قال تعالى (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: (لا تحزن، إن الله معنا). فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى. وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم). [سورة التوبة: الآية 40].
- 1 -
(إلا تنصروه) أيها المسلمون! فلا تظنوا إنكم تخذلونه بتخليكم عنه. فانتصاراته ليست من صنعكم، وإنما هي من صنع القوة المطلقة، من صنع الله الذي زوّده بقوة (الحكمة) في تصريف الأزمات، وبقوة (العسكرية السماوية): (جنود لم تروها). نصره في أحرج المواقف التي استبدت به في حياته. فهو منصور بالله، كنتم أو لم تكونوا حوله. والله الذي نصره يوم لم تكونوا معه، لا يتخلى عنه إذا تخليتم عنه. (فقد نصره الله) في أشد موقف يمكن أن يتصور، وكانت مواصفات ذلك الموقف كما يلي:
1 - كان مشرداً من وطنه: (إذ أخرجه الذين كفروا) من مكة موطنه: الذي سمع استهلاله وهو يعلن دخوله في حلبة الحياة. وشهد خطرات صباه وهو يسابق الريح، أو يتخطى الرقاب في جوار الكعبة حتى يطمئن إلى أحضان جده (عبد المطلب).
وسجل تلفتات فتوته وهو يرمي الأصنام المسندة فوق الكعبة بنظرات ازدراءٍ حيناً، ويلف أسياد مكة الذين يرتعون في مقدرات الجماهير بنظرات عارمة حيناً آخر، ويحتضن الجموع بالكوابيس والأغلال بنظرات إشفاق ثالثاً. وردد نبضات نبوته، وهي تخترق جدران السجون التي حصر الناس فيها مطامحهم، وتكسر الأغلال التي قيدوا بها مواهبهم.
إنه يودّع - بحسراته الملتهبة المكظومة - موطنه الذي: روّى رماله الظامئة بعاطفته الرقيقة. ونثر على روابيه المجندة حول الكعبة، ذكرياته وأفكاره وأحلامه؛ عن قيمة الإنسان، وكرامة الحق، وقدرة الإيمان بالله على الترفيع والتطوير. يترك - الآن - موطنه المفعم بأصداءه، بدون أبّهة أو هيبة، مع أحد أفراده، بشكل متواضع لا يميّزه عن صاحبه، حتى لو نظر إليهما ناظر لم يعرف لهما أولاً وثاني، وإنما كل واحد منهما أحد اثنين، وكل منهما (ثاني اثنين)، ماشيين على الأقدام، يخترقان الظلام، يختبئان في الهوينا، ويتوجسان في نقل أقدامهما عبر الرمال المتقلبة والصخور المتعجرفة؛ تاركاً عنفوان الظلام. اتجه إلى الصحراء، تاركاً كل رأسماله من الدنيا، وكل عدّته لرسالته: (علياً - فاطمة (عليهما السلام)) في بيت، ترعاه شفرات السيوف كالأهداب على العين، فلا ينبض قلبه إلا بومضة سيف حول قلبه، الذي حمل عاطفة قلبه وعصارة فكره: (علي - فاطمة (عليهما السلام)).
2 - كان محصوراً - هو وصاحبه - في (غار ثور):
(إذ هما في الغار)، بعيداً عن كل أقربائه وأنصاره، قريباً من كل الاحتمالات، أعزل بلا زاد أو راحلة.
3 - كان معزولاً، لا يجد حتى من صاحبه الذي معه، لا سلوة ولا كنفاً، وإنما كان صاحبه بحاجة إلى سلوته وكنفه:
(إذ يقول لصاحبه: لا تحزن)، فصاحبه حزين يشعر بأنه خسر كل آماله. وصاحبه لم يكن خائفاًً وإنما كان حزيناً، لأن الخوف هو توقع مكروه لم يقع، والحزن هو التفجيع على مكروه قد وقع، فمن يخشى أن ينكل به عدوه فهو خائف، وإذا نكل به عدوه حزن على معاناته. وقد كان موسى بن عمران خائفاً (يوم الزينة) فقال الله له:
(لا تخف، إنك أنت الأعلى) [سورة طه: الآية 68]، لأنه كان يخشى تنكيل (فرعون).
