد حركة العلم والفقه وصار امره خطرا على السلطة الجائرة التي فشلت محاولاتها المتكررة في اطفاء هذه الشعلة المتوهجة.حتى استطاعت اليد الاثيمة اغتياله جسدا لاروحاً فهو حي في مدرسته المعطاء التي هي كالشمس تمد بأشعتها جيلاً بعد جيل فاستشهد مسموماً محتسباً على يد المنصور في شوال سنة 148هـ فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً مع آبائه الطاهرين وابنائه المنتجبين.