العلاقة باللّه :
«قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشيرَتُكُمْ وَ أمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللّهَ وَ رَسُولِهِ وَجَهادٍ فى سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِه وَ اللّهُ لا يَهْدِيِ الْقَوْمَ الْفاسِقينَ»(1).
تتكون العلاقة باللّه تعالى فى صورتها الصحيحة من مجموعة من العناصر المتناسقة و المتآلفة، هذه العناصر مجتمعةً تكوّن الاسلوب الصحيح للعلاقة باللّه تعالي.
و ترفض النصوص الإسلامية أن تكون العلاقة باللّه تعالى على أساس العنصر الواحد، كالخوف، أو الرجاء، أو الحب، أو الخشوع، و تعتبر العلاقة باللّه ذات العنصر الواحد فاقدة لحالة التوازن و التناسق.
و العناصر التى تشكل العلاقةُ باللّه تعالى مجموعة واسعة، ورد ذكرها بتفصيل فى نصوص الآيات و الروايات و الأدعية مثل: الرجاء، و الخوف، و التضرّع، و الخشوع، و التذلل، و الوجل، و الحب، و الشوق، و الأُنس، و الإنابة، و
(1) التوبة: 24.
التبتّل، و الاستغفار، و الاستعاذة، و الاسترحام، و الانقطاع، و التمجيد، و الحمد، و الرغبة، و الرهبة، و الطاعة، و العبودية، و الذكر، و الفقر، و الاعتصام.
و قد ورد فى الدعاء عن الإمام زين العابدين على بن الحسين عليهماالسلام : «اللّهمّ إنّى أسألك أن تملأ قلبى حبّاً و خشية منك، و تصديقاً لك، و إيماناً بك، و فرَقاً منك، و شوقاً إليك» (1).
و من هذه العناصر المتعددة يتألّف طيف زاهٍ و متناسق للعلاقة باللّه تعالي، و كل عنصر من هذه العناصر يعتبر مفتاحاً لباب من أبواب رحمة اللّه و معرفته.
فالاسترحام مفتاح لرحمة اللّه تعالي، و الاستغفار مفتاح للمغفرة.
كما أنّ كل عنصر من هذه العناصر يعتبر بحدّ ذاته طريقاً للحركة و السلوك إلى اللّه. فالشوق و الحب و الاُنس باللّه طريق إلى اللّه، و الخوف، و الرهبة طريق آخر إلى اللّه تعالي، و الخشوع طريق ثالث إلى اللّه، و الرجاء، و الدعاء و التمنّي طريق آخر إلى اللّه.
و على الإنسان أن يسلك و يتحرك إلى اللّه تعالى من مسالك و طرق مختلفة، و لا يقتصر على سلوك طريق واحد، فإنّ لكل سلوك نكهة و ذوقاً و كمالاً و ثمرة فى حركة الإنسان إلى اللّه لا توجد فى السلوك الآخر.
و يطرح الإسلام على هذا الأساس مبدأ تعدّدية عناصر العلاقة باللّه تعالي.
و هذا بحث واسع و باب رحب من العلم لا نريد أن ندخله الآن.
(1) بحار الأنوار: 98 / 92
حب اللّه تعالي:
و حب اللّه تعالى من أفضل هذه العناصر، و أقواها، و أبلغها فى شدّ الإنسان باللّه تعالي، و تحكيم علاقته به عزّ شأنه.
و لا يوجد فى ألوان العلاقة باللّه لون أقوى و أبلغ من «الحب» فى توثيق علاقة العبد باللّه.
و قد ورد ذكر هذه المقارنة بين عناصر العلاقة باللّه تعالى فى مجموعة من النصوص الإسلامية، و نذكر بعضها.
روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود: «يا داود ذكرى للذاكرين، و جنّتي للمطيعين، و حبى للمشتاقين، و أنا خاصة للمحبين» (1).
و عن الإمام الصادق عليهالسلام : «الحبّ أفضل من الخوف» (2).
و روى محمّد بن يعقوب الكلينى عن الإمام أبى عبداللّه جعفر الصادق عليهالسلام : «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ خوفاً، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة التّجار، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ حبّاً، فتلك عبادة الأحرار، و هى أفضل العبادة» (3).
و روى الكلينى عن رسول اللّه صلياللهعليهوآله : «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها، و أحبّها بقلبه، و باشرها بجسده، و تفرّغ لها، فهو لا يبالى على ما أصبح من الدنيا على عسر أم يسر» (4).
(1) بحار الأنوار: 98 / 226.
(2) بحار الأنوار: 78 / 226.
(3) اُصول الكافي: 2 / 84 .
(4) اُصول الكافي: 2 / 83 .
و عن الإمام الصادق عليهالسلام : «نجوى العارفين تدور على ثلاثة اُصول: الخوف، و الرجاء، و الحب. فالخوف فرع العلم، و الرجاء فرع اليقين، و الحب فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب، و دليل الرجاء الطلب، و دليل الحب إيثار المحبوب على ما سواه. فاذا تحقّق العلم فى الصدر خاف، و إذا صحّ الخوف هرب، و إذا هرب نجا و إذا أشرق نور اليقين فى القلب شاهد الفضل، و إذا تمكّن من رؤية الفضل رجا، و إذا وجد حلاوة الرجاء طلب، و إذا وُفّق للطلب وجد. و إذا تجلّى ضياء المعرفة فى الفؤاد هاج ريح المحبّة، و إذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب، و آثر المحبوب على ما سواه، و باشر أوامره. و مثال هذه الاُصول الثلاثة كالحرم و المسجد و الكعبة، فمن دخل الحرم أمن من الخلق، و من دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها فى المعصية، و من دخل الكعبة أمن قلبه من أن يشغله بغير ذكر اللّه» (1).
و عن رسول اللّه صلياللهعليهوآله : «بكى شعيب عليهالسلام من حب اللّه عزّ و جلّ حتّى عمي ... أوحى اللّه إليه: يا شعيب، إن يكن هذا خوفاً من النار، فقد أجرتك، و إن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك. فقال: إلهى و سيّدي، أنت تعلم أنى ما بكيت خوفاً من نارك، و لا شوقاً إلى جنّتك، و لكن عقد حبك على قلبي، فلست أصبر أو أراك، فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه: أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدمك كليمى موسى بن عمران» (2).