وكان صاحب النبي حزيناً في الغار، فقال النبي له:
(لا تحزن، إن الله معنا)، لأنه كان يعاني خسارة ثمار جهوده السابقة. فما كان في موقف يهيّئه لإسداءِ أي عون إلى النبي، وإنما كان النبي يجد نفسه مضطراً إلى اعتزال التفكير في نفسه، والتهيؤ لإسداءِ العون إلى صاحبه، وتذكيره بأن آماله التي تبخرت بمرافقة النبي لا تعني خسارة، فمع النبي كل شيء، معه الماضي الميت منشوراً في المستقبل المتحفز، فلا حزن مع النبي:
(إذ يقول لصاحبه: لا تحزن) على ما فاتك، فـ: (إن الله معنا)، وهو كل شيء.
في هذه الأزمة الخانقة، نصر الله نبيه، فأنزل عليه قوتين:
1 - قوة روحية لمواجهة الأزمة بمعنوية أعلى من الأزمة:
(فأنزل الله سكينته عليه) حتى يتصرف - هو - في الأزمة فيديرها كما ينبغي، ولا تغمره الأزمة فتحجب رؤيته، وتدفعه إلى اتخاذ موقف مترجرج.
2 - قوة مادية دفعت (قريش) عن اقتحام الغار، بعدما تتبعت آثاره، واستهدت إلى الغار. ولعل فعل (العنكبوت) التي نسجت على فتحة الغار، وفعل (الحمام) الذي عش وباض عندها؛ كانا من مظاهر تلك القوة المادية:
(وأيده بجنود لم تروها).
وهكذا.. ألقى الله خطة الكافرين على الماء، فأحبط تآمرهم، وأعلن أن إرادتهم ساقطة مهزومة:
(وجعل كلمة الذين كفروا السفلى). وأما إرادة الله، فهي الإرادة العليا التي لا تطاول، مهما تكاتفت المكائد وتركزت: (وكلمة الله هي العليا) فلا يمكن أن ترجرج أو تهزهز.
(والله عزيز حكيم).
- 2 -
1 - إعطاء الدور الثانوي للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في لقطتين من لقطات هذه الآية، وإعطاء الدور الأول لصاحبه فيهما، رغم أن صاحب القضية هو النبي لا صاحبه؛ دلالة على أن القرآن أراد إبراز صاحب الرسول بهذه الصورة. فلقطات هذه الآية - كلها - مركزة على شخص الرسول:
(إلا تنصروه)، (فقد نصره الله)، (إذ أخرجه الذين كفروا)، (فأنزل الله سكينته عليه)، (وأيده بجنود لم تروها).
وهنالك لقطة مشتركة:
(إذ هما في الغار)، تمهيداً لانتقال العدسة إلى صاحبه. فارتكزت العدسة على صاحبه في داخل الغار:
(ثاني اثنين)، (إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا).
فالهجرة هي قضية الرسول وحده، ليس لصاحبه دور فيها. فالعدسة - في: أصل الهجرة، ومقدماتها، وتوابعها - مرتكزة على الرسول وحده. ولكن في داخل الغار، حيث توقفت حركة الهجرة مؤقتاً، لتتابع المسيرة بعد استراحة المهاجر؛ فإذا بالعدسة تنتقل إلى صاحب المهاجر، لتظهره حزيناً على تحقق الهجرة، والنبي ينهاه عن حزنه، ويحذره فإذا بالنبي ثاني الاثنين وصاحبه أول الاثنين، وإذا للنبي دور المعزي والناهي والمحذر وصاحبه صاحب القضية فهو حزين.
2 - إن النهي عن الخوف، يدل على:
أن الحزن لم يكن على النبي، وتألب المشركين عليه، وإلجائه إلى الهجرة. لأن مثل هذا الحزن، فضيلة لا ينهى النبي عنها.
