اللهم صل و سلم وزد وبارك على محمد وآل محمد
نتأمل البيان في القرآن الكريم
معجزة خاتم الأنبياء صل الله عليه وآله وسلم
اللمسات البيانية في آيات سورة الكهف في قصة موس ع مع الخِضرع: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78))
و قوله تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا). كلمة لا أبرح: أفعل كذا إشارة إلى التصميم ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا) حقباً أي أوقاتاً أو دهوراً أو زماناً مفتوح. قلنا هذا حتى يُعلِم الفتى بما ينتظره حتى لا يُغش أنه المكان قريب وتأتي معي. لا، وإنما هناك مرحلة طويلة سأسلكها، فيه نوع من التخيير إن شئت أن تمضي معي وإن شئت فلا. ثم إستعمال كلمة فتاه وهذا اللطف مع التابع الذي يتبعه وذكرنا حديث الرسول (ص): لا يقول أحدكم عبدي وعبدتي وإنما يقول فتاي وفتاتي. (فلما بلغا مجمع بينِهما) وقفنا عند كلمة بينِهما ولماذا قال بينِهما وما قال بينَهما؟ أضاف إلى البين لأن قلنا أن البين هو المسافة أو المساحة بين الشيئين. لكن هذه المساحة تابعة لكلا البحرين لأن يكون هناك إختلاط بين مياه البحرين، فهو بينٌ لهذا وبينٌ لهذا فجمعه بكلمة بينِهما. (نسيا حوتهما) النسيان نوعان: نسيان موسى ع شيء ونسيان الفتى شيء آخر له معنى آخر. (فاتخذ سبيله في البحر سربا) السرب هو نوع من النفق في الماء. (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غذاءنا) ذكرنا أن الغداء هو الطعام الذي قبل شروق الشمس بين الفجر وشروق الشمس. وهذا معناه أن موسى ع وفتاه ناما عند الصخرة، كم ناما؟ ساعة أو نصف الليل أو أكثر الليل ثم مشيا إلى أن طلع الفجر وبعد الفجر أحس بالجوع فطلب الطعام. (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت) نسب النسيان لنفسه نوع من الأدب لأن موسى ع أيضاً نسيه. لم يقل الفتى: أنت تسألني عنه لأن الموعد عند ذهاب الحوت في الماء ونحن نمنا عند الماء فكان تسألني، لكن نسبه لنفسه نوع من التأدب. (وما أنسانيهُ إلا الشيطان) الأصل في الضمير أن يكون مبنياً على الضم وجاء على الأصل وهي قراءة مجموعة من القبائل العربية التي أبقته ومنها لغة قريش أنها تبقيه. هذه رواية وحيدة والثانية عن شعبة عن عاصم (أنسانيهِ) وبيّنا أن هؤلاء الذين رويت عنهم هذه الروايات أقرّها الرسول (ص) أو قرأ بها إقراره بإذن ربه لغرض لبيان الثقل لأن الضمة ثقيلة والأمر ثقيل أن ينسى فكان هناك نوع من المناسبة بين ثقل الضمة وثقل الحدث الذي نُسي. كيف ينسى هذا الحدث؟. إلى أن قال (ذلك ما كنا نبغِ) ذكرنا أن الكسرة للسرعة وحذف الياء للسرعة وهي قراءة لعدد من القراء. عندنا من القرّاء من أشبع الكسرة فصارت ياء لأن الكسرة إذا مددت بها الصوت علماؤنا يقولون ينشأ من بعدها الياء المدّية (الدرس الحديث يقول: هي تصبح ياء تتحول من حركة إلى حركة طويلة أو حرف طويل). عندنا ثلاثة من القرّاء السبعة قرأوا بالياء في الوصل إذا وصلوا قرأوا بالياء (نبغي فارتدا) وإبن كثير وصلاً ووقفاً وهو قارئ مكة. (فوجدا عبداً من عبادنا) ذكرنا أن كلمة عبد لها جموع كثيرة ومن جموعها عبيد وعباد ويستويان