بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على أفضل خلقه من المرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين
وأما بعد ..
فإن الغاية من إنشاء هذا المنتدى المعروف بمنتدى (الصرخة الحسينية الهادرة) .. يا حسين .. هي رفع راية الحق والهداية ونشر علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام في مختلف جوانب الحياة، ودفع شبهات المبطلين والمغرضين، وغير ذلك من الأسباب المحمودة الحسنة ..
ولما كانت عدة من هذه الأسباب لا تتم إلا بالحوار والمناظرة، ولما كان الجهل بشروط المناظرات وآدابها وآفاتها هو السمة الغالبة على أهل هذا الزمن، ولما كان النصح المجرد غير مؤثر إلا بشكل موضعي مؤقت، كان لا بد من العودة إلى مصدر التشريع الإلهي لأخذ ما يلزم حول هذا الموضوع الحساس والهام، وقد تعرض أهل البيت عليهم السلام في كلامهم بشكل مفصل لما نحتاجه من دقائق وخفايا هذا الأمر، وكان من أجمل من جمع وكتب في المناظرة شهيدنا الثاني رحمه الله تعالى في كتابه (منية المريد) ضمن فصل خاص .. فكان من المناسب الرجوع إلى كلامه رحمه الله الذي جمع فيه فأحسن، حيث كتب فأجاد مستشهداً بروايات أهل البيت عليهم السلام ..
وهذا الموضوع رغم طوله بالغ الأهمية، ولا بد لكل عضو من الأعضاء أن يطلع عليه، أو على عناوينه الرئيسية وخلاصته وأهم ما ورد فيه على الأقل (وإن كان بعضه يوضح بعضه الآخر ويتممه).. على أن يكون علمنا بما ورد فيه باعثاً لنا على تصحيح وجهة سيرنا كي لا يكون وبالاً علينا.
نكتفي بهذا القدر .. ونترككم مع الشهيد الثاني :
منية المريد من ص171 (طبعة قم الثالثة) (مع اختصار بعض المقاطع والعبارات في بعض الأحيان)
في المناظرة و شروطها و آدابها و آفاتها
و فيه فصلان
الفصل الأول في شروطها و آدابها
الفصل الثاني في آفاتها و ما يتولد منها من مهلكات الأخلاق
الفصل الأول في شروطها و آدابها
اعلم أن المناظرة في أحكام الدين من الدين و لكن لها شروط و محل و وقت فمن اشتغل بها على وجهها و قام بشروطها فقد قام بحدودها و اقتدى بالسلف فيها فإنهم تناظروا في مسائل و ما تناظروا إلا لله و لطلب ما هو حق عند الله تعالى. و لمن يناظر لله و في الله علامات بها تتبين الشروط و الآداب
الأولى أن يقصد بها إصابة الحق
و طلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور صوابه و غزارة علمه و صحة نظره فإن ذلك مراء قد عرفت ما فيه من القبائح و النهي الأكيد. و من آيات هذا القصد أن لا يوقعها إلا مع رجاء التأثير فأما إذا علم عدم قبول المناظر للحق و أنه لا يرجع عن رأيه و إن تبين له خطاؤه فمناظرته غير جائزة لترتب الآفات الآتية و عدم حصول الغاية المطلوبة منها.
الثانية أن لا يكون ثم ما هو أهم من المناظرة
فإن المناظرة إذا وقعت على وجهها الشرعي و كانت في واجب فهي من فروض الكفايات فإذا كان ثم واجب عيني أو كفائي هو أهم منها لم يكن الاشتغال بها سائغا. و من جملة الفروض التي لا قائم بها في هذا الزمان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قد يكون المناظر في مجلس مناظرته مصاحبا لعدة مناكير كما لا يخفى على من سبر الأحوال المفروضة و المحرمة. ثم هو يناظر فيما لا يتفق أو يتفق نادرا من الدقائق العلمية و الفروع الشرعية بل يجري منه و من غيره في مجلس المناظرة من الإيحاش و الإفحاش و الإيذاء و التقصير فيما يجب رعايته من النصيحة للمسلمين و المحبة و الموادة ما يعصي به القائل و المستمع و لا يلتفت قلبه إلى شيء من ذلك ثم يزعم أنه يناظر لله تعالى.
............
الرابعة أن يناظر في واقعة مهمة
أو في مسألة قريبة من الوقوع و أن يهتم بمثل ذلك و المهم أن يبين الحق و لا يطول الكلام زيادة على ما يحتاج إليه في تحقيق الحق. و لا يغتر بأن المناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر و ملكة الاستدلال و التحقيق كما يتفق ذلك كثيرا لقاصدي حظ النفوس من إظهار المعرفة فيتناظرون في التعريفات و ما تشتمل عليه من النقوض و التزييفات و في المغالطات و نحوها و لو اختبر حالهم حق الاختبار لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار.
...........
السادسة أن يكون في طلب الحق كمنشد ضالة
يكون شاكرا متى وجدها و لا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره فيرى رفيقه معينا لا خصما و يشكره إذا عرفه الخطأ و أظهر له الحق كما لو أخذ طريقا في طلب ضالة فنبهه غيره على ضالته في طريق آخر و الحق ضالة المؤمن يطلبه كذلك فحقه إذا ظهر الحق على لسان خصمه أن يفرح به و يشكره لا أنه يخجل و يسود وجهه و يربد لونه و يجتهد في مجاهدته و مدافعته جهده.
السابعة أن لا يمنع معينه من الانتقال من دليل إلى دليل
و من سؤال إلى سؤال بل يمكنه من إيراد ما يحضره و يخرج من كلامه ما يحتاج إليه في إصابة الحق فإن وجده في جملته أو استلزمه و إن كان غافلا عن اللزوم فليقبله و يحمد الله تعالى فإن الغرض إصابة الحق و إن كان في كلام متهافت إذا حصل منه المطلوب. فأما قوله هذا لا يلزمني فقد تركت كلامك الأول و ليس لك ذلك و نحو ذلك من أراجيف المناظرين فهو محض العناد و الخروج عن نهج السداد. و كثيرا ما ترى المناظرات في المحافل تنقضي بمحض المجادلات حتى يطلب المعترض الدليل عليه و يمنع المدعى و هو عالم به و ينقضي المجلس على ذلك الإنكار و الإصرار على العناد و ذلك عين الفساد و الخيانة للشرع المطهر و الدخول في ذم من كتم علمه.
الثامنة أن يناظر مع من هو مستقل بالعلم
ليستفيد منه إن كان يطلب الحق و الغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول و الأكابر خوفا من ظهور الحق على لسانهم و يرغبون فيمن دونهم طمعا في ترويج الباطل عليهم.
و وراء هذه الشروط و الآداب شروط أخر و آداب دقيقة لكن فيما ذكر ما يهديك إلى معرفة المناظرة لله و من يناظر لله أو لعلة
الفصل الثاني في آفات المناظرة و ما يتولد منها من مهلكات الأخلاق
اعلم أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة و الإفحام و المباهاة و التشوق لإظهار الفضل هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله تعالى المحمودة عند عدوه إبليس و نسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر و العجب و الرياء و الحسد و المنافسة و تزكية النفس و حب الجاه و غيرها نسبة الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا و القتل و القذف و كما أن من خير بين الشرب و بين سائر الفواحش فاختار الشرب استصغارا له فدعاه ذلك إلى ارتكاب سائر الفواحش فكذلك من غلب عليه حب الإفحام و الغلبة في المناظرة و طلب الجاه و المباهاة دعاه ذلك إلى إظهار الخبائث كلها.