ولم يكن الحزن على تركه بلده وأسرته خلفه، وهجرته - هو - تحت تأثير شخصية الرسول، وأمره بإتباعه. لأن الحزن على ترك البلد والأسرة، حزن مشروع أذن الله - تعالى - في القتال على أثره:
(أذن للذين يقاتلون، بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * والذين أُُخُرجوا من ديارهم بغير حق؛ إلا أن يقولوا: (ربنا الله)...) [سورة الحج: الآية 39 - 40]؛ فلا ينهى النبي عنه.
وعندما نجد أن النبي نهاه عن الحزن، وأقر الله نهي النبي فأثبته في القرآن؛ نعرف أنه كان حزناً غير مشروع يضع علامة الاستفهام على هذا الموقف من صاحب رسول الله. وإصرار القرآن على إبراز هذا الموقف، دون أن يكون موقفاً مشرفاً، يؤكد صحة علامة الاستفهام هذه.
3 - أن تكتيك النبي في هجرته، يرتكز على انفراده بالهجرة. فلم يخبر أياً من المسلمين بهجرته، ولم يستصحب - معه - أحداً من المقربين منه. حتى (أبا ذر) الذي كان مع النبي ساعة هجرته، وخرج مع النبي من داره؛ لم يستصحبه الرسول، وإنما أبقاه في مكة، وسار في الطريق وحده. و(أبو بكر) بالذات، لم يخبره الرسول بنيته الهجرة، ولا طلبه لمصاحبته في هجرته. ولكنه، عندما فوجئ به في الطريق، استخدم تكتيكاً آخر، فاستصحبه، بينما لم يستصحب حتى (أبا ذر). وهذا التكتيك الجزئي المغاير لتكتيكه العام، يضع علامة استفهام جديدة على هذا الشخص بالذات.
4 - النبي لم يكن حزيناً ونزلت عليه السكينة، وصاحبه كان حزيناً ولم تنزل عليه السكنية. رغم أن القرآن كلما ذكر نزول السكينة على النبي، عممها على من معه، كما عممها في قصة واقعة بدر:
(... فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين...).
5 - إن جملة (إن الله معنا): إن وردت بعد الأمر أو ما هو في مقام الأمر - كالتشجيع على شيءٍ - كانت للتطمين، كما لو ورد (قاتل، فإن الله معنا). وأما إذا وردت غبّ النهي أو ما هو في مقام النهي - كالشفير من شيءٍ - كانت للتحذير، كما لو ورد (لا تحزنِ، إن الله معنا)، أي: انتبه! فإن الله معنا، وهو يراقبنا، ويسجل حركاتنا، ويحاسبنا، ويعاقبنا عليها. وفي هذه الآية، وردت بعد النهي:
(لا تحزن، إن الله معنا)، فدلت على أن النبي نهاه عن حزنه، وحذّره بالله من متابعة هذا الحزن، أو الانطلاق من هذا الحزن في تحرك كان النبي يوجس صدوره منه، ويمنعه من القيام به. وهذا.. ما يضع علامة استفهام ثالثة على موقفه: لماذا كان حزيناً؟ وماذا كان النبي يتوجس منه؟
6 - تكتيك النبي في هجرته؛ أن لا يطلع المسلمون على هجرته، وأن لا يستصحب أحداً معه، لما يلي:
أ - حتى لا يتسرب الخبر بمكانه، أو مسيره إلى الطريق، فيزعجوه.
ب - أن يبقى المسلمون في داخل مكة ليثيروا المشاكل الداخلية على المشركين، أو يكون وجودهم في مكة تهديداً بإثارتها، حتى لا يرتاح بال المشركين إلى الداخل، فيوجهوا قوتهم للقضاء على النبي - ومن معه - في الطريق. والمسلمون غير مستعدين لقتال، فإبقاء المسلمين داخل مكة نوع من إلهاء المشركين بالداخل، حتى لا يسهل لهم الهجوم على المسلمين في الخارج. ولم يستثنى من هذا التكتيك عدى صاحب الغار، لسبب واحد هو: أن النبي فوجئ به في الطريق، ولم يكن وضعه كوضع أبي ذرّ، حتى يستطيع صرفه، والاستمرار في هجرته وحده، كما فعل بأبي ذرّ.
- 3 -
في ثلاث لقطات الأولى، العدسة مركزة على النبي (صلى الله عليه وآله) ولقضية هي قضية الهجرة، والمشاهد كما يلي:
- الرسول مطارد.
- الكفار يخرجونه من بلده.
- المسلمون يتخلون عن نصرته.
- الله يتدخل فينصره.
والرسول - في هذه المشاهد - هو البطل الذي تدور الأحداث من حوله، وله الدور الأول. وفجأة، وفي مضاعفات مشاهد الهجرة، تقفز قضية أخرى صغيرة ولكن حساسة، وهي قضية حزن صاحب الغار. فحجبت دور الهجرة، فتركزت العدسة عليه، وعطي للنبي دور ثانوي، وجاءت المشاهد:
- يبرز صاحب الغار، فيكون أول الاثنين، ويكون الرسول ثاني الاثنين.
- صاحب الغار حزين، والرسول يعزيه.
- الرسول ينهاه عن الحزن.
- الرسول يعده بأن الله معنا.
وبعد ذلك، تعود العدسة والأضواء لتتركز من جديد على رسول الله:
(فأنزل الله سكينته عليه...).
وهنا.. تتبادر أسئلة:
س1: على ماذا كان حزيناً؟
ج: لعله كان شريكاً في المؤامرة، فحزن على فشل المؤامرة.
س2: ما هو الذي يربط بين حزنه وبين قول النبي له - معزياً -: (إن الله معنا)؛ والحزين لا يعزى بمثل ذلك، إنما يعزى بمثله الخائف؟
ج: لعل النبي كان يريد أن يقول له: (إن أدوارك لا تنتهي بفشل المؤامرة، فلك جولات قادمة باسم الله والإسلام).
س3: صاحب الغار كان حزيناً والرسول معزياً، فلماذا أنزل الله سكينته على رسوله دون المعزى؟
ج: لعل حزنه كان يؤثر على مسيرة الهجرة، وتنقلب نتائجه على رسول الله الذي كان صاحب الهجرة؛ فطمأنه الله بأنه المناورة بالحزن لن تؤثر على مجرى الهجرة.
خواطري عن القرآن ـ ج2 ـ آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي
- 1 -
(إلا تنصروه) أيها المسلمون! فلا تظنوا إنكم تخذلونه بتخليكم عنه. فانتصاراته ليست من صنعكم، وإنما هي من صنع القوة المطلقة، من صنع الله الذي زوّده بقوة (الحكمة) في تصريف الأزمات، وبقوة (العسكرية السماوية): (جنود لم تروها). نصره في أحرج المواقف التي استبدت به في حياته. فهو منصور بالله، كنتم أو لم تكونوا حوله. والله الذي نصره يوم لم تكونوا معه، لا يتخلى عنه إذا تخليتم عنه. (فقد نصره الله) في أشد موقف يمكن أن يتصور، وكانت مواصفات ذلك الموقف كما يلي:
1 - كان مشرداً من وطنه: (إذ أخرجه الذين كفروا) من مكة موطنه: الذي سمع استهلاله وهو يعلن دخوله في حلبة الحياة. وشهد خطرات صباه وهو يسابق الريح، أو يتخطى الرقاب في جوار الكعبة حتى يطمئن إلى أحضان جده (عبد المطلب).
وسجل تلفتات فتوته وهو يرمي الأصنام المسندة فوق الكعبة بنظرات ازدراءٍ حيناً، ويلف أسياد مكة الذين يرتعون في مقدرات الجماهير بنظرات عارمة حيناً آخر، ويحتضن الجموع بالكوابيس والأغلال بنظرات إشفاق ثالثاً. وردد نبضات نبوته، وهي تخترق جدران السجون التي حصر الناس فيها مطامحهم، وتكسر الأغلال التي قيدوا بها مواهبهم.
