بو الفضل العباس عُرف بسلسلة مترابطة من المواقف في سبيل الله ولمصلحة المستضعفين، فمثلاً من الأمور التي كان يتميز بها هو السقيُ للماء، وإذا أخذنا بعين الاعتبـار أن الماء هو المادة الأولى للعيش، وعليه تتوقف حياة جميع الأحياء، أن ربنا بدأ الخلق بالماء، فإن الاهتمام بإيصال الماء إلى الأحياء يكون اهتماماً بحياتهم.
ولقد عرف العباس بالسّقاء ليس فقط في واقعة الطف في كربلاء، وإنما قبل ذلك أيضاً، لكثرة ما كان يهتم بسقي العطاشى في شتى المناسبات حتى إنه منذ الصغر عندما كان لا يزال طفلاً كان هو الذي يسقي إخوته وأخواته كلما احتاجوا إلى الماء، فكان هو المبادر الأول لسقي العائلة. واستمر معه ذلك إلى أن كبُر، ففي معركة صفين بعد أن امتلك معاوية بن أبي سفيان ماء الفرات ومنعه عن أصحاب الإمام علي، أرسل الإمام صعصعة بن صوحان العبدي إلى معاوية يطلب منه أن لا يمنع الماء الذي أباحه الله سبحانه وتعالى لجميع عن أحدٍ من المسلمين، غير أن معاوية بن أبي سفيان أبى أن يسمح لأصحاب الإمام بأخذ الماء، وامتنع عن ذلك طمعاً في أن يفرض بذلك على الإمام وأصحابه الاستسلام، عندها قال الإمام أمير المؤمنين قولته الشهيرة((ارووا السيوف من الدماء، تروون من الماء)) ثم أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام حتى يكشفوهم عن الشريعة، وكان ممن حمل على العدو، واستطاع أن يجبره على التراجع كل من مالك الأشتر، والحسين بن علي، وأبي الفضل العباس واستطاعوا أن يهزموا جيش معاوية وأن يمتلكوا الشريعة، ولكنهم لم يفعلوا بهم مثل ما فعلوا بهم بل تركوا الماء لمن يريده، عدواً كان أم صديقاً.
ولقد سمي العباس عليه السلام بالسقاء ليس فقط لدوره في صفتين بل لما ذكرناه قبل ذلك أيضاً. فكأن الأمر كان هوايةً له، وعادة خيرة من عاداته الخيرة الأخرى، فحيث كان يرى عطشاناً كان يبادر إلى سقيه، ولهذا فإنه في كربلاء قام ثلاث مرات بالحصول على الماء بقوة السلاح، وحمله إلى مخيم الحسين عليه السلام.
ففي اليوم السابع من محرم الحرام حوصر الإمام الحسين ومن معه ومنعوا الورود إلى الماء، ونفذ ماعندهم منه و(أخذ كل واحد منهم يعالج لهب الأوام بما يستطيع وكانوا بين أنة وحنة، وتضورٍ ونشيج، وطالب للماء إلى متحرٍ ما يبل غلته). كما يقول المؤرخون، عندئذٍ ندب الحسين عليه السلام أخاه العباس، وطلب منه الحصول على الماء بما أمكن، فخرج العباس ومعه ثلاثون فارساً يحملون عشرين قربة، وانطلقوا نحو معسكر العدو وكان عمر بن سعد قد عهد بحراسة الماء إلى ( عمرو بن الحجاج) الزبيدي وهو من طغاة أصحابه، فنادى عمر بن الحجاج:
ما جاء بكم؟
فقال نافع بن هلال من أصحاب الإمام عليه السلام: جئنا لنشرب الماء الذي حلأتموه عنا.
فقال له الحجاج: اشربوا ما شئتم، ولا تحملوا معكم.
فقالوا: أفنشرب والحسين عطشان.
قال عمر بن الحجاج: لا سبيل لسقي هؤلاء، إنما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء.
فحمل العباس ومن معه عليهم حتى كشفوهم عن الشريعة، بينما ملأ الأصحاب القرب بالماء، واستطاعوا أن يأتوا به إلى المخيم، وليس في القوم المناؤئين من تحدثه نفسه بالدنو منهم، خوفاً من شجاعة العباس وأصحابه ( فبلت غلة الحرائر والصبية من ذلك الماء وابتهجت به النفوس).
ولا شك أن تلك الكمية القليلة من الماء، في ذلك الحر الشديد، وفي تلك الصحراء القاحلة، لم تكن تنفع ذلك الجمع الذي كان يتراوح بين مئة وخمسين إلى مائتين من الرجال والنساء والأطفال إلا لفترة قصيرة من الزمن غير أن موقف العباس حُفظ له كواحدٍ من مواقف الرجولة النادرة في التاريخ ولقد قال الشاعر في ذلك:
وثنى أبو الفضل الفوارس نكصاً ،،، فرأوا أشدّ ثباتهم أن يهزموا
ماكر ذو بأسٍ له متقدماً ،،، إلا وفر ورأسه المتقدم
صبغ الخيول برمحه حتى ،،، غدى سيان أشقر لونها والأدهم
ماشد غضباناً على ملمومة ،،، إلا وحل بها البلاء المبرم
وله إلى الأقدام سرعة لهاربٍ ،،، فكأنما هو بالتقدم يسلم
بطل تورث من أبيه شجاعةً ،،، فيها أنوف بني الضلالة ترغم
يلقى السلام بشدة من بأسه ،،، فالبيض تثلم والرماح تحطم
عرف المواعظ لا تفيد مبعثر ،،، صموا عن النبأ العظيم كما عموا
فانصاع يخطب بالجماجم والكلا ،،، فالسيف ينثر والمثقف ينظم
أو تشتكي العطش الفواطم عنده ،،، وبصدر صعدته الفرات المفعم
لو سدُ ذي القرنين دون وروده ،،، سقته همته بما هو أعظم
لو استقى نهر المجرة ولا ارتقى ،،، وطويل ذابله إليها سلم
حام الضغينة أين منه ربيعة ،،، أم أبن عليـا أبيه مكدم
في كفه اليسرى السقاء يقله ،،، وبكفه اليمنى الحسام المحدم
مثل السحابة للفواطم صوبه ،،، ويصيب حاصبه العدو فيرجم
لقد كانت تلك أول مواجهة مسلحة في كربلاء بين أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وبين أصحاب يزيد بن معاوية، وانتهت إلى انتصار أصحاب الإمام بقيادة العباس عليه السلام وحصولهم على الماء رغم أنوف الطغاة.
ومن السقاية للماء إلى الصفات النبيلة الأخرى امتلك العباس كل ما يخطر في البال من الفضائل في سلسلة مترابطة يشد بعضها بعضاً، وارتبط اسمه بها منذ بداية شبابه، ففي الوقت الذي كان أقرانه من شباب المسلمين قد تبدلت حالاتهم وتغيرت نفوسهم بسبب الفتوحات التي اغدقت عليهم الأموال، وفتحت عليهم نعيم الدنيا ورفاهيتها فكانوا يبحثون عن الراحة والملذات كان العباس في ذلك الوقت يبحث عن المواقف البطولية التي تتطلب المغامرة والبسالة والشجاعة، ويعمل بالحديث الشريف: (( خصلتان ليس فوقهما شيء من البر بالإيمان بالله، والنفع لعباد الله)).
فلم يكن يهتم بنفسه، بل يهتم بالحق، ولم يكن يفكر في مصلحته، بل في مصلحة الإسلام فيه.
فإن دوره في يوم عاشوراء لم يقتصر على حمل اللواء أو القتال بل كان يتعدى ذلك إلى أمورٍ أخرى منها مثلاً: إنه كان المفاوض القوي الذي يخشاه العدو ومن ثم فقد كان قادراً على أن يفرض منطقة عليه، ذلك أن المفاوضات في الحروب هي مواجهة بقوة المنطق، كما أن التلاحم بالسيف منطق بقوة السلاح، فعندما هجم العدو يوم التاسع من المحرم على مخيم أبي عبد الله ، وسمعت زينب طقطقة السيف وأصوات حوافر الخيل، جاءت إلى الإمام وكان يغفو عليه السلام فقالت: (( أخي قد اقترب العدو منا)) فقال الحسين للعباس عليه السلام (( اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم واسألهم عما جاء بهم و ما الذي يريدون)).
فركب العباس في عشرين فرساً فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر وغيرهم و سألوهم عما جاء بهم فقالوا(( جاء أمر من الأمير عبيد الله بن زياد أن تعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم الحرب)).
فوعظهم العباس ومن معه ولما لم ينفع معهم النصح في ذلك شهروا سيوفهم في وجوه الأعداء ولاحت للجميع صورة الموت منعكساً في سيوف العباس عليه السلام وأصحابه، فتوقفوا عن الزحف، ورجع العباس إلى الحسين يخبرهم بمقالة القوم وكيف أنه أوقفهم عند مواقعهم فقال له الإمام:
(( ارجع إليهم واستمهلهم هذه العشية إلى غد لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه، ونستغفره، فإنه تعالى يعلم أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار)).
وهكذا فإن ما فعله العباسُ في هذه المفاوضات هو أنه أفهم العدو أن أصحاب الحسين مستعدون للمواجهة والتي فيها الموت الزؤام، إلا أنهم يطلبون سواد ليلة للصلاة والدعاء وتلاوة الكتاب وقد نجح في أن يمنع العدو من شن الحرب في اليوم التاسع من محرم. ولم تكن تلك المفاوضات بأقل من التلاحم في يوم عاشوراء، لآن الحرب إذا كانت شديدة الصعوبة في ساعات المواجهة ولا يصمد فيها إلا الأبطال، فإن المفاوضات مابين طرفي القتال هي الأخرى شديدة الصعوبة إذ لا يستطيع أن ينجح فيها إلا من يمتلك من مضاء المنطق بمقدار ما يملك من قوة السيف، ويملك من قوة السيف بمقدار ما يملك من مضاء المنطق.
ولقد كانت قوة المنطق في العباس بحجم شجاعته في القتال، ولذلك فإنه كان يمثل أخاه الحسين ليس في مواقف المواجهة مع العدو فحسب، وإنما كان يمثله أيضاً في ساعات العسرة للتأثير على عياله ونفخ روح الثبات والسكون والسلام فيهم.
فقد ذكر المؤرخون أنه لما خطب الإمام الحسين عليه السلام خطبته الثانية التي ندب فيها نفسه، وسمعت زينب وبناته كلامه بكين، وارتفعت اصواتهن بالنحيب، فوجه الهين الحسين كلاً من أخاه العباس وابنه علي الأكبر وقال لهما : (( سكتاهن فلعمري ليكثرن بكائهن)).
وواضح أن المقصود من اسكات النساء ليس مجرد إصدار أمر لهم بالسكوت، وإنما يعني تهدأتهن بمنطق رباني و افاضة روح الصبر عليهن. ثم أن العباس لما كان يمتلك من صفات النبل والشجاعة والبسالة و روح الصمود والتعاون والدفاع عن المستضعفين كان سنداً لكل من يتورط في حالة المواجهة مع العدو ويشد ظهره ويؤازره القتال.
فعندما كان أصحاب الإمام الحسين بعد الحملة الأولى التي التحم فيها الطرفان واستشهد منهم خمسون رجلاً، أخذوا يخرجون ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة أو ما شابه ذلك و يحمي بعضهم ظهر الآخر. كان أحياناً يستطيع العدو بالاعتماد على كثرة عدده وقوة عدته أن يحيل بينهم وبين مخيم الحسين عليه السلام فيقع هؤلاء في كمين الأعداء فكان الإمام يرسل أخاه العباس لنجدتهم.
وقد ذكر الطبري في تاريخه إن عمرو بن خالد الصيداوي، وسعد مولاه، وجابر بن حارث السلماني، ومجمع بن عبد الله العائدي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلما أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس من كل جانب وقطعوهم عن اصحابهم، فندب إليهم الحسين أخاه العباس عليه السلام فاستنقذهم بسيفه وقد جرحوا بأجمعهم، وفي اثناء الطريق هجم عليهم العدو من جديد فشدوا بأسيافهم مع ما بهم من جراح وقاتلوا حتى قتلوا في مكان واحد رضوان الله عليهم.