فأولها الاستكبار عن الحق و كراهته و الحرص على مدافعته بالمماراة فيه حتى أن أبغض الأشياء إلى المناظر أن يظهر الحق على لسان خصمه و مهما ظهر يشمر لجحده بما قدر عليه من التلبيس و المخادعة و المكر و الحيلة ثم تصير المماراة له عادة و طبيعة حتى لا يسمع كلاما إلا و تنبعث داعيته للاعتراض عليه إظهارا للفضل و استنقاصا بالخصم و إن كان محقا قاصدا إظهار نفسه لا إظهار الحق. و قد تلونا عليك بعض ما في المراء من الذم و ما يترتب عليه من المفاسد و قد سوى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا و بين من كذب بالحق فقال تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ و هو كبر أيضا لما تقدم من أنه عبارة عن رد الحق على قائله و المراء يستلزم ذلك.
و روي عن أبي الدرداء و أبي أمامة و واثلة و أنس قالوا خرج علينا رسول الله ص يوما و نحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم قال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رباضها ]ربضها[ و أوسطها و أعلاها لمن ترك المراء و هو صادق ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء
و عنه ص ثلاث من لقي الله عز و جل بهن دخل الجنة من أي باب شاء من حسن خلقه و خشي الله في المغيب و المحضر و ترك المراء و إن كان محقا
و عن أبي عبد الله ع قال قال أمير المؤمنين ع إياكم و المراء و الخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان و ينبت عليهما النفاق
و عن أبي عبد الله ع قال قال جبرئيل للنبي ص إياك و ملاحاة الرجال
و ثانيها الرياء و ملاحظة الخلق و الجهد في استمالة قلوبهم و صرف وجوههم نحوه ليصوبوا نظره و ينصروه على خصمه و هذا هو عين الرياء بل بعضه و الرياء هو الداء العضال و المرض المخوف و العلة المهلكة قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ قيل هم أهل الرياء و قال تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً و الرياء هو الشرك الخفي
و قال ص إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال هو الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء
و قال ص استعيذوا بالله من جب الخزي قيل و ما هو يا رسول الله قال واد في جهنم أعد للمراءين
و قال ص إن المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك و بطل أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له
و روى جراح المدائني عن أبي عبد الله ع في قول الله عز و جل فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه
و عنه ع قال قال النبي ص إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز و جل اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد به
و عن أمير المؤمنين ع ثلاث علامات للمرائي ينشط إذا رأى الناس و يكسل إذا كان وحده و يحب أن يحمد في جميع أموره
و ثالثها الغضب و المناظر لا ينفك منه غالبا سيما إذا رد عليه كلامه أو اعترض على قوله و زيف دليله بمشهد من الناس فإنه يغضب لذلك لا محالة و غضبه قد يكون بحق و قد يكون بغير حق و قد ذم الله تعالى و رسوله الغضب كيف كان و أكثرا من التوعد عليه قال الله تعالى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ الآية. فذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب و مدح المؤمنين بما أنعم عليهم من السكينة.
و عن عكرمة في قوله تعالى سَيِّداً وَ حَصُوراً قال السيد الذي لا يغلبه الغضب
و روي أن رجلا قال يا رسول الله مرني بعمل و أقل قال لا تغضب ثم أعاد عليه فقال لا تغضب
و سئل ع ما يبعد من غضب الله تعالى قال لا تغضب
و عنه ص من كف غضبه ستر الله عورته
و قال أبو الدرداء قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب
و قال ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل
و قال ص ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم
و عن أبي عبد الله ع قال سمعت أبي يقول أتى رسول الله ص رجل بدوي فقال إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلام فقال آمرك أن لا تغضب فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه فقال لا أسأل عن شيء بعد هذا ما أمرني رسول الله ص إلا بالخير
و عن أبي عبد الله ع قال قال رسول الله ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل
و ذكر الغضب عند أبي جعفر الباقر ع فقال إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار
و عنه ع قال مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عز و جل به موسى ع يا موسىأمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي
و عن أبي حمزة الثمالي قال أبو جعفر ع إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم و إن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه و انتفخت أوداجه و دخل الشيطان فيه
و الأخبار في ذلك كثيرة
و في الأخبار القديمة قال نبي من الأنبياء لمن معه من يكفل لي أن لا يغضب يكون معي في درجتي و يكون بعدي خليفتي فقال شاب من القوم أنا ثم أعاد عليه فقال الشاب أنا و وفى به فلما مات كان في منزلته بعده و هو ذو الكفل لأنه كفل له بالغضب و وفى به
و رابعها الحقد و هو نتيجة الغضب فإن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن و احتقن فيه فصار حقدا و معنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله و البغض له و النفار منه
و قد قال ص المؤمن ليس بحقود
فالحقد ثمرة الغضب و الحقد يثمر أمورا فاحشة كالحسد و الشماتة بما يصيبه من البلاء و الهجر و القطيعة و الكلام فيه بما لا يحل من كذب و غيبة و إفشاء سر و هتك ستر و غيره و الحكاية لما يقع منه المؤدي إلى الاستهزاء و السخرية منه و الإيذاء بالقول و الفعل حيث يمكن و كل هذه الأمور بعض نتائج الحقد.
و أقل درجات الحقد مع الاحتراز عن هذه الآفات المحرمة أن تستثقله في الباطن و لا تنهى قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تتطوع به من البشاشة و الرفق و العناية و القيام على بره و مواساته و هذا كله ينقص درجتك في الدين و يحول بينك و بين فضل عظيم و ثواب جزيل و إن كان لا يعرضك لعقاب. و اعلم أن للحقود عند القدرة على الجزاء ثلاثة أحوال أحدها أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة و لا نقصان و هو العدل و الثاني أن يحسن إليه بالعفو و ذلك هو الفضل و الثالث أن يظلمه بما لا يستحقه و ذلك هو الجور و هو اختيار الأرذال و الثاني هو اختيار الصديقين و الأول هو منتهى درجة الصالحين فليتسم المؤمن بهذه الخصلة إن لم يمكنه تحصيل فضيلة العفو التي قد أمر الله تعالى بها و حض عليها رسوله و الأئمة ع قال الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ الآية و قال تعالى وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
و قال رسول الله ص ثلاث و الذي نفسي بيده إن كنت لحالفا عليهن ما نقصت صدقة من مال فتصدقوا و لا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله تعالى إلا زاده الله تعالى بها عزا يوم القيامة و لا فتح رجل باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر
و قال ص التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله و العفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله و الصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله
و قال ص قال موسى ع يا رب أي عبادك أعز عليك قال الذي إذا قدر عفا
و روى ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان عن الصادق ع قال قال رسول الله ص في خطبته أ لا أخبركم بخير خلائق الدنيا و الآخرة العفو عمن ظلمك و تصل من قطعك و الإحسان إلى من أساء إليك و إعطاء من حرمك
و الأخبار في هذا الباب كثيرة لا تقتضي الرسالة ذكرها.