إنه يودّع - بحسراته الملتهبة المكظومة - موطنه الذي: روّى رماله الظامئة بعاطفته الرقيقة. ونثر على روابيه المجندة حول الكعبة، ذكرياته وأفكاره وأحلامه؛ عن قيمة الإنسان، وكرامة الحق، وقدرة الإيمان بالله على الترفيع والتطوير. يترك - الآن - موطنه المفعم بأصداءه، بدون أبّهة أو هيبة، مع أحد أفراده، بشكل متواضع لا يميّزه عن صاحبه، حتى لو نظر إليهما ناظر لم يعرف لهما أولاً وثاني، وإنما كل واحد منهما أحد اثنين، وكل منهما (ثاني اثنين)، ماشيين على الأقدام، يخترقان الظلام، يختبئان في الهوينا، ويتوجسان في نقل أقدامهما عبر الرمال المتقلبة والصخور المتعجرفة؛ تاركاً عنفوان الظلام. اتجه إلى الصحراء، تاركاً كل رأسماله من الدنيا، وكل عدّته لرسالته: (علياً - فاطمة (عليهما السلام)) في بيت، ترعاه شفرات السيوف كالأهداب على العين، فلا ينبض قلبه إلا بومضة سيف حول قلبه، الذي حمل عاطفة قلبه وعصارة فكره: (علي - فاطمة (عليهما السلام)).
2 - كان محصوراً - هو وصاحبه - في (غار ثور):
(إذ هما في الغار)، بعيداً عن كل أقربائه وأنصاره، قريباً من كل الاحتمالات، أعزل بلا زاد أو راحلة.
3 - كان معزولاً، لا يجد حتى من صاحبه الذي معه، لا سلوة ولا كنفاً، وإنما كان صاحبه بحاجة إلى سلوته وكنفه:
(إذ يقول لصاحبه: لا تحزن)، فصاحبه حزين يشعر بأنه خسر كل آماله. وصاحبه لم يكن خائفاًً وإنما كان حزيناً، لأن الخوف هو توقع مكروه لم يقع، والحزن هو التفجيع على مكروه قد وقع، فمن يخشى أن ينكل به عدوه فهو خائف، وإذا نكل به عدوه حزن على معاناته. وقد كان موسى بن عمران خائفاً (يوم الزينة) فقال الله له:
(لا تخف، إنك أنت الأعلى) [سورة طه: الآية 68]، لأنه كان يخشى تنكيل (فرعون).
وكان صاحب النبي حزيناً في الغار، فقال النبي له:
(لا تحزن، إن الله معنا)، لأنه كان يعاني خسارة ثمار جهوده السابقة. فما كان في موقف يهيّئه لإسداءِ أي عون إلى النبي، وإنما كان النبي يجد نفسه مضطراً إلى اعتزال التفكير في نفسه، والتهيؤ لإسداءِ العون إلى صاحبه، وتذكيره بأن آماله التي تبخرت بمرافقة النبي لا تعني خسارة، فمع النبي كل شيء، معه الماضي الميت منشوراً في المستقبل المتحفز، فلا حزن مع النبي:
(إذ يقول لصاحبه: لا تحزن) على ما فاتك، فـ: (إن الله معنا)، وهو كل شيء.
في هذه الأزمة الخانقة، نصر الله نبيه، فأنزل عليه قوتين:
1 - قوة روحية لمواجهة الأزمة بمعنوية أعلى من الأزمة:
(فأنزل الله سكينته عليه) حتى يتصرف - هو - في الأزمة فيديرها كما ينبغي، ولا تغمره الأزمة فتحجب رؤيته، وتدفعه إلى اتخاذ موقف مترجرج.
2 - قوة مادية دفعت (قريش) عن اقتحام الغار، بعدما تتبعت آثاره، واستهدت إلى الغار. ولعل فعل (العنكبوت) التي نسجت على فتحة الغار، وفعل (الحمام) الذي عش وباض عندها؛ كانا من مظاهر تلك القوة المادية:
(وأيده بجنود لم تروها).
وهكذا.. ألقى الله خطة الكافرين على الماء، فأحبط تآمرهم، وأعلن أن إرادتهم ساقطة مهزومة:
(وجعل كلمة الذين كفروا السفلى). وأما إرادة الله، فهي الإرادة العليا التي لا تطاول، مهما تكاتفت المكائد وتركزت: (وكلمة الله هي العليا) فلا يمكن أن ترجرج أو تهزهز.
(والله عزيز حكيم).
