الفقرة (1)
تحتوي فكرة الجهاد على محاولة دفع الصعوبة بصعوبة ضدها . فإذا لم تكن صعوبة في أحد الطرفين أو كليهما لم يكن جهاداً . كما لو كان دفع الشر سهلاً ، أو كان الشر المدفوع بسيطاً . كما أن المفروض أن يكون الشر المدفوع أو الذي يراد دفعه ، أن يراه الطرف شراً وأن يراه صعباً . سواء كان مصيباً في وجهة نظره أم مخطئاً. فلو لم يكن شراً لم يكن عمله ضده جهاداً . كما لو لم يكن يراه صعباً ، كما لو كان صابراً عليه أو متماهلاً في دفعه ، لم يكن جهاداً .
فالمهم هو محاولة دفع الصعوبة بصعوبة مع حسبان الصعوبة المقابلة شراً .
وإن كان الفرد مخطئاً في نظره . ومن ذلك ما ورد : اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت على قتله . لأن وجود الحسين عليه السلام ، كان صعباً على أعدائه ، وربما حسبوه شراً عليهم ، لأنه يحاول فضحهم وإزالة ملكهم .
إلاَّ أن المهم في كتاب الجهاد هو أن يكون الطرف الآخر شراً وباطلاً حقيقة . أي من وجهة النظر الدينية والإلهية . ومن هنا يمكن تعريفه بأنه : محاولة دفع الشر الصعب بصعوبة .
ولم يؤخذ في هذه المحاولة أن تنجح وإن كان نجاحها هو الغالب ، بل يعتبر الفرد مجاهداً وإن فشل . كما لم يؤخذ في الشر المدفوع أو المكروه ، نوع معين من الشر . ومن هنا أمكن تقسيمه إلى أقسام عديدة ، يعتبر السعي لدفعها بأي أنواعها جهاداً مطلوباً في الشريعة والعرف .
أولاً : الكفار، لأجل إدخالهم في الإسلام أو تحت سيطرة الإسلام .
ثانياً: الكفار، لأجل دفع شرهم عند الهجوم على المجتمع المسلم ، والخوف على بيضة الإسلام ، كما يعبرون.
صفحة (175)
ثالثاً :المسلمون المحاربون للحق ، وهم البغاة المذكورون في قوله تعالى : ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ .
رابعاً : الفقر . ودفعه لأجل التوسعة على العيال جهاد .
خامساً : الشيطان . فإن محاولة دفع كيده ووسوسته جهاد .
سادساً : النفس الأمارة بالسوء . فإن محاولة كبحها وقمعها وكبت سيطرتها ، جهاد . بل هو أعظم الجهاد .
وفي الرواية إنه الجهاد الأكبر . وإن الشجاع من قدر على كبح نفسه .
سابعاً : حاجة المحتاجين في المجتمع . فإن السعي لقضائها وإنجاحها ، جهاد ، على أن لا يختص بواحد بل
يكون الفرد متصدياً للمجتمع ككل . فيكون مجاهداً .
ثامناً : الجهاد لدفع مظالم المظلومين أينما كانوا ، ومهما كانت ظلامتهم .
وبأي أسلوب مشروع تمت محاولة دفعه .
تاسعاً : الجهاد للدفاع النظري عن الدين وصد شبهات الكفار والملحدين .
وتنوير من كان متصفاً منهم وهدايته إلى الصراط المستقيم .
عاشراً : الجهاد في تحمل المصاعب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل المجتمع المسلم وتركيز
طاعة الله سبحانه وتقليل العصيان فيه .
وقد نستطيع أن نجد موارد أخرى للجهاد ، لا حاجة الآن إلى استقصائها .
الفقرة (2)
وقد ورد معنى الجهاد في القرآن الكريم بكثير من هذه المعاني التي ذكرناها .
فالجهاد ضد الحق مشار إليه في قوله تعالى: ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾. وجهاد النفس الأمارة بالسوء مشار إليه في عدد من الآيات كقوله تعالى : ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ .
وقوله تعالى : ﴿ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين﴾ .
