
وراثة نبوية
«وأما الحسين فله جودي وشجاعتي»
هكذا كان ميراثه صلى الله عليه وآله وسلم لولديه ،
فورث الحسين عليه السلام جوده وشجاعته ،
وورث الحسن عليه السلام هيبته وسؤدده .
كان هذا الإرث النبوي يتقاسمه الوريثان من قبل ومن بعد ،
فقبل وفاة جدهما كانت بوادر الإرث النبوي
قد بدت على الغلاميين الهاشميين ، وهما يرفلان في عناية إلهية
ما انفكت عنهم وعن أبويهما يوم جللهما بالكساء اليماني ،
وقال : « اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد »
وأنزل الله عز وجل : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ولطالما كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم :
« أنا حرب لمن حاربكم
ولكم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينوه
عن حبه لابنيه هذين حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك مناسبة
إلا وأشهد المسلمين على حبه إياهما .
فما رواه أسامة بن زيد قال : طرقت باب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة لبعض الحاجة ،
فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ، فلما فرغت
من حاجتي قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه ؟
فكشف فإذا حسن وحسين على
وركيه فقال : « هذان ابناي وابنا ابنتي ،
اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما» .
ولم يكن ذلك التنويه مقتصرا لأصحابه بل خص أهله وعمومته
وأقرهم على حبهما وعظيم منزلتهما حتى صار ذلك مركوزا لدى
الهاشميين من أهله كما هو مركوز عند المسلمين طرا .
وعن مدرك بن عمارة قال : رأيت ابن عباس
آخذا بركاب الحسن والحسين فقيل له
: أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما ؟
فقال : إن هذين
ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أوليس من سعادتي أن
آخذ بركابهما(3)؟! هذه عناية
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لولديه ،
ولم تنقطع هذه الرعاية الخاصة بانقطاع الوحي ،
عند رحيله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملكوت الله الأعلى ؛
ليكون قرير العين بسبطيه هذين وأبويهما ، وهم يحملون عيبة علمه
ومكنون حكمته ، وضن عليهم من التخلف عنهم وتركهم ، فقال :
« يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ،
أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء
والأرض و عترتي أهل بيتي ،
وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1) .
ولم تكن أمته قد سمعت ما وعته بالأمس حتى تستعدي عليهم اليوم
، فهذا علي عليه السلام يهجره المهاجرون ، ويخذله الأنصار ،
ويحيلونه إلى مأمور بعد ما كان أميرهم في غدير خم ،
تلك الواقعة التي أكحلت عيون قوم وزكمت أنوف آخرين .
فما كان من هؤلاء إلا ويسوقون عليا عليه السلام إلى بيعتهم
مكثورا ، يخذله قومه وأهل مودته ،
إلا نفر ثبت رغم بريق السيوف وشروع الأسنة ،
وليس للحسن بن علي عليهما السلام شأن للنصرة عند هؤلاء القوم
، الذين آثروا ابن حرب على حربهم مع سبط الرسول فأسلموه
عند الوقعة ، وأحبوا العافية عند نصرة الحق ،
واختاروا الخضوع على العزة في ظل كتاب الله وعترة نبيهم ،
ولم يحيلوا بينه وبين عدوه ، الذي جرعه
غصص الفتن قبل أن يجرعه كأس المنون على يد زوجته
جعدة بنت الأشعث ، فذهب صابرا محتسبا يشكو
مالاقاه لربه ، ويبث ما عناه لجده .
وفي كربلاء موعد القوم مع آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،
حيث يناجزون سبطه الحبيب بكل خسيسة حرب
ودخيلة صدور ، فينكفئون على آله بسيوف
الحقد وسهام الغدر ، يرمونهم من كل ناحية ؛
ليكون لرضيعه سهم المنون كما كان له نصيب
من الظمأ ، وانهالوا على أهله قتلا وتنكيلا .
فأحرقوا خيامهم
، وأركبوهم أسارى بغير وطاء ولا غطاء .
لم تنته واقعة الطف بعد ، بل كأنها بدأت منذ لحظة تسييرهم سبايا
، فهذا الإمام زين العابدين
عليه السلام يتصدى لخطط هؤلاء القوم ، الذين أذاعوا
بين العامة أنهم أسرى خوارج ، فيقول عند دخوله الكوفة :
«أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم
يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ،
أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله ،
أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث ،
أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا . أيها الناس ناشدتكم
الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه
من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه
، فتبا لكم لما قدمتم لانفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون
إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ،
فلستم من أمتي » . فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالو :
هلكتم وما تعلمون(1) .
وهكذا يدأب الإمام على كشف الحقائق وفضح الأباطيل ، ثم
هو بعد ذلك يتصدى لإحباط المحاولات في التمويه على الواقع ،
ولم يقتصر الأمر على الإمام في جهده المقدس لكشف الحقائق
، فإن لربيبة الوحي دورا تلقيه ظروف الدعوة هذه .
بعد وصول الركب إلى الكوفة كانت زينب بنت علي عليهما السلام
تلملم جراحها ، وترنو إلى الإمام لئلا يصيبه مكروه ،
وإلى العائلة لئلا تكترث من هول الوقعة ، وفجيعة المصاب
، ثم هي تقف ثابتة بثبات المبدأ ، شامخة بشموخ الرأس الشريف ،
الذي علا على رمح عال يتطلع إلى ما يجري حوله من تخاذل القوم
وصمود الآل .
تعليق