و فى صحيفة إدريس عليهالسلام : «طوبى لقومٍ عبدونى حبّاً، و اتخذونى إلهاً و ربّاً، سهروا الليل، و دأبوا النهار طلباً لوجهى من غير رهبة و لا رغبة، و لا لنار، و لا جنّة،
(1) مصباح الشريعة: 2 ـ 3.
(2) بحار الأنوار: 12 / 380.
بل للمحبة الصحيحة، و الإرادة الصريحة و الانقطاع عن الكلّ إليَّ» (1).
و فى الدعاء عن الإمام الحسين عليهالسلام : «عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً» (2).
الإيمان و الحبّ:
و قد رُوى فى النصوص الإسلامية أنّ الإيمان حب.
فعن الإمام الباقر عليهالسلام : «الإيمان حب و بغض» (3).
و عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن الحب و البغض، أَ مِن الإيمان هو؟ فقال: «و هل الإيمان إلاّ الحب و البغض؟ » (4).
و عن الصادق عليهالسلام : «هل الدين إلاّ الحب؟ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونى يُحْبِبْكُمُ اللّهُ(5)» (6).
و عن الإمام الباقر عليهالسلام : «الدين هو الحب و الحب هو الدين» (7).
لذّة الحبّ:
و العبادة إن كانت عن حبّ و شوق و لهفةٍ فلا تفوقها لذة و حلاوة.
يقول الإمام زين العابدين عليهالسلام و هو ممّن ذاق حلاوة حبّ اللّه و ذكره:
(1) بحار الأنوار: 95 / 467.
(2) بحار الأنوار: 98 / 226.
(3) بحار الأنوار: 78 / 175.
(4) اُصول الكافي: 2 / 125.
(5) آل عمران : 31.
(6) بحار الأنوار: 69 / 237.
(7) نور الثقلين: 5 / 285.
«إلهى ما أطيب طعم حبّك و ما أعذب شربَ قُربك» (1).
و هى حلاوة و لذة مستقرّةٌ فى قلوب أولياء اللّه، و ليست لذّة عارضةً تعرض حيناً، و ترتفع حيناً. و إذا استقرّت لذة حب اللّه فى قلب العبد، فذلك قلب عامر بحب اللّه، و لن يعذّب اللّه قلب عبد عَمَرَ بحبّه، و استقرّت فيه لذّة حبه.
يقول أميرالمؤمنين عليهالسلام : «إلهى و عزَّتِكَ و جلالِكَ لقد أحببتُكَ محبةً استقرَّتْ حلاوتُها فى قلبي، و ما تنعقدُ ضمائُر موحِّديكَ على أنّكَ تبغضُ مُحبّيكَ» (2).
و عن هذه الحالة المستقرّة و الثابتة من الحبّ الإلهى يقول الإمام على بن الحسين عليهماالسلام : «فوعزّتك يا سيدى لو انتهرتنى ما برحت من بابك، و لا كففت عن تملّقك، لما انتهى إليَّ من المعرفة بجودك و كرمك» (3).
و هو من أبلغ التعبير فى عمق الحب و استقراره فى القلب، فلا يزول و لا يتغيّر فى قلب العبد حتى لو نهره مولاه، و أبعده من جنابه، و حاشاه أن يفعل ذلك بعبدٍ استقرّ حبه فى قلبه.
و إذا عرف الإنسان طعم حبّ اللّه و لذّة الاُنس به فلا يؤْثر عليه شيئاً. يقول زين العابدين و إمام المحبّين عليهالسلام : «من ذا الذى ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً؟ و من ذا الذى أنِسَ بقربك فابتغى عنك حِوَلاً؟» (4).
و إنّما يتوزّع الناس على المسالك و المذاهب؛ لأنّهم حُرِموا لذّة حب اللّه. و أمّا الذين عرفوا لذة حبّ اللّه فلا يبحثون بعد ذلك عن شيء آخر فى حياتهم.
(1) بحار الأنوار: 98 / 26.
(2) مناجاة أهل البيت: 96 ـ 97.
(3) بحار الأنوار: 98 / 85 .
(4) بحار الأنوار: 94 / 148.
يقول الإمام الحسين بن على عليهالسلام : «ماذا وجد من فقدك؟! و ما الذى فقد من وجدك؟!» (1).
و يستغفر عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام من كلّ لذّةٍ غير لذّة حب اللّه، و من كل شغلٍ غير الاشتغال بذكر اللّه، و من كلِّ سرورٍ بغير قرب اللّه، لا لأنّ اللّه تعالى حرّم على عباده ذلك، و لكن لأنّ ذلك من انصراف القلب عن اللّه و إِشتغاله بغير اللّه، و لو زمناً قصيراً، و لا ينصرف قلبٌ عرف لذّة حب اللّه، عن اللّه.
و كل شيء و كل جهد فى حياة أولياء اللّه يأتى فى امتداد حبّ اللّه، و ذكر اللّه، و طاعة اللّه، و كلّ شيء عدا ذلك فهو انصراف عن اللّه، و يستغفر اللّه منه. يقول عليهالسلام : «و أستغفرك من كلّ لذّةٍ بغير ذكرك، و من كلِّ راحةٍ بغير اُنسك، و من كلّ سرورٍ بغير قربك، و من كلّ شغلٍ بغير طاعتك» (2).
الحبّ يجبر عجز العمل:
و الحب لا ينفصل عن العمل، فمن أحبّ كانت أمارة حبّه العمل و الحركة و الجهد. و لكنّ الحب يجبر عجز العمل، و يشفع لصاحبه كلّما قصر عمله، و هو شفيعٌ مُشفَّعٌ عند اللّه تعالي.
يقول زين العابدين عليهالسلام فى دعاء الأسحار الذى يرويه عنه أبو حمزة الثمالى و هو من جلائل الأدعية: «معرفتى يا مولاى دليلى عليك، و حُبّى لك شفيعى إليك، و أنا واثق من دليلى بدلالتك، و من شفيعى إلى شفاعتك» (3).
(1) بحار الأنوار: 98 / 226.
(2) بحار الأنوار: 94 / 151.
(3) بحار الأنوار: 98 / 82 .
