مقال من مجلة الانتظار الصادرة عن مركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف
مدّعو المهدوية
مهدي السلفية التكفيرية
وحركة جهيمان العتيبي
الدكتور حسين سامي شير علي
كلية الشيخ الطوسي الجامعة/ النجف
مع بزوغ غرة محرم الحرام من العام 1400 هـ الموافق 20 نوفمبر 1979م دخل المدعو جهيمان العتيبي مع ما يقارب المئة من أصحابه الى المسجد الحرام في مكة المكرمة لأداء صلاة الفجر، وكانوا يحملون نعوشاً، وأوهموا حراس المسجد الحرام إنها نعوشاً لموتى، وسيصلّون عليها صلاة الميت بعد صلاة الفجر، وفي الحقيقة أن هذه النعوش لم تكن إلاّ مخازن للأسلحة الرشاشة وذخائرها.
وما أن انفضت صلاة الفجر حتّى قام جهيمان وصهره المدعو محمّد بن عبد الله القحطاني أمام المصلين في المسجد الحرام ليعلنوا للناس نبأ المهدي المنتظر وفراره من أعداء الله واعتصامه في المسجد الحرام، وقد قدّم جهيمان صهره القحطاني بأنه المهدي المنتظر مجدد هذا الدين في ذلك اليوم من بداية القرن الهجري الجديد!!
ثم قام جهيمان وأتباعه بمبايعة (المهدي المنتظر) بين الركن والمقام، وطلب من جموع المصلين مبايعته، وأوصد أبواب المسجد الحرام، ووجد المصلّون أنفسهم محاصرين داخل المسجد بما فيهم النساء والأطفال.
وفي الوقت نفسه كانت هناك مجاميع أخرى من أتباعه يقومون بتوزيع منشورات ورسائل وكتيبات كان جهيمان قد أعدّها مسبقاً في السعودية وبعض دول الخليج.
وبعد ثلاثة أيام أُخلي سبيل النساء والأطفال، وبقي كمّ لا بأس به من المحتجزين في داخل المسجد.
حاولت الحكومة السعودية منذ اللحظات الأولى حلّ هذه المشكلة ودياً مع جهيمان بالاستسلام والخروج من الحرم وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين، إلاّ أنه رفض.
عطّلت الصلاة والمناسك في البيت الحرام، وتبادل الطرفان اطلاق النيران الكثيفة، وأصاب المسجد ضرر بالغ جراء هذه الأحداث، وعندما نفد صبر الحكومة السعودية، تدافعت قواتها معزّزة بقوات الكوماندوز في هجوم شامل على الحرم استخدمت فيه تقنيات عسكرية جديدة وخبرات أجنبية لم يعهدها جهيمان وأتباعه، فسقط منهم الكثير، وكان ممن سقط قتيلاً صهره محمّد بن عبد الله القحطاني الذي كانوا يدّعون أنه المهدي المنتظر، وبسقوطه قتيلاً صدم أتباع جهيمان صدمة كبيرة، فهم كانوا يعتقدون أنه لا يموت، فبدأوا بالانهيار والاستسلام تباعاً، وسلَّم جهيمان نفسه ومن بقي من أتباعه.
بعد فترة وجيزة صدر حكم المحكمة بإعدام 61 شخصاً من أفراد الجماعة، وكان جهيمان من ضمن قائمة المحكومين بالاعدام، لتنتهي بذلك قصة أول حادث للتطرف الديني يسجّل في السعودية.
سيرة زعماء الحركة:
عمل جهيمان بن محمّد بن سيف العتيبي موظفاً في الحرس الوطني السعودي لمدة ثمانية عشر عاماً، درس الفلسفة الدينية في جامعة مكة المكرمة الاسلامية، وانتقل بعدها الى الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة، وفي المدينة المنورة التقى جهيمان بشخص يدعى (محمّد بن عبد الله القحطاني) وهو أحد تلامذة الشيخ عبد العزيز بن باز.
توطّدت العلاقة بين الرجلين، خاصة أنهما إلتقيا فكرياً في العديد من الرؤى الايدلوجية المتطرفة، من حيث تكفير الدولة، بل وتكفير المجتمع بأكمله، والتزمّت الشديد مما أدى الى اعتزالهما المجتمع ورفض معالمه المدنية من راديو وتلفزيون وصحافة... وغيرها. ومما زاد في تقاربهما زواج القحطاني بشقيقة جهيمان العتيبي.
بدأ جهيمان وصهره بنشر أفكارهما المنشودة التي تعدّ كل ما هو جديد من البدعة والخروج عن الدين، بشكل سري وعلى نطاق ضيق في بعض المساجد الصغيرة في المدينة المنورة، ومن ثم فقد لقيت هذه الأفكار صدىً إيجابياً عند البعض، وأخذت الجماعة التي أسّسها جهيمان تكبر، حتّى وصل عدد أفرادها إلى الآلاف.
ولم يدّخر جهيمان وجماعته جهداً في معاداة الأنظمة الحاكمة لأنها لا تحكم بشرع الله، وكان هذا جلياً في الرسائل التي كتبها بنفسه أو من قبل أتباعه، كما يؤمن بهجر المجتمع ووسائله المدنية والانعزال عنه، نظراً لتفشي الفساد والرذيلة في المجتمع وبُعده عن الصراط المستقيم، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر يرى جهيمان وأتباعه ضرورة عدم موالاة الأنظمة التي لا تحكم بشرع الله ولا تنتهي بنواهيه.