صفحة (176)
وجهاد الكفار لأجل إدخالهم في سيطرة الإسلام في قوله تعالى : ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم﴾ . وجهادهم النظري لأجل دفع مكرهم وشبهاتهم . في قوله تعالى : ﴿فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً﴾ .والضمير في (به) يعود إلى القرآن الكريم . وفيه من العلوم الكافية لغنى البشرية ودفع كل شبهة .
وجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه مشار إليه في قوله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم﴾ .
وجهاد البغاة أشرنا إلى ذكره في القرآن الكريم .
وجهاد الشيطان ومدافعته وضرورة عصيانه مذكور في كثير من آيات القرآن الكريم . منها قوله تعالى : ﴿يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً ، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً ﴾ .
وقوله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان . ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر . ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً﴾ . وقوله تعالى : ﴿استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون . إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ .
وأما الجهاد لسد حاجة المحتاجين سواء في عائلة الفرد أو المجتمع ، فيشمله قوله تعالى : ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة. وكلاًًَّ وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجراً عظيماً﴾ .بعد الالتفات إلى أن الجهاد بالأموال قد يكون منضماً إلى الجهاد بالنفوس وقد يكون منعزلاً عنه . كما أن فكرة الجهاد بالأموال تشمل الجهاد في بذله ، والجهاد في تحصيله لدى الضرورة إليه .
صفحة (177)
وأما الجهاد في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فموجود في كثير من آيات القرآن الكريم . منها قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾. وقوله تعالى : ﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الله وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين﴾ . وقوله تعالى : ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .لن يضروكم إلاَّ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون﴾ .الأمر الذي يكشف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يصل إلى درجة القتال الفعلي والجهاد المقدس .
وأما الجهاد النظري للدفاع عن الدين وصد شبهات الكفار والملحدين .
فهذا هو من الأمر بالمعروف فتشمله نفس الآيات السابقة . مضافاً إلى قوله تعالى : ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾ .
الفقرة (3)
يحسن أن نتحدث فيما يلي عن بعض هذه الأنواع من الجهاد تفصيلاً . ومنها ، جهاد النفس ...
روي ما مضمونه : أنه حين رجع أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، من إحدى غزواته المهمة كبدر أو أحد ، قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم) : "رجعتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر" . قيل : وما الجهاد الأكبر يا رسول الله ؟ قال : "جهاد النفس" .
ومن هنا اصطلح المتشرعة على جهاد الأعداء بالجهاد الأصغر ، وعلى جهاد النفس بالجهاد الأكبر .
صفحة (178)
ولا شك أن هؤلاء الأصحاب قد اندهشوا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مجاهدتهم الأعداء وتحملهم آلام الرماح والسيوف وانتصارهم على المئات والألوف . ومع ذلك فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمي ذلك الجهاد بالجهاد الأصغر. ويكون شيء آخر أكبر منه وأهم هو الجهاد الأكبر. فماذا هو الأهم من الحرب الطاحنة والآلام المدمرة ؟ ومن هنا قالوا له بدهشة وذهول ، وما هو الجهاد الأكبر يا رسول الله . قال: جهاد النفس .
ويختلف جهاد النفس عن جهاد الغير بعدة نقاط منها :
1- إن العدو قد يموت بضربة أو ضربتين . في حين أن النفس لا تموت بعشرات الضربات .
2- إن العدو يمكن أن تفارقه ، فلا تراه ولا يراك . في حين لا تستطيع أن تفارق نفسك طرفة عين .
3- إن العدو قد تكون ضربته عليك خفيفة أو يمكن تجنبها والابتعاد عنها . وهذا غير ممكن بالنسبة إلى النفس
4- إن العدو ذو وجهة نظر معينة ورأي واحد أو عدد محدود من الآراء أو الاقتراحات ، في حين أن النفس تتدخل في كل شيء وتعطي رأيها في القليل والكثير .