و خامسها الحسد و هو نتيجة الحقد و الحقد نتيجة الغضب كما مر. و المناظر لا ينفك منه غالبا فإنه تارة يغلب و تارة يغلب و تارة يحمد في كلامه و تارة يحمد كلام غيره و متى لم يكن الغلب و الحمد له تمناه لنفسه دون صاحبه و هو عين الحسد فإن العلم من أكبر النعم فإذا تمنى أحد كون ذلك الغلب و لوازمه له فقد حسد صاحبه. و هذا أمر واقع بالمتناظرين إلا من عصمه الله تعالى و لذلك
قال ابن عباس رضي الله عنه خذوا العلم حيث وجدتموه و لا تقبلوا أقوال الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة
و أما ما جاء في ذم الحسد و الوعيد عليه فهو خارج عن حد الحصر و كفاك في ذمه أن جميع ما وقع من الذنوب و الفساد في الأرض من أول الدهر إلى آخره كان من الحسد لما حسد إبليس آدم فصار أمره إلى أن طرده الله و لعنه و أعد له عذاب جهنم خالدا فيها و تسلط بعد ذلك على بني آدم و جرى فيهم مجرى الدم و الروح في أبدانهم و صار سبب الفساد على الآباء و هو أول خطيئة وقعت بعد خلق آدم و هو الذي أوجب قتل ابن آدم أخاه كما حكاه الله تعالى عنهما في كتابه الكريم. و قد قرن الله تعالى الحاسد بالشيطان و الساحر فقال وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ
و قال ص الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
و قال ص دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد و البغضاء و هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر و لكن حالقة الدين و الذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا
و قال ص ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة قيل يا رسول الله من هم قال الأمراء بالجور و العرب بالعصبية و الدهاقين بالكبر و التجار بالخيانة و أهل الرستاق بالجهالة و العلماء بالحسد
و روى محمد بن مسلم عن الباقر ع أنه قال إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر و إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب
و عن أبي عبد الله ع آفة الدين الحسد و العجب و الفخر
و عنه ع قال قال الله عز و جل لموسى ع يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي و لا تمدن عينيك إلى ذلك و لا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي و من يك كذلك فلست منه و ليس مني
و عنه ع قال إن المؤمن يغبط و لا يحسد و المنافق يحسد و لا يغبط
و سادسها الهجر و القطيعة و هو أيضا من لوازم الحقد فإن المتناظرين إذا ثارت بينهما المنافرة و ظهر منهما الغضب و ادعى كل منهما أنه المصيب و أن صاحبه المخطئ و اعتقد و أظهر أنه مصر على باطله مزمع على خلافه لزم من حقده عليه و غضبه هجره و قطيعته و ذلك من عظائم الذنوب و كبائر المعاصي.
روى داود بن كثير قال سمعت أبا عبد الله ع يقول قال أبي قال رسول الله ص أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام و لم يكن بينهما ولاية و أيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب
و عن أبي عبد الله ع أنه قال لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة و اللعنة و ربما استحق كلاهما فقال له معتب جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم قال لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته و لا يتغامس له عن كلامه سمعت أبي يقول إذا تنازع اثنان فعاز أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه و بين صاحبه فإن الله تبارك و تعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم
و روى زرارة عن أبي جعفر ع قال إن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه و تمدد ثم قال فزت فرحم الله امرأ ألف بين وليين لنا يا معشر المؤمنين تألفوا و تعاطفوا
و عن أبي بصير عن أبي عبد الله ع قال لا يزال إبليس فرحا ما اهتجر المسلمان فإذا التقيا اصطكت ركبتاه و تخلعت أوصاله و نادى يا ويله ما لقي من الثبور
و سابعها الكلام فيه بما لا يحل من كذب و غيبة و غيرهما و هو من لوازم الحقد بل من نتيجة المناظرة فإن المناظر لا يخلو عن حكاية كلام صاحبه في معرض التهجين و الذم و التوهين فيكون مغتابا و ربما يحرف كلامه فيكون كاذبا مباهتا ملبسا و قد يصرح باستجهاله و استحماقه فيكون متنقصا مسببا. و كل واحد من هذه الأمور ذنب كبير و الوعيد عليه في الكتاب و السنة كثير يخرج عن حد الحصر و كفاك في ذم الغيبة أن الله تعالى شبهها بأكل الميتة فقال تعالى وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
و قال النبي ص كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه
و الغيبة تتناول العرض. و قال ص إياكم و الغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل قد يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
و قال البراء خطبنا رسول الله ص حتى أسمع العواتق في بيوتها فقال يا معشر من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته و من تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته
و عن أبي عبد الله ع ما من مؤمن قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز و جل إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
و عن النبي ص إن الغيبة أشد من ثلاثين زنية و في حديث آخر من ست و ثلاثين زنية
و الكلام في الغيبة يطول و الغرض هنا الإشارة إلى أصول هذه الرذائل
و روى المفضل بن عمر عن أبي عبد الله ع أنه قال من روى عن مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان
و عنه ع في حديث عورة المؤمن على المؤمن حرام قال ما هو أن ينكشف فترى منه شيئا إنما هو أن تروي عنه أو تعيبه
و روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع قال قالا أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته و زلاته
و روى أبو بصير عن أبي جعفر ع قال قال رسول الله ص سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية و حرمة ماله كحرمة دمه
و عن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله ع يقول إذا قال المؤمن لأخيه أف خرج من ولايته و إذا قال أنت عدوي كفر أحدهما و لا يقبل الله تعالى من مؤمن عملا و هو مضمر على أخيه المؤمن سوء
و روى الفضيل عن أبي جعفر ع قال ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشر ميتة و كان قمنا أن لا يرجع إلى خير
و ثامنها الكبر و الترفع و المناظرة لا تنفك عن التكبر على الأقران و الأمثال و الترفع فوق المقدار في الهيئات و المجالس و عن إنكار كلام خصمهم و إن لاح كونه حقا حذرا من ظهور غلبتهم و لا يصرحون عند ظهور الفلج عليهم بأنا مخطئون و أن الحق قد ظهر في جانب خصمنا. و هذا عين الكبر الذي قد أخبر عنه النبي ص بأنه لا يدخل الجنة من في قلبه منه مثقال و قد فسره ص في الحديث السابق بأنه بطر الحق و غمص الناس و المراد ببطر الحق رده على قائله و عدم الاعتراف به بعد ظهوره و غمص الناس بالصاد المهملة بعد الميم و الغين المعجمة احتقارهم. و هذا المناظر قد رد الحق على قائله بعد ظهوره له و إن خفي على غيره و ربما احتقره حيث يزعم أنه محق و أن خصمه هو المبطل الذي لم يعرف الحق و لا له ملكة العلم و القوانين المؤدية إليه.
و عن النبي ص أنه قال حاكيا عن الله تعالى العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته
و عن أبي عبد الله ع قال قال رسول الله ص إن أعظم الكبر غمص الخلق و سفه الحق قال قلت و ما غمص الخلق و سفه الحق قال يجهل الحق و يطعن على أهله فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز و جل رداءه
و روى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله ع قال سمعته يقول الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس و الكبر رداء الله فمن نازع الله عز و جل رداءه لم يزده الله عز و جل إلا سفالا
و سئل ع عن أدنى الإلحاد قال إن الكبر أدناه
و روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع قالا لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر
و عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله ع إني آكل الطعام الطيب و أشم الرائحة الطيبة و أركب الدابة الفارهة و يتبعني الغلام فترى في هذا شيئا من التجبر فلا أفعله فأطرق أبو عبد الله ع ثم قال إنما الجبار الملعون من غمص الناس و جهل الحق قال عمر فقلت أما الحق فلا أجهله و الغمص لا أدري ما هو قال من حقر الناس و تجبر عليهم فذلك الجبار
و عن أبي حمزة عن أبي جعفر ع قال قال رسول الله ص ثلاثة لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم و عد منهم الجبار
و تاسعها التجسس و تتبع العورات و المناظر لا يكاد يخلو عن طلب عثرات مناظره في كلامه و غيره ليجعله ذخيرة لنفسه و وسيلة إلى تسديده و براءته أو دفع منقصته حتى أن ذلك قد يتمادى بأهل الغفلة و من يطلب علمه للدنيا فيتفحص عن أحوال خصمه و عيوبه ثم إنه قد يعرض به في حضرته أو يشافهه بها و ربما يتبجح به و يقول كيف أخملته و أخجلته إلى غير ذلك مما يفعله الغافلون عن الدين و أتباع الشياطين و قد قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا
و قال ص يا معشر من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فمن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته و من تتبع الله عورته فضحه و لو في جوف بيته
و عن أبي جعفر الباقر ع أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين فيحصي عليه زلاته ليعيره بها يوما ما
و عن أبي عبد الله ع أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يؤاخي الرجل و هو يحفظ زلاته ليعيره بها يوما ما
و عنه ع قال قال رسول الله ص من أذاع فاحشة كان كمبتدئها و من عير مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه
و عنه ع من لقي أخاه بما يؤنبه أنبه الله في الدنيا و الآخرة
و عنه ع قال قال أمير المؤمنين ع في كلام له ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء و أنت تجد لها في الخير محملا
و عاشرها الفرح بمساءة الناس و الغم بسرورهم و من لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فهو ناقص الإيمان بعيد عن أخلاق أهل الدين. و هذا غالب بين من غلب على قلبهم محبة إفحام الأقران و ظهور الفضل على الإخوان و قد ورد في أحاديث كثيرة أن للمسلم على المسلم حقوقا إن ضيع منها واحدا خرج من ولاية الله و طاعته و من جملتها ذلك.
روى محمد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه بإسناده إلى المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله ع قال قلت له ما حق المسلم على المسلم قال له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا و هو واجب عليه إن ضيع منها حقا خرج من ولاية الله و طاعته و لم يكن لله فيه نصيب قلت جعلت فداك و ما هي قال يا معلى إني عليك شفيق أخاف أن تضيع و لا تحفظ و تعلم و لا تعمل قال قلت له لا قوة إلا بالله
قال أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك و تكره له ما تكره لنفسك
و الحق الثاني أن تجتنب سخطه و تتبع مرضاته و تطيع أمره
و الحق الثالث أن تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك
و الحق الرابع أن تكون عينه و دليله و مرآته
و الحق الخامس أن لا تشبع و يجوع و لا تروى و يظمأ و لا تلبس و يعرى
و الحق السادس أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه و يصنع طعامه و يمهد فراشه
و الحق السابع أن تبر قسمه و تجيب دعوته و تعود مريضه و تشهد جنازته و إذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها و لا تلجئه أن يسألكها و لكن تبادره مبادرة فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك
و الأخبار في هذا الباب كثيرة.
و حادي عشرها تزكية النفس و الثناء عليها و لا يخلو المناظر من الثناء على نفسه إما تصريحا أو تلويحا و تعريضا بتصويب كلامه و تهجين كلام خصمه و كثيرا ما يصرح بقوله لست ممن يخفى عليه أمثال هذا و نحوه و قد قال الله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ و قيل لبعض العلماء ما الصدق القبيح قال ثناء المرء على نفسه. و اعلم أن ثناءك على نفسك مع قبحه و نهي الله تعالى عنه ينقص قدرك عند الناس و يوجب مقتك عند الله تعالى و إذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل كيف يستنكره قلبك و يستثقله طبعك و كيف تذمهم عليه إذا فارقتهم فاعلم أنهم أيضا في حال تزكيتك نفسك يذمونك بقلوبهم ناجزا و يظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم.
و ثاني عشرها النفاق و المتناظرون يضطرون إليه فإنهم يلقون الخصوم و الأقران و أتباعهم بوجه مسالم و قلب منازع و ربما يظهرون الحب و الشوق إلى لقائهم و فرائصهم مرتعدة في الحال من بغضهم و يعلم كل واحد من صاحبه أنه كاذب فيما يبديه مضمر خلاف ما يظهره.
و قد قال ص إذا تعلم الناس العلم و تركوا العمل و تحابوا بالألسن و تباغضوا بالقلوب و تقاطعوا في الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم و أعمى أبصارهم
نسأل الله العافية.
فهذه اثنتا عشرة خصلة مهلكة أولها الكبر المحرم للجنة و آخرها النفاق الموجب للنار و المتناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم و لا ينفك أعظمهم دينا و أكثرهم عقلا من جملة مواد هذه الأخلاق و إنما غايتهم إخفاؤها و مجاهدة النفس عن ظهورها للناس و عدم اشتغالهم بدوائها و الأمر الجامع لها طلب العلم لغير الله.
و بالجملة فالعلم لا يهمل العالم أبدا بل إما أن يهلكه و يشقيه أو يسعده و يقربه من الله تعالى و يدنيه فإن قلت في المناظرة فائدتان
إحداهما ترغيب الناس في العلم إذ لو لا حب الرئاسة لاندرست العلوم و في سد بابها ما يفتر هذه الرغبة
و الثانية أن فيها تشحيذ الخاطر و تقوية النفس لدرك مآخذ العلم.
قلنا صدقت و لم نذكر ما ذكرناه لسد باب المناظرة بل ذكرنا لها ثمانية شروط و اثنتي عشرة آفة ليراعي المناظر شروطها و يحترز عن آفاتها ثم يستدر فوائدها من الرغبة في العلم و تشحيذ الخاطر فإن كان غرضك أنه ينبغي أن يرخص في هذه الآفات و تحتمل بأجمعها لأجل الرغبة في العلم و تشحيذ الخاطر فبئس ما حكمت فإن الله تعالى و رسوله و أصفياءه رغبوا الخلق في العلم بما وعدوا من ثواب الآخرة لا بالرئاسة. نعم الرئاسة باعث طبيعي و الشيطان موكل بتحريكه و الترغيب فيه و هو مستغن عن نيابتك عنه و معاونتك.
و اعلم أن من تحركت رغبته في العلم بتحريك الشيطان فهو ممن قال فيهم رسول الله ص
إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر و بأقوام لا خلاق لهم
و من تحركت رغبته بتحريك الأنبياء ع و ترغيبهم في ثواب الله تعالى فهو من ورثة الأنبياء و خلفاء الرسل و أمناء الله تعالى على عباده.
و أما تشحيذ الخاطر فقد صدقت فليشحذ الخاطر و ليجتنب هذه الآفات التي ذكرناها فإن كان لا يقدر على اجتنابها فليتركه و ليلزم المواظبة على العلم و طول التفكر فيه و تصفية القلب عن كدورات الأخلاق فإن ذلك أبلغ في التشحيذ و قد تشحذت خواطر أهل الدين بدون هذه المناظرة. و الشيء إذا كانت له منفعة واحدة و آفات كثيرة لا يجوز التعرض لآفاته لأجل تلك المنفعة الواحدة بل حكمه في ذلك حكم الخمر و الميسر قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فحرمهما لذلك و أكد تحريمهما و الله الموفق
انتهى كلامه رحمه الله ..
نسأل الله أن يهدي به من يشاء إلى سبيله ..
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على أفضل خلقه من المرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين
وأما بعد ..
فإن الغاية من إنشاء هذا المنتدى المعروف بمنتدى (الصرخة الحسينية الهادرة) .. يا حسين .. هي رفع راية الحق والهداية ونشر علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام في مختلف جوانب الحياة، ودفع شبهات المبطلين والمغرضين، وغير ذلك من الأسباب المحمودة الحسنة ..
ولما كانت عدة من هذه الأسباب لا تتم إلا بالحوار والمناظرة، ولما كان الجهل بشروط المناظرات وآدابها وآفاتها هو السمة الغالبة على أهل هذا الزمن، ولما كان النصح المجرد غير مؤثر إلا بشكل موضعي مؤقت، كان لا بد من العودة إلى مصدر التشريع الإلهي لأخذ ما يلزم حول هذا الموضوع الحساس والهام، وقد تعرض أهل البيت عليهم السلام في كلامهم بشكل مفصل لما نحتاجه من دقائق وخفايا هذا الأمر، وكان من أجمل من جمع وكتب في المناظرة شهيدنا الثاني رحمه الله تعالى في كتابه (منية المريد) ضمن فصل خاص .. فكان من المناسب الرجوع إلى كلامه رحمه الله الذي جمع فيه فأحسن، حيث كتب فأجاد مستشهداً بروايات أهل البيت عليهم السلام ..
وهذا الموضوع رغم طوله بالغ الأهمية، ولا بد لكل عضو من الأعضاء أن يطلع عليه، أو على عناوينه الرئيسية وخلاصته وأهم ما ورد فيه على الأقل (وإن كان بعضه يوضح بعضه الآخر ويتممه).. على أن يكون علمنا بما ورد فيه باعثاً لنا على تصحيح وجهة سيرنا كي لا يكون وبالاً علينا.
نكتفي بهذا القدر .. ونترككم مع الشهيد الثاني :
منية المريد من ص171 (طبعة قم الثالثة) (مع اختصار بعض المقاطع والعبارات في بعض الأحيان)
في المناظرة و شروطها و آدابها و آفاتها
و فيه فصلان
الفصل الأول في شروطها و آدابها
الفصل الثاني في آفاتها و ما يتولد منها من مهلكات الأخلاق
الفصل الأول في شروطها و آدابها
اعلم أن المناظرة في أحكام الدين من الدين و لكن لها شروط و محل و وقت فمن اشتغل بها على وجهها و قام بشروطها فقد قام بحدودها و اقتدى بالسلف فيها فإنهم تناظروا في مسائل و ما تناظروا إلا لله و لطلب ما هو حق عند الله تعالى. و لمن يناظر لله و في الله علامات بها تتبين الشروط و الآداب
الأولى أن يقصد بها إصابة الحق
و طلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور صوابه و غزارة علمه و صحة نظره فإن ذلك مراء قد عرفت ما فيه من القبائح و النهي الأكيد. و من آيات هذا القصد أن لا يوقعها إلا مع رجاء التأثير فأما إذا علم عدم قبول المناظر للحق و أنه لا يرجع عن رأيه و إن تبين له خطاؤه فمناظرته غير جائزة لترتب الآفات الآتية و عدم حصول الغاية المطلوبة منها.
الثانية أن لا يكون ثم ما هو أهم من المناظرة
فإن المناظرة إذا وقعت على وجهها الشرعي و كانت في واجب فهي من فروض الكفايات فإذا كان ثم واجب عيني أو كفائي هو أهم منها لم يكن الاشتغال بها سائغا. و من جملة الفروض التي لا قائم بها في هذا الزمان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قد يكون المناظر في مجلس مناظرته مصاحبا لعدة مناكير كما لا يخفى على من سبر الأحوال المفروضة و المحرمة. ثم هو يناظر فيما لا يتفق أو يتفق نادرا من الدقائق العلمية و الفروع الشرعية بل يجري منه و من غيره في مجلس المناظرة من الإيحاش و الإفحاش و الإيذاء و التقصير فيما يجب رعايته من النصيحة للمسلمين و المحبة و الموادة ما يعصي به القائل و المستمع و لا يلتفت قلبه إلى شيء من ذلك ثم يزعم أنه يناظر لله تعالى.
............
الرابعة أن يناظر في واقعة مهمة
أو في مسألة قريبة من الوقوع و أن يهتم بمثل ذلك و المهم أن يبين الحق و لا يطول الكلام زيادة على ما يحتاج إليه في تحقيق الحق. و لا يغتر بأن المناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر و ملكة الاستدلال و التحقيق كما يتفق ذلك كثيرا لقاصدي حظ النفوس من إظهار المعرفة فيتناظرون في التعريفات و ما تشتمل عليه من النقوض و التزييفات و في المغالطات و نحوها و لو اختبر حالهم حق الاختبار لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار.
...........
السادسة أن يكون في طلب الحق كمنشد ضالة
يكون شاكرا متى وجدها و لا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره فيرى رفيقه معينا لا خصما و يشكره إذا عرفه الخطأ و أظهر له الحق كما لو أخذ طريقا في طلب ضالة فنبهه غيره على ضالته في طريق آخر و الحق ضالة المؤمن يطلبه كذلك فحقه إذا ظهر الحق على لسان خصمه أن يفرح به و يشكره لا أنه يخجل و يسود وجهه و يربد لونه و يجتهد في مجاهدته و مدافعته جهده.
السابعة أن لا يمنع معينه من الانتقال من دليل إلى دليل
و من سؤال إلى سؤال بل يمكنه من إيراد ما يحضره و يخرج من كلامه ما يحتاج إليه في إصابة الحق فإن وجده في جملته أو استلزمه و إن كان غافلا عن اللزوم فليقبله و يحمد الله تعالى فإن الغرض إصابة الحق و إن كان في كلام متهافت إذا حصل منه المطلوب. فأما قوله هذا لا يلزمني فقد تركت كلامك الأول و ليس لك ذلك و نحو ذلك من أراجيف المناظرين فهو محض العناد و الخروج عن نهج السداد. و كثيرا ما ترى المناظرات في المحافل تنقضي بمحض المجادلات حتى يطلب المعترض الدليل عليه و يمنع المدعى و هو عالم به و ينقضي المجلس على ذلك الإنكار و الإصرار على العناد و ذلك عين الفساد و الخيانة للشرع المطهر و الدخول في ذم من كتم علمه.
الثامنة أن يناظر مع من هو مستقل بالعلم
ليستفيد منه إن كان يطلب الحق و الغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول و الأكابر خوفا من ظهور الحق على لسانهم و يرغبون فيمن دونهم طمعا في ترويج الباطل عليهم.
و وراء هذه الشروط و الآداب شروط أخر و آداب دقيقة لكن فيما ذكر ما يهديك إلى معرفة المناظرة لله و من يناظر لله أو لعلة
الفصل الثاني في آفات المناظرة و ما يتولد منها من مهلكات الأخلاق
اعلم أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة و الإفحام و المباهاة و التشوق لإظهار الفضل هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله تعالى المحمودة عند عدوه إبليس و نسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر و العجب و الرياء و الحسد و المنافسة و تزكية النفس و حب الجاه و غيرها نسبة الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا و القتل و القذف و كما أن من خير بين الشرب و بين سائر الفواحش فاختار الشرب استصغارا له فدعاه ذلك إلى ارتكاب سائر الفواحش فكذلك من غلب عليه حب الإفحام و الغلبة في المناظرة و طلب الجاه و المباهاة دعاه ذلك إلى إظهار الخبائث كلها.
فأولها الاستكبار عن الحق و كراهته و الحرص على مدافعته بالمماراة فيه حتى أن أبغض الأشياء إلى المناظر أن يظهر الحق على لسان خصمه و مهما ظهر يشمر لجحده بما قدر عليه من التلبيس و المخادعة و المكر و الحيلة ثم تصير المماراة له عادة و طبيعة حتى لا يسمع كلاما إلا و تنبعث داعيته للاعتراض عليه إظهارا للفضل و استنقاصا بالخصم و إن كان محقا قاصدا إظهار نفسه لا إظهار الحق. و قد تلونا عليك بعض ما في المراء من الذم و ما يترتب عليه من المفاسد و قد سوى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا و بين من كذب بالحق فقال تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ و هو كبر أيضا لما تقدم من أنه عبارة عن رد الحق على قائله و المراء يستلزم ذلك.
و روي عن أبي الدرداء و أبي أمامة و واثلة و أنس قالوا خرج علينا رسول الله ص يوما و نحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم قال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رباضها ]ربضها[ و أوسطها و أعلاها لمن ترك المراء و هو صادق ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء
و عنه ص ثلاث من لقي الله عز و جل بهن دخل الجنة من أي باب شاء من حسن خلقه و خشي الله في المغيب و المحضر و ترك المراء و إن كان محقا
و عن أبي عبد الله ع قال قال أمير المؤمنين ع إياكم و المراء و الخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان و ينبت عليهما النفاق
و عن أبي عبد الله ع قال قال جبرئيل للنبي ص إياك و ملاحاة الرجال
و ثانيها الرياء و ملاحظة الخلق و الجهد في استمالة قلوبهم و صرف وجوههم نحوه ليصوبوا نظره و ينصروه على خصمه و هذا هو عين الرياء بل بعضه و الرياء هو الداء العضال و المرض المخوف و العلة المهلكة قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ قيل هم أهل الرياء و قال تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً و الرياء هو الشرك الخفي
و قال ص إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال هو الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء
و قال ص استعيذوا بالله من جب الخزي قيل و ما هو يا رسول الله قال واد في جهنم أعد للمراءين
و قال ص إن المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك و بطل أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له
و روى جراح المدائني عن أبي عبد الله ع في قول الله عز و جل فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه
و عنه ع قال قال النبي ص إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز و جل اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد به
و عن أمير المؤمنين ع ثلاث علامات للمرائي ينشط إذا رأى الناس و يكسل إذا كان وحده و يحب أن يحمد في جميع أموره
و ثالثها الغضب و المناظر لا ينفك منه غالبا سيما إذا رد عليه كلامه أو اعترض على قوله و زيف دليله بمشهد من الناس فإنه يغضب لذلك لا محالة و غضبه قد يكون بحق و قد يكون بغير حق و قد ذم الله تعالى و رسوله الغضب كيف كان و أكثرا من التوعد عليه قال الله تعالى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ الآية. فذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب و مدح المؤمنين بما أنعم عليهم من السكينة.
و عن عكرمة في قوله تعالى سَيِّداً وَ حَصُوراً قال السيد الذي لا يغلبه الغضب
و روي أن رجلا قال يا رسول الله مرني بعمل و أقل قال لا تغضب ثم أعاد عليه فقال لا تغضب
و سئل ع ما يبعد من غضب الله تعالى قال لا تغضب
و عنه ص من كف غضبه ستر الله عورته
و قال أبو الدرداء قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب
و قال ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل
و قال ص ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم
و عن أبي عبد الله ع قال سمعت أبي يقول أتى رسول الله ص رجل بدوي فقال إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلام فقال آمرك أن لا تغضب فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه فقال لا أسأل عن شيء بعد هذا ما أمرني رسول الله ص إلا بالخير
و عن أبي عبد الله ع قال قال رسول الله ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل
و ذكر الغضب عند أبي جعفر الباقر ع فقال إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار
و عنه ع قال مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عز و جل به موسى ع يا موسىأمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي
و عن أبي حمزة الثمالي قال أبو جعفر ع إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم و إن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه و انتفخت أوداجه و دخل الشيطان فيه
و الأخبار في ذلك كثيرة
و في الأخبار القديمة قال نبي من الأنبياء لمن معه من يكفل لي أن لا يغضب يكون معي في درجتي و يكون بعدي خليفتي فقال شاب من القوم أنا ثم أعاد عليه فقال الشاب أنا و وفى به فلما مات كان في منزلته بعده و هو ذو الكفل لأنه كفل له بالغضب و وفى به
و رابعها الحقد و هو نتيجة الغضب فإن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن و احتقن فيه فصار حقدا و معنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله و البغض له و النفار منه
و قد قال ص المؤمن ليس بحقود
فالحقد ثمرة الغضب و الحقد يثمر أمورا فاحشة كالحسد و الشماتة بما يصيبه من البلاء و الهجر و القطيعة و الكلام فيه بما لا يحل من كذب و غيبة و إفشاء سر و هتك ستر و غيره و الحكاية لما يقع منه المؤدي إلى الاستهزاء و السخرية منه و الإيذاء بالقول و الفعل حيث يمكن و كل هذه الأمور بعض نتائج الحقد.
و أقل درجات الحقد مع الاحتراز عن هذه الآفات المحرمة أن تستثقله في الباطن و لا تنهى قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تتطوع به من البشاشة و الرفق و العناية و القيام على بره و مواساته و هذا كله ينقص درجتك في الدين و يحول بينك و بين فضل عظيم و ثواب جزيل و إن كان لا يعرضك لعقاب. و اعلم أن للحقود عند القدرة على الجزاء ثلاثة أحوال أحدها أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة و لا نقصان و هو العدل و الثاني أن يحسن إليه بالعفو و ذلك هو الفضل و الثالث أن يظلمه بما لا يستحقه و ذلك هو الجور و هو اختيار الأرذال و الثاني هو اختيار الصديقين و الأول هو منتهى درجة الصالحين فليتسم المؤمن بهذه الخصلة إن لم يمكنه تحصيل فضيلة العفو التي قد أمر الله تعالى بها و حض عليها رسوله و الأئمة ع قال الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ الآية و قال تعالى وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
و قال رسول الله ص ثلاث و الذي نفسي بيده إن كنت لحالفا عليهن ما نقصت صدقة من مال فتصدقوا و لا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله تعالى إلا زاده الله تعالى بها عزا يوم القيامة و لا فتح رجل باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر
و قال ص التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله و العفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله و الصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله
و قال ص قال موسى ع يا رب أي عبادك أعز عليك قال الذي إذا قدر عفا
و روى ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان عن الصادق ع قال قال رسول الله ص في خطبته أ لا أخبركم بخير خلائق الدنيا و الآخرة العفو عمن ظلمك و تصل من قطعك و الإحسان إلى من أساء إليك و إعطاء من حرمك
و الأخبار في هذا الباب كثيرة لا تقتضي الرسالة ذكرها.
و خامسها الحسد و هو نتيجة الحقد و الحقد نتيجة الغضب كما مر. و المناظر لا ينفك منه غالبا فإنه تارة يغلب و تارة يغلب و تارة يحمد في كلامه و تارة يحمد كلام غيره و متى لم يكن الغلب و الحمد له تمناه لنفسه دون صاحبه و هو عين الحسد فإن العلم من أكبر النعم فإذا تمنى أحد كون ذلك الغلب و لوازمه له فقد حسد صاحبه. و هذا أمر واقع بالمتناظرين إلا من عصمه الله تعالى و لذلك
قال ابن عباس رضي الله عنه خذوا العلم حيث وجدتموه و لا تقبلوا أقوال الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة
و أما ما جاء في ذم الحسد و الوعيد عليه فهو خارج عن حد الحصر و كفاك في ذمه أن جميع ما وقع من الذنوب و الفساد في الأرض من أول الدهر إلى آخره كان من الحسد لما حسد إبليس آدم فصار أمره إلى أن طرده الله و لعنه و أعد له عذاب جهنم خالدا فيها و تسلط بعد ذلك على بني آدم و جرى فيهم مجرى الدم و الروح في أبدانهم و صار سبب الفساد على الآباء و هو أول خطيئة وقعت بعد خلق آدم و هو الذي أوجب قتل ابن آدم أخاه كما حكاه الله تعالى عنهما في كتابه الكريم. و قد قرن الله تعالى الحاسد بالشيطان و الساحر فقال وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ
و قال ص الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
و قال ص دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد و البغضاء و هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر و لكن حالقة الدين و الذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا
و قال ص ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة قيل يا رسول الله من هم قال الأمراء بالجور و العرب بالعصبية و الدهاقين بالكبر و التجار بالخيانة و أهل الرستاق بالجهالة و العلماء بالحسد
و روى محمد بن مسلم عن الباقر ع أنه قال إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر و إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب
و عن أبي عبد الله ع آفة الدين الحسد و العجب و الفخر
و عنه ع قال قال الله عز و جل لموسى ع يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي و لا تمدن عينيك إلى ذلك و لا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي و من يك كذلك فلست منه و ليس مني
و عنه ع قال إن المؤمن يغبط و لا يحسد و المنافق يحسد و لا يغبط
و سادسها الهجر و القطيعة و هو أيضا من لوازم الحقد فإن المتناظرين إذا ثارت بينهما المنافرة و ظهر منهما الغضب و ادعى كل منهما أنه المصيب و أن صاحبه المخطئ و اعتقد و أظهر أنه مصر على باطله مزمع على خلافه لزم من حقده عليه و غضبه هجره و قطيعته و ذلك من عظائم الذنوب و كبائر المعاصي.
روى داود بن كثير قال سمعت أبا عبد الله ع يقول قال أبي قال رسول الله ص أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام و لم يكن بينهما ولاية و أيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب
و عن أبي عبد الله ع أنه قال لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة و اللعنة و ربما استحق كلاهما فقال له معتب جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم قال لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته و لا يتغامس له عن كلامه سمعت أبي يقول إذا تنازع اثنان فعاز أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه و بين صاحبه فإن الله تبارك و تعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم
و روى زرارة عن أبي جعفر ع قال إن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه و تمدد ثم قال فزت فرحم الله امرأ ألف بين وليين لنا يا معشر المؤمنين تألفوا و تعاطفوا
و عن أبي بصير عن أبي عبد الله ع قال لا يزال إبليس فرحا ما اهتجر المسلمان فإذا التقيا اصطكت ركبتاه و تخلعت أوصاله و نادى يا ويله ما لقي من الثبور
و سابعها الكلام فيه بما لا يحل من كذب و غيبة و غيرهما و هو من لوازم الحقد بل من نتيجة المناظرة فإن المناظر لا يخلو عن حكاية كلام صاحبه في معرض التهجين و الذم و التوهين فيكون مغتابا و ربما يحرف كلامه فيكون كاذبا مباهتا ملبسا و قد يصرح باستجهاله و استحماقه فيكون متنقصا مسببا. و كل واحد من هذه الأمور ذنب كبير و الوعيد عليه في الكتاب و السنة كثير يخرج عن حد الحصر و كفاك في ذم الغيبة أن الله تعالى شبهها بأكل الميتة فقال تعالى وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
و قال النبي ص كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه
و الغيبة تتناول العرض. و قال ص إياكم و الغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل قد يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
و قال البراء خطبنا رسول الله ص حتى أسمع العواتق في بيوتها فقال يا معشر من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته و من تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته
و عن أبي عبد الله ع ما من مؤمن قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز و جل إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
و عن النبي ص إن الغيبة أشد من ثلاثين زنية و في حديث آخر من ست و ثلاثين زنية
و الكلام في الغيبة يطول و الغرض هنا الإشارة إلى أصول هذه الرذائل
و روى المفضل بن عمر عن أبي عبد الله ع أنه قال من روى عن مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان
و عنه ع في حديث عورة المؤمن على المؤمن حرام قال ما هو أن ينكشف فترى منه شيئا إنما هو أن تروي عنه أو تعيبه
و روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع قال قالا أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته و زلاته
و روى أبو بصير عن أبي جعفر ع قال قال رسول الله ص سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية و حرمة ماله كحرمة دمه
و عن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله ع يقول إذا قال المؤمن لأخيه أف خرج من ولايته و إذا قال أنت عدوي كفر أحدهما و لا يقبل الله تعالى من مؤمن عملا و هو مضمر على أخيه المؤمن سوء
و روى الفضيل عن أبي جعفر ع قال ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشر ميتة و كان قمنا أن لا يرجع إلى خير
و ثامنها الكبر و الترفع و المناظرة لا تنفك عن التكبر على الأقران و الأمثال و الترفع فوق المقدار في الهيئات و المجالس و عن إنكار كلام خصمهم و إن لاح كونه حقا حذرا من ظهور غلبتهم و لا يصرحون عند ظهور الفلج عليهم بأنا مخطئون و أن الحق قد ظهر في جانب خصمنا. و هذا عين الكبر الذي قد أخبر عنه النبي ص بأنه لا يدخل الجنة من في قلبه منه مثقال و قد فسره ص في الحديث السابق بأنه بطر الحق و غمص الناس و المراد ببطر الحق رده على قائله و عدم الاعتراف به بعد ظهوره و غمص الناس بالصاد المهملة بعد الميم و الغين المعجمة احتقارهم. و هذا المناظر قد رد الحق على قائله بعد ظهوره له و إن خفي على غيره و ربما احتقره حيث يزعم أنه محق و أن خصمه هو المبطل الذي لم يعرف الحق و لا له ملكة العلم و القوانين المؤدية إليه.
و عن النبي ص أنه قال حاكيا عن الله تعالى العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته
و عن أبي عبد الله ع قال قال رسول الله ص إن أعظم الكبر غمص الخلق و سفه الحق قال قلت و ما غمص الخلق و سفه الحق قال يجهل الحق و يطعن على أهله فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز و جل رداءه
و روى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله ع قال سمعته يقول الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس و الكبر رداء الله فمن نازع الله عز و جل رداءه لم يزده الله عز و جل إلا سفالا
و سئل ع عن أدنى الإلحاد قال إن الكبر أدناه
و روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع قالا لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر
و عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله ع إني آكل الطعام الطيب و أشم الرائحة الطيبة و أركب الدابة الفارهة و يتبعني الغلام فترى في هذا شيئا من التجبر فلا أفعله فأطرق أبو عبد الله ع ثم قال إنما الجبار الملعون من غمص الناس و جهل الحق قال عمر فقلت أما الحق فلا أجهله و الغمص لا أدري ما هو قال من حقر الناس و تجبر عليهم فذلك الجبار
و عن أبي حمزة عن أبي جعفر ع قال قال رسول الله ص ثلاثة لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم و عد منهم الجبار
و تاسعها التجسس و تتبع العورات و المناظر لا يكاد يخلو عن طلب عثرات مناظره في كلامه و غيره ليجعله ذخيرة لنفسه و وسيلة إلى تسديده و براءته أو دفع منقصته حتى أن ذلك قد يتمادى بأهل الغفلة و من يطلب علمه للدنيا فيتفحص عن أحوال خصمه و عيوبه ثم إنه قد يعرض به في حضرته أو يشافهه بها و ربما يتبجح به و يقول كيف أخملته و أخجلته إلى غير ذلك مما يفعله الغافلون عن الدين و أتباع الشياطين و قد قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا
و قال ص يا معشر من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فمن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته و من تتبع الله عورته فضحه و لو في جوف بيته
و عن أبي جعفر الباقر ع أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين فيحصي عليه زلاته ليعيره بها يوما ما
و عن أبي عبد الله ع أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يؤاخي الرجل و هو يحفظ زلاته ليعيره بها يوما ما
و عنه ع قال قال رسول الله ص من أذاع فاحشة كان كمبتدئها و من عير مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه
و عنه ع من لقي أخاه بما يؤنبه أنبه الله في الدنيا و الآخرة
و عنه ع قال قال أمير المؤمنين ع في كلام له ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء و أنت تجد لها في الخير محملا
و عاشرها الفرح بمساءة الناس و الغم بسرورهم و من لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فهو ناقص الإيمان بعيد عن أخلاق أهل الدين. و هذا غالب بين من غلب على قلبهم محبة إفحام الأقران و ظهور الفضل على الإخوان و قد ورد في أحاديث كثيرة أن للمسلم على المسلم حقوقا إن ضيع منها واحدا خرج من ولاية الله و طاعته و من جملتها ذلك.
روى محمد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه بإسناده إلى المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله ع قال قلت له ما حق المسلم على المسلم قال له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا و هو واجب عليه إن ضيع منها حقا خرج من ولاية الله و طاعته و لم يكن لله فيه نصيب قلت جعلت فداك و ما هي قال يا معلى إني عليك شفيق أخاف أن تضيع و لا تحفظ و تعلم و لا تعمل قال قلت له لا قوة إلا بالله
قال أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك و تكره له ما تكره لنفسك
و الحق الثاني أن تجتنب سخطه و تتبع مرضاته و تطيع أمره
و الحق الثالث أن تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك
و الحق الرابع أن تكون عينه و دليله و مرآته
و الحق الخامس أن لا تشبع و يجوع و لا تروى و يظمأ و لا تلبس و يعرى
و الحق السادس أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه و يصنع طعامه و يمهد فراشه
و الحق السابع أن تبر قسمه و تجيب دعوته و تعود مريضه و تشهد جنازته و إذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها و لا تلجئه أن يسألكها و لكن تبادره مبادرة فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك
و الأخبار في هذا الباب كثيرة.
و حادي عشرها تزكية النفس و الثناء عليها و لا يخلو المناظر من الثناء على نفسه إما تصريحا أو تلويحا و تعريضا بتصويب كلامه و تهجين كلام خصمه و كثيرا ما يصرح بقوله لست ممن يخفى عليه أمثال هذا و نحوه و قد قال الله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ و قيل لبعض العلماء ما الصدق القبيح قال ثناء المرء على نفسه. و اعلم أن ثناءك على نفسك مع قبحه و نهي الله تعالى عنه ينقص قدرك عند الناس و يوجب مقتك عند الله تعالى و إذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل كيف يستنكره قلبك و يستثقله طبعك و كيف تذمهم عليه إذا فارقتهم فاعلم أنهم أيضا في حال تزكيتك نفسك يذمونك بقلوبهم ناجزا و يظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم.
و ثاني عشرها النفاق و المتناظرون يضطرون إليه فإنهم يلقون الخصوم و الأقران و أتباعهم بوجه مسالم و قلب منازع و ربما يظهرون الحب و الشوق إلى لقائهم و فرائصهم مرتعدة في الحال من بغضهم و يعلم كل واحد من صاحبه أنه كاذب فيما يبديه مضمر خلاف ما يظهره.
و قد قال ص إذا تعلم الناس العلم و تركوا العمل و تحابوا بالألسن و تباغضوا بالقلوب و تقاطعوا في الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم و أعمى أبصارهم
نسأل الله العافية.
فهذه اثنتا عشرة خصلة مهلكة أولها الكبر المحرم للجنة و آخرها النفاق الموجب للنار و المتناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم و لا ينفك أعظمهم دينا و أكثرهم عقلا من جملة مواد هذه الأخلاق و إنما غايتهم إخفاؤها و مجاهدة النفس عن ظهورها للناس و عدم اشتغالهم بدوائها و الأمر الجامع لها طلب العلم لغير الله.
و بالجملة فالعلم لا يهمل العالم أبدا بل إما أن يهلكه و يشقيه أو يسعده و يقربه من الله تعالى و يدنيه فإن قلت في المناظرة فائدتان
إحداهما ترغيب الناس في العلم إذ لو لا حب الرئاسة لاندرست العلوم و في سد بابها ما يفتر هذه الرغبة
و الثانية أن فيها تشحيذ الخاطر و تقوية النفس لدرك مآخذ العلم.
قلنا صدقت و لم نذكر ما ذكرناه لسد باب المناظرة بل ذكرنا لها ثمانية شروط و اثنتي عشرة آفة ليراعي المناظر شروطها و يحترز عن آفاتها ثم يستدر فوائدها من الرغبة في العلم و تشحيذ الخاطر فإن كان غرضك أنه ينبغي أن يرخص في هذه الآفات و تحتمل بأجمعها لأجل الرغبة في العلم و تشحيذ الخاطر فبئس ما حكمت فإن الله تعالى و رسوله و أصفياءه رغبوا الخلق في العلم بما وعدوا من ثواب الآخرة لا بالرئاسة. نعم الرئاسة باعث طبيعي و الشيطان موكل بتحريكه و الترغيب فيه و هو مستغن عن نيابتك عنه و معاونتك.
و اعلم أن من تحركت رغبته في العلم بتحريك الشيطان فهو ممن قال فيهم رسول الله ص
إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر و بأقوام لا خلاق لهم
و من تحركت رغبته بتحريك الأنبياء ع و ترغيبهم في ثواب الله تعالى فهو من ورثة الأنبياء و خلفاء الرسل و أمناء الله تعالى على عباده.
و أما تشحيذ الخاطر فقد صدقت فليشحذ الخاطر و ليجتنب هذه الآفات التي ذكرناها فإن كان لا يقدر على اجتنابها فليتركه و ليلزم المواظبة على العلم و طول التفكر فيه و تصفية القلب عن كدورات الأخلاق فإن ذلك أبلغ في التشحيذ و قد تشحذت خواطر أهل الدين بدون هذه المناظرة. و الشيء إذا كانت له منفعة واحدة و آفات كثيرة لا يجوز التعرض لآفاته لأجل تلك المنفعة الواحدة بل حكمه في ذلك حكم الخمر و الميسر قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فحرمهما لذلك و أكد تحريمهما و الله الموفق
انتهى كلامه رحمه الله ..
نسأل الله أن يهدي به من يشاء إلى سبيله ..
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليق