"الـحــداثـة فـي فــكـر مـحـــمـــد أركـــون" لـفـارح مــســـرحـــي
نـــقـد الــعــــقـــل الاسلامي شـرط دخــول الـعــربالـى الـحــداثــة
نـــقـد الــعــــقـــل الاسلامي شـرط دخــول الـعــربالـى الـحــداثــة
خالد غزال
منذ اكثر من اربعة عقود، اطلق محمد اركون مشروعه في "نقد العقل الاسلامي" الذيرأى فيه المدخل الضروري لتحديث المجتمعات الاسلامية والعربية. وعلى الرغم من ترجمةمعظم كتبه الى العربية، لا يزال مشروعه لا يلقى الاهتمام الذي يستحق في سجالالمثقفين العرب ومناقشاتهم، فيما تحظى كتبه باهتمام خاص في الغرب الاوروبي. فيالمقابل، نال اركون، ولا يزال، نصيباً وافراً من الهجوم "الاصولي الاسلامي" علىافكاره الى حد تكفيره، لتصديه الجريء "لغير المفكَّر فيه" او "المستحيل التفكيرفيه" في الفكر الاسلامي وتراثه. وكشفه "المستور" في فكر الحركات الاسلامية وتعريتهالاسس الايديولوجية الذي تستقي منه عنفها. في هذا السياق، يشكل كتاب "الحداثة فيفكر محمد أركون" للكاتب الجزائري فارح مسرحي، الصادر لدى "منشورات الاختلاف والدارالعربية للعلوم"، إحدى المساهمات الجادة التي تتناول اهم المحاور الرئيسية للمشروعالاركوني، وخصوصاً في مجالات نقد العقل الاسلامي وشروط تحديث المجتمعات العربيةوالاسلامية.
بما ان مشروع اركون هو في حقيقته مشروع ادخال الحداثة وبنائها فيالعالمين العربي والاسلامي، يعرض الكاتب بداية لمفاهيم محددة تمثلها الحداثة كمااستقرت في المجتمعات الغربية، بعدما سارت في رحلة امتدت من عصر النهضة الى تبلورهاالاخير من خلال مفكري "الانوار" في القرون الثلاثة الاخيرة. فعلى الصعيد الفكري،تتميز الحداثة بأولوية الذات التي ترى ان الانسان يستمد يقينياته من ذاته وليس منتعاليم عقيدة محددة او سلطة اخرى على غرار ما كان حاصلاً في العصور الوسطى، ممايعني "تحرير الروح الاستقلالية" للذات البشرية وتعامل الانسان مع نفسه كذات واعيةوسيدة وفاعلة. كما ترتبط الحداثة ارتباطا وثيقاً بالعقلانية نظراً الى تماهيها معالعقل الذي يقلص المجالات الغامضة والمبهمة التي تربط الانسان بالوجود، ويستبعدالخرافة والاساطير في تفسير الحوادث، ما يجعل هذا العقل المصدر الاساسي والوحيدللحقيقة والمعرفة عبر قدرته على تمكين الانسان من اكتشاف القوانين التي تسمحبالسيطرة على الطبيعة. تتمثل العقلانية ايضاً في فصل العلم عن التصورات الدينيةوالايديولوجية عبر نزع القدسية عن المجال السياسي باعتباره مجالاً دينوياً للصراعحول الخيرات والسلطة والرموز.
على المستوى السياسي، تتجلى الحداثة في نشأةالدولة الديموقراطية العلمانية، اي الدولة التي يجري فيها التمييز بين المجالينالسياسي والديني، وتسمح في المقابل للفاعلين الاجتماعيين، اي المواطنين، ان يتصرفوابحرية في اختيار حكامهم. وعلى المستوى الاقتصادي، تتجلى في تطوير انتاجية العملالبشري وسيطرة الانسان على الطبيعة وقوى الانتاج. اما على المستويين الاجتماعيوالاخلاقي، فالحداثة تعبر عن قيم منفتحة قائمة على التعددية وقابلية التغييرومعيارية النسبية والحرية.
قرأ اركون واقع المجتمعات العربية فرأى ان ما عرفتهمنذ قيام دول الاستقلالات ليس اكثر من تحديث مادي تمثل في ادخال منتجات تقنيةاليها، من دون ان يرافق ذلك تغيير عقلي وثقافي كان هو الاساس في انتاج هذه التقنياتفي الغرب. وهذا شأن يجعل المجتمعات العربية تعيش حالاً من الفصام، الأمر الذي يحملأركون على الاعتبار ان النضال من اجل ادخال الحداثة يشكل الحلقة الرئيسية لقوىالتغيير في المجتمعات العربية.
يرى اركون ان مفتاح ادخال الحداثة هو نقد العقلالاسلامي بنصوصه المؤسسة وتراثه التاريخي، والذي يسعى الى البرهنة ان الفرقوالحركات الاسلامية تنطلق من مسلّمات فكرية وايديولوجية واحدة، على الرغم منالاختلافات والصراعات القائمة في ما بينها. فالعقل الاسلامي عقل تاريخي له نقطةتشكُّل، وبداية ونهاية، تحدد منذ "رسالة الشافعي" التي عنيت بالاحكام الشرعيةوالاصول الدينية التي قام عليها الفقه في العصور اللاحقة ولا تزال تحكم الزمنالراهن. تستند هذه الاصول الى الخطاب القرآني وسيرة النبي والإمام علي والائمة عندالشيعة. وتعالج الرسالة موضوعاً مركزياً يتعلق بـ"اسس السيادة العليا او المشروعيةالعليا في الاسلام، حيث يمثل القرآن مصدر السيادة الالهية العليا، والسنّة مصدرالسيادة العليا للنبي. بناء عليه، تحدد الرسالة دور العقل في البحث عن الاحكامالموجودة في النصوص المؤسسة (القرآن والسنة)، وتؤسس لتكوين عقل اسلامي منغلق فيقوانين حديدية صارمة تقوم على الجزم بأن سبل النجاة في الدار الآخرة ووسائل الوصولاليها تجد كل تفسيراتها وشروحها في القرآن، مما يعني ان مهمة العقل الرئيسية تقومفقط في قراءة صحيحة لهذا النص.
يشتغل هذا العقل داخل اطار معرفة جاهزة فيستخرجالمعرفة الصحيحة استناداً الى النصوص المقدسة، بما يكرّس العقل الديني عقلاً تابعاًللوحي وخادماً له، غير متجرىء على تجاوز ما يقول به هذا الوحي، وقد نجم عن ذلكتحوّل العقل الاسلامي الى عقل دوغمائي يرتكز على ثنائية ضدية حادة متمثلة في "نظاممن العقائد والايمان يقابله نظام من اللاعقائد واللاإيمان". يتجلى ذلك في اعتقادراسخ لدى جميع المسلمين بأن الاسلام اطار صالح لكل زمان ومكان، وبأن الايمان بوجودالاسلام الحق يتضمن مسلّمات تقول بإله موجود واحد خالق قادر، خاطب الناس باللغةالعربية، وكلامه مدوّن في القرآن الذي يحوي كل شيء ويمثل الحقيقة القصوى، وبأنالمؤمن متفوق على غير المؤمن والمسلم على غير المسلم. لا يفوت اركون ان يرى في هذه "القوانين" اساساً للخطاب الاسلامي المعاصر المتطرف الذي يستمد قوته من كونه يرىنفسه ممثلاً للحقيقة الالهية المطلقة والوحيدة، ويرفض وجهات النظر المخالفة له،وصولاً الى اصدار فتاوى تكفير والحاد واباحة دم لمن يخالف هذا الخطاب وشعاراته. لذلك يدعو اركون الى ثورة فكرية عريقة تنطلق من تحرير العقل واعطائه مكانة جديدةبوصفه الحاكم الاول والمرجع الاخير في كل ما يختص بمعارف الانسان واعماله، ورفضالاحكام القطعية، والتعامل مع العالم والواقع والنصوص باعتبارها مشروعاتمفتوحة.
يشير فارح مسرحي في قراءته لمشروع اركون، الى تشديده على تحديث العقلالاسلامي الذي يقتضي اولاً وقبل كل شيء استقلالية هذا العقل وقبوله بنقد معارفهبعيداً عن الدوغمائية والنظرة الارثوذكسية التي عرفها الفكر الاسلامي في غالبيةفترات تاريخه. تعتبر مهمة نقد التراث مسألة اساسية في تحرير المسلمين والعرب. فهذاالتراث الاسلامي الذي يجمع النصوص المقدسة، كما تراه كل جماعة او فرقة من الفرقالاسلامية، يحوي ايضاً العادات والتقاليد السائدة التي استمرت بشكل او بآخر بعدالاسلام، يضاف اليها التشريعات والقوانين الحديثة من انتاج التدخل الاستعماري،وغيرها من التراث الخاص بالاقليات. يستخدم اركون ما يسميه مفهوم "الاسلامياتالتطبيقية" في اعادة قراءة التراث الاسلامي قراءة نقدية، ويعتبر هذا المفهوم ممارسةعلمية متعددة الاختصاص تريد ان تأخذ على عاتقها طرح المشكلات الفعلية التي تعانيهاالمجتمعات الاسلامية، ومحاولة حلها والسيطرة عليها وفق المسار العلمي والمنهجيةالعلمية. تنطلق "الاسلاميات التطبيقية" من واقع المسلمين وحاضرهم ومشكلاهم، فتستنبطما يتعلق بها من تعاليم دينية واغراض سياسية ومصالح اقتصادية وغير ذلك من العواملالمؤثرة في الحركة التاريخية الشاملة للمجتمعات. من اجل ذلك، يستخدم الكاتب منهجيةترتكز على مقومات ثلاثة، الاول يتعلق باعتماد المقاربة السيميائية الالسنية لمعرفةكيف تقوم العلاقات المستخدمة في النصوص بالدلالة وتوليد المعنى. اي لماذا معنى معينوليس معنى آخر. ويستند المقوّم الثاني الى المقاربة التاريخية الانثروبولوجيةوالسوسيولوجية لاضاءة النصوص والكشف عن مشروطيتها التاريخية، من اجل التأكيد انالدين ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية يمكن ملاحظتها وتحليلها كسائر الاوضاعالاقتصادية والسياسية والثقافية. فيما يهدف المقوّم الثالث المتمثل بالمقاربةالتيولوجية الى كسر طوق الاحتكار الذي يلف التفسير التقليدي للنصوص المقدسة، بمايسمح ببناء لاهوت جديد وتكوين منظومة عقائدية تفسح أمام المسلمين والعرب دخول عالمالحداثة.
يولي اركون قضية العلمانية حيزاً اساسياً في مشروعه كشرط لدخول العربوالمسلمين العصر، ويرى في تحقيقها مقياساً للوصول الى الحداثة، رافضاً فكرة انالاسلام دين ودولة او دين ودنيا. فالدولة في الاسلام، كما في المسيحية، ظاهرةدنيوية قبل ان تكون دينية، بل هي استعانت برجال الدين لتأهيل مشروعيتها. تتعلقالعلمنة بإرادة الفهم والمعرفة، ويحقق تبنيها في المجتمعات الاسلامية حماية للدينضد احتكار السلطة له، وسحب البساط من تحت اقدام الحركات الاصولية، والتمييز بينالمستوى الروحي المتعالي للدين والمستوى الايديولوجي السائد. انها علمنة منفتحة علىابعاد الانسان بما فيها البعد الديني، من دون ان تكون هناك سيطرة لبعد على آخر. ومناجل ذلك يرفض اركون العلمانية النضالية والايديولوجية التي تحققت في تركيا وبعض دولالغرب، وتحولت عقيدة ايديولوجية تضبط الامور وتحدّ من حرية التفكير.
لا يتوقفمشروع اركون التحديثي عند ظاهرة العلمانية ووجوب تحققها، فهو يشدد على احترام حقوقالانسان شرطا لتحقيق العلمنة، كما يرى ان دخول المسلمين عالم الحداثة يتوقف علىاحترام حقوق الانسان وترسيخ النزعة الانسانية في مجتمعاتنا. يرتبط ذلك بنظام الحكموالسلطة القائمة في المجتمع، بما يعني ان النضال من اجل حقوق الانسان يقوم اساساًعلى النضال من اجل تحقيق الديموقراطية. تمثل دمقرطة النظام السياسي الخطوة الاولىفي طريق تحرير الطاقات الاجتماعية، وحيث يستحيل ضمان الحقوق الروحية والاخلاقيةوالثقافية للشخص البشري الا بواسطة النظام الديموقراطي ودولة القانون.
مما لا شكفيه ان مشروع اركون في نقد العقل الاسلامي وتحديث المجتمعات العربية مشروع طموحجداً، إذ يحتاج تحقيقه جملة عوامل موضوعية تتصل بدرجة تطور المجتمعات العربية ودرجةتكوّن القوى الاجتماعية المتعددة المشرب لحمل هذا المشروع والنهوض بتبعاته، وهو شأنلا يزال بعيداً عن التبلور في واقعنا العربي الراهن.
منقول جريدةعن النهار البيروتية..
تعليق