5- إنك تحس أن العدو هو غيرك وأنه منافسك وأنه يريد بك الضرر . في حين لا تحس نفس الشئ لنفسك . بل هي أنت فآراء نفسك هي آراؤك ولا يمكن أن تكون مضرة لأن الفرد لا يريد الضرر لنفسه .
6- إن العدو قد اتخذ رأيه بروية وتفكير وتعقل . في حين أن النفس تصر على بعض الأمور لمجرد الهوى والشهوة . ومن هنا قيل : إن الشهوات لا عقل لها . بل تريد اشباع نفسها بكل صورة . ومن هنا تصدق الحكمة القائلة : عدو عاقل خير من صديق جاهل .
7- إن العدو يمكن أحياناً أو في كثير من الأحيان المكر به والخديعة له . في حين لا يمكن ذلك للنفس لأن الإنسان لا يمكر بنفسه . وإذا حصل منه ذلك فإن نفسه تفهمها ، لأنها حاضرة لديه .
8- إنك تشعر أنك تشمئز من عدوك ولا تحبه ، في حين تحب نفسك.
صفحة (179)
9- إن الفرد قد يمكنه التقصي عن آراء الآخرين والخلاص منها بعصيانها أو الابتعاد عنـها أو الهرب منها . في حين لا يتوفر ذلك بالنسبة إلى النفس .
10- إنك ترى أن آراء عدوك أياً كانت فهي باطلة ومزعجة ، ولا أقل أنك ترى آراء الآخرين قابلة للنقد والمناقشة في حين لا ترى في آراء نفسك أية مناقشة أو إزعاج لأنها آراؤك أو أنت مقتنع بها وواثق بصحتها وراكن إليها .
فهذه عشر مزايا للنفس عن الآخرين من أعداء وأصدقاء . ومن هنا لم يكن جهاد النفس مقنعاً للكثيرين ولا يؤمنون به إلاَّ القلة القليلة من البشر .
ومن هنا أيضاً لم يكن جهاد النفس ناجحاً ومنتجاً ، أو قل سريع النجاح والإنتاج . بل غالباً ما يفشل تماماً أو غالباً .
ومن هنا أيضاً ، كان جهاد النفس صعباً وفظيعاً . يكفي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرواية اعتبره الأكبر ، في حين اعتبر المقارعة بالسيوف هو الأصغر والأهون والأخف .
ولا يبعد التمثيل في جهاد النفس بذلك التنين الخرافي ذي الرؤوس السبعة . فكلما قطعت منه رأساً نبتت فوراً له في محله سبعة رؤوس . ولن يموت ما لم تعرف مقتله ، يعني محل ضربته القاتلة التي لا قيام له بعدها . هذا إذا لم تفر منه وتكفَّ عن قتاله أو تضعف عن مبارزته ، أو يعضك عضة يدعك بها ثقيل الظهر قليل الوفر .
ومن هنا صح القول المسموع : أشجع الناس من جاهد نفسه . والقول : إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك .
وعداوتها ليست قليلة ولا هينة ، لأنها لو أعطى الفرد لها الفرصة وأرخى لها الرسن فإنها توقعه في أضرار الدنيا والآخرة .
ويكفي في ذلك ما عرضناه من أن الشهوات لا عقل لها . إذن فالنفس لا عقل لها ، والنفس غير العقل في باطن الإنسان . إذن فهي تريد متطلباتها مهما ترتب على ذلك من أضرار في الدنيا أو في الآخرة ، ومن هنا ورد في الدعاء في وصفه أثر النفس : إنها تشكل بي سبيل المهالك وتجعلني عندك أهون هالك .
صفحة (180)
الفقرة (4)
المفروض في الفرد إذا كان فاهماً لخير دنياه وآخرته . أن يحكم عقله في نفسه ، لا أن يحكم نفسه في عقله . فالبرغم من أنه من السهل والطيب في نظر الفرد أن يكون عقله عبداً لنفسه ومنفذاً لأغراضها ولذاتها ، إلاَّ أن المفروض في ذلك هو العكس .وهو أن يحكم عقله في نفسه ويكبح به شهواتها ولذاتها ، ويأخذ منها عبوديتها للعقل ، وإن أبت ذلك وتمردت عليه .
وبالأحرى فإن المفروض بالفرد أن يحكم المصلحة الواقعية لذاته وينجزها ، فإن وجد ذلك في أحكام عقله أخذ بها، وإن وجدها في أحكام مجتمعه تصرف طبقاً لها . وإن وجدها في أحكام دينه سار عليها . ومهما يكن من حال، فليس لنفسه فيها نصيب .
إلاَّ أن هناك فقرة صعبة لا يجب أو يجب أن لا يهملها الفرد . وهي ظاهرة موجودة في كل الأفراد إلاَّ من عصمه الله . وهو أن النفس يمكنها أن توهم الفرد أن حكمها هو حكم العقل ، فيجب الأخذ به . أو أن تأخذ بحكم العقل فعلاً، ولكنه قد يكون حكماً خاطئاً. أو أن تستخدم العقل لأجل تذليل مصاعب شهواتها وأهدافها الدنية، كمن يفكر ويخطط بعقله لأجل أن يسرق أو أن يزني أو أن يشرب الخمر .
وفي كل ذلك سيلبس الحكم ثوب كونه عقلياً ، ويتخذ بنظر صاحبه قدسية وأهمية . فيتحمس من أجله . في حين أنه قد يكون هاجس نفسه أو شيطانه .
وهذا غير مسألة التفات الفرد إلى أن الحكم يجب أن يعصى أن يكذب إذا لم يثبت أنه من العقل . أو إذا ثبت كونه من النفس .فإن أغلب الأفراد لا يؤمنون بذلك ولا يلتفتون إليه، بل يجدون أغلب طموحاتهم ورغباتهم مشروعة وواجبة التنفيذ . ويعتبرونها حاجة ضرورية لا بد من السعي لإنجازها .
صفحة (181)
في حين أن الفرق بين حكم العقل وحكم النفس لا ينبغي أن يخفى . فإن النفس ليس لها حكام نظرية . وإنما هي الرغبة والشهوة والطمع . وأوضح أمثلته الجوع والعطش والغضب . فكما قد يستهدف الفرد شرب كأس من الماء قد يستهدف الشهرة أو سرقة بناية أو الاستماع إلى أغنية حلوة .
وأما ما قد يقال : من أن التخطيط لإنجاز ذلك ، هو من أحكام النفس .
فغير صحيح لأنه لإنما هو من أحكام العقل . وإلاَّ أنه حكم بذلك بصفته عبداً للنفس ومنفذاً لأغراضها . ومن هنا نسب إلى النفس مجازاً . لأن لها نحواً من التسبيب لها .
يكفي في ذلك الالتفات إلى أن ما يقال عادة من أن الحيوان لا عقل له إطلاقاً . قلنا إنه غير صحيح إطلاقاً بل له مقدار من العقل ما يزجي به حوائج نفسه ويحفظ به حياته .
ولو لم يكن له عقل إطلاقاً ، لما فهم كيفية تلافي جوعه وعطشه وشهوته الجنسية . ولما أدرك طعامه وشرابه ومنامه . في حين أننا نرى الحيوانات يتصرفون في مثل ذلك بشكل جيد نسبياً . وهذا علامة وجود العقل عندهم لا محالة . وإن لم يكن بطبيعة الحال ، كالعقل البشري ، ولو كانت الشهوة فيه وحدها لقتلته .
وعلى أي حال ، فقد حملنا بذلك ، فكرة كافية عن التفريق بين اتجاهات النفس واتجاهات العقل .
الفقرة (5)
وأنا أجد أن كل أنواع الجهاد الحق ، إنما تكون حقاً ومرضية لله سبحانه ، فيما إذا كانت مصداقاً وتطبيقاً لجهاد النفس ، فإن جهادها يورث القناعة بالواقع الشخصي والرضا بالقدر والقضاء .
فإذا حصل ذلك كان الفرد مقتنى بحاله الصعبة التي هو فيها والتي دخلها مرغماً أو محرجاً ، كالفقر أو الحرب أو المرض أو أية مصاعب أو بلايا في الدنيا . فيستطيع أن يقدم قناعته بصحة ذلك أمام الله سبحانه . فيكون على حق ، من زاوية توافق رضاه مع رضى الله سبحانه ، حيث اختار له هذا النوع من البلاء .
صفحة (182)
لا أنه يسخط ويتمرد على شيء يرضاه الله سبحانه في خلقه .
فإذا لم يحصل الرضا والتسليم ، كان الفرد في الباطل ، ولم ينفعه الجهاد والبلاء الذي هو فيه ، بل زاده شراً في الدنيا والآخرة . وإن كان الجهاد في نفسه حقاً .
ومن هنا يستطاع القول : بأن الجهاد الأصغر يعود في معناه إلى الجهاد الأكبر ، أو هو جزء منه ولو لم يكن جزءاً منه لم يفد العبد ثواباً إطلاقاً . ومن هنا ورد : لا فتنة أعلى من السيف . لأن مؤداه التضحية بالنفس كاملة لله سبحانه وتعالى . ومن المعلوم أن الرضا بذلك والتسليم له من أفضل العبادات ، بل هو أفضلها على الإطلاق ، سواء حصل فعلاً أم لا . ومن هنا قيل : والجود بالنفس أقصى غاية الجود .
وكما يمكن أن يهب الفرد نفسه لله عز وجل ، يمكن أن يهب بعض صفاته أيضاً ، كالصحة بتحمل المرض ، والغنى بتحمل الفقر ، والزواج بتحمل العزوبة . وغير ذلك الكثير . كل حسب حاله . على معنى الرضا والتسليم بتلك الحال التي اختارها الله تعالى له .
الفقرة (6)
والبلاء الذي يمكن للفرد أن يتحمله في الدنيا ، إما اضطراريّ وإما اختياريّ . وكلاهما ينقسم إلى قسمين : فالاضطراري ينقسم إلى ما يتسبب من المؤثرات الخارجية القهرية كالمرض أو الجرح أو الرض نتيجة السقوط مثلاً ... وإلى ما يتسبب من فعل الآخرين . وهو في الغالب البلاء الأصعب والأهم ، فإن البشر يؤذي بعضهم البعض لا محالة . ما دامت أنفسهم أمارة بالسوء فعلاً . ومن هنا نسمع بعضنا يدعو لبعض : كفاك الله شر ابن آدم . فلو استجاب الله هذا الدعاء زال حوالي تسعين بالمئة من مصاعب الدنيا .
وعلى أي حال ، فكلا النوعين من البلاء ، يحب أمام الله سبحانه أن يواجهه الفرد بالرضا والتسليم .
وينقسم البلاء الاختياري إلى قسمين أيضاً : من حيث إنه مرة يفيد الآخرين وتارة لا يفيد به إلاَّ نفسه .
صفحة (183)
فإفادة الآخرين بالأمر المعروف والنهي عن المنكر ، وبالحرب الجهادية عند حصول مشروعيتها ، وبذل المال في سبيل المصالح الخاصة للآخرين كالتزويج أو المصالح العامة لهم كبناء مستشفى أو مسجد . فإذا أدى الفرد مثل هذه التضحيات راضياً لله عز وجل ، كان سعيداً وشهيداً في الدنيا والآخرة .
وإفادة النفس تكون بما يسمى بالرياضات الروحية التي يتكفلها الإنسان لنفسه كالجوع والعطش والسهر . والناس في ذلك مختلفون ، فمنهم من يتحمل الريضات الشديدة ، ومنهم من يعجز عن الضعيفة . وكلها تنتج التكامل الروحي والسمو في عالم المعنى . وأحياناً تنتج آثاراً وضعية غريبة وصفات لصاحبها غير معهودة . وكل ذلك يكون بقهر النفس وإرغامها بالمصاعب .