- 2 -
1 - إعطاء الدور الثانوي للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في لقطتين من لقطات هذه الآية، وإعطاء الدور الأول لصاحبه فيهما، رغم أن صاحب القضية هو النبي لا صاحبه؛ دلالة على أن القرآن أراد إبراز صاحب الرسول بهذه الصورة. فلقطات هذه الآية - كلها - مركزة على شخص الرسول:
(إلا تنصروه)، (فقد نصره الله)، (إذ أخرجه الذين كفروا)، (فأنزل الله سكينته عليه)، (وأيده بجنود لم تروها).
وهنالك لقطة مشتركة:
(إذ هما في الغار)، تمهيداً لانتقال العدسة إلى صاحبه. فارتكزت العدسة على صاحبه في داخل الغار:
(ثاني اثنين)، (إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا).
فالهجرة هي قضية الرسول وحده، ليس لصاحبه دور فيها. فالعدسة - في: أصل الهجرة، ومقدماتها، وتوابعها - مرتكزة على الرسول وحده. ولكن في داخل الغار، حيث توقفت حركة الهجرة مؤقتاً، لتتابع المسيرة بعد استراحة المهاجر؛ فإذا بالعدسة تنتقل إلى صاحب المهاجر، لتظهره حزيناً على تحقق الهجرة، والنبي ينهاه عن حزنه، ويحذره فإذا بالنبي ثاني الاثنين وصاحبه أول الاثنين، وإذا للنبي دور المعزي والناهي والمحذر وصاحبه صاحب القضية فهو حزين.
2 - إن النهي عن الخوف، يدل على:
أن الحزن لم يكن على النبي، وتألب المشركين عليه، وإلجائه إلى الهجرة. لأن مثل هذا الحزن، فضيلة لا ينهى النبي عنها.
ولم يكن الحزن على تركه بلده وأسرته خلفه، وهجرته - هو - تحت تأثير شخصية الرسول، وأمره بإتباعه. لأن الحزن على ترك البلد والأسرة، حزن مشروع أذن الله - تعالى - في القتال على أثره:
(أذن للذين يقاتلون، بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * والذين أُُخُرجوا من ديارهم بغير حق؛ إلا أن يقولوا: (ربنا الله)...) [سورة الحج: الآية 39 - 40]؛ فلا ينهى النبي عنه.
وعندما نجد أن النبي نهاه عن الحزن، وأقر الله نهي النبي فأثبته في القرآن؛ نعرف أنه كان حزناً غير مشروع يضع علامة الاستفهام على هذا الموقف من صاحب رسول الله. وإصرار القرآن على إبراز هذا الموقف، دون أن يكون موقفاً مشرفاً، يؤكد صحة علامة الاستفهام هذه.
3 - أن تكتيك النبي في هجرته، يرتكز على انفراده بالهجرة. فلم يخبر أياً من المسلمين بهجرته، ولم يستصحب - معه - أحداً من المقربين منه. حتى (أبا ذر) الذي كان مع النبي ساعة هجرته، وخرج مع النبي من داره؛ لم يستصحبه الرسول، وإنما أبقاه في مكة، وسار في الطريق وحده. و(أبو بكر) بالذات، لم يخبره الرسول بنيته الهجرة، ولا طلبه لمصاحبته في هجرته. ولكنه، عندما فوجئ به في الطريق، استخدم تكتيكاً آخر، فاستصحبه، بينما لم يستصحب حتى (أبا ذر). وهذا التكتيك الجزئي المغاير لتكتيكه العام، يضع علامة استفهام جديدة على هذا الشخص بالذات.
4 - النبي لم يكن حزيناً ونزلت عليه السكينة، وصاحبه كان حزيناً ولم تنزل عليه السكنية. رغم أن القرآن كلما ذكر نزول السكينة على النبي، عممها على من معه، كما عممها في قصة واقعة بدر:
(... فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين...).
5 - إن جملة (إن الله معنا): إن وردت بعد الأمر أو ما هو في مقام الأمر - كالتشجيع على شيءٍ - كانت للتطمين، كما لو ورد (قاتل، فإن الله معنا). وأما إذا وردت غبّ النهي أو ما هو في مقام النهي - كالشفير من شيءٍ - كانت للتحذير، كما لو ورد (لا تحزنِ، إن الله معنا)، أي: انتبه! فإن الله معنا، وهو يراقبنا، ويسجل حركاتنا، ويحاسبنا، ويعاقبنا عليها. وفي هذه الآية، وردت بعد النهي:
(لا تحزن، إن الله معنا)، فدلت على أن النبي نهاه عن حزنه، وحذّره بالله من متابعة هذا الحزن، أو الانطلاق من هذا الحزن في تحرك كان النبي يوجس صدوره منه، ويمنعه من القيام به. وهذا.. ما يضع علامة استفهام ثالثة على موقفه: لماذا كان حزيناً؟ وماذا كان النبي يتوجس منه؟
6 - تكتيك النبي في هجرته؛ أن لا يطلع المسلمون على هجرته، وأن لا يستصحب أحداً معه، لما يلي:
أ - حتى لا يتسرب الخبر بمكانه، أو مسيره إلى الطريق، فيزعجوه.
ب - أن يبقى المسلمون في داخل مكة ليثيروا المشاكل الداخلية على المشركين، أو يكون وجودهم في مكة تهديداً بإثارتها، حتى لا يرتاح بال المشركين إلى الداخل، فيوجهوا قوتهم للقضاء على النبي - ومن معه - في الطريق. والمسلمون غير مستعدين لقتال، فإبقاء المسلمين داخل مكة نوع من إلهاء المشركين بالداخل، حتى لا يسهل لهم الهجوم على المسلمين في الخارج. ولم يستثنى من هذا التكتيك عدى صاحب الغار، لسبب واحد هو: أن النبي فوجئ به في الطريق، ولم يكن وضعه كوضع أبي ذرّ، حتى يستطيع صرفه، والاستمرار في هجرته وحده، كما فعل بأبي ذرّ.
- 3 -
في ثلاث لقطات الأولى، العدسة مركزة على النبي (صلى الله عليه وآله) ولقضية هي قضية الهجرة، والمشاهد كما يلي:
- الرسول مطارد.
- الكفار يخرجونه من بلده.
- المسلمون يتخلون عن نصرته.
- الله يتدخل فينصره.
والرسول - في هذه المشاهد - هو البطل الذي تدور الأحداث من حوله، وله الدور الأول. وفجأة، وفي مضاعفات مشاهد الهجرة، تقفز قضية أخرى صغيرة ولكن حساسة، وهي قضية حزن صاحب الغار. فحجبت دور الهجرة، فتركزت العدسة عليه، وعطي للنبي دور ثانوي، وجاءت المشاهد:
- يبرز صاحب الغار، فيكون أول الاثنين، ويكون الرسول ثاني الاثنين.
- صاحب الغار حزين، والرسول يعزيه.
- الرسول ينهاه عن الحزن.
- الرسول يعده بأن الله معنا.
وبعد ذلك، تعود العدسة والأضواء لتتركز من جديد على رسول الله:
(فأنزل الله سكينته عليه...).
وهنا.. تتبادر أسئلة:
س1: على ماذا كان حزيناً؟
ج: لعله كان شريكاً في المؤامرة، فحزن على فشل المؤامرة.
س2: ما هو الذي يربط بين حزنه وبين قول النبي له - معزياً -: (إن الله معنا)؛ والحزين لا يعزى بمثل ذلك، إنما يعزى بمثله الخائف؟
ج: لعل النبي كان يريد أن يقول له: (إن أدوارك لا تنتهي بفشل المؤامرة، فلك جولات قادمة باسم الله والإسلام).
س3: صاحب الغار كان حزيناً والرسول معزياً، فلماذا أنزل الله سكينته على رسوله دون المعزى؟
ج: لعل حزنه كان يؤثر على مسيرة الهجرة، وتنقلب نتائجه على رسول الله الذي كان صاحب الهجرة؛ فطمأنه الله بأنه المناورة بالحزن لن تؤثر على مجرى الهجرة.
خواطري عن القرآن ـ ج2 ـ آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي