بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا نُقبِّل (العَلَم) و(القِرْبَة)... ونحوهما؟
كثيرٌ من التصرُّفات التي يقوم به العقلاء، لها تفسيرها المنطقي على أساس مجموعة من الْمُرتكَزات عندهم. ويندر - وربَّما ينعدم - وجود تصرُّف يكون ذا طابع عامٍّ في مجتمع العقلاء ولا يكون ذا ارتكاز منطقي معيَّن عندهم.. كما أنَّ كثيراً من التصرُّفات العقلائية - خصوصاً في المجتمع الإسلامي - تدخل ضمن دائرة ما هو مطلوب شرعاً.
فالمشاركة في أعمال الخير، وتكوين المجموعات التي تقوم بنشاطات خيريَّة معيَّنة، هو أمرٌ رائج بيننا، وهو سلوك يميل إليه جميعُ العقلاء، وهو - في الوقت نفسه - مطلوبٌ شرعاً على أساس (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: من الآية2] ـ
وهناك العديد من السلوكيات التي توجد في المجتمع الإسلامي، تستند إلى مجموعة من الأسس الدينيَّة والعقلائية في آن واحد.. ولكنَّ بعضها قد يكون أساسه غامضاً بالنسبة للناشئة، أو بالنسبة لمن لم يتربُّوا عليها (الآخرون) ، أو بالنسبة لمن يعيشون حالةَ الشكِّ الإيجابي أو السلبي تجاهها..
ومن هذه السلوكيات التي تستند إلى مرتكز عقلائي وشرعي: ظاهرةُ تقبيل العلم والقربة وأشباهها في أجواء الحزن العاشورائية.. فالسؤال المطروح: ما هو هذا المستند العقلائي والشرعي؟
المستند العقلائي:
فيما يرتبط بالسلوك العقلائي نلاحظ أنَّ جميع العقلاء يهتمُّون بـ (الرمزيَّة) ، ويعبِّرون عن علاقتهم بـ (المرموز له) ، من خلال سلوك مُعيَّن إزاءَ (الرَّمْـز).. فمثلاً: يقوم الرؤساء والقادة والشعوب بإلقاء التحيَّة على عَلَمِ الوطن، ويحرصون على احترامه، وليس المقصود هو تعظيم هذا القماش والعمود باعتباره قماشاً وعموداً، بل العَلَم - هنا - رمزٌ للوطن وقِيَمِهِ الشريفة، وحين يُحترم العلم، فإنَّما يُقصد بذلك احترام ما يرمز إليه، أي ما يُعبِّر عنه ويُذكِّر به، وهو الوطن والشهداء والاستقلال... وغير ذلك من القِيَمِ السامية التي يهتمُّ بها الشرفاء..
هذا مثالٌ واحد من كثير من الأمثلة التي تُعبِّر عن إقرار العقلاء واعتنائهم بظاهرة الرمزيَّة..
وتقبيل (العَلَم) يأتي على هذا الأساس العقلائي؛ لأنَّ العَلَمَ يرمز ويُعبِّر عن (عَلَمِ الحسين) أو (عَلَمِ العباس) عليهما السلام، وهما يختزلان جميع القِيَمِ العاشورائيَّة السامية، مِنَ الولاء، والبراء، والصبر، والتَّضحية... فالذي يُقبِّل العَلَمَ، إنَّما يُعبِّر عن ارتباطه بهذه القيم النبيلة، ويُعلن عن محبَّته لكلِّ ما هو حُسينيٌّ.. ولذا تجد المؤمن حين يرى العَلَمَ، يشتدُّ به الوَجْدُ، وتنهمر عيناه بالدموع، ويشعر بانشداد عاطفي إلى هذا العلم الشريف.. وهذا دليل واضحٌ على أنَّ القضية ليست مجرَّد قماش وعمود، بل هي قضية قِيَمٍ إيمانية عظيمة منصهرة في قالب الرمز الماثل..
الْمُستند الشرعي:
وإذ قد تبيَّن أنَّ هذا السلوك موافق لسلوك العقلاء، يبقى أن نعرف المستند الشرعي له..
والمقصود بالمستند الشرعي: ما يدلُّ على أنَّ الشريعة لا ترفض ذلك السلوك العقلائي، بل تدعمه..
وتقبيل العلم والقربة ونحوهما، مُؤيَّد مدعومٌ من قبل الشرع بلا ريب؛ لأنَّ هذا السلوك - كما عرفنا - عبارة عن سلوك رمزيٍّ تعبيريٍّ، وبالنسبة إلى حُكمه في حدود الرمزيَّة: هو مباحٌ لعدم وجود دليل على رفض ظاهرة الرمزية في الشريعة، فالتعبير الرمزي إذاً مقبول مباح. فيبقى الشطر الأهمُّ في القضية، وهو المرموز له، أي ما يُعَبِّر عنه تقبيلُ العلم والقربة ونحوهما، ومن الواضح أنَّ المعبَّر عنه هنا مطلوب ومؤكَّد عليه في الدين والشريعة؛ لأنَّ إبراز محبَّة أهل البيت، وإبراز التأثُّر بمصابهم عليهم السلام، ممَّا يُجسِّد عنوان (مودَّة ذوي القربى) ، وعنوان (إحياء أمر أهل البيت) ، وعنوان (ذكر أهل البيت) ، وعنوان (الجزع على مصاب أهل البيت) ، وعنوان (البكاء والإبكاء على مصابهم)... وغير ذلك من العناوين التي ثبت استحبابُها في النصوص الشرعية.
بل قد يُحكم باستحباب الظاهرة الرمزية نفسها في خصوص مثل هذا المورد؛ باعتبارها تقع مقدِّمة وأساساً في تفعيل هذه العناوين الْمُستحبَّة في سلوك المؤمن.. وحينئذٍ يكون رفع العلم، وإبراز القِرْبَة، وإجراء سائر هذه المظاهر الرمزية في الشعائر الحسينيَّة، من الأمور المستحبة أيضاً..
تلخيص:
فاتَّضح ممَّا ذكرنا أنَّ هذه المظاهر هي عبارة عن مظاهر رمزيَّة، يعرفها العقلاء في سلوكهم وتعابيرهم.. وهي مطلوبة دينيّاً، مُستحبَّةٌشرعاً؛ لكونِها تأتي استجابةً لما طالبت به النصوص الشرعية، مثل: مَحبَّتهم، وإحياء أمرهم وذكرهم، والبكاء والإبكاء على مُصابِهم.. صلوات الله وسلامه عليهم، ورزقنا الله شفاعتهم في الدنيا والآخرة..
والحمد لله أوَّلاً وآخراً.