فإن قلت : كيف يجتمع قهر النفس وإفادة النفس . قلنا : نعم ، النفس تستفيد من قهرها . كما قيل :
اقتلوني يا فـــتــــاتي إن في قــتلي حــيـــاتي
أن نقول : إن ما يقهر ويكبت إنما هو درجة متدنية من النفس ، لكي تحصل الفوائد الجمة في درجة عالية منها.
الفقرة (7)
بقي أن نشير إلى أن تحمل البلاء الاختياري ، قد يكون سبباً غالباً لدفع البلاء الاضطراري .
فإن الدنيا دار بلاء ، ولا يستفيد الفرد في الآخرة إلاَّ من مزيد البلاء في الدنيا . فإن لم يكن الفرد مدركاً لأهمية البلاء الاختياري ولزومه له ، بل كان سادراً في دنياه لاهياً عن أخراه ، أتاه البلاء الاضطراري قهراً عليه . من أجل أن يعي واقعه وأن يلتفت إلى خالقه . وهذا هو النوع الأغلب من البلاء .
باعتبار أن أكثر البشر من هذا النوع الذي يكون مستحقاً له .
صفحة (184)
وأما إذا اختار الفرد لنفسه البلاء الاختياري ، بأي واحد من قسميه أو بكلا قسميه ، فقد حصل سبب الثواب والتكامل ، فلا تبقى هناك حاجة لحصول البلاء الاضطراري . فيدفعه الله تعالى عنه . ومن هنا ورد بالمضمون: من أعرض عن الدنيا أتته الدنيا وهي راغمة . ولا يجمع الله سبحانه على الفرد ، البلاءين الاضطراري والاختياري ، إلاَّ نادراً ، حين يراه متحملاً صابراً من ناحية ، ومستحقاً لمزيد الثواب من ناحية ثانية .
وإذا حصلت درجة من الضيق من البلاء الاضطراري أمكن التخفيف من البلاء الاختياري . لكي لا تجزع النفس فيرتفع الرضا والتسليم ويسقط الثواب . ومن هنا ورد عن بعض الأئمة سلام الله عليهم : أنه كان إذا اشتد به الحال قلل من النوافل .
الفقرة (8)
عرفنا أن البلاء الاختياري أو الجهاد الاختياري قسمان : اجتماعي وفردي .
وكلاهما موجب للتكامل والثواب ، ما دام الإخلاص في النية حاصلاً .
ومعنى ذلك أن الفرد يستطيع أن ينال من كلا القسمين ليتكامل بكلا السببين .
غير أن هنا إشكالاً على الجهاد الاختياري الاجتماعي . من حيث إن الجهاد الفردي خير منه ، لأنه يتضمن العزلة والابتعاد عن الناس قليلاً أو كثيراً ، ومن ثم يستطيع الفرد بذلك أن يكفي كثيراً من المصاعب الدنيوية والمعنوية الناتجة عن الاختلاط بالمجتمع . على حين لا تكون إفادة الآخرين إلاَّ بالاتصال بهم ، وإن لزم من ذلك بعض المضاعفات . فأي من هذين النوعين يجب أن يتخذه الفرد ، ليكون مرضياً لله عز وجل .
ولذلك عدة أجوبة محتملة نذكر منها:
الأول : أن يختار الجهاد الاجتماعي ، لأنه يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الشعائر الدينية ونحو ذلك . مما هو مطلوب وجوباً أو استحباباً في الشريعة في حين أن الجهاد الفردي بالجوع والعطش مما لم يثبت فيه ذلك .
صفحة (185)
إلاَّ أن هذا الوجه غير تام لأكثر من جواب واحد :
أولاً : إن الفرد لا يمكنه أن ينفع المجتمع نفعاً صحيحاً ما لم يكن هو متكاملاً . فإن الفائدة التي يؤديها الناقص ناقصة لا محالة . بخلاف الفائدة التي يؤديها الكامل . كما قال الشاعر :
يا أيهـا الرجــل المعلـم غيــره هـلا لنفسك كان ذا التعليـم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيــما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّــهـــا فـإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فإذا لم يتكامل بالجهاد الفردي ، لم يكن الجهاد الاجتماعي منه متكاملاً ومقبولاً .