و نعم الدليل و الشفيع المعرفة و الحب، فلا يضيع عبد دليلُه إلى اللّه «المعرفة»، و لا يقصر عبد عن الوصول و البلوغ إذا كان شفيعه إلى اللّه «الحب».
يقول الإمام عليّ بن الحسين عليهالسلام : «إلهى إنّك تعلم أنى و إن لم تَدُم الطاعة منّى فعلاً جزماً، فقد دامت محبّةً و عزماً».
و هو إشارة رقيقة من رقائق كلمات الإمام، فإنّ الطاعة قد تقصر بالإنسان، و لا يتمكّن أن يثق بطاعته للّه، و لكن ما لا سبيل إلى الشك فيه للمحبّين هو اليقين و الجزم بحبّهم للّه تعالي، و عزمهم على المضيّ فى الحب و الطاعة، و هذا ممّا لا يرتاب فيه عبد وجد حب اللّه فى قلبه، فقد يقصِّر العبد في طاعة، و قد يرتكب ما يكرهه اللّه و لا يحبه من معصية، و لكن ما لا يمكن أن يكون ـ و هو يقصّر فى الطاعة و يرتكب المعصية ـ أن يكره الطاعة و يحبّ المعصية.
فإنّ الجوارح قد تنزلق إلى المعاصي، و يستدرجها الشيطان و الهوى إليها، و قد تقصّر الجوارح فى طاعة اللّه، ولكن قلوب الصالحين من عباد اللّه لا يدخلها غير حبّ اللّه و حب طاعته و كراهية معصيته.
و فى الدعاء: «إلهى اُحبُّ طاعتَكَ و إنْ قَصَرْتُ عنها، و أَكرهُ معصيتَكَ و إن ركَبْتُها، فتفضَّلْ عليَّ بالجنةِ» (1).
و هذه هى الفاصلة بين الجوارح و الجوانح، فإنّ الجوارح قد تَقْصُرُ عن اللحوق بالجوانح، فانّ جوانح الصالحين تخلص للّه و تخضع لسلطان حب اللّه
(1) بحار الأنوار: 94 / 101.
بشكل كامل، فَتَقْصُرُ عنها الجوارح، إلاّ أن القلب إذا خلص و طاب فلابدّ أن تنقاد له الجوارح و تطيعه. و لابدّ أن تنفّذ الجوارح ما تطلبه و تريده الجوانح، و تنعدم عند ذلك هذه الفاصلة بين الجوارح و الجوانح بسبب إخلاص القلب.
الحب يجير الإنسان من العذاب:
و إذا كانت الذنوب تسقط الإنسان فى عين اللّه، و تعرّضه لعقاب اللّه و عذابه فإنّ «الحب» يجير الإنسان من عذاب اللّه و عقابه.
ففى المناجاة عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام : «إلهى إنّ ذنوبى قد أَخافتْني، و محبَّتى لكَ قد أَجارَتني»(1).
درجات الحبّ و أطواره:
و للحب فى قلوب العباد درجات و مراحل.
فمن الحب حب ضحل ضئيل، لا يكاد يُحسّ به صاحبه.
و من الحب ما يملأ قلب العبد، و لا يترك فى قلبه فراغاً لشأن آخر ممّا يلهو به الناس و يشغلهم عن ذكر اللّه.
و من الحبّ ما لا يرتوى معه العبد من ذكر اللّه و مناجاته و الوقوف بين يديه، و لا ينتهى ظمأُ فؤادِه من الذكر، و الدعاء، و الصلاة، و العمل فى سبيل اللّه، مهما طال وقوفه، و عمله، و صلاته بين يدى اللّه.
(1) بحار الأنوار: 94 / 99.
و فى الدعاء عن الإمام الصادق عليهالسلام : «سيّدى أنا من حبّك جائع لا أشبع، و أنا من حبّك ظمآن لا أُروي، وا شوقاه إلى من يرانى و لا أراه».
يقول الإمام على بن الحسين زين العابدين عليهالسلام فى المناجاة: «وغُلّتي لايُبردها إلاّ وَصلُك، ولوعَتى لايطفؤها إلاّ لقاؤُك، وشوقى إليك لا يَبُلُّه إلاّ النظرُ إليك»(1)
و من حب اللّه (الوله) و (الهيام)، ففى (زيارة أمين اللّه): «اللّهمّ إنّ قلوب المخبتين إليك والهة» (2).
و فى دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام : «إلهى بك هامت القلوب الوالهة ... فلا تطمئنّ القلوب إلاّ بذكراك، و لا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك»(3).
و هذه خاصّة القلوب الوالهة و الهائمة لا تسكن و لا تطمئن إلاّ بذكر اللّه.
و من أروع الحب و أبلغه ما نجده فى كلمات أميرالمؤمنين عليبن أبي طالب عليهالسلام فى الدعاء الذى علّمه لكميل بن زياد النخعى رضياللهعنه و المعروف بدعاء كميل: «فهبنى يا إلهى و سيدى و مولاى و ربّى صبرت على عذابك فكيف أصبر علي فراقك؟ و هبنى صبرتُ على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟ أم كيف أسكن فى النار و رجائى عفوك؟!» (4).
و هو من أروع لفتات الحب و أصدقها. فهب أنّ العبد يصبر على عذاب
(1) بحار الأنوار: 94 / 149.
(2) مفاتيح الجنان، دعاء أبى حمزة الثمالي.
(3) بحار الأنوار: 94 / 151.
(4) مفاتيح الجنان.
نار مولاه، فكيف يصبر على هجره و فراقه و غضبه؟!
و المحب قد يتحمّل عقوبة مولاه، و لكن لا يتحمّل غضبه و مقته له، و قد يتحمّل النار و هى من أقسى العقوبات و لكن لا يتحمّل هجر مولاه و فراقه.
و كيف يسكن العبد فى نار جهنم و هو يرجو أن يعطف عليه مولاه و ينقذه منها؟
و هذان «الحب» و «الرجاء» اللذان لا يفارقان قلب العبد ـ و هو يصلي فى نار جهنم بغضب من اللّه تعالى ـ من أروع صور هذا الدعاء الجليل.
فقد يحبّ العبد مولاه، و هو يتنعّم بنعمته و فضله، و هو بالتأكيد من الحب، و لكن الحب الذى لا يزيد عليه حب أن لا يفارق الحب و الرجاء قلب العبد و هو يصلى بنار عذاب مولاه.
يقول الإمام على بن الحسين زين العابدين عليهالسلام فى دعاء الأسحار الّذي علّمه لأبى حمزة الثمالى رضياللهعنه : «فوعزّتك لو انتهرتنى ما برحت من بابك و لا كففت عن تملّقك لما اُلهم قلبى من المعرفة بكرمك و سعة رحمتك. إلى من يذهب العبد إلاّ إلى مولاه؟! و إلى من يلتجئ المخلوق إلاّ إلى خالقه؟! إلهى لو قرنتنى بالأصفاد، و منعتنى سيبك من بين الأشهاد، و دللتَ على فضائحى عيون العباد، و أمرت بى إلي النار، و حلت بينى و بين الأبرار ما قطعتُ رجائى منك، و ما صرفتُ تأميلى للعفو عنك، و لا خرج حبّك من قلبي» (1).
و هذا هو أصدق الحب، و الرجاء، و الأمل، و أنقاه و أصفاه، لا يكاد
(1) مفاتيح الجنان، دعاء أبى حمزة الثمالي.
يخرج من قلب العبد حتى لو قرنه مولاه بالأصفاد، و منعه سيبه من بين الأشهاد، و دلّ على فضائحه عيون العباد.
و لنتابع استعراض هذه الصور الرائعة من الحب و الرجاء التى يرسمها الإمام على عليهالسلام فى هذا الدعاء الجليل «دعاء كميل»: «فبعزّتك يا سيدى و مولاي اُقسم صادقاً لئن تركتنى ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، و لأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، و لأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، و لاُنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين؛ يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، و يا إله العالمين.
أفتراك سبحانك يا إلهى و بحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته، و ذاق طعم عذابها بمعصيته، و حبس بين أطباقها بجرمه و جريرته، و هو يضجّ إليك ضجيج مؤمّلٍ لرحمتك، و يناديك بلسان أهل توحيدك، و يتوسّل إليك بربوبيتك، يا مولاي، فكيف يبقى فى العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار و هو يأمل فضلك و رحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها و أنت تسمع صوته و ترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها و أنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتغلغل بين أطباقها و أنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديك يا ربّه؟ أم كيف يرجو فضلك فى عتقه منها فتتركه فيها؟ هيهات، ما ذلك الظن بك، و لا المعروف من فضلك، و لا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك و إحسانك، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك و قضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً و سلاماً، و ما كان لأحدٍ فيها مقراً و لا مقاماً» (1).
(1) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
قالى لى صديق، من ذوى الفضل و الأدب: إن خصلة البطولة و الشجاعة خصلة أصيلة فى على عليهالسلام ، لا تفارقه حتى فى الدعاء بين يدى رب العالمين. فها هو فى الدعاء الذى علّمه لكميل يتصوّر أن النار قد احتوت العبد المذنب، و أحاطت به من كل جانب، فلا يسكت و لا يسكن و لا يستسلم للعذاب و العقوبة، كما هو مقتضى الحال فيمن أطبق عليه العذاب و احتوشته زبانية النار، و إنما يضج و يبكى و يصرخ و يهتف و ينادي.
ألا تراه كيف يعبّر عن هذه الحالة فى دعاء اللّه؟
«فبعزّتك يا سيدى و مولاى اُقسم صادقاً لئن تركتنى ناطقاً لأضجّن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، و لأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، و لأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، و لاُنادينّك أين كنت يا ولى المؤمنين».
قلت له: لمْ تصب فى تذوق كلام على عليهالسلام ، و لو كان عليهالسلام بهذا الصدد لم يقل فى مقدمة هذا الخطاب «لو تركتنى ناطقاً». أما أنا فأتصور الحالة النفسية لعلى عليهالسلام فى هذه الكلمات بين يدى اللّه تعالى حالة الطفل الصغير الذى لم يعرف فى دنياه غير عطف اُمه، و رحمتها، و حبها و حنانها ملجأً و ملاذاً. فكلّما داهمه أمر أو أضرّ به شيء لجأ إلى اُمه، و استغاث بها و استنجدها، فإذا ارتكب مخالفة و تعرض لعقوبة من اُمه، و أراد أن يلجأ إلى طرف يحميه من عقوبتها نظر إلي أطرافه فلم يجد ملاذاً و ملجأً غيرها، فيحتمى بها، و يستنجدها، و يستغيث، و يلوذ بها، كما كان يفعل عند ما يتعرض لأذيً من غيرها.
و هذا هو حال على عليهالسلام فى هذا الدعاء. إنّه تعلَّم بقلبه الكبير، و اُفقه
الواسع الرحب أن يلجأ إلى اللّه، و يستغيث به، و يلوذ به، و لا يعرف غيره ملجأ و لا ملاذاً.
فهو سبحانه و تعالي، ملجأه و ملاذه الوحيد الذى لا يعرف غيره. فإذا تصوّر أنّ اللّه تعالى قد أحاطه بعذابه و عقوبته (1) فلا يتردد لحظة واحدة أن يلجأ إلى اللّه، و يلوذ به، و يستنجد به، و يستغيث به كما كان يفعل كل مرة.
أو ليس هو سبحانه ملاذه و ملجأه الوحيد؟ فلماذا يتردد هذه المرة أن يستنجد و يستغيث به؟!
يقول زين العابدين على بن الحسين عليهالسلام فى تصوير هذا المعنى في المناجاة:
«فإن طردتنى من بابك فبمن ألوذ؟ و إن رددتنى عن جنابك فبمن أعوذ؟ إلهى هل يرجع العبد الآبق إلاّ إلى مولاه؟ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه؟» (2).
و يقول عليهالسلام فى الدعاء الذى علّمه لأبى حمزة الثمالي: «و أنا يا سيدى عائذ بفضلك هارب منك إليك» (3).
و يقول على بن الحسين عليهالسلام فى نفس الدعاء: «إلى من يذهب العبد إلاّ إلي مولاه؛ و إلى من يذهب المخلوق إلاّ إلى خالقه» (4).