في الإستعمال. هذه الجموع الكثيرة في الغالب تكون من لهجات تجمعت في الإستعمال لكن قلنا الناس كأنما خصصوا وهذا ليس من صلب اللغة وإنما من الإستعمال. كأنما خصصوا كلمة عباد لعباد الله وعبيد للمملوكين في الدنيا. فجاءت كلمة عبداً من عبادنا حتى ترسم هذه الصورة هنا أنه هو عبد لله. (آتيناه رحمة من عندنا) آتي وأعطى متقاربة في المعنى لكن العين أقرب من الهمزة التي آلت إلى ألف في آتى أصلها أأتى مثل أأدم صارت آدم يقولون نقلت الحركة إلى الهمزة التي قبلها وحُذِفت أو قُلِبت ألفاً ولكنها في الحقيقة أسقطت الهمزة ومدّ الصوت بالحركة التي قبلها فصارت ألفاً. (آتيناه رحمة من عندنا) كلمة (عند) تشير إلى المكان القريب و(لدن) تشير إلى المكان الأقرب عند العرب. وكان يمكن في غير القرآن أن تستعمل عند ولدن الواحدة مكان الأخرى. والفرق في مسافة القرب من المتكلم بين عند ولدن. عندما نتكلم عن الله سبحانه وتعالى تكون مسألة القرب معنوية. (رحمة من عندنا) الرحمة واسعة تمتد ولا تكون خاصة به أما علم الغيب فهو من لدنا لأنه خاص بالله سبحانه وتعالى.
هل ذهب الفتى مع موسى ع في الرحلة؟ لم يذكر إن كان الفتى ذهب مع موسى ع والخِضرع لأن صار الكلام بالمثنى (فانطلقا، فذهبا) ولم يقل فانطلقوا، معناه أنه إلى هذا الحد فتى موسى ع يعد معه وموسى ع صار كأنما هو فتى لهذا الرجل وهو التابع. لم يُذكر الفتى، من هنا تبدأ الآيات تُغفِل ذكره وصار لما يُتحدث عن هؤلاء الناس الذين ذهبوا في السفينة يتحدث بالمثنى.
(إنك لن تستطيع معيَ صبرا) ما اللمسة البيانية في النفي القطعي (لن تستطيع) في الآية وفي (معيََ)؟
(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلّمن مما علمت رشدا): هو يعلم أن له موعداً مع هذا الرجل وأنه سيكون معه وسيتعلم منه لكن مع ذلك لم يقل له أنا عندي علم إني سأرافقك وهذا نوع من أدب التعلّم. (هل أتبعك) جعل من نفسه إبتداءً تابعاً بشرط أني أتّبعك وأخدمك حتى أتعلم وهذا التعلم هو الذي سار عليه سلفنا الصالح. هنا يحضرني ما وقع لإبن جنّي مع شيخه أبي علي الفارسي: إبن جنّي كان شاباً متضلعاً من علم النحو وكان في الموصل وجلس للتدريس في الموصل. أبو علي الفارسي كان مارّاً فوجد شاباً صغيراً على منبر يفتي في النحو ويتكلم في مسائل شديدة التعقيد في النحو ويحلّلها وتوجهت إليه أسئلة وهو سأله في النحو فوجده بحراً، فسأله مسألة في الصرف (كيف تبني من كذا على مثال كذا) فقصّر فيها إبن جِنّي وصار يخلط لأن هذا غير هذا. فقال له أبو علي الفارسي كلمة صارت مثلاً: قال يا هذا زبّبت وأنت حِصرم؟ (أي تريد أن تجعل من نفسك زبيباً وهو العنب الجاف وأنت حصرم في بداية نشأة العنب يكون حامضاً) يعني هذا مكان التدريس لا يأتيه الإنسان هكذا صغيراً. فسأل عنه إبن جِنّي : قال من هذا؟ قيل: أبو علي الفارسي فلزمه يخدمه وتقول الروايات لزمه أربعين سنة ولم يتصدر للتدريس إلا بعد وفاة شيخه. هذه المتابعة في التعلّم. فكم من الحِصرم نرى في حياتنا اليوم المتزببين؟ ينبغي أن يكون لدينا أدب التلمذة وأدب التعلّم. المفروض أن ننظر إلى شيوخنا في كل علم من العلوم.
(هل أتبعك): هذا السؤال المؤدب، يريد إذناً منه بالإتّباع مع أنه يعرف أنه سيتبعه ويكون معه وهذا أدب التعلم في الإسلام. (على أن تعلمنِ) هذا الذي أريده لنفسي وإشترطه لنفسي، إذن موسى ع يعلم أن هذا الرجل معلَّم قد عُلِّم شيئاً لم يعلمه موسى ع فأريد أن أتعلم ما ُعِّلمت. (أن تعلمنِ مما علمت رشدا) ما يؤدي بي إلى الرشاد وقدّم الجار والمجرور للإهتمام به. في غير القرآن يمكن أن نقول: أن تعلمنِ رشداً مما علمت لأن الجار والمجرور يتأخر. لكن قدّمه في الآية للعناية بهذا الذي عُلِّمه لأنه حريص على العلم ويعلم أنه سيكون رشداً. هنا كلمة (تعلمنِ) هذه قراءة وعندنا قراءات أخرى (تعلمني) بالإشباع. نسأل أيضاً لمَ إختلس وقال: تعلمنِ؟ ولم يقل تعلمني؟ حتى يعطي صورة لمحاولة تضاؤل التلميذ أمام شيخه فما قال تعلمني أنا. أنا تلميذ (تعلمن) صغيرة. قابل هذا الأدب أدب من الشيخ، من المعلِّم في قوله تعالى (معيَ صبرا) ما قال معي بالمدّ في هذه الواية لأنه وجده مهذباً مؤدباً يصغّر من نفسه فتواضع معه أيضاً. فضمير المتكلم هنا جاء مقتضباً لأن (معي) فيها مدّ، الياء مدية أما (معيَ) الياء ليست مدّية وإنما قيمتها قيمة حرف صامت ولذلك تحملت الحركة (معيَ) مثل الباء واللام والكاف ومثل أي حرف فليس فيه ذاك المدّ. فهو إذن ناسب (تعلمنِ) (معيَ). هم يقولون الفتحة لتخفيف المدّ بدل أن يمدّ يخفف مدتها هكذا فيقول: معيَ. والقبائل تتصرف بما يناسب المعنى والصوت.
يتبع ببركة الله وتوفيقه
نتأمل البيان في القرآن الكريم
معجزة خاتم الأنبياء صل الله عليه وآله وسلم
اللمسات البيانية في آيات سورة الكهف في قصة موس ع مع الخِضرع: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78))
و قوله تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا). كلمة لا أبرح: أفعل كذا إشارة إلى التصميم ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا) حقباً أي أوقاتاً أو دهوراً أو زماناً مفتوح. قلنا هذا حتى يُعلِم الفتى بما ينتظره حتى لا يُغش أنه المكان قريب وتأتي معي. لا، وإنما هناك مرحلة طويلة سأسلكها، فيه نوع من التخيير إن شئت أن تمضي معي وإن شئت فلا. ثم إستعمال كلمة فتاه وهذا اللطف مع التابع الذي يتبعه وذكرنا حديث الرسول (ص): لا يقول أحدكم عبدي وعبدتي وإنما يقول فتاي وفتاتي. (فلما بلغا مجمع بينِهما) وقفنا عند كلمة بينِهما ولماذا قال بينِهما وما قال بينَهما؟ أضاف إلى البين لأن قلنا أن البين هو المسافة أو المساحة بين الشيئين. لكن هذه المساحة تابعة لكلا البحرين لأن يكون هناك إختلاط بين مياه البحرين، فهو بينٌ لهذا وبينٌ لهذا فجمعه بكلمة بينِهما. (نسيا حوتهما) النسيان نوعان: نسيان موسى ع شيء ونسيان الفتى شيء آخر له معنى آخر. (فاتخذ سبيله في البحر سربا) السرب هو نوع من النفق في الماء. (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غذاءنا) ذكرنا أن الغداء هو الطعام الذي قبل شروق الشمس بين الفجر وشروق الشمس. وهذا معناه أن موسى ع وفتاه ناما عند الصخرة، كم ناما؟ ساعة أو نصف الليل أو أكثر الليل ثم مشيا إلى أن طلع الفجر وبعد الفجر أحس بالجوع فطلب الطعام. (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت) نسب النسيان لنفسه نوع من الأدب لأن موسى ع أيضاً نسيه. لم يقل الفتى: أنت تسألني عنه لأن الموعد عند ذهاب الحوت في الماء ونحن نمنا عند الماء فكان تسألني، لكن نسبه لنفسه نوع من التأدب. (وما أنسانيهُ إلا الشيطان) الأصل في الضمير أن يكون مبنياً على الضم وجاء على الأصل وهي قراءة مجموعة من القبائل العربية التي أبقته ومنها لغة قريش أنها تبقيه. هذه رواية وحيدة والثانية عن شعبة عن عاصم (أنسانيهِ) وبيّنا أن هؤلاء الذين رويت عنهم هذه الروايات أقرّها الرسول (ص) أو قرأ بها إقراره بإذن ربه لغرض لبيان الثقل لأن الضمة ثقيلة والأمر ثقيل أن ينسى فكان هناك نوع من المناسبة بين ثقل الضمة وثقل الحدث الذي نُسي. كيف ينسى هذا الحدث؟. إلى أن قال (ذلك ما كنا نبغِ) ذكرنا أن الكسرة للسرعة وحذف الياء للسرعة وهي قراءة لعدد من القراء. عندنا من القرّاء من أشبع الكسرة فصارت ياء لأن الكسرة إذا مددت بها الصوت علماؤنا يقولون ينشأ من بعدها الياء المدّية (الدرس الحديث يقول: هي تصبح ياء تتحول من حركة إلى حركة طويلة أو حرف طويل). عندنا ثلاثة من القرّاء السبعة قرأوا بالياء في الوصل إذا وصلوا قرأوا بالياء (نبغي فارتدا) وإبن كثير وصلاً ووقفاً وهو قارئ مكة. (فوجدا عبداً من عبادنا) ذكرنا أن كلمة عبد لها جموع كثيرة ومن جموعها عبيد وعباد ويستويان في الإستعمال. هذه الجموع الكثيرة في الغالب تكون من لهجات تجمعت في الإستعمال لكن قلنا الناس كأنما خصصوا وهذا ليس من صلب اللغة وإنما من الإستعمال. كأنما خصصوا كلمة عباد لعباد الله وعبيد للمملوكين في الدنيا. فجاءت كلمة عبداً من عبادنا حتى ترسم هذه الصورة هنا أنه هو عبد لله. (آتيناه رحمة من عندنا) آتي وأعطى متقاربة في المعنى لكن العين أقرب من الهمزة التي آلت إلى ألف في آتى أصلها أأتى مثل أأدم صارت آدم يقولون نقلت الحركة إلى الهمزة التي قبلها وحُذِفت أو قُلِبت ألفاً ولكنها في الحقيقة أسقطت الهمزة ومدّ الصوت بالحركة التي قبلها فصارت ألفاً. (آتيناه رحمة من عندنا) كلمة (عند) تشير إلى المكان القريب و(لدن) تشير إلى المكان الأقرب عند العرب. وكان يمكن في غير القرآن أن تستعمل عند ولدن الواحدة مكان الأخرى. والفرق في مسافة القرب من المتكلم بين عند ولدن. عندما نتكلم عن الله سبحانه وتعالى تكون مسألة القرب معنوية. (رحمة من عندنا) الرحمة واسعة تمتد ولا تكون خاصة به أما علم الغيب فهو من لدنا لأنه خاص بالله سبحانه وتعالى.
هل ذهب الفتى مع موسى ع في الرحلة؟ لم يذكر إن كان الفتى ذهب مع موسى ع والخِضرع لأن صار الكلام بالمثنى (فانطلقا، فذهبا) ولم يقل فانطلقوا، معناه أنه إلى هذا الحد فتى موسى ع يعد معه وموسى ع صار كأنما هو فتى لهذا الرجل وهو التابع. لم يُذكر الفتى، من هنا تبدأ الآيات تُغفِل ذكره وصار لما يُتحدث عن هؤلاء الناس الذين ذهبوا في السفينة يتحدث بالمثنى.
(إنك لن تستطيع معيَ صبرا) ما اللمسة البيانية في النفي القطعي (لن تستطيع) في الآية وفي (معيََ)؟
(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلّمن مما علمت رشدا): هو يعلم أن له موعداً مع هذا الرجل وأنه سيكون معه وسيتعلم منه لكن مع ذلك لم يقل له أنا عندي علم إني سأرافقك وهذا نوع من أدب التعلّم. (هل أتبعك) جعل من نفسه إبتداءً تابعاً بشرط أني أتّبعك وأخدمك حتى أتعلم وهذا التعلم هو الذي سار عليه سلفنا الصالح. هنا يحضرني ما وقع لإبن جنّي مع شيخه أبي علي الفارسي: إبن جنّي كان شاباً متضلعاً من علم النحو وكان في الموصل وجلس للتدريس في الموصل. أبو علي الفارسي كان مارّاً فوجد شاباً صغيراً على منبر يفتي في النحو ويتكلم في مسائل شديدة التعقيد في النحو ويحلّلها وتوجهت إليه أسئلة وهو سأله في النحو فوجده بحراً، فسأله مسألة في الصرف (كيف تبني من كذا على مثال كذا) فقصّر فيها إبن جِنّي وصار يخلط لأن هذا غير هذا. فقال له أبو علي الفارسي كلمة صارت مثلاً: قال يا هذا زبّبت وأنت حِصرم؟ (أي تريد أن تجعل من نفسك زبيباً وهو العنب الجاف وأنت حصرم في بداية نشأة العنب يكون حامضاً) يعني هذا مكان التدريس لا يأتيه الإنسان هكذا صغيراً. فسأل عنه إبن جِنّي : قال من هذا؟ قيل: أبو علي الفارسي فلزمه يخدمه وتقول الروايات لزمه أربعين سنة ولم يتصدر للتدريس إلا بعد وفاة شيخه. هذه المتابعة في التعلّم. فكم من الحِصرم نرى في حياتنا اليوم المتزببين؟ ينبغي أن يكون لدينا أدب التلمذة وأدب التعلّم. المفروض أن ننظر إلى شيوخنا في كل علم من العلوم.
(هل أتبعك): هذا السؤال المؤدب، يريد إذناً منه بالإتّباع مع أنه يعرف أنه سيتبعه ويكون معه وهذا أدب التعلم في الإسلام. (على أن تعلمنِ) هذا الذي أريده لنفسي وإشترطه لنفسي، إذن موسى ع يعلم أن هذا الرجل معلَّم قد عُلِّم شيئاً لم يعلمه موسى ع فأريد أن أتعلم ما ُعِّلمت. (أن تعلمنِ مما علمت رشدا) ما يؤدي بي إلى الرشاد وقدّم الجار والمجرور للإهتمام به. في غير القرآن يمكن أن نقول: أن تعلمنِ رشداً مما علمت لأن الجار والمجرور يتأخر. لكن قدّمه في الآية للعناية بهذا الذي عُلِّمه لأنه حريص على العلم ويعلم أنه سيكون رشداً. هنا كلمة (تعلمنِ) هذه قراءة وعندنا قراءات أخرى (تعلمني) بالإشباع. نسأل أيضاً لمَ إختلس وقال: تعلمنِ؟ ولم يقل تعلمني؟ حتى يعطي صورة لمحاولة تضاؤل التلميذ أمام شيخه فما قال تعلمني أنا. أنا تلميذ (تعلمن) صغيرة. قابل هذا الأدب أدب من الشيخ، من المعلِّم في قوله تعالى (معيَ صبرا) ما قال معي بالمدّ في هذه الواية لأنه وجده مهذباً مؤدباً يصغّر من نفسه فتواضع معه أيضاً. فضمير المتكلم هنا جاء مقتضباً لأن (معي) فيها مدّ، الياء مدية أما (معيَ) الياء ليست مدّية وإنما قيمتها قيمة حرف صامت ولذلك تحملت الحركة (معيَ) مثل الباء واللام والكاف ومثل أي حرف فليس فيه ذاك المدّ. فهو إذن ناسب (تعلمنِ) (معيَ). هم يقولون الفتحة لتخفيف المدّ بدل أن يمدّ يخفف مدتها هكذا فيقول: معيَ. والقبائل تتصرف بما يناسب المعنى والصوت.
يتبع ببركة الله وتوفيقه
تعليق