يروي الشيخ فلاح إسماعيل مندكار بعض سيرة القحطاني وهو ممّن التقى به:
(كنت أعرف محمّد بن عبد الله القحطاني معرفة شخصية، وقد زارني في منزلي في الكويت عدة مرات، وكان حافظاً للقرآن، وكان رجلاً زاهداً وبكّاء، لا يستطيع أن يمسك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، وكان رحمه الله حافظاً للبخاري ومسلم، وكان شيخاً صاحب علم، ولكنه افتتن بالرؤيا حيث كان يأتيه الناس من المشرق ومن المغرب ويقولون إنك أنت المهدي المنتظر، وكان هذا الموضوع يضايقه رحمه الله، ودخل عليه الشيطان من هذا الطريق نسأل الله السلامة والعافية، وعندما سألت شيخي الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله في وقتها حول هذا الموضوع ومدى صحته، ردّ رداً قوياً وقال لي: منذ متى ونحن نأخذ الشريعة من الأحلام والرؤيا، نحن نأخذ شريعتنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله وسلم .... أما جهيمان فهو كان من طلبة الشيخ ابن باز، وكان الشيخ ابن باز له منزل في المدينة أيام كان رئيساً للجامعة الاسلامية أعطته إياه الحكومة لكي ينشر العلم فيه، وكان هذا المنزل ينافس الجامعة الإسلامية من حيث نشر العلم، فكان العلماء الكبار يقيمون فيه الدروس أمثال الشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ الشنقيطي، ـ والحديث لا زال للشيخ فلاح ـ وكان الشيخ ابن باز يقوم بابتعاث الطلبة الذين يحضرون الدروس في هذا المنزل كل عطلة نهاية الاسبوع إلى القرى المجاورة لنشر العلم للعوام، وكان من الذين يبعثهم جهيمان العتيبي الذي أعطاه الشيخ ابن باز المنزل بما فيه مع زملائه الطلبة لكي يستلموا مهمة نشر العلم في هذا المنزل، وبدأت الفتنةعندما أتى جهيمان ثلاثة أشخاص من إحدى دول شمال افريقيا وهم يحملون فكر التكفير، وكان جهيمان مستاءً من بعض الأمور التي بالدولة ويقال أنّ أحدها دخول التلفزيون على السعودية، فاستطاعوا أن يُلقوا الشبه في قلب جهيمان.
وعندما علم جهيمان بخبر القحطاني رتّب كل شيء من الرجال والأسلحة والطلبة لكي يبايعه في مكّة وأمام الناس، وكان هذا الأخير متردداً، ولكن وهو في الطريق الى مكة ذهب الى قرية لكي يستريح هو بها ومن معه وهو ذاهب الى البئر لكي يأتي لأصحابه بالماء، فإذا بامرأة عجوز واقفة تنظر إليه نظرة التفحص، وقالت له: أأنت محمّد بن عبد الله؟ قال: نعم يا أماه، هل من حاجة؟؟ قالت: والله إني رأيتك في المنام أنك أنت الذي في مكة تحرر الناس وأنت المهدي المنتظر!!
ففكر القحطاني في نفسه قائلاً: منطقة أول مرة آتها وامرأة عجوز لم أرها في حياتي تعرفني وتعرف اسمي وتقول لي أنت المهدي المنتظر؟؟ والله أعلم أن هذه المرأة شيطان يلبس عليه الأمر.
وقال لي ـ والحديث لا يزال للشيخ فلاح ـ بعض الأشخاص الذين كانوا في الفتنة أنه حصل خلاف بين محمّد بن عبد الله القحطاني وجماعته في اليوم السادس بعد احتلال الحرم، حيث علم محمّد أن هذه فتنة وأنه ليس المهدي المنتظر، وقال: يجب أن نسلّم أنفسنا للسلطة، ورفض أحد الأفغان الذين كانوا معه، وقُتل في وقتها، لأن القوات لما دخلت الحرم وجدت جثة القحطاني متعفنة وهو مقتول من أول أحداث الفتنة والله أعلم... والشاهد عندما ألقي القبض على جهيمان أو سلّم نفسه لا أعلم... حاولت وزارة الداخلية أن تأخذ منه أي معلومة فلم يتكلّم بأي كلام، حتّى أتوه ببعض مشايخ المدينة وعلى رأسهم الشيخ الشنقيطي رحمه الله، وعندما رآهم جهيمان احتضن الشيخ وقام يبكي بكاء شديداً، وقال له الشيخ: يا جهيمان أنا لدي أسئلة من وزارة الداخلية أوصوني بها، ولكن أريد أن أسئلك: لماذا فعلت هذا؟ فردّ عليه قائلاً: يا شيخ ان هذه فتنة وقعنا بها، واحمدوا الله أنه أنجاكم منها، وادعوا لنا الله عسى أن يغفر لنا ويتوب علينا، ثم سكت وبعد يومين اقتص منه.
وعندما سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن جهيمان كان يترحم عليه ويقول: إن جهيمان ليس بصاحب أفكار ومعتقدات الخوارج ولكنه افتتن بهذه الحادثة، ونسأل الله أن يرحمه).
الجذور الفكرية للحركة:
من الواضح من خلال السرد التأريخي الذي قدمه لنا بعض المعاصرين لحادث اقتحام الحرم المقدس أنّ الدور الذي قام به القحطاني هو دور شخص بسيط لا يمتلك من القواعد الفكرية الرصينة أو الشخصية القوية ذات الأبعاد الفكرية الواضحة شيئاً، وإنما كان مجرد أداة استخدمها جهيمان لتنفيذ أغراض سياسية، متحصناً خلف رواية سنية ضعيفة تصف قدوم المهدي المنتظر وأنه من آل بيت الرسول صلى الله عليه واله وسلم واسمه محمّد واسم أبيه عبد الله، يلوذ بالمسجد الحرام هرباً من أعداء الله.
وقد اكتملت أطراف المعادلة في ذهن جهيمان باقتراب حلول القرن الهجري الجديد وبصهر يسمى محمّد بن عبد الله رأى في منامه إنه هو المهدي المنتظر وانه سوف يحرر الجزيرة العربية والعالم كله من الظالمين، ولم يكن ينقص المعادلة الا بيت الله الحرام ليلوذ اليه المهدي وهذا ما تمّ فيما بعد كما سبق.
وهكذا كان دور المهدي في هذه المعادلة دوراً ثانوياً تكميلياً، اذ لم يكن يمتلك زمام المبادرة والقيادة أولاً، ولم يكن متسلحاً بعقيدة راسخة بالقضية المهدوية حيث ان الأمر لا يعدو الرؤيا، ولذلك كان متردداً بين الاقدام والتراجع في حين كان بعض اسلافه من الأدعياء نجحوا بفضل إقدامهم وجرأتهم على تأسيس دول وانشاء حكومات دامت قروناً من الزمان، ومن ثم فقد تراجع لدى أول تهديد بالخطر مما أدى إلى قتله سريعاً. وبذلك انهارت عقيدة المعتقدين بمهدويته من الاتباع وانتهى كل شيء في ساعات معدودة.
أما جهيمان ففي الواقع إنه اضطلع بدور رئيس في هذه الحركة من الناحيتين الفكرية والسياسية، فلم تكن حركته مجرد فكرة طارئة على الساحة الدينية كما هو حال الجماعات الاسلامية اليوم، وإنما كانت امتداداً لتيار الإخوان القديم الذي قامت على أكتافه دولة آل سعود الثانية حيث تبنى جهيمان طرح الإخوان المعادي للواقع وكلّ ما هو حديث، فرفض التصوير وجهاز التلفزيون والإذاعة والصحف وكتب المعاصرين، واعتبرها جميعاً من البدع، وأجاز تقصير الثياب وإطالة اللحى والصلاة بالنعال في المساجد، والشيء الوحيد الذي ميّز جهيمان عن الإخوان هو تبنّي جهيمان فكرة المهدي وإعلان ظهوره من بين أفراد الجماعة، ورغم أنّ رسائله التي تحدد فكر الجماعة ومنطلقاتها تكشف لنا عن موقفٍ معادٍ للحكم السعودي وللفقهاء المتحالفين معه، الاّ ان هذا الموقف لا يعكس بُعداً سياسياً في حركة الجماعة، فهي بعيدة كل البعد عن هذا الجانب.
وكل ما في الأمر أن هذه الجماعة انشقّت عن الخط السلفي الوهّابي السائد وتبنّت أطروحة أكثر تشدداً وانغلاقاً في مواجهة الواقع، مما أدى إلى وقوع تناقضات واضحة في فكر الجماعة وأهدافهم المتمثلة بالمجتمع الذي يعمل بما أنزل الله وبين اعتزال الجماعة للمجتمع المراد تغييره، ومن جهة أخرى فقد تبنّت هذه الجماعة القول بعلامات وفتن آخر الزمان وظهور المهدي ونزول عيسى من السماء بالاضافة إلى موقف الرفض تجاه آل سعود، وكل ذلك إنّما يؤكد حالة التناقض الداخلي الفكري، ولم يكن هناك حل أو مخرج لهذا التناقض سوى تبنّي فكرةظهور المهدي التي تحوّلت من مجرد تصوّر إلى واقع حين اكتشفت الجماعة أن العلامات الخاصة بالمهدي والصفات المتعلقة بشخصه تنطبق نوعاً ما على أحد أفراد الجماعة، فبايعوه على الخروج لتتحقّق على يديه النبؤات التي أشارت إليها الأحاديث النبوية.
وأولى هذه النبؤات هي: أن المهدي سوف يلوذ حين ظهوره بالحرم المكي، وعندما تحاصره جيوش الكفر عندئذٍ يخسف الله بها، وبهذا التبرير الشرعي اقتحم جهيمان ومجموعته الحرم، وبتبرير شرعي آخر دكّت القوات الفرنسية والأردنية والسعودية الحرم المقدس وكان ما كان.
الدولة وفقهاؤها في مواجهة الحركة:
كان حصار جهيمان العتيبي ومحمد بن عبد الله القحطاني مع العديد من الأتباع السعوديين والعرب والأفغان وغيرهم في الحرم المكي المظهر الأسطع لما كان يعتمل من توتّر في المجتمع السعودي، كان قائد العملية جهيمان واعظاً نشطاً غامر بأبداء آرائه حول الحاكم الاسلامي العادل والعلاقات مع القوى الكافرة والنزعة المادية والفساد والعلاقة بين العلماء والسلطة وطالب بعزل آل سعود من الحكم، لذلك عمدت الحكومة إلى استنفار العلماء، وأصدرت إدارة البحوث العلمية والافتاء فتوى تدعم الفئة الحاكمة وتجيز التدخل العسكري في الحرم المقدس.
إنّ رسالة المهدويين الجدد طغى عليها إعلانهم أن زعيم الحركة الروحي محمّد القحطاني هو (المهدي المنتظر) الذي كان مفهوماً خلافياً في الإسلام السني، واستثمرت الحكومة هذا الخلاف للنيل من المتمرّدين، وشرع كبار العلماء في إجراء مناظرة لاهوتية حول صفات المهدي الحقيقي طامسين بذلك المعارضة السياسية التي كانت أساس التمرد، وخلص العلماء إلى أن القحطاني لا يمكن أن يكون المهدي المنتظر حقاً، مبررين بذلك إخماد الحركة داخل المسجد، لكن الفئة الحاكمة ومعها طبقة الفقهاء أدركوا أن التمرد لم يكن حول مهدي مزيف أو حقيقي، بل كان حول تطور أسفر عن نتائج اجتماعية متناقضة وتواترات لم تكن تتوقعها حكومة رفعت لواء التحديث دون توفير أرضية جديدة للشرعية، فلقد كان حصار المسجد جزءاً لا ينفصل من نتائج التحديث المادي إبان السبعينات، وهو كان يقظة سياسية استندت إلى خطابية دينية أصبحت أكثر تمفصلاً برعاية مراكز العلوم الدينية في المملكة وفي ظل التربية والتعليم ومناهجهما الجديدة.
ولذلك فقد واجهت الحكومة ـ في طريقة تعاملها مع الحادث ـ انتقاد بعض الفقهاء، لأنها تصرّفت بالهجوم على الحرم المقدس دون استصدار فتوى شرعية متجاهلة الموقف الشرعي الفقهي من هذا التصرف.
تذكر المصادر المعاصرة أن آل سعود جمعوا الفقهاء وأجبروهم على صياغة فتوى يشير نصها إلى أن وقت صدورها يسبق قيام الحكومة بالهجوم على الحرم، ولم يصدر أي شجب أو استنكار من قبل أغلب الفقهاء، فقد استسلموا وأطاعوا مخافة أن يقعوا في محذور شرعي لو تبنّوا موقف الرفض، فالحاكم واجب الطاعة وشرّ الأعمال الخروج عن الجماعة.
والظاهر أن الأمر لم ينته عند حدّ الاستغناء عن الفقهاء في مواجهة الحادث، بل تجاوزه إلى الاستغناء عنهم في محاكمة المتهمين، حيث صدرت الأحكام بسرعة وبأوامر ملكية دون أن يكون للفقهاء أي علم أو دور، مما أثار حفيظة بعضهم الذي طالب بتولي أمر محاكمة المتهمين، ولما رُفض طلبهم رفضوا بدورهم التوقيع على الأحكام الصادرة ضد جهيمان وأتباعه، الأمر الذي حدا بالحكومة إلى إعادة صياغة فتوى ثانية يتّضح فيها الحرص على تضمينها بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنوّه إلى ضرورة معاقبة المفسدين وبشدّة.
وقد جاء في الفتوى الأولى التي تجاهلت رأي الفقهاء والتي أصدرها خالد بن عبد العزيز وقام بتنفيذها شقيقه نايف وزير الداخلية آنذاك والصادرة بتاريخ 19/ 2/ 1400هـ الموافق 7/1/1980.
اطلعنا على ما رفعتموه ـ أي نايف ـ لنا من الاعترافات التي أدلى بها المجرمون الذين اعتدوا على الحرم وأدخلوا فيه السلاح والذخيرة وأغلقوا أبوابه على المسلمين الذين أدوا فيه صلاة الفجر في اليوم الأول من شهر محرم عام 1400 هـ، وقد روّعوا المسلمين في الحرم الذي جعله الله للناس أمناً، وسفكوا الدماء البريئة بغير ذنب، وأجبروا الناس في الحرم على مبايعة أحد أفراد الفئة الضالة المفسدة زاعمين أنه المهدي، وهددوا من لم يستجب بالسلاح كما هو مسجل في إحدى خطب هذه الفئة الظالمة التي ألقاها أحد رؤوس الفتنة صبيحة عدوانهم على الحرم، واستناداً على فتوى أصحاب الفضيلة العلماء بقتالهم مستدلّين بقوله تعالى: (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ولأن هيئة كبار العلماء قد أصدروا في دورة مجلسهم الخامسة عشرة بياناً استنكروا فيه هذه الجريمة الخطيرة، وهذا البيان من الهيئة لواقع هؤلاء المجرمين يحتّم علينا معاقبتهم عقوبة تزجر عن الفساد ونُرضي بها ربنا سبحانه، ولأننا تلقينا الفتاوى التي تبين جزاء هؤلاء منهم ما هو مشافهة من عدد من العلماء ومنهم ما هو محرر من عدد آخر من كبار العلماء وفيها قولهم ما نصه:
نفيدكم ـ سلمكم الله ـ أن هؤلاء لهم حكم المحاربين الذين قال الله فيهم (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقال العلماء في فتواهم: وما دام الجميع اعترفوا بجريمتهم بالقتل والفساد في حرم الله فيجوز للإمام قتلهم.
--- التوقيع ---
منقول.
مدّعو المهدوية
مهدي السلفية التكفيرية
وحركة جهيمان العتيبي
الدكتور حسين سامي شير علي
كلية الشيخ الطوسي الجامعة/ النجف
مع بزوغ غرة محرم الحرام من العام 1400 هـ الموافق 20 نوفمبر 1979م دخل المدعو جهيمان العتيبي مع ما يقارب المئة من أصحابه الى المسجد الحرام في مكة المكرمة لأداء صلاة الفجر، وكانوا يحملون نعوشاً، وأوهموا حراس المسجد الحرام إنها نعوشاً لموتى، وسيصلّون عليها صلاة الميت بعد صلاة الفجر، وفي الحقيقة أن هذه النعوش لم تكن إلاّ مخازن للأسلحة الرشاشة وذخائرها.
وما أن انفضت صلاة الفجر حتّى قام جهيمان وصهره المدعو محمّد بن عبد الله القحطاني أمام المصلين في المسجد الحرام ليعلنوا للناس نبأ المهدي المنتظر وفراره من أعداء الله واعتصامه في المسجد الحرام، وقد قدّم جهيمان صهره القحطاني بأنه المهدي المنتظر مجدد هذا الدين في ذلك اليوم من بداية القرن الهجري الجديد!!
ثم قام جهيمان وأتباعه بمبايعة (المهدي المنتظر) بين الركن والمقام، وطلب من جموع المصلين مبايعته، وأوصد أبواب المسجد الحرام، ووجد المصلّون أنفسهم محاصرين داخل المسجد بما فيهم النساء والأطفال.
وفي الوقت نفسه كانت هناك مجاميع أخرى من أتباعه يقومون بتوزيع منشورات ورسائل وكتيبات كان جهيمان قد أعدّها مسبقاً في السعودية وبعض دول الخليج.
وبعد ثلاثة أيام أُخلي سبيل النساء والأطفال، وبقي كمّ لا بأس به من المحتجزين في داخل المسجد.
حاولت الحكومة السعودية منذ اللحظات الأولى حلّ هذه المشكلة ودياً مع جهيمان بالاستسلام والخروج من الحرم وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين، إلاّ أنه رفض.
عطّلت الصلاة والمناسك في البيت الحرام، وتبادل الطرفان اطلاق النيران الكثيفة، وأصاب المسجد ضرر بالغ جراء هذه الأحداث، وعندما نفد صبر الحكومة السعودية، تدافعت قواتها معزّزة بقوات الكوماندوز في هجوم شامل على الحرم استخدمت فيه تقنيات عسكرية جديدة وخبرات أجنبية لم يعهدها جهيمان وأتباعه، فسقط منهم الكثير، وكان ممن سقط قتيلاً صهره محمّد بن عبد الله القحطاني الذي كانوا يدّعون أنه المهدي المنتظر، وبسقوطه قتيلاً صدم أتباع جهيمان صدمة كبيرة، فهم كانوا يعتقدون أنه لا يموت، فبدأوا بالانهيار والاستسلام تباعاً، وسلَّم جهيمان نفسه ومن بقي من أتباعه.
بعد فترة وجيزة صدر حكم المحكمة بإعدام 61 شخصاً من أفراد الجماعة، وكان جهيمان من ضمن قائمة المحكومين بالاعدام، لتنتهي بذلك قصة أول حادث للتطرف الديني يسجّل في السعودية.
سيرة زعماء الحركة:
عمل جهيمان بن محمّد بن سيف العتيبي موظفاً في الحرس الوطني السعودي لمدة ثمانية عشر عاماً، درس الفلسفة الدينية في جامعة مكة المكرمة الاسلامية، وانتقل بعدها الى الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة، وفي المدينة المنورة التقى جهيمان بشخص يدعى (محمّد بن عبد الله القحطاني) وهو أحد تلامذة الشيخ عبد العزيز بن باز.
توطّدت العلاقة بين الرجلين، خاصة أنهما إلتقيا فكرياً في العديد من الرؤى الايدلوجية المتطرفة، من حيث تكفير الدولة، بل وتكفير المجتمع بأكمله، والتزمّت الشديد مما أدى الى اعتزالهما المجتمع ورفض معالمه المدنية من راديو وتلفزيون وصحافة... وغيرها. ومما زاد في تقاربهما زواج القحطاني بشقيقة جهيمان العتيبي.
بدأ جهيمان وصهره بنشر أفكارهما المنشودة التي تعدّ كل ما هو جديد من البدعة والخروج عن الدين، بشكل سري وعلى نطاق ضيق في بعض المساجد الصغيرة في المدينة المنورة، ومن ثم فقد لقيت هذه الأفكار صدىً إيجابياً عند البعض، وأخذت الجماعة التي أسّسها جهيمان تكبر، حتّى وصل عدد أفرادها إلى الآلاف.
ولم يدّخر جهيمان وجماعته جهداً في معاداة الأنظمة الحاكمة لأنها لا تحكم بشرع الله، وكان هذا جلياً في الرسائل التي كتبها بنفسه أو من قبل أتباعه، كما يؤمن بهجر المجتمع ووسائله المدنية والانعزال عنه، نظراً لتفشي الفساد والرذيلة في المجتمع وبُعده عن الصراط المستقيم، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر يرى جهيمان وأتباعه ضرورة عدم موالاة الأنظمة التي لا تحكم بشرع الله ولا تنتهي بنواهيه.
يروي الشيخ فلاح إسماعيل مندكار بعض سيرة القحطاني وهو ممّن التقى به:
(كنت أعرف محمّد بن عبد الله القحطاني معرفة شخصية، وقد زارني في منزلي في الكويت عدة مرات، وكان حافظاً للقرآن، وكان رجلاً زاهداً وبكّاء، لا يستطيع أن يمسك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، وكان رحمه الله حافظاً للبخاري ومسلم، وكان شيخاً صاحب علم، ولكنه افتتن بالرؤيا حيث كان يأتيه الناس من المشرق ومن المغرب ويقولون إنك أنت المهدي المنتظر، وكان هذا الموضوع يضايقه رحمه الله، ودخل عليه الشيطان من هذا الطريق نسأل الله السلامة والعافية، وعندما سألت شيخي الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله في وقتها حول هذا الموضوع ومدى صحته، ردّ رداً قوياً وقال لي: منذ متى ونحن نأخذ الشريعة من الأحلام والرؤيا، نحن نأخذ شريعتنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله وسلم .... أما جهيمان فهو كان من طلبة الشيخ ابن باز، وكان الشيخ ابن باز له منزل في المدينة أيام كان رئيساً للجامعة الاسلامية أعطته إياه الحكومة لكي ينشر العلم فيه، وكان هذا المنزل ينافس الجامعة الإسلامية من حيث نشر العلم، فكان العلماء الكبار يقيمون فيه الدروس أمثال الشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ الشنقيطي، ـ والحديث لا زال للشيخ فلاح ـ وكان الشيخ ابن باز يقوم بابتعاث الطلبة الذين يحضرون الدروس في هذا المنزل كل عطلة نهاية الاسبوع إلى القرى المجاورة لنشر العلم للعوام، وكان من الذين يبعثهم جهيمان العتيبي الذي أعطاه الشيخ ابن باز المنزل بما فيه مع زملائه الطلبة لكي يستلموا مهمة نشر العلم في هذا المنزل، وبدأت الفتنةعندما أتى جهيمان ثلاثة أشخاص من إحدى دول شمال افريقيا وهم يحملون فكر التكفير، وكان جهيمان مستاءً من بعض الأمور التي بالدولة ويقال أنّ أحدها دخول التلفزيون على السعودية، فاستطاعوا أن يُلقوا الشبه في قلب جهيمان.
وعندما علم جهيمان بخبر القحطاني رتّب كل شيء من الرجال والأسلحة والطلبة لكي يبايعه في مكّة وأمام الناس، وكان هذا الأخير متردداً، ولكن وهو في الطريق الى مكة ذهب الى قرية لكي يستريح هو بها ومن معه وهو ذاهب الى البئر لكي يأتي لأصحابه بالماء، فإذا بامرأة عجوز واقفة تنظر إليه نظرة التفحص، وقالت له: أأنت محمّد بن عبد الله؟ قال: نعم يا أماه، هل من حاجة؟؟ قالت: والله إني رأيتك في المنام أنك أنت الذي في مكة تحرر الناس وأنت المهدي المنتظر!!
ففكر القحطاني في نفسه قائلاً: منطقة أول مرة آتها وامرأة عجوز لم أرها في حياتي تعرفني وتعرف اسمي وتقول لي أنت المهدي المنتظر؟؟ والله أعلم أن هذه المرأة شيطان يلبس عليه الأمر.
وقال لي ـ والحديث لا يزال للشيخ فلاح ـ بعض الأشخاص الذين كانوا في الفتنة أنه حصل خلاف بين محمّد بن عبد الله القحطاني وجماعته في اليوم السادس بعد احتلال الحرم، حيث علم محمّد أن هذه فتنة وأنه ليس المهدي المنتظر، وقال: يجب أن نسلّم أنفسنا للسلطة، ورفض أحد الأفغان الذين كانوا معه، وقُتل في وقتها، لأن القوات لما دخلت الحرم وجدت جثة القحطاني متعفنة وهو مقتول من أول أحداث الفتنة والله أعلم... والشاهد عندما ألقي القبض على جهيمان أو سلّم نفسه لا أعلم... حاولت وزارة الداخلية أن تأخذ منه أي معلومة فلم يتكلّم بأي كلام، حتّى أتوه ببعض مشايخ المدينة وعلى رأسهم الشيخ الشنقيطي رحمه الله، وعندما رآهم جهيمان احتضن الشيخ وقام يبكي بكاء شديداً، وقال له الشيخ: يا جهيمان أنا لدي أسئلة من وزارة الداخلية أوصوني بها، ولكن أريد أن أسئلك: لماذا فعلت هذا؟ فردّ عليه قائلاً: يا شيخ ان هذه فتنة وقعنا بها، واحمدوا الله أنه أنجاكم منها، وادعوا لنا الله عسى أن يغفر لنا ويتوب علينا، ثم سكت وبعد يومين اقتص منه.
وعندما سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن جهيمان كان يترحم عليه ويقول: إن جهيمان ليس بصاحب أفكار ومعتقدات الخوارج ولكنه افتتن بهذه الحادثة، ونسأل الله أن يرحمه).
الجذور الفكرية للحركة:
من الواضح من خلال السرد التأريخي الذي قدمه لنا بعض المعاصرين لحادث اقتحام الحرم المقدس أنّ الدور الذي قام به القحطاني هو دور شخص بسيط لا يمتلك من القواعد الفكرية الرصينة أو الشخصية القوية ذات الأبعاد الفكرية الواضحة شيئاً، وإنما كان مجرد أداة استخدمها جهيمان لتنفيذ أغراض سياسية، متحصناً خلف رواية سنية ضعيفة تصف قدوم المهدي المنتظر وأنه من آل بيت الرسول صلى الله عليه واله وسلم واسمه محمّد واسم أبيه عبد الله، يلوذ بالمسجد الحرام هرباً من أعداء الله.
وقد اكتملت أطراف المعادلة في ذهن جهيمان باقتراب حلول القرن الهجري الجديد وبصهر يسمى محمّد بن عبد الله رأى في منامه إنه هو المهدي المنتظر وانه سوف يحرر الجزيرة العربية والعالم كله من الظالمين، ولم يكن ينقص المعادلة الا بيت الله الحرام ليلوذ اليه المهدي وهذا ما تمّ فيما بعد كما سبق.
وهكذا كان دور المهدي في هذه المعادلة دوراً ثانوياً تكميلياً، اذ لم يكن يمتلك زمام المبادرة والقيادة أولاً، ولم يكن متسلحاً بعقيدة راسخة بالقضية المهدوية حيث ان الأمر لا يعدو الرؤيا، ولذلك كان متردداً بين الاقدام والتراجع في حين كان بعض اسلافه من الأدعياء نجحوا بفضل إقدامهم وجرأتهم على تأسيس دول وانشاء حكومات دامت قروناً من الزمان، ومن ثم فقد تراجع لدى أول تهديد بالخطر مما أدى إلى قتله سريعاً. وبذلك انهارت عقيدة المعتقدين بمهدويته من الاتباع وانتهى كل شيء في ساعات معدودة.
أما جهيمان ففي الواقع إنه اضطلع بدور رئيس في هذه الحركة من الناحيتين الفكرية والسياسية، فلم تكن حركته مجرد فكرة طارئة على الساحة الدينية كما هو حال الجماعات الاسلامية اليوم، وإنما كانت امتداداً لتيار الإخوان القديم الذي قامت على أكتافه دولة آل سعود الثانية حيث تبنى جهيمان طرح الإخوان المعادي للواقع وكلّ ما هو حديث، فرفض التصوير وجهاز التلفزيون والإذاعة والصحف وكتب المعاصرين، واعتبرها جميعاً من البدع، وأجاز تقصير الثياب وإطالة اللحى والصلاة بالنعال في المساجد، والشيء الوحيد الذي ميّز جهيمان عن الإخوان هو تبنّي جهيمان فكرة المهدي وإعلان ظهوره من بين أفراد الجماعة، ورغم أنّ رسائله التي تحدد فكر الجماعة ومنطلقاتها تكشف لنا عن موقفٍ معادٍ للحكم السعودي وللفقهاء المتحالفين معه، الاّ ان هذا الموقف لا يعكس بُعداً سياسياً في حركة الجماعة، فهي بعيدة كل البعد عن هذا الجانب.
وكل ما في الأمر أن هذه الجماعة انشقّت عن الخط السلفي الوهّابي السائد وتبنّت أطروحة أكثر تشدداً وانغلاقاً في مواجهة الواقع، مما أدى إلى وقوع تناقضات واضحة في فكر الجماعة وأهدافهم المتمثلة بالمجتمع الذي يعمل بما أنزل الله وبين اعتزال الجماعة للمجتمع المراد تغييره، ومن جهة أخرى فقد تبنّت هذه الجماعة القول بعلامات وفتن آخر الزمان وظهور المهدي ونزول عيسى من السماء بالاضافة إلى موقف الرفض تجاه آل سعود، وكل ذلك إنّما يؤكد حالة التناقض الداخلي الفكري، ولم يكن هناك حل أو مخرج لهذا التناقض سوى تبنّي فكرةظهور المهدي التي تحوّلت من مجرد تصوّر إلى واقع حين اكتشفت الجماعة أن العلامات الخاصة بالمهدي والصفات المتعلقة بشخصه تنطبق نوعاً ما على أحد أفراد الجماعة، فبايعوه على الخروج لتتحقّق على يديه النبؤات التي أشارت إليها الأحاديث النبوية.
وأولى هذه النبؤات هي: أن المهدي سوف يلوذ حين ظهوره بالحرم المكي، وعندما تحاصره جيوش الكفر عندئذٍ يخسف الله بها، وبهذا التبرير الشرعي اقتحم جهيمان ومجموعته الحرم، وبتبرير شرعي آخر دكّت القوات الفرنسية والأردنية والسعودية الحرم المقدس وكان ما كان.
الدولة وفقهاؤها في مواجهة الحركة:
كان حصار جهيمان العتيبي ومحمد بن عبد الله القحطاني مع العديد من الأتباع السعوديين والعرب والأفغان وغيرهم في الحرم المكي المظهر الأسطع لما كان يعتمل من توتّر في المجتمع السعودي، كان قائد العملية جهيمان واعظاً نشطاً غامر بأبداء آرائه حول الحاكم الاسلامي العادل والعلاقات مع القوى الكافرة والنزعة المادية والفساد والعلاقة بين العلماء والسلطة وطالب بعزل آل سعود من الحكم، لذلك عمدت الحكومة إلى استنفار العلماء، وأصدرت إدارة البحوث العلمية والافتاء فتوى تدعم الفئة الحاكمة وتجيز التدخل العسكري في الحرم المقدس.
إنّ رسالة المهدويين الجدد طغى عليها إعلانهم أن زعيم الحركة الروحي محمّد القحطاني هو (المهدي المنتظر) الذي كان مفهوماً خلافياً في الإسلام السني، واستثمرت الحكومة هذا الخلاف للنيل من المتمرّدين، وشرع كبار العلماء في إجراء مناظرة لاهوتية حول صفات المهدي الحقيقي طامسين بذلك المعارضة السياسية التي كانت أساس التمرد، وخلص العلماء إلى أن القحطاني لا يمكن أن يكون المهدي المنتظر حقاً، مبررين بذلك إخماد الحركة داخل المسجد، لكن الفئة الحاكمة ومعها طبقة الفقهاء أدركوا أن التمرد لم يكن حول مهدي مزيف أو حقيقي، بل كان حول تطور أسفر عن نتائج اجتماعية متناقضة وتواترات لم تكن تتوقعها حكومة رفعت لواء التحديث دون توفير أرضية جديدة للشرعية، فلقد كان حصار المسجد جزءاً لا ينفصل من نتائج التحديث المادي إبان السبعينات، وهو كان يقظة سياسية استندت إلى خطابية دينية أصبحت أكثر تمفصلاً برعاية مراكز العلوم الدينية في المملكة وفي ظل التربية والتعليم ومناهجهما الجديدة.
ولذلك فقد واجهت الحكومة ـ في طريقة تعاملها مع الحادث ـ انتقاد بعض الفقهاء، لأنها تصرّفت بالهجوم على الحرم المقدس دون استصدار فتوى شرعية متجاهلة الموقف الشرعي الفقهي من هذا التصرف.
تذكر المصادر المعاصرة أن آل سعود جمعوا الفقهاء وأجبروهم على صياغة فتوى يشير نصها إلى أن وقت صدورها يسبق قيام الحكومة بالهجوم على الحرم، ولم يصدر أي شجب أو استنكار من قبل أغلب الفقهاء، فقد استسلموا وأطاعوا مخافة أن يقعوا في محذور شرعي لو تبنّوا موقف الرفض، فالحاكم واجب الطاعة وشرّ الأعمال الخروج عن الجماعة.
والظاهر أن الأمر لم ينته عند حدّ الاستغناء عن الفقهاء في مواجهة الحادث، بل تجاوزه إلى الاستغناء عنهم في محاكمة المتهمين، حيث صدرت الأحكام بسرعة وبأوامر ملكية دون أن يكون للفقهاء أي علم أو دور، مما أثار حفيظة بعضهم الذي طالب بتولي أمر محاكمة المتهمين، ولما رُفض طلبهم رفضوا بدورهم التوقيع على الأحكام الصادرة ضد جهيمان وأتباعه، الأمر الذي حدا بالحكومة إلى إعادة صياغة فتوى ثانية يتّضح فيها الحرص على تضمينها بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنوّه إلى ضرورة معاقبة المفسدين وبشدّة.
وقد جاء في الفتوى الأولى التي تجاهلت رأي الفقهاء والتي أصدرها خالد بن عبد العزيز وقام بتنفيذها شقيقه نايف وزير الداخلية آنذاك والصادرة بتاريخ 19/ 2/ 1400هـ الموافق 7/1/1980.
اطلعنا على ما رفعتموه ـ أي نايف ـ لنا من الاعترافات التي أدلى بها المجرمون الذين اعتدوا على الحرم وأدخلوا فيه السلاح والذخيرة وأغلقوا أبوابه على المسلمين الذين أدوا فيه صلاة الفجر في اليوم الأول من شهر محرم عام 1400 هـ، وقد روّعوا المسلمين في الحرم الذي جعله الله للناس أمناً، وسفكوا الدماء البريئة بغير ذنب، وأجبروا الناس في الحرم على مبايعة أحد أفراد الفئة الضالة المفسدة زاعمين أنه المهدي، وهددوا من لم يستجب بالسلاح كما هو مسجل في إحدى خطب هذه الفئة الظالمة التي ألقاها أحد رؤوس الفتنة صبيحة عدوانهم على الحرم، واستناداً على فتوى أصحاب الفضيلة العلماء بقتالهم مستدلّين بقوله تعالى: (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ولأن هيئة كبار العلماء قد أصدروا في دورة مجلسهم الخامسة عشرة بياناً استنكروا فيه هذه الجريمة الخطيرة، وهذا البيان من الهيئة لواقع هؤلاء المجرمين يحتّم علينا معاقبتهم عقوبة تزجر عن الفساد ونُرضي بها ربنا سبحانه، ولأننا تلقينا الفتاوى التي تبين جزاء هؤلاء منهم ما هو مشافهة من عدد من العلماء ومنهم ما هو محرر من عدد آخر من كبار العلماء وفيها قولهم ما نصه:
نفيدكم ـ سلمكم الله ـ أن هؤلاء لهم حكم المحاربين الذين قال الله فيهم (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقال العلماء في فتواهم: وما دام الجميع اعترفوا بجريمتهم بالقتل والفساد في حرم الله فيجوز للإمام قتلهم.
--- التوقيع ---
منقول.
تعليق