و الهروب من اللّه إلى اللّه من رقائق المعانى و الأفكار فى علاقة العبد باللّه، و هذه المشاعر التى يصوّرها على عليهالسلام فى علاقة العبد باللّه هى من أرقّ مشاعر
(1) نحن نستعير هنا كلمات على عليهالسلام نفسه، و لو لم يقل ذلك لم نجرؤ أن نتحدث عن العلاقة بينه و بين اللّه تعالى بهذه الطريقة.
(2) بحار الأنوار: 94 / 142.
(3) بحار الأنوار: 98 / 84 .
(4) بحار الأنوار: 98 / 88 .
«الحب» و «الرجاء»، و أصدقها فى نفوس المحبين.
و على عليهالسلام لا يذهب مذهب الشعراء فى هذه الفقرة من الدعاء في الاستعانة بالخيال فى إكمال رسم هذه اللوحة الرائعة من الدعاء، و إنما هو صادق كل الصدق فى التعبير عن إحساسه و شعوره هذا بين يدى اللّه.
و لذلك فهو يعقب هذه اللوحة من «استغاثة العبد بربّه» بلوحة أُخرى في نجدة اللّه لعبده.
فليس يمكن فيما نعرف من رحمة اللّه و فضله أنّ اللّه تعالى يخيّب هذا الإحساس الصادق و الصافى و النقى من العبد فى الحب و الرجاء، فيردّ حبه و يخيّب رجاءه، يقول عليهالسلام : «فكيف يبقى فى العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار و هو يأمل فضلك و رحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها و أنت تسمع صوته و ترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها و أنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتغلغل بين أطباقها و أنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديك يا ربه؟».
فهل يمكن أن تقود الزبانية العبد إلى النار و تزجره فيها، و هو ينادى اللّه ربّه، و يهتف به، و يلوذ به بلسان أهل توحيده؟
إنّ ما سبق من حلمه و فضله فى حياتنا ينفى ذلك نفياً قاطعاً مطلقاً. و الإمام يستدلّ بحلم اللّه على حلمه و فضله على فضله: «و هو يرجو ما سلف من حلمك». و الإمام عليهالسلام قاطع فى هذا الجانب من القضية «الخط النازل» فى علاقة اللّه بعبده كما كان قاطعاً و صريحاً فى الطرف الآخر من القضية «الخط الصاعد» فى علاقة العبد باللّه.
فكما كان قاطعاً و صريحاً فى أنّ القلوب التى ذاقت حلاوة حبّه و رجائه، لايفارقها حبها و رجاؤهاللّه، و لن تستبدل بحب اللّه و رجائه حبّاً و رجاءً، حتي لو أحاط بها عذاب اللّه و عقابه... . كذلك هو قاطع و صريح أن اللّه تعالى لا يخيّب مثل هذا الحب و الرجاء الصادقَين فى قلب العبد.
تأمّلوا فى هذا الجزم و القطع و الصراحة فى كلام على عليهالسلام : «هيهات ما ذلك الظن بك، و لا المعروف من فضلك، و لا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك و إحسانك، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، و قضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً و سلاماً، و ما كانت لأحدٍ فيها مقراً و لا مقاماً»(1).
و هذا الجزم و القطع فى علاقة العبد الذى أحب مولاه «الصاعدة» و علاقة المولى بعبده «النازلة» نجده فى مواضع اُخرى من كلمات على عليهالسلام . فها هو يخاطب اللّه تعالى فى مناجاته المشهورة: «إلهى و عزتك و جلالك لقد أحببتك محبةً استقرّت حلاوتها فى قلبي، و ما تنعقد ضمائر موحديك على أنك تبغض محبيك» (2).
و فى مناجاة الإمام على بن الحسين عليهالسلام : «إلهى نفسٌ أعززتها بتوحيدك كيف تذلّها بمهانة هجرانك؛ و ضمير انعقد على مودّتك كيف تحرقه بحرارة نيرانك»(3).
(1) مفاتيح الجنان: دعاء كميل.
(2) مناجاة أهل البيت: 68 ـ 69.
(3) بحار الأنوار: 94 / 143.
و يقول عليهالسلام أيضاً فى دعاء الأسحار من شهر رمضان الذى علّمه لأبي حمزة الثمالى رضياللهعنه : «أ فتراك يا رب تخلف ظنوننا، أو تخيّب آمالنا؟ كلاّ يا كريم، فليس هذا ظنُّنا بك، و لا هذا طمعنا فيك. يا رب إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً، إنّ لنا فيك رجاءً عظيماً ...» (1).
«قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشيرَتُكُمْ وَ أمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللّهَ وَ رَسُولِهِ وَجَهادٍ فى سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِه وَ اللّهُ لا يَهْدِيِ الْقَوْمَ الْفاسِقينَ»(1).
تتكون العلاقة باللّه تعالى فى صورتها الصحيحة من مجموعة من العناصر المتناسقة و المتآلفة، هذه العناصر مجتمعةً تكوّن الاسلوب الصحيح للعلاقة باللّه تعالي.
و ترفض النصوص الإسلامية أن تكون العلاقة باللّه تعالى على أساس العنصر الواحد، كالخوف، أو الرجاء، أو الحب، أو الخشوع، و تعتبر العلاقة باللّه ذات العنصر الواحد فاقدة لحالة التوازن و التناسق.
و العناصر التى تشكل العلاقةُ باللّه تعالى مجموعة واسعة، ورد ذكرها بتفصيل فى نصوص الآيات و الروايات و الأدعية مثل: الرجاء، و الخوف، و التضرّع، و الخشوع، و التذلل، و الوجل، و الحب، و الشوق، و الأُنس، و الإنابة، و
(1) التوبة: 24.
التبتّل، و الاستغفار، و الاستعاذة، و الاسترحام، و الانقطاع، و التمجيد، و الحمد، و الرغبة، و الرهبة، و الطاعة، و العبودية، و الذكر، و الفقر، و الاعتصام.
و قد ورد فى الدعاء عن الإمام زين العابدين على بن الحسين عليهماالسلام : «اللّهمّ إنّى أسألك أن تملأ قلبى حبّاً و خشية منك، و تصديقاً لك، و إيماناً بك، و فرَقاً منك، و شوقاً إليك» (1).
و من هذه العناصر المتعددة يتألّف طيف زاهٍ و متناسق للعلاقة باللّه تعالي، و كل عنصر من هذه العناصر يعتبر مفتاحاً لباب من أبواب رحمة اللّه و معرفته.
فالاسترحام مفتاح لرحمة اللّه تعالي، و الاستغفار مفتاح للمغفرة.
كما أنّ كل عنصر من هذه العناصر يعتبر بحدّ ذاته طريقاً للحركة و السلوك إلى اللّه. فالشوق و الحب و الاُنس باللّه طريق إلى اللّه، و الخوف، و الرهبة طريق آخر إلى اللّه تعالي، و الخشوع طريق ثالث إلى اللّه، و الرجاء، و الدعاء و التمنّي طريق آخر إلى اللّه.
و على الإنسان أن يسلك و يتحرك إلى اللّه تعالى من مسالك و طرق مختلفة، و لا يقتصر على سلوك طريق واحد، فإنّ لكل سلوك نكهة و ذوقاً و كمالاً و ثمرة فى حركة الإنسان إلى اللّه لا توجد فى السلوك الآخر.
و يطرح الإسلام على هذا الأساس مبدأ تعدّدية عناصر العلاقة باللّه تعالي.
و هذا بحث واسع و باب رحب من العلم لا نريد أن ندخله الآن.
(1) بحار الأنوار: 98 / 92
حب اللّه تعالي:
و حب اللّه تعالى من أفضل هذه العناصر، و أقواها، و أبلغها فى شدّ الإنسان باللّه تعالي، و تحكيم علاقته به عزّ شأنه.
و لا يوجد فى ألوان العلاقة باللّه لون أقوى و أبلغ من «الحب» فى توثيق علاقة العبد باللّه.
و قد ورد ذكر هذه المقارنة بين عناصر العلاقة باللّه تعالى فى مجموعة من النصوص الإسلامية، و نذكر بعضها.
روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود: «يا داود ذكرى للذاكرين، و جنّتي للمطيعين، و حبى للمشتاقين، و أنا خاصة للمحبين» (1).
و عن الإمام الصادق عليهالسلام : «الحبّ أفضل من الخوف» (2).
و روى محمّد بن يعقوب الكلينى عن الإمام أبى عبداللّه جعفر الصادق عليهالسلام : «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ خوفاً، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة التّجار، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ حبّاً، فتلك عبادة الأحرار، و هى أفضل العبادة» (3).
و روى الكلينى عن رسول اللّه صلياللهعليهوآله : «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها، و أحبّها بقلبه، و باشرها بجسده، و تفرّغ لها، فهو لا يبالى على ما أصبح من الدنيا على عسر أم يسر» (4).
(1) بحار الأنوار: 98 / 226.
(2) بحار الأنوار: 78 / 226.
(3) اُصول الكافي: 2 / 84 .
(4) اُصول الكافي: 2 / 83 .
و عن الإمام الصادق عليهالسلام : «نجوى العارفين تدور على ثلاثة اُصول: الخوف، و الرجاء، و الحب. فالخوف فرع العلم، و الرجاء فرع اليقين، و الحب فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب، و دليل الرجاء الطلب، و دليل الحب إيثار المحبوب على ما سواه. فاذا تحقّق العلم فى الصدر خاف، و إذا صحّ الخوف هرب، و إذا هرب نجا و إذا أشرق نور اليقين فى القلب شاهد الفضل، و إذا تمكّن من رؤية الفضل رجا، و إذا وجد حلاوة الرجاء طلب، و إذا وُفّق للطلب وجد. و إذا تجلّى ضياء المعرفة فى الفؤاد هاج ريح المحبّة، و إذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب، و آثر المحبوب على ما سواه، و باشر أوامره. و مثال هذه الاُصول الثلاثة كالحرم و المسجد و الكعبة، فمن دخل الحرم أمن من الخلق، و من دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها فى المعصية، و من دخل الكعبة أمن قلبه من أن يشغله بغير ذكر اللّه» (1).
و عن رسول اللّه صلياللهعليهوآله : «بكى شعيب عليهالسلام من حب اللّه عزّ و جلّ حتّى عمي ... أوحى اللّه إليه: يا شعيب، إن يكن هذا خوفاً من النار، فقد أجرتك، و إن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك. فقال: إلهى و سيّدي، أنت تعلم أنى ما بكيت خوفاً من نارك، و لا شوقاً إلى جنّتك، و لكن عقد حبك على قلبي، فلست أصبر أو أراك، فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه: أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدمك كليمى موسى بن عمران» (2).
و فى صحيفة إدريس عليهالسلام : «طوبى لقومٍ عبدونى حبّاً، و اتخذونى إلهاً و ربّاً، سهروا الليل، و دأبوا النهار طلباً لوجهى من غير رهبة و لا رغبة، و لا لنار، و لا جنّة،
(1) مصباح الشريعة: 2 ـ 3.
(2) بحار الأنوار: 12 / 380.
بل للمحبة الصحيحة، و الإرادة الصريحة و الانقطاع عن الكلّ إليَّ» (1).
و فى الدعاء عن الإمام الحسين عليهالسلام : «عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً» (2).
الإيمان و الحبّ:
و قد رُوى فى النصوص الإسلامية أنّ الإيمان حب.
فعن الإمام الباقر عليهالسلام : «الإيمان حب و بغض» (3).
و عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن الحب و البغض، أَ مِن الإيمان هو؟ فقال: «و هل الإيمان إلاّ الحب و البغض؟ » (4).
و عن الصادق عليهالسلام : «هل الدين إلاّ الحب؟ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونى يُحْبِبْكُمُ اللّهُ(5)» (6).
و عن الإمام الباقر عليهالسلام : «الدين هو الحب و الحب هو الدين» (7).
لذّة الحبّ:
و العبادة إن كانت عن حبّ و شوق و لهفةٍ فلا تفوقها لذة و حلاوة.
يقول الإمام زين العابدين عليهالسلام و هو ممّن ذاق حلاوة حبّ اللّه و ذكره:
(1) بحار الأنوار: 95 / 467.
(2) بحار الأنوار: 98 / 226.
(3) بحار الأنوار: 78 / 175.
(4) اُصول الكافي: 2 / 125.
(5) آل عمران : 31.
(6) بحار الأنوار: 69 / 237.
(7) نور الثقلين: 5 / 285.
«إلهى ما أطيب طعم حبّك و ما أعذب شربَ قُربك» (1).
و هى حلاوة و لذة مستقرّةٌ فى قلوب أولياء اللّه، و ليست لذّة عارضةً تعرض حيناً، و ترتفع حيناً. و إذا استقرّت لذة حب اللّه فى قلب العبد، فذلك قلب عامر بحب اللّه، و لن يعذّب اللّه قلب عبد عَمَرَ بحبّه، و استقرّت فيه لذّة حبه.
يقول أميرالمؤمنين عليهالسلام : «إلهى و عزَّتِكَ و جلالِكَ لقد أحببتُكَ محبةً استقرَّتْ حلاوتُها فى قلبي، و ما تنعقدُ ضمائُر موحِّديكَ على أنّكَ تبغضُ مُحبّيكَ» (2).
و عن هذه الحالة المستقرّة و الثابتة من الحبّ الإلهى يقول الإمام على بن الحسين عليهماالسلام : «فوعزّتك يا سيدى لو انتهرتنى ما برحت من بابك، و لا كففت عن تملّقك، لما انتهى إليَّ من المعرفة بجودك و كرمك» (3).
و هو من أبلغ التعبير فى عمق الحب و استقراره فى القلب، فلا يزول و لا يتغيّر فى قلب العبد حتى لو نهره مولاه، و أبعده من جنابه، و حاشاه أن يفعل ذلك بعبدٍ استقرّ حبه فى قلبه.
و إذا عرف الإنسان طعم حبّ اللّه و لذّة الاُنس به فلا يؤْثر عليه شيئاً. يقول زين العابدين و إمام المحبّين عليهالسلام : «من ذا الذى ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً؟ و من ذا الذى أنِسَ بقربك فابتغى عنك حِوَلاً؟» (4).
و إنّما يتوزّع الناس على المسالك و المذاهب؛ لأنّهم حُرِموا لذّة حب اللّه. و أمّا الذين عرفوا لذة حبّ اللّه فلا يبحثون بعد ذلك عن شيء آخر فى حياتهم.
(1) بحار الأنوار: 98 / 26.
(2) مناجاة أهل البيت: 96 ـ 97.
(3) بحار الأنوار: 98 / 85 .
(4) بحار الأنوار: 94 / 148.
يقول الإمام الحسين بن على عليهالسلام : «ماذا وجد من فقدك؟! و ما الذى فقد من وجدك؟!» (1).
و يستغفر عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام من كلّ لذّةٍ غير لذّة حب اللّه، و من كل شغلٍ غير الاشتغال بذكر اللّه، و من كلِّ سرورٍ بغير قرب اللّه، لا لأنّ اللّه تعالى حرّم على عباده ذلك، و لكن لأنّ ذلك من انصراف القلب عن اللّه و إِشتغاله بغير اللّه، و لو زمناً قصيراً، و لا ينصرف قلبٌ عرف لذّة حب اللّه، عن اللّه.
و كل شيء و كل جهد فى حياة أولياء اللّه يأتى فى امتداد حبّ اللّه، و ذكر اللّه، و طاعة اللّه، و كلّ شيء عدا ذلك فهو انصراف عن اللّه، و يستغفر اللّه منه. يقول عليهالسلام : «و أستغفرك من كلّ لذّةٍ بغير ذكرك، و من كلِّ راحةٍ بغير اُنسك، و من كلّ سرورٍ بغير قربك، و من كلّ شغلٍ بغير طاعتك» (2).
الحبّ يجبر عجز العمل:
و الحب لا ينفصل عن العمل، فمن أحبّ كانت أمارة حبّه العمل و الحركة و الجهد. و لكنّ الحب يجبر عجز العمل، و يشفع لصاحبه كلّما قصر عمله، و هو شفيعٌ مُشفَّعٌ عند اللّه تعالي.
يقول زين العابدين عليهالسلام فى دعاء الأسحار الذى يرويه عنه أبو حمزة الثمالى و هو من جلائل الأدعية: «معرفتى يا مولاى دليلى عليك، و حُبّى لك شفيعى إليك، و أنا واثق من دليلى بدلالتك، و من شفيعى إلى شفاعتك» (3).
(1) بحار الأنوار: 98 / 226.
(2) بحار الأنوار: 94 / 151.
(3) بحار الأنوار: 98 / 82 .
و نعم الدليل و الشفيع المعرفة و الحب، فلا يضيع عبد دليلُه إلى اللّه «المعرفة»، و لا يقصر عبد عن الوصول و البلوغ إذا كان شفيعه إلى اللّه «الحب».
يقول الإمام عليّ بن الحسين عليهالسلام : «إلهى إنّك تعلم أنى و إن لم تَدُم الطاعة منّى فعلاً جزماً، فقد دامت محبّةً و عزماً».
و هو إشارة رقيقة من رقائق كلمات الإمام، فإنّ الطاعة قد تقصر بالإنسان، و لا يتمكّن أن يثق بطاعته للّه، و لكن ما لا سبيل إلى الشك فيه للمحبّين هو اليقين و الجزم بحبّهم للّه تعالي، و عزمهم على المضيّ فى الحب و الطاعة، و هذا ممّا لا يرتاب فيه عبد وجد حب اللّه فى قلبه، فقد يقصِّر العبد في طاعة، و قد يرتكب ما يكرهه اللّه و لا يحبه من معصية، و لكن ما لا يمكن أن يكون ـ و هو يقصّر فى الطاعة و يرتكب المعصية ـ أن يكره الطاعة و يحبّ المعصية.
فإنّ الجوارح قد تنزلق إلى المعاصي، و يستدرجها الشيطان و الهوى إليها، و قد تقصّر الجوارح فى طاعة اللّه، ولكن قلوب الصالحين من عباد اللّه لا يدخلها غير حبّ اللّه و حب طاعته و كراهية معصيته.
و فى الدعاء: «إلهى اُحبُّ طاعتَكَ و إنْ قَصَرْتُ عنها، و أَكرهُ معصيتَكَ و إن ركَبْتُها، فتفضَّلْ عليَّ بالجنةِ» (1).
و هذه هى الفاصلة بين الجوارح و الجوانح، فإنّ الجوارح قد تَقْصُرُ عن اللحوق بالجوانح، فانّ جوانح الصالحين تخلص للّه و تخضع لسلطان حب اللّه
(1) بحار الأنوار: 94 / 101.
بشكل كامل، فَتَقْصُرُ عنها الجوارح، إلاّ أن القلب إذا خلص و طاب فلابدّ أن تنقاد له الجوارح و تطيعه. و لابدّ أن تنفّذ الجوارح ما تطلبه و تريده الجوانح، و تنعدم عند ذلك هذه الفاصلة بين الجوارح و الجوانح بسبب إخلاص القلب.
الحب يجير الإنسان من العذاب:
و إذا كانت الذنوب تسقط الإنسان فى عين اللّه، و تعرّضه لعقاب اللّه و عذابه فإنّ «الحب» يجير الإنسان من عذاب اللّه و عقابه.
ففى المناجاة عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام : «إلهى إنّ ذنوبى قد أَخافتْني، و محبَّتى لكَ قد أَجارَتني»(1).
درجات الحبّ و أطواره:
و للحب فى قلوب العباد درجات و مراحل.
فمن الحب حب ضحل ضئيل، لا يكاد يُحسّ به صاحبه.
و من الحب ما يملأ قلب العبد، و لا يترك فى قلبه فراغاً لشأن آخر ممّا يلهو به الناس و يشغلهم عن ذكر اللّه.
و من الحبّ ما لا يرتوى معه العبد من ذكر اللّه و مناجاته و الوقوف بين يديه، و لا ينتهى ظمأُ فؤادِه من الذكر، و الدعاء، و الصلاة، و العمل فى سبيل اللّه، مهما طال وقوفه، و عمله، و صلاته بين يدى اللّه.
(1) بحار الأنوار: 94 / 99.
و فى الدعاء عن الإمام الصادق عليهالسلام : «سيّدى أنا من حبّك جائع لا أشبع، و أنا من حبّك ظمآن لا أُروي، وا شوقاه إلى من يرانى و لا أراه».
يقول الإمام على بن الحسين زين العابدين عليهالسلام فى المناجاة: «وغُلّتي لايُبردها إلاّ وَصلُك، ولوعَتى لايطفؤها إلاّ لقاؤُك، وشوقى إليك لا يَبُلُّه إلاّ النظرُ إليك»(1)
و من حب اللّه (الوله) و (الهيام)، ففى (زيارة أمين اللّه): «اللّهمّ إنّ قلوب المخبتين إليك والهة» (2).
و فى دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام : «إلهى بك هامت القلوب الوالهة ... فلا تطمئنّ القلوب إلاّ بذكراك، و لا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك»(3).
و هذه خاصّة القلوب الوالهة و الهائمة لا تسكن و لا تطمئن إلاّ بذكر اللّه.
و من أروع الحب و أبلغه ما نجده فى كلمات أميرالمؤمنين عليبن أبي طالب عليهالسلام فى الدعاء الذى علّمه لكميل بن زياد النخعى رضياللهعنه و المعروف بدعاء كميل: «فهبنى يا إلهى و سيدى و مولاى و ربّى صبرت على عذابك فكيف أصبر علي فراقك؟ و هبنى صبرتُ على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟ أم كيف أسكن فى النار و رجائى عفوك؟!» (4).
و هو من أروع لفتات الحب و أصدقها. فهب أنّ العبد يصبر على عذاب
(1) بحار الأنوار: 94 / 149.
(2) مفاتيح الجنان، دعاء أبى حمزة الثمالي.
(3) بحار الأنوار: 94 / 151.
(4) مفاتيح الجنان.
نار مولاه، فكيف يصبر على هجره و فراقه و غضبه؟!
و المحب قد يتحمّل عقوبة مولاه، و لكن لا يتحمّل غضبه و مقته له، و قد يتحمّل النار و هى من أقسى العقوبات و لكن لا يتحمّل هجر مولاه و فراقه.
و كيف يسكن العبد فى نار جهنم و هو يرجو أن يعطف عليه مولاه و ينقذه منها؟
و هذان «الحب» و «الرجاء» اللذان لا يفارقان قلب العبد ـ و هو يصلي فى نار جهنم بغضب من اللّه تعالى ـ من أروع صور هذا الدعاء الجليل.
فقد يحبّ العبد مولاه، و هو يتنعّم بنعمته و فضله، و هو بالتأكيد من الحب، و لكن الحب الذى لا يزيد عليه حب أن لا يفارق الحب و الرجاء قلب العبد و هو يصلى بنار عذاب مولاه.
يقول الإمام على بن الحسين زين العابدين عليهالسلام فى دعاء الأسحار الّذي علّمه لأبى حمزة الثمالى رضياللهعنه : «فوعزّتك لو انتهرتنى ما برحت من بابك و لا كففت عن تملّقك لما اُلهم قلبى من المعرفة بكرمك و سعة رحمتك. إلى من يذهب العبد إلاّ إلى مولاه؟! و إلى من يلتجئ المخلوق إلاّ إلى خالقه؟! إلهى لو قرنتنى بالأصفاد، و منعتنى سيبك من بين الأشهاد، و دللتَ على فضائحى عيون العباد، و أمرت بى إلي النار، و حلت بينى و بين الأبرار ما قطعتُ رجائى منك، و ما صرفتُ تأميلى للعفو عنك، و لا خرج حبّك من قلبي» (1).
و هذا هو أصدق الحب، و الرجاء، و الأمل، و أنقاه و أصفاه، لا يكاد
(1) مفاتيح الجنان، دعاء أبى حمزة الثمالي.
يخرج من قلب العبد حتى لو قرنه مولاه بالأصفاد، و منعه سيبه من بين الأشهاد، و دلّ على فضائحه عيون العباد.
و لنتابع استعراض هذه الصور الرائعة من الحب و الرجاء التى يرسمها الإمام على عليهالسلام فى هذا الدعاء الجليل «دعاء كميل»: «فبعزّتك يا سيدى و مولاي اُقسم صادقاً لئن تركتنى ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، و لأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، و لأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، و لاُنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين؛ يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، و يا إله العالمين.
أفتراك سبحانك يا إلهى و بحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته، و ذاق طعