بسم الله الرحمن الرحيم
مراحل التعلم
يبدأ مجتمع المخلوقات ما بين إنسان وبهيمة وطير بفطرته التي فطره الله عليها؛ في أول مراحل التفكير؛
لا تفاوت يذكر بينهم، حيث نرى الفرد من هذه المخلوقات يكون انطباعاته الحسية ويسترجعها متى ما أراد
وأين ما أراد ذلك. وتمر هذه الانطباعات بنفس المراحل الأولية في تحصيل المعارف إلى أن يفرق العقل
بين مستوى التفكير لكل حيوان.
مرحلة الحس:
لا غرابة من فعل البهيمة التي تـُولدُ للتو، إذ تسارع إلى ثدي أمها لتنهل من حليبها، ولا تخطيء في اتباع
غير الأم، لأن الله وهبها هذه الفطرة المتمثلة بالعلم الحاضر لدى هذه البهيمة، وهذا العلم لا يحتاج
إلى تجربة مسبقة لتحصيله، فقط عن طريق الحواس يحس الحيوان ـ بالفطرة ـ بما حوله،
وهذا الإحساس يمثل مادة العلم الأولى.
ولا يفرق الآدمي من غيره من بقية الحيوانات بهذه الميزة. إذ يتصرف الحيوان بأجناسه المختلفة
في هذه المرحلة ذات التصرف في التفكير. فكما يحس الطفل البشري بالألم يحس صغير البهيمة
وفرخ الطير بالألم، وكما يشعر طفل البشر بحضور أمه لديه يشعر صغير الحيوان وفرخ الطير
بذات الشعور، والدليل على ذلك لو غابت الأم عن عين الطفل مع وجودها في مكان قريب منه
ولكن لا يراها فإنه يبكي، كذلك صغار الحيوانات عندما تتوه عن أمها فإنها تطرب ولا تتصرف باطمئنان،
وعند لقائها الأم فإنها تتبعها مطمئنة.
مرحلة الخيال:
بعد ما يكبر الحيوان تزداد عنده سعة الحس ويستطيع أن يسجل الإحساسات ويسترجعها
متى ما أراد، فالبشر والبهائم والطيور تستطيع أن تعود إلى المكان الذي ألفته، فصغارنا تذهب للدكاكين
لشراء الحلوى وتعود إلى البيت، وكذلك صغار البهائم تترك أمها لتلهو وتلعب بعيداً ثم تعود
إلى أمها المعقولة عند الإنسان لأنها سجلت صورة المكان عندها، وحتى الإنسان لا يرى
حاجة في ربط صغير البهيمة بجوار أمه لأنه ضمن عودته للأم.
ونرى الطيور الداجنة إذا جن عليها الليل تقطن كل منها في زاوية من منزلها الذي نزلت فيه
لا تتعدى على حقوق غيرها من الطيور، فكل طير يبيت في نفس المكان ذاته في كل ليلة
. وأوضح من هذا وذاك، الحمام الزاجل الذي يطير مسافات طويلة ليعود لنفس النقطة التي
انطلق منها. ونرى هجرة الطيور، إذ تهاجر الطيور الموسمية في العام إلى نفس المناطق في العالم،
والغريب في الأمر أنها تورث صيصانها نفس الرحلة.
كل ذلك لأن الحيوان استرجع صورة الطريق الذي مشى فيه والمكان الذي مكث فيه،
بل والسماء التي طار فيها.
مرحلة الوهم:
وهي مرحلة متطورة بالنسبة للخيال، فالخيال هو استرجاع الصور بينما الوهم هو استرجاع
المعاني، فالخوف من الوحش والهروب منه مثلاً، معنً يشعر به كل الحيوانات.
يسترجع الإنسان معنى الخوف ومعنى الكره والبغض والشعور بالسعادة والضجر.