وبقي هذا الدور للعباس مع جميع الاصحاب إلى آخر اللحظات حيث لم يبق إلا الحسين وهو، فكان العباس يشد ازرّ أخيه إذا هجم على العدو أو يشد الحسين أزره إذا هجم العباس وحدث ذلك مرتين أو ثلاثاً بعد مقتل الأصحاب جميعاً ولذلك فإن الحسين قال بعد سقوط العباس شهيداً قولته الشهيرة:
(( الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي)).
فالعباس كان ظهر الحسين عليه السلام تماماً كما كان ظهر أصحابه، ومع سقوطه شهيداً انكسر ظهر الحسين عليه السلام وكان العباس مخططاً لجبهته ولذلك فقد قلت ((حيلة الحسين)) بمقتله.
وكان العباس مصدر خوف لأعدائه بمقدار ما كان مصدر أمن لأصحابه وذلك فإن العدو شمت بالحسين عند سقوط العباس عليه السلام.
ولقد سمي العباس عليه السلام بالسقاء ليس فقط لدوره في صفتين بل لما ذكرناه قبل ذلك أيضاً. فكأن الأمر كان هوايةً له، وعادة خيرة من عاداته الخيرة الأخرى، فحيث كان يرى عطشاناً كان يبادر إلى سقيه، ولهذا فإنه في كربلاء قام ثلاث مرات بالحصول على الماء بقوة السلاح، وحمله إلى مخيم الحسين عليه السلام.
ففي اليوم السابع من محرم الحرام حوصر الإمام الحسين ومن معه ومنعوا الورود إلى الماء، ونفذ ماعندهم منه و(أخذ كل واحد منهم يعالج لهب الأوام بما يستطيع وكانوا بين أنة وحنة، وتضورٍ ونشيج، وطالب للماء إلى متحرٍ ما يبل غلته). كما يقول المؤرخون، عندئذٍ ندب الحسين عليه السلام أخاه العباس، وطلب منه الحصول على الماء بما أمكن، فخرج العباس ومعه ثلاثون فارساً يحملون عشرين قربة، وانطلقوا نحو معسكر العدو وكان عمر بن سعد قد عهد بحراسة الماء إلى ( عمرو بن الحجاج) الزبيدي وهو من طغاة أصحابه، فنادى عمر بن الحجاج:
ما جاء بكم؟
فقال نافع بن هلال من أصحاب الإمام عليه السلام: جئنا لنشرب الماء الذي حلأتموه عنا.
فقال له الحجاج: اشربوا ما شئتم، ولا تحملوا معكم.
فقالوا: أفنشرب والحسين عطشان.
قال عمر بن الحجاج: لا سبيل لسقي هؤلاء، إنما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء.
فحمل العباس ومن معه عليهم حتى كشفوهم عن الشريعة، بينما ملأ الأصحاب القرب بالماء، واستطاعوا أن يأتوا به إلى المخيم، وليس في القوم المناؤئين من تحدثه نفسه بالدنو منهم، خوفاً من شجاعة العباس وأصحابه ( فبلت غلة الحرائر والصبية من ذلك الماء وابتهجت به النفوس).
ولا شك أن تلك الكمية القليلة من الماء، في ذلك الحر الشديد، وفي تلك الصحراء القاحلة، لم تكن تنفع ذلك الجمع الذي كان يتراوح بين مئة وخمسين إلى مائتين من الرجال والنساء والأطفال إلا لفترة قصيرة من الزمن غير أن موقف العباس حُفظ له كواحدٍ من مواقف الرجولة النادرة في التاريخ ولقد قال الشاعر في ذلك:
وثنى أبو الفضل الفوارس نكصاً ،،، فرأوا أشدّ ثباتهم أن يهزموا
ماكر ذو بأسٍ له متقدماً ،،، إلا وفر ورأسه المتقدم
صبغ الخيول برمحه حتى ،،، غدى سيان أشقر لونها والأدهم
ماشد غضباناً على ملمومة ،،، إلا وحل بها البلاء المبرم
وله إلى الأقدام سرعة لهاربٍ ،،، فكأنما هو بالتقدم يسلم
بطل تورث من أبيه شجاعةً ،،، فيها أنوف بني الضلالة ترغم
يلقى السلام بشدة من بأسه ،،، فالبيض تثلم والرماح تحطم
عرف المواعظ لا تفيد مبعثر ،،، صموا عن النبأ العظيم كما عموا
فانصاع يخطب بالجماجم والكلا ،،، فالسيف ينثر والمثقف ينظم
أو تشتكي العطش الفواطم عنده ،،، وبصدر صعدته الفرات المفعم
لو سدُ ذي القرنين دون وروده ،،، سقته همته بما هو أعظم
لو استقى نهر المجرة ولا ارتقى ،،، وطويل ذابله إليها سلم
حام الضغينة أين منه ربيعة ،،، أم أبن عليـا أبيه مكدم
في كفه اليسرى السقاء يقله ،،، وبكفه اليمنى الحسام المحدم
مثل السحابة للفواطم صوبه ،،، ويصيب حاصبه العدو فيرجم
لقد كانت تلك أول مواجهة مسلحة في كربلاء بين أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وبين أصحاب يزيد بن معاوية، وانتهت إلى انتصار أصحاب الإمام بقيادة العباس عليه السلام وحصولهم على الماء رغم أنوف الطغاة.
ومن السقاية للماء إلى الصفات النبيلة الأخرى امتلك العباس كل ما يخطر في البال من الفضائل في سلسلة مترابطة يشد بعضها بعضاً، وارتبط اسمه بها منذ بداية شبابه، ففي الوقت الذي كان أقرانه من شباب المسلمين قد تبدلت حالاتهم وتغيرت نفوسهم بسبب الفتوحات التي اغدقت عليهم الأموال، وفتحت عليهم نعيم الدنيا ورفاهيتها فكانوا يبحثون عن الراحة والملذات كان العباس في ذلك الوقت يبحث عن المواقف البطولية التي تتطلب المغامرة والبسالة والشجاعة، ويعمل بالحديث الشريف: (( خصلتان ليس فوقهما شيء من البر بالإيمان بالله، والنفع لعباد الله)).
فلم يكن يهتم بنفسه، بل يهتم بالحق، ولم يكن يفكر في مصلحته، بل في مصلحة الإسلام فيه.
فإن دوره في يوم عاشوراء لم يقتصر على حمل اللواء أو القتال بل كان يتعدى ذلك إلى أمورٍ أخرى منها مثلاً: إنه كان المفاوض القوي الذي يخشاه العدو ومن ثم فقد كان قادراً على أن يفرض منطقة عليه، ذلك أن المفاوضات في الحروب هي مواجهة بقوة المنطق، كما أن التلاحم بالسيف منطق بقوة السلاح، فعندما هجم العدو يوم التاسع من المحرم على مخيم أبي عبد الله ، وسمعت زينب طقطقة السيف وأصوات حوافر الخيل، جاءت إلى الإمام وكان يغفو عليه السلام فقالت: (( أخي قد اقترب العدو منا)) فقال الحسين للعباس عليه السلام (( اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم واسألهم عما جاء بهم و ما الذي يريدون)).
فركب العباس في عشرين فرساً فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر وغيرهم و سألوهم عما جاء بهم فقالوا(( جاء أمر من الأمير عبيد الله بن زياد أن تعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم الحرب)).
فوعظهم العباس ومن معه ولما لم ينفع معهم النصح في ذلك شهروا سيوفهم في وجوه الأعداء ولاحت للجميع صورة الموت منعكساً في سيوف العباس عليه السلام وأصحابه، فتوقفوا عن الزحف، ورجع العباس إلى الحسين يخبرهم بمقالة القوم وكيف أنه أوقفهم عند مواقعهم فقال له الإمام:
(( ارجع إليهم واستمهلهم هذه العشية إلى غد لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه، ونستغفره، فإنه تعالى يعلم أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار)).
وهكذا فإن ما فعله العباسُ في هذه المفاوضات هو أنه أفهم العدو أن أصحاب الحسين مستعدون للمواجهة والتي فيها الموت الزؤام، إلا أنهم يطلبون سواد ليلة للصلاة والدعاء وتلاوة الكتاب وقد نجح في أن يمنع العدو من شن الحرب في اليوم التاسع من محرم. ولم تكن تلك المفاوضات بأقل من التلاحم في يوم عاشوراء، لآن الحرب إذا كانت شديدة الصعوبة في ساعات المواجهة ولا يصمد فيها إلا الأبطال، فإن المفاوضات مابين طرفي القتال هي الأخرى شديدة الصعوبة إذ لا يستطيع أن ينجح فيها إلا من يمتلك من مضاء المنطق بمقدار ما يملك من قوة السيف، ويملك من قوة السيف بمقدار ما يملك من مضاء المنطق.
ولقد كانت قوة المنطق في العباس بحجم شجاعته في القتال، ولذلك فإنه كان يمثل أخاه الحسين ليس في مواقف المواجهة مع العدو فحسب، وإنما كان يمثله أيضاً في ساعات العسرة للتأثير على عياله ونفخ روح الثبات والسكون والسلام فيهم.
فقد ذكر المؤرخون أنه لما خطب الإمام الحسين عليه السلام خطبته الثانية التي ندب فيها نفسه، وسمعت زينب وبناته كلامه بكين، وارتفعت اصواتهن بالنحيب، فوجه الهين الحسين كلاً من أخاه العباس وابنه علي الأكبر وقال لهما : (( سكتاهن فلعمري ليكثرن بكائهن)).
وواضح أن المقصود من اسكات النساء ليس مجرد إصدار أمر لهم بالسكوت، وإنما يعني تهدأتهن بمنطق رباني و افاضة روح الصبر عليهن. ثم أن العباس لما كان يمتلك من صفات النبل والشجاعة والبسالة و روح الصمود والتعاون والدفاع عن المستضعفين كان سنداً لكل من يتورط في حالة المواجهة مع العدو ويشد ظهره ويؤازره القتال.
فعندما كان أصحاب الإمام الحسين بعد الحملة الأولى التي التحم فيها الطرفان واستشهد منهم خمسون رجلاً، أخذوا يخرجون ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة أو ما شابه ذلك و يحمي بعضهم ظهر الآخر. كان أحياناً يستطيع العدو بالاعتماد على كثرة عدده وقوة عدته أن يحيل بينهم وبين مخيم الحسين عليه السلام فيقع هؤلاء في كمين الأعداء فكان الإمام يرسل أخاه العباس لنجدتهم.
وقد ذكر الطبري في تاريخه إن عمرو بن خالد الصيداوي، وسعد مولاه، وجابر بن حارث السلماني، ومجمع بن عبد الله العائدي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلما أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس من كل جانب وقطعوهم عن اصحابهم، فندب إليهم الحسين أخاه العباس عليه السلام فاستنقذهم بسيفه وقد جرحوا بأجمعهم، وفي اثناء الطريق هجم عليهم العدو من جديد فشدوا بأسيافهم مع ما بهم من جراح وقاتلوا حتى قتلوا في مكان واحد رضوان الله عليهم.
وبقي هذا الدور للعباس مع جميع الاصحاب إلى آخر اللحظات حيث لم يبق إلا الحسين وهو، فكان العباس يشد ازرّ أخيه إذا هجم على العدو أو يشد الحسين أزره إذا هجم العباس وحدث ذلك مرتين أو ثلاثاً بعد مقتل الأصحاب جميعاً ولذلك فإن الحسين قال بعد سقوط العباس شهيداً قولته الشهيرة:
(( الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي)).
فالعباس كان ظهر الحسين عليه السلام تماماً كما كان ظهر أصحابه، ومع سقوطه شهيداً انكسر ظهر الحسين عليه السلام وكان العباس مخططاً لجبهته ولذلك فقد قلت ((حيلة الحسين)) بمقتله.
وكان العباس مصدر خوف لأعدائه بمقدار ما كان مصدر أمن لأصحابه وذلك فإن العدو شمت بالحسين عند سقوط العباس عليه السلام.
تعليق