ثانياً:إن ما زعمه السائل من عدم ثبوت الدليل على رجحان الجهاد الفردي ، قصور في القول . لوضوح أن الزهد مطلوب في الشريعة أكيدا ً.
والتكامل الروحي والعقلي مطلوب أيضاً ، فكلما كان سبباً لذلك كان مطلوباً أيضاً . والجهاد الفردي مع الإخلاص في النية سبب لذلك بلا شك .
الثاني: أن يختار الجهاد الفردي ويدع الجهاد الاجتماعي تماماً . وهذا ما عليه حال العباد والزهاد والصوفية بمختلف مذاهبهم وعقائدهم . بعنوان ما أشرنا إليه من أن تقويم النفس خير من تقويم الغير . وأن تحصيل التكامل المعنوي أولى من تحصيل التكامل الاجتماعي . وأن العمل الاجتماعي فيه مظنة الرياء وحب الدنيا ونحو ذلك ، في حين لا يكون ذلك في الاعتزال موجوداً .
وهذا ليس صحيحاً على إطلاقه ، بل قد يكون- في الغالب – ناتجاً عن قلة الشعور بالمسؤولية الدينية ، بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقضاء حاجة المحتاجين ، التي كثيراً ما تكون واجبة شرعاً . فهل يترك الواجب الشرعي في سبيل إنجاز شيء مستحب ؟
الثالث : أن يختار الفرد العمل بكلا النوعين ، حسب ما يشعر وجداناً في كونه أرضى الله عز وجل . وهذا أمر يختلف بين الأفراد جداً . وليس له ضابط معين سوى الشعور بكونه أرضى الله عز وجل .
صفحة (186)
وما يقال عادة : من أن الجهاد الاجتماعي يستلزم الاختلاط بالأفراد ، وهذا الاختلاط يورث تشوش النفس ، ومن ثم وقوف التكامل . ونحو ذلك من التسويلات .
فجوابه لأكثر من وجه واحد :
أولاً : إن كلاً منهما عبادة مطلوبة لله عز وجل إجمالاً ، وأي منهما جاء به الفرد مع إخلاص النية ، كان مقبولاً وسبباً للتكامل .
ومعنى إخلاص النية في الجهاد الاجتماعي : أن الفرد يستغني في عمله ذاك عن نوايا الرياء والعجب وحب الدنيا ونحو ذلك .
ثانياً : إن كلا النحوين من الجهاد : الفردي والاجتماعي له درجة من الصعوبة . وكلما كان الجهاد أصعب كان أرضى لله عز وجل . كما قيل أفضل الأعمال أحمزها .
ومن المعلوم في الأعم الأغلب أن الجهاد الاجتماعي أصعب من الجهاد الفردي ، في الحاضر والمستقبل أما في الحاضر ففيما قد يراه الفرد من الآخرين من ردود فعل سيئة تجاهه قلّت أو كثرت . وأما في المستقبل فللمخاوف مما قد يحصل من مضاعفات سيئة دنيوياً وبلاء ضده . فإذا وضع في فكره تحمل ذلك . كان مجاهداً بالجهادين معاً : الأصغر والأكبر . ومستفيداً للمقامات المعنوية لا محالة .
الفقرة (9)
ومما لا ينبغي إهماله الالتفات إلى أن ما سميناه بالجهاد الفردي أو السلوك المعنوي الروحي ، مما يلتزم به عدد من الناس من مختلف الأديان والمذاهب .
وقد نرى أنه ناجح ومنتج للجميع ، ولا يخص ديناً دون دين ولا مذهباً دون مذهب . في حين أن المفروض اختصاصه بالعقيدة الحقة فكيف حصل ذلك ؟
صفحة (187)
وجوابه من وجوه نذكر منها :
الوجه الأول : إن ما قيل في السؤال صحيح أكيداً ، إلاَّ أن الدرجة المعنوية أو الروحية التي يصل إليها الفرد تختلف لأسباب عديدة منها ما هو داخل تحت سيطرة الفرد وقدرته كإداراكاته وطلبه ، ومنها ما هو خارج منها كتأثير الآخرين ضده بما يعلمون وبما لا يعلمون ، وكتأثير الحكمة المطلقة في حرمانه من بعض النتائج .
فإذا اقتضت كل تلك الأسباب وصوله إلى درجة معينة ، وصل إليها ، وإن لم تقتض ذلك حرم منها .
ومن المعلوم أن اختلاف الإدراك والأديان ، يقتضي اختلاف الأهداف المطلوبة للفرد في جهاده الفردي . فإذا أوصله جهاده إلى أية مرتبة ، فقد أصبح محروماً من المرتبة التي فوقها . لأنه لم يلتفت إليها ولم يطلب الوصول إليها . لأن مستوى إدراكه هو ذلك .
الوجه الثاني : إننا نعلم أن الأهداف العليا المعنوية الحقانية ، لا تنال إلاَّ بالولاية الحقانية . وأما بدونها فلا ، بل يبقى الفرد متردداً في المقامات الأدنى منها ، تخيل نفسه مرتفعاً وواصلاً . فهو متوهم وخاطئ لا محالة .
الوجه الثالث : إن هناك ما يسمى بالعوالم الوسطى أو البرزخية وتسمى قوانينها بالقوانين الوسطى . ومن أوضح أمثلتها المعروفة السحر بأنواعه والبارسايكولوجي بأنواعه . ولكنها مع ذلك فهي متدنية عن الأهداف الروحية الحقانية .
ومن هنا تتصف بعدة صفات :
أولاً : إنما لا تعتبر وصولاً إلى أي هدف حق .
ثانياً : إن طلبها لا يختلف عن طلب الدنيا كثيراً ، بل هو انشغال بالمخلوق عن الخالق .
ثالثاً : إنها تحصل لأي دين ولأي مذهب . مع العلم أن الدين الحق واحد لا يتعدد . فيكف تحصل لدى من يكون باطلاً في دينه ، إلاَّ كونها متدنية . وأما الهدف الأعلى فلا يحصل إلاَّ بالحق .
صفحة (188)
رابعاً : إن هذا السير الفكري ينتج أن للكون أو الوجود بالمعنى العام ثلاثة مستويات من القوانين .
المستوى الأول : القوانين الطبيعية المعهودة للكون المادي .
المستوى الثاني : القوانين الوسطى للعوالم الوسطى .
المستوى الثالث : القوانين العليا للعالم الأعلى .
فمن المستوى الأول ينتج التبريد في الصيف والتدفئة في الشتاء مثلاً . ومن المستوى الثاني تنتج نتائج السحر والشعبذة والباراسايكولوجي . ومن المستوى الثالث : تنتج المعجزت والكرامات .
ومن هنا قلنا في مناسبات سابقة إن من أهم الاختلافات بين نتائح السحر ونتائج المعاجز ، هو القوانين الصادرة منها . فبينما يكون السحر ناتجاً عن القوانين الوسطى تكون المعجزة ناتجة عن القوانين العليا .
ولكن نقطة صعوبة ذلك ، هو عدم إمكان التمييز بين هذين الشكلين من القوانين بالنسبة إلى الأفراد الاعتياديين. فإنه مما لا ينالها إلاَّ ذو حظ عظيم ، من خاصة الخلق .
خامساً : إن نتائج القوانين الوسطى ، لا تكون دليلاً على أحقية المذهب أو الدين للفرد الذي يعملها ويعاملها . لأنها تنتج من مختلف المذاهب والأديان . مع أن الحق واحد عقلاً وإجماعاً .
وبخلاف نتائج القوانين العليا ، فإنها تدل على صحة معتقدات أصحابها ومدعياتهم ، ومن هنا كانت المعجزات دليلاً على صدق النبوة ، لأن الأنبياء يكونون على هذا المستوى العالي لا محالة . ولا يمكن أن تصدر عنهم ولا عن أي فرد إذا كان كاذباً أو سقيماً في سلوكه أو عقيدته .
صفحة (189)