إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الحب الإلهى في أدعية أهل البيت عليهم‏السلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحب الإلهى في أدعية أهل البيت عليهم‏السلام

    العلاقة باللّه‏ :

    «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشيرَتُكُمْ وَ أمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللّه‏َ وَ رَسُولِهِ وَجَهادٍ فى سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّه‏ُ بِأَمْرِه وَ اللّه‏ُ لا يَهْدِيِ الْقَوْمَ الْفاسِقينَ»(1).
    تتكون العلاقة باللّه‏ تعالى فى صورتها الصحيحة من مجموعة من العناصر المتناسقة و المتآلفة، هذه العناصر مجتمعةً تكوّن الاسلوب الصحيح للعلاقة باللّه‏ تعالي.
    و ترفض النصوص الإسلامية أن تكون العلاقة باللّه‏ تعالى على أساس العنصر الواحد، كالخوف، أو الرجاء، أو الحب، أو الخشوع، و تعتبر العلاقة باللّه‏ ذات العنصر الواحد فاقدة لحالة التوازن و التناسق.

    و العناصر التى تشكل العلاقةُ باللّه‏ تعالى مجموعة واسعة، ورد ذكرها بتفصيل فى نصوص الآيات و الروايات و الأدعية مثل: الرجاء، و الخوف، و التضرّع، و الخشوع، و التذلل، و الوجل، و الحب، و الشوق، و الأُنس، و الإنابة، و
    (1) التوبة: 24.

    التبتّل، و الاستغفار، و الاستعاذة، و الاسترحام، و الانقطاع، و التمجيد، و الحمد، و الرغبة، و الرهبة، و الطاعة، و العبودية، و الذكر، و الفقر، و الاعتصام.
    و قد ورد فى الدعاء عن الإمام زين العابدين على بن الحسين عليهماالسلام : «اللّهمّ إنّى أسألك أن تملأ قلبى حبّاً و خشية منك، و تصديقاً لك، و إيماناً بك، و فرَقاً منك، و شوقاً إليك» (1).
    و من هذه العناصر المتعددة يتألّف طيف زاهٍ و متناسق للعلاقة باللّه‏ تعالي، و كل عنصر من هذه العناصر يعتبر مفتاحاً لباب من أبواب رحمة اللّه‏ و معرفته.
    فالاسترحام مفتاح لرحمة اللّه‏ تعالي، و الاستغفار مفتاح للمغفرة.
    كما أنّ كل عنصر من هذه العناصر يعتبر بحدّ ذاته طريقاً للحركة و السلوك إلى اللّه‏. فالشوق و الحب و الاُنس باللّه‏ طريق إلى اللّه‏، و الخوف، و الرهبة طريق آخر إلى اللّه‏ تعالي، و الخشوع طريق ثالث إلى اللّه‏، و الرجاء، و الدعاء و التمنّي طريق آخر إلى اللّه‏.
    و على الإنسان أن يسلك و يتحرك إلى اللّه‏ تعالى من مسالك و طرق مختلفة، و لا يقتصر على سلوك طريق واحد، فإنّ لكل سلوك نكهة و ذوقاً و كمالاً و ثمرة فى حركة الإنسان إلى اللّه‏ لا توجد فى السلوك الآخر.
    و يطرح الإسلام على هذا الأساس مبدأ تعدّدية عناصر العلاقة باللّه‏ تعالي.
    و هذا بحث واسع و باب رحب من العلم لا نريد أن ندخله الآن.
    (1) بحار الأنوار: 98 / 92
    حب اللّه‏ تعالي:

    و حب اللّه‏ تعالى من أفضل هذه العناصر، و أقواها، و أبلغها فى شدّ الإنسان باللّه‏ تعالي، و تحكيم علاقته به عزّ شأنه.
    و لا يوجد فى ألوان العلاقة باللّه‏ لون أقوى و أبلغ من «الحب» فى توثيق علاقة العبد باللّه‏.
    و قد ورد ذكر هذه المقارنة بين عناصر العلاقة باللّه‏ تعالى فى مجموعة من النصوص الإسلامية، و نذكر بعضها.
    روى أنّ اللّه‏ تعالى أوحى إلى داود: «يا داود ذكرى للذاكرين، و جنّتي للمطيعين، و حبى للمشتاقين، و أنا خاصة للمحبي‏ن» (1).
    و عن الإمام الصادق عليه‏السلام : «الحبّ أفضل من الخوف» (2).
    و روى محمّد بن يعقوب الكلينى عن الإمام أبى عبداللّه‏ جعفر الصادق عليه‏السلام : «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه‏ عزّ و جلّ خوفاً، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه‏ تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة التّجار، و قوم عبدوا اللّه‏ عزّ و جلّ حبّاً، فتلك عبادة الأحرار، و هى أفضل العبادة» (3).
    و روى الكلينى عن رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله : «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها، و أحبّها بقلبه، و باشرها بجسده، و تفرّغ لها، فهو لا يبالى على ما أصبح من الدنيا على عسر أم يسر» (4).


    (1) بحار الأنوار: 98 / 226.
    (2) بحار الأنوار: 78 / 226.
    (3) اُصول الكافي: 2 / 84 .
    (4) اُصول الكافي: 2 / 83 .


    و عن الإمام الصادق عليه‏السلام : «نجوى العارفين تدور على ثلاثة اُصول: الخوف، و الرجاء، و الحب. فالخوف فرع العلم، و الرجاء فرع اليقين، و الحب فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب، و دليل الرجاء الطلب، و دليل الحب إيثار المحبوب على ما سواه. فاذا تحقّق العلم فى الصدر خاف، و إذا صحّ الخوف هرب، و إذا هرب نجا و إذا أشرق نور اليقين فى القلب شاهد الفضل، و إذا تمكّن من رؤية الفضل رجا، و إذا وجد حلاوة الرجاء طلب، و إذا وُفّق للطلب وجد. و إذا تجلّى ضياء المعرفة فى الفؤاد هاج ريح المحبّة، و إذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب، و آثر المحبوب على ما سواه، و باشر أوامره. و مثال هذه الاُصول الثلاثة كالحرم و المسجد و الكعبة، فمن دخل الحرم أمن من الخلق، و من دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها فى المعصية، و من دخل الكعبة أمن قلبه من أن يشغله بغير ذكر اللّه‏» (1).
    و عن رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله : «بكى شعيب عليه‏السلام من حب اللّه‏ عزّ و جلّ حتّى عمي ... أوحى اللّه‏ إليه: يا شعيب، إن يكن هذا خوفاً من النار، فقد أجرتك، و إن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك. فقال: إلهى و سيّدي، أنت تعلم أنى ما بكيت خوفاً من نارك، و لا شوقاً إلى جنّتك، و لكن عقد حبك على قلبي، فلست أصبر أو أراك، فأوحى اللّه‏ جلّ جلاله إليه: أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدمك كليمى موسى بن عمران» (2).
    و فى صحيفة إدريس عليه‏السلام : «طوبى لقومٍ عبدونى حبّاً، و اتخذونى إلهاً و ربّاً، سهروا الليل، و دأبوا النهار طلباً لوجهى من غير رهبة و لا رغبة، و لا لنار، و لا جنّة،

    (1) مصباح الشريعة: 2 ـ 3.
    (2) بحار الأنوار: 12 / 380.


    بل للمحبة الصحيحة، و الإرادة الصريحة و الانقطاع عن الكلّ إليَّ» (1).
    و فى الدعاء عن الإمام الحسين عليه‏السلام : «عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً» (2).
    الإيمان و الحبّ:

    و قد رُوى فى النصوص الإسلامية أنّ الإيمان حب.
    فعن الإمام الباقر عليه‏السلام : «الإيمان حب و بغض» (3).
    و عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبداللّه‏ عليه‏السلام عن الحب و البغض، أَ مِن الإيمان هو؟ فقال: «و هل الإيمان إلاّ الحب و البغض؟ » (4).
    و عن الصادق عليه‏السلام : «هل الدين إلاّ الحب؟ إنّ اللّه‏ عزّ و جلّ يقول: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه‏َ فَاتَّبِعُونى يُحْبِبْكُمُ اللّه‏ُ(5)» (6).
    و عن الإمام الباقر عليه‏السلام : «الدين هو الحب و الحب هو الدين» (7).
    لذّة الحبّ:

    و العبادة إن كانت عن حبّ و شوق و لهفةٍ فلا تفوقها لذة و حلاوة.

    يقول الإمام زين العابدين عليه‏السلام و هو ممّن ذاق حلاوة حبّ اللّه‏ و ذكره:
    (1) بحار الأنوار: 95 / 467.
    (2) بحار الأنوار: 98 / 226.
    (3) بحار الأنوار: 78 / 175.
    (4) اُصول الكافي: 2 / 125.
    (5) آل عمران : 31.
    (6) بحار الأنوار: 69 / 237.
    (7) نور الثقلين: 5 / 285.


    «إلهى ما أطيب طعم حبّك و ما أعذب شربَ قُربك» (1).
    و هى حلاوة و لذة مستقرّةٌ فى قلوب أولياء اللّه‏، و ليست لذّة عارضةً تعرض حيناً، و ترتفع حيناً. و إذا استقرّت لذة حب اللّه‏ فى قلب العبد، فذلك قلب عامر بحب اللّه‏، و لن يعذّب اللّه‏ قلب عبد عَمَرَ بحبّه، و استقرّت فيه لذّة حبه.
    يقول أميرالمؤمنين عليه‏السلام : «إلهى و عزَّتِكَ و جلالِكَ لقد أحببتُكَ محبةً استقرَّتْ حلاوتُها فى قلبي، و ما تنعقدُ ضمائُر موحِّديكَ على أنّكَ تبغضُ مُحبّيكَ» (2).
    و عن هذه الحالة المستقرّة و الثابتة من الحبّ الإلهى يقول الإمام على بن الحسين عليهماالسلام : «فوعزّتك يا سيدى لو انتهرتنى ما برحت من بابك، و لا كففت عن تملّقك، لما انتهى إليَّ من المعرفة بجودك و كرمك» (3).
    و هو من أبلغ التعبير فى عمق الحب و استقراره فى القلب، فلا يزول و لا يتغيّر فى قلب العبد حتى لو نهره مولاه، و أبعده من جنابه، و حاشاه أن يفعل ذلك بعبدٍ استقرّ حبه فى قلبه.
    و إذا عرف الإنسان طعم حبّ اللّه‏ و لذّة الاُنس به فلا يؤْثر عليه شيئاً. يقول زين العابدين و إمام المحبّين عليه‏السلام : «من ذا الذى ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً؟ و من ذا الذى أنِسَ بقربك فابتغى عنك حِوَلاً؟» (4).
    و إنّما يتوزّع الناس على المسالك و المذاهب؛ لأنّهم حُرِموا لذّة حب اللّه‏. و أمّا الذين عرفوا لذة حبّ اللّه‏ فلا يبحثون بعد ذلك عن شيء آخر فى حياتهم.
    (1) بحار الأنوار: 98 / 26.
    (2) مناجاة أهل البيت: 96 ـ 97.
    (3) بحار الأنوار: 98 / 85 .
    (4) بحار الأنوار: 94 / 148.


    يقول الإمام الحسين بن على عليه‏السلام : «ماذا وجد من فقدك؟! و ما الذى فقد من وجدك؟!» (1).
    و يستغفر عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‏السلام من كلّ لذّةٍ غير لذّة حب اللّه‏، و من كل شغلٍ غير الاشتغال بذكر اللّه‏، و من كلِّ سرورٍ بغير قرب اللّه‏، لا لأنّ اللّه‏ تعالى حرّم على عباده ذلك، و لكن لأنّ ذلك من انصراف القلب عن اللّه‏ و إِشتغاله بغير اللّه‏، و لو زمناً قصيراً، و لا ينصرف قلبٌ عرف لذّة حب اللّه‏، عن اللّه‏.
    و كل شيء و كل جهد فى حياة أولياء اللّه‏ يأتى فى امتداد حبّ اللّه‏، و ذكر اللّه‏، و طاعة اللّه‏، و كلّ شيء عدا ذلك فهو انصراف عن اللّه‏، و يستغفر اللّه‏ منه. يقول عليه‏السلام : «و أستغفرك من كلّ لذّةٍ بغير ذكرك، و من كلِّ راحةٍ بغير اُنسك، و من كلّ سرورٍ بغير قربك، و من كلّ شغلٍ بغير طاعتك» (2).
    الحبّ يجبر عجز العمل:

    و الحب لا ينفصل عن العمل، فمن أحبّ كانت أمارة حبّه العمل و الحركة و الجهد. و لكنّ الحب يجبر عجز العمل، و يشفع لصاحبه كلّما قصر عمله، و هو شفيعٌ مُشفَّعٌ عند اللّه‏ تعالي.
    يقول زين العابدين عليه‏السلام فى دعاء الأسحار الذى يرويه عنه أبو حمزة الثمالى و هو من جلائل الأدعية: «معرفتى يا مولاى دليلى عليك، و حُبّى لك شفيعى إليك، و أنا واثق من دليلى بدلالتك، و من شفيعى إلى شفاعتك» (3).


    (1) بحار الأنوار: 98 / 226.
    (2) بحار الأنوار: 94 / 151.
    (3) بحار الأنوار: 98 / 82 .


    و نعم الدليل و الشفيع المعرفة و الحب، فلا يضيع عبد دليلُه إلى اللّه‏ «المعرفة»، و لا يقصر عبد عن الوصول و البلوغ إذا كان شفيعه إلى اللّه‏ «الحب».
    يقول الإمام عليّ بن الحسين عليه‏السلام : «إلهى إنّك تعلم أنى و إن لم تَدُم الطاعة منّى فعلاً جزماً، فقد دامت محبّةً و عزماً».
    و هو إشارة رقيقة من رقائق كلمات الإمام، فإنّ الطاعة قد تقصر بالإنسان، و لا يتمكّن أن يثق بطاعته للّه‏، و لكن ما لا سبيل إلى الشك فيه للمحبّين هو اليقين و الجزم بحبّهم للّه‏ تعالي، و عزمهم على المضيّ فى الحب و الطاعة، و هذا ممّا لا يرتاب فيه عبد وجد حب اللّه‏ فى قلبه، فقد يقصِّر العبد في طاعة، و قد يرتكب ما يكرهه اللّه‏ و لا يحبه من معصية، و لكن ما لا يمكن أن يكون ـ و هو يقصّر فى الطاعة و يرتكب المعصية ـ أن يكره الطاعة و يحبّ المعصية.
    فإنّ الجوارح قد تنزلق إلى المعاصي، و يستدرجها الشيطان و الهوى إليها، و قد تقصّر الجوارح فى طاعة اللّه‏، ولكن قلوب الصالحين من عباد اللّه‏ لا يدخلها غير حبّ اللّه‏ و حب طاعته و كراهية معصيته.
    و فى الدعاء: «إلهى اُحبُّ طاعتَكَ و إنْ قَصَرْتُ عنها، و أَكرهُ معصيتَكَ و إن ركَبْتُها، فتفضَّلْ عليَّ بالجنةِ» (1).
    و هذه هى الفاصلة بين الجوارح و الجوانح، فإنّ الجوارح قد تَقْصُرُ عن اللحوق بالجوانح، فانّ جوانح الصالحين تخلص للّه‏ و تخضع لسلطان حب اللّه‏

    (1) بحار الأنوار: 94 / 101.

    بشكل كامل، فَتَقْصُرُ عنها الجوارح، إلاّ أن القلب إذا خلص و طاب فلابدّ أن تنقاد له الجوارح و تطيعه. و لابدّ أن تنفّذ الجوارح ما تطلبه و تريده الجوانح، و تنعدم عند ذلك هذه الفاصلة بين الجوارح و الجوانح بسبب إخلاص القلب.
    الحب يجير الإنسان من العذاب:

    و إذا كانت الذنوب تسقط الإنسان فى عين اللّه‏، و تعرّضه لعقاب اللّه‏ و عذابه فإنّ «الحب» يجير الإنسان من عذاب اللّه‏ و عقابه.
    ففى المناجاة عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‏السلام : «إلهى إنّ ذنوبى قد أَخافتْني، و محبَّتى لكَ قد أَجارَتني»(1).
    درجات الحبّ و أطواره:

    و للحب فى قلوب العباد درجات و مراحل.
    فمن الحب حب ضحل ضئيل، لا يكاد يُحسّ به صاحبه.
    و من الحب ما يملأ قلب العبد، و لا يترك فى قلبه فراغاً لشأن آخر ممّا يلهو به الناس و يشغلهم عن ذكر اللّه‏.
    و من الحبّ ما لا يرتوى معه العبد من ذكر اللّه‏ و مناجاته و الوقوف بين يديه، و لا ينتهى ظمأُ فؤادِه من الذكر، و الدعاء، و الصلاة، و العمل فى سبيل اللّه‏، مهما طال وقوفه، و عمله، و صلاته بين يدى اللّه‏.
    (1) بحار الأنوار: 94 / 99.

    و فى الدعاء عن الإمام الصادق عليه‏السلام : «سيّدى أنا من حبّك جائع لا أشبع، و أنا من حبّك ظمآن لا أُروي، وا شوقاه إلى من يرانى و لا أراه».
    يقول الإمام على بن الحسين زين العابدين عليه‏السلام فى المناجاة: «وغُلّتي لايُبردها إلاّ وَصلُك، ولوعَتى لايطفؤها إلاّ لقاؤُك، وشوقى إليك لا يَبُلُّه إلاّ النظرُ إليك»(1)
    و من حب اللّه‏ (الوله) و (الهيام)، ففى (زيارة أمين اللّه‏): «اللّهمّ إنّ قلوب المخبتين إليك والهة» (2).
    و فى دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‏السلام : «إلهى بك هامت القلوب الوالهة ... فلا تطمئنّ القلوب إلاّ بذكراك، و لا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك»(3).
    و هذه خاصّة القلوب الوالهة و الهائمة لا تسكن و لا تطمئن إلاّ بذكر اللّه‏.
    و من أروع الحب و أبلغه ما نجده فى كلمات أميرالمؤمنين عليبن أبي طالب عليه‏السلام فى الدعاء الذى علّمه لكميل بن زياد النخعى رضي‏الله‏عنه و المعروف بدعاء كميل: «فهبنى يا إلهى و سيدى و مولاى و ربّى صبرت على عذابك فكيف أصبر علي فراقك؟ و هبنى صبرتُ على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟ أم كيف أسكن فى النار و رجائى عفوك؟!» (4).
    و هو من أروع لفتات الحب و أصدقها. فهب أنّ العبد يصبر على عذاب

    (1) بحار الأنوار: 94 / 149.
    (2) مفاتيح الجنان، دعاء أبى حمزة الثمالي.
    (3) بحار الأنوار: 94 / 151.
    (4) مفاتيح الجنان.


    نار مولاه، فكيف يصبر على هجره و فراقه و غضبه؟!
    و المحب قد يتحمّل عقوبة مولاه، و لكن لا يتحمّل غضبه و مقته له، و قد يتحمّل النار و هى من أقسى العقوبات و لكن لا يتحمّل هجر مولاه و فراقه.
    و كيف يسكن العبد فى نار جهنم و هو يرجو أن يعطف عليه مولاه و ينقذه منها؟
    و هذان «الحب» و «الرجاء» اللذان لا يفارقان قلب العبد ـ و هو يصلي فى نار جهنم بغضب من اللّه‏ تعالى ـ من أروع صور هذا الدعاء الجليل.
    فقد يحبّ العبد مولاه، و هو يتنعّم بنعمته و فضله، و هو بالتأكيد من الحب، و لكن الحب الذى لا يزيد عليه حب أن لا يفارق الحب و الرجاء قلب العبد و هو يصلى بنار عذاب مولاه.
    يقول الإمام على بن الحسين زين العابدين عليه‏السلام فى دعاء الأسحار الّذي علّمه لأبى حمزة الثمالى رضي‏الله‏عنه : «فوعزّتك لو انتهرتنى ما برحت من بابك و لا كففت عن تملّقك لما اُلهم قلبى من المعرفة بكرمك و سعة رحمتك. إلى من يذهب العبد إلاّ إلى مولاه؟! و إلى من يلتجئ المخلوق إلاّ إلى خالقه؟! إلهى لو قرنتنى بالأصفاد، و منعتنى سيبك من بين الأشهاد، و دللتَ على فضائحى عيون العباد، و أمرت بى إلي النار، و حلت بينى و بين الأبرار ما قطعتُ رجائى منك، و ما صرفتُ تأميلى للعفو عنك، و لا خرج حبّك من قلبي» (1).
    و هذا هو أصدق الحب، و الرجاء، و الأمل، و أنقاه و أصفاه، لا يكاد

    (1) مفاتيح الجنان، دعاء أبى حمزة الثمالي.

    يخرج من قلب العبد حتى لو قرنه مولاه بالأصفاد، و منعه سيبه من بين الأشهاد، و دلّ على فضائحه عيون العباد.
    و لنتابع استعراض هذه الصور الرائعة من الحب و الرجاء التى يرسمها الإمام على عليه‏السلام فى هذا الدعاء الجليل «دعاء كميل»: «فبعزّتك يا سيدى و مولاي اُقسم صادقاً لئن تركتنى ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، و لأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، و لأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، و لاُنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين؛ يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، و يا إله العالمين.
    أفتراك سبحانك يا إلهى و بحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته، و ذاق طعم عذابها بمعصيته، و حبس بين أطباقها بجرمه و جريرته، و هو يضجّ إليك ضجيج مؤمّلٍ لرحمتك، و يناديك بلسان أهل توحيدك، و يتوسّل إليك بربوبيتك، يا مولاي، فكيف يبقى فى العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار و هو يأمل فضلك و رحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها و أنت تسمع صوته و ترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها و أنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتغلغل بين أطباقها و أنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديك يا ربّه؟ أم كيف يرجو فضلك فى عتقه منها فتتركه فيها؟ هيهات، ما ذلك الظن بك، و لا المعروف من فضلك، و لا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك و إحسانك، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك و قضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً و سلاماً، و ما كان لأحدٍ فيها مقراً و لا مقاماً» (1).


    (1) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

    قالى لى صديق، من ذوى الفضل و الأدب: إن خصلة البطولة و الشجاعة خصلة أصيلة فى على عليه‏السلام ، لا تفارقه حتى فى الدعاء بين يدى رب العالمين. فها هو فى الدعاء الذى علّمه لكميل يتصوّر أن النار قد احتوت العبد المذنب، و أحاطت به من كل جانب، فلا يسكت و لا يسكن و لا يستسلم للعذاب و العقوبة، كما هو مقتضى الحال فيمن أطبق عليه العذاب و احتوشته زبانية النار، و إنما يضج و يبكى و يصرخ و يهتف و ينادي.
    ألا تراه كيف يعبّر عن هذه الحالة فى دعاء اللّه‏؟
    «فبعزّتك يا سيدى و مولاى اُقسم صادقاً لئن تركتنى ناطقاً لأضجّن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، و لأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، و لأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، و لاُنادينّك أين كنت يا ولى المؤمنين».
    قلت له: لمْ تصب فى تذوق كلام على عليه‏السلام ، و لو كان عليه‏السلام بهذا الصدد لم يقل فى مقدمة هذا الخطاب «لو تركتنى ناطقاً». أما أنا فأتصور الحالة النفسية لعلى عليه‏السلام فى هذه الكلمات بين يدى اللّه‏ تعالى حالة الطفل الصغير الذى لم يعرف فى دنياه غير عطف اُمه، و رحمتها، و حبها و حنانها ملجأً و ملاذاً. فكلّما داهمه أمر أو أضرّ به شيء لجأ إلى اُمه، و استغاث بها و استنجدها، فإذا ارتكب مخالفة و تعرض لعقوبة من اُمه، و أراد أن يلجأ إلى طرف يحميه من عقوبتها نظر إلي أطرافه فلم يجد ملاذاً و ملجأً غيرها، فيحتمى بها، و يستنجدها، و يستغيث، و يلوذ بها، كما كان يفعل عند ما يتعرض لأذيً من غيرها.

    و هذا هو حال على عليه‏السلام فى هذا الدعاء. إنّه تعلَّم بقلبه الكبير، و اُفقه
    الواسع الرحب أن يلجأ إلى اللّه‏، و يستغيث به، و يلوذ به، و لا يعرف غيره ملجأ و لا ملاذاً.
    فهو سبحانه و تعالي، ملجأه و ملاذه الوحيد الذى لا يعرف غيره. فإذا تصوّر أنّ اللّه‏ تعالى قد أحاطه بعذابه و عقوبته (1) فلا يتردد لحظة واحدة أن يلجأ إلى اللّه‏، و يلوذ به، و يستنجد به، و يستغيث به كما كان يفعل كل مرة.
    أو ليس هو سبحانه ملاذه و ملجأه الوحيد؟ فلماذا يتردد هذه المرة أن يستنجد و يستغيث به؟!
    يقول زين العابدين على بن الحسين عليه‏السلام فى تصوير هذا المعنى في المناجاة:
    «فإن طردتنى من بابك فبمن ألوذ؟ و إن رددتنى عن جنابك فبمن أعوذ؟ إلهى هل يرجع العبد الآبق إلاّ إلى مولاه؟ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه؟» (2).
    و يقول عليه‏السلام فى الدعاء الذى علّمه لأبى حمزة الثمالي: «و أنا يا سيدى عائذ بفضلك هارب منك إليك» (3).
    و يقول على بن الحسين عليه‏السلام فى نفس الدعاء: «إلى من يذهب العبد إلاّ إلي مولاه؛ و إلى من يذهب المخلوق إلاّ إلى خالقه» (4).
    و الهروب من اللّه‏ إلى اللّه‏ من رقائق المعانى و الأفكار فى علاقة العبد باللّه‏، و هذه المشاعر التى يصوّرها على عليه‏السلام فى علاقة العبد باللّه‏ هى من أرقّ مشاعر

    (1) نحن نستعير هنا كلمات على عليه‏السلام نفسه، و لو لم يقل ذلك لم نجرؤ أن نتحدث عن العلاقة بينه و بين اللّه‏ تعالى بهذه الطريقة.
    (2) بحار الأنوار: 94 / 142.
    (3) بحار الأنوار: 98 / 84 .
    (4) بحار الأنوار: 98 / 88 .


    «الحب» و «الرجاء»، و أصدقها فى نفوس المحبين.
    و على عليه‏السلام لا يذهب مذهب الشعراء فى هذه الفقرة من الدعاء في الاستعانة بالخيال فى إكمال رسم هذه اللوحة الرائعة من الدعاء، و إنما هو صادق كل الصدق فى التعبير عن إحساسه و شعوره هذا بين يدى اللّه‏.
    و لذلك فهو يعقب هذه اللوحة من «استغاثة العبد بربّه» بلوحة أُخرى في نجدة اللّه‏ لعبده.
    فليس يمكن فيما نعرف من رحمة اللّه‏ و فضله أنّ اللّه‏ تعالى يخيّب هذا الإحساس الصادق و الصافى و النقى من العبد فى الحب و الرجاء، فيردّ حبه و يخيّب رجاءه، يقول عليه‏السلام : «فكيف يبقى فى العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار و هو يأمل فضلك و رحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها و أنت تسمع صوته و ترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها و أنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتغلغل بين أطباقها و أنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديك يا ربه؟».
    فهل يمكن أن تقود الزبانية العبد إلى النار و تزجره فيها، و هو ينادى اللّه‏ ربّه، و يهتف به، و يلوذ به بلسان أهل توحيده؟
    إنّ ما سبق من حلمه و فضله فى حياتنا ينفى ذلك نفياً قاطعاً مطلقاً. و الإمام يستدلّ بحلم اللّه‏ على حلمه و فضله على فضله: «و هو يرجو ما سلف من حلمك». و الإمام عليه‏السلام قاطع فى هذا الجانب من القضية «الخط النازل» فى علاقة اللّه‏ بعبده كما كان قاطعاً و صريحاً فى الطرف الآخر من القضية «الخط الصاعد» فى علاقة العبد باللّه‏.

    فكما كان قاطعاً و صريحاً فى أنّ القلوب التى ذاقت حلاوة حبّه و رجائه، لايفارقها حبها و رجاؤهاللّه‏، و لن تستبدل بحب اللّه‏ و رجائه حبّاً و رجاءً، حتي لو أحاط بها عذاب اللّه‏ و عقابه... . كذلك هو قاطع و صريح أن اللّه‏ تعالى لا يخيّب مثل هذا الحب و الرجاء الصادقَين فى قلب العبد.
    تأمّلوا فى هذا الجزم و القطع و الصراحة فى كلام على عليه‏السلام : «هيهات ما ذلك الظن بك، و لا المعروف من فضلك، و لا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك و إحسانك، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، و قضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً و سلاماً، و ما كانت لأحدٍ فيها مقراً و لا مقاماً»(1).
    و هذا الجزم و القطع فى علاقة العبد الذى أحب مولاه «الصاعدة» و علاقة المولى بعبده «النازلة» نجده فى مواضع اُخرى من كلمات على عليه‏السلام . فها هو يخاطب اللّه‏ تعالى فى مناجاته المشهورة: «إلهى و عزتك و جلالك لقد أحببتك محبةً استقرّت حلاوتها فى قلبي، و ما تنعقد ضمائر موحديك على أنك تبغض محبيك» (2).
    و فى مناجاة الإمام على بن الحسين عليه‏السلام : «إلهى نفسٌ أعززتها بتوحيدك كيف تذلّها بمهانة هجرانك؛ و ضمير انعقد على مودّتك كيف تحرقه بحرارة نيرانك»(3).


    (1) مفاتيح الجنان: دعاء كميل.
    (2) مناجاة أهل البيت: 68 ـ 69.
    (3) بحار الأنوار: 94 / 143.


    و يقول عليه‏السلام أيضاً فى دعاء الأسحار من شهر رمضان الذى علّمه لأبي حمزة الثمالى رضي‏الله‏عنه : «أ فتراك يا رب تخلف ظنوننا، أو تخيّب آمالنا؟ كلاّ يا كريم، فليس هذا ظنُّنا بك، و لا هذا طمعنا فيك. يا رب إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً، إنّ لنا فيك رجاءً عظيماً ...» (1).
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X