كل هذه الإحساسات يعلم كيف هي في حال غيابها. لكن البهيمة والطير هل يسترجع المعاني هذه أم لا؟
نرى في بعض الأحيان عندما نفاجئ الخيل مثلاً تجده يطرب خوفاً، لكن برهة قليلة من الزمن،
فما إن ينتبه أن الموقف غير مخيف فيبدأ بالتصرف باطمئنان وسكينة. ويدرس بعض حراس
الغابات بعض تصرفات البهائم حتى الوحوش منها، فينصحوا بعدم إخافة الحيوان لكي لا يبدي
ردة فعل شرسة. كل ذلك لأن البهيمة تسترجع المعنى المحفوظ في ذاكرتها وتتصرف على أساسه
، فإذا شعر بالمعنى المخيف تصرف على أساس ذلك المعنى من ردة فعل عنيفة لا تحمد عقباها.
إذا لا يفرق البهيمة والطير عن الإنسان في هذه المراحل من التفكير، إذ كما يسترجع
الإنسان المعاني في ذهنه كذلك بقية الحيوانات تسترجعها أيضاً. «يعني حاله حال إمباعوه»
مرحلة المتخيلة:
إليك هذه الصفات لشخص ما، ربما تعرفه ورأيته في التلفزيون، أو في موقع إلكتروني
أو غير ذلك، وهذه الصفات كالتالي:
فائق الطول، أبيض اللون، خفيف اللحية، طويل الحاجبين، منتفخ الخدين، صغير الأنف،
عظيم الشفتين، لا شارب له، صغير الصدر، كبير البطن، قصير الأرجل.
هل حضرت في عقلك صورة ما؟
إذا كان الجواب: نعم فحافظ على هذه الصورة في ذاكرتك.
إذا كان الجواب: لا، فتخيل صورة أخرى قريبة من تلك الصفات.
بغض النظر عن مستوى تطابق الوصف مع الصورة المتخيلة، فإن الواصف يقصد شخصاً معيناً،
بينما السامع يشرق ويغرب في تجميع الصورة، فعند ذكر صفة مفردة تحضر صورة شخص لديه
وربما يكون معروف لدى السامع أو غير معروف، وعند إضافة صفة أخرى إليها ربما اتضحت
الصورة أكثر أو تبدلت إلى شخص آخر، وهكذا إلى أن تتحد كل الصفات لتنتج صورة شبه ثابتة
في العقل. وعادة يحاول العقل أن يجعل الصورة المتخيلة تتطابق مع أي صورة محفوظة لديه.
إن ما يقوم السامع بتخيله وهو يسمع الصفات ما هو إلا متخيلة ينشئها عقله، وهي ليست خيال
بالمعنى الذي قصدناه في مرحلة الخيال، بل هي مرحلة متطورة بالنسبة للخيال والوهم وتطلق
عليها المتخيلة أو المتصرفة، إذ أن الإنسان يتصرف عقله بما يظن أنه واقع وقد يصيب وقد
يخطئ، ويبدو لي أنها لا تندرج تحت مراحل العلم لأن منشأها على أساس غير معرفي،
لأن السامع لم يرى الشخص الموصوف من قبل أو لم يعرف من هو المقصود ليستحضر صورته
لذلك ينشأ عقله صوراً من مخيلته ليست على أساس المعرفة.
بهذه المرحلة من التفكير«مرحلة المتخيلة» يتقدم الإنسان على غيره من بقية الحيوانات،
لأن البهائم والطيور لا يتصرف عقولها كتصرف عقل الإنسان، وإن تصرف فالتصرف محدود،
علاوة على أنه لا يمكن الجزم بأن غير عقل الإنسان يتصرف بالخيال والوهم. فتبقى بقية
الحيوانات تدبر شئون حياتها بالإحساسات الأولية، بينما الإنسان يتفوق عليها بتصرفاته العقلية
وإحساساته المتطورة.
الحاسة السادسة «الحدس»:
ما علاقة الحاسة السادسة بالعلم؟
وهل هي مادة أولى للعلم، أم نتيجة علمية؟
يعرف العلم بأنه تصور وتصديق، والتصور يسبق التصديق، والتصور هو ما يحضر من أمور
نراها أو أمور نسترجعها مروراً بمراحل التعلم السابقة، والتصديق هو رضوخنا للصورة التي
رأيناها أو استرجعناها على أنها هي الواقع بعينه. كنظرنا للشمس بعينها ثم تصديقنا بأنها هي
الشمس وليست غير الشمس. أو استرجاعنا وتذكرنا لصورة الشمس ليلاً، فإنه يحضر لدينا
علم بأن هذه الصورة التي حضرت في عقولنا هي صورة الشمس بعينها وليست غيرها.
هذا هو العلم: صورة ثم تصديق، فإذا كانت مراحل تحصيل العلم بالمقلوب،
أي تصديق ثم صورة فهذا أمر عجيب.
الحاسة السادسة أو الحدس هي إدراك معه تصديق ثم صورة، فكيف يحدث هذا؟
جاء في لسان العرب: الحَدْسُ التوهم في معاني الكلام والأُمور؛ بلغني عن فلان أَمر
وأَنا أَحْدُسُ فيه أَي أَقول بالظن والتوهم.
وحَدَسَ عليه ظنه يَحْدِسه ويَحْدُسُه حَدْساً: لم يحققه.
وهذا المعنى الصحيح للحدس أو الحاسة السادسة كما يسمى، إذ أنه لا يعدو من كونه
توهماً وظنوناً تخطيء وتصيب، وما أكثر خطأها.
العقل هبة الله للبشر
أ» العقل عند الوليد لا يعمل
إنها رحمة الله بنا، تخيل نفسك في كرة من الجلد مع الدماء والمصران وتحوطك الظلمة
بينما تسمع الأصوات خارجها، فتارة صوت مزعج مخيف، وتارة صوت ناعم لطيف.
كيف ستتجاذب عندك الاحساسات، فمرة تشعر بالخوف ومرة تشعر بالفرح ومرة لا تدري
ما الشعور الذي تدركه.
وقوله تعالى: ﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴾ يدل على أن الله سبحانه وتعالى
بحكمته جعل عمل السمع والأبصار والعقول بعد الولادة تدريجياً وآخرها العقل. فلو أن العقل
يعمل في بدء خلق الإنسان فسوف يسجل كل ما مر به من مراحل خلقه. فسوف يحس ثم يتخيل
ثم يتوهم، بل وسوف يتصرف عقله بهذه الإحساسات والخيالات والوهم.
والإنسان لا يذكر شيئاً من تاريخ طفولته المبكرة، لأن الصور والأصوات لم تحفظ في ذاكرته
بعد، بل حتى الألم الذي شعر به لا يذكره، فلا يذكر وخز الإبر ولا آلام الأمراض ولا جرح السرة.
لا يذكرها لأنها لم تكن علم حصّله وحفظه، بل هو علم بديهي لا يحتاج لأن يتعقله العاقل،
بل حتى غير العاقل يدرك هذا العلم.
ب» العقل الرشيد
الرشد بالضم والضمتين:
إصابة وجه الأمر ومحجة الطريق ويقابله الغي،
فهما أعم من الهدى والضلال.
وفي لسان العرب: "الرُّشْد والرَّشَد والرَّشاد: نقيض الغيّ.
رَشَد الإِنسان، بالفتح، ويَرْشُد رُشْداً بالضم، ورَشِد بالكسر،
يَرْشَد رَشَداً ورَشاداً، فهو راشِد ورَشيد،
وهو نقيض الضلال، إذا أَصاب وجه الأَمر والطريق"
والرشد أعلى مراتب العقل بعد الوازع والمدرك والحكيم، فالعقل الوازع هو ما يحرك الغرائز،
والعقل المدرك ما يحرك الحواس، والحكمة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني الرشد، وهو مقابل لتمام التكوين في العقل الرشيد،
ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم، لأنها استيفاء لجميع
هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال.
وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة،
ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك.
لذلك بمجرد ما يبلغ الإنسان وينضج يدرك بعقله تمام العلم لذا فهو محاسب على
كل صغيرة وكبيرة، فكلما طال عمر الإنسان زادت إدراكاته للعلوم وسجل عقله علوماً أكثر،
حتى إذا حانت نهاية الإنسان وتوفاه الله تحضر كل العلوم لديه، ويلهمه الله الفطرة
على كل العلوم ويحصل له اليقين الذي لا يزداد أبداً.
المصدر :
http://64.246.58.165/artc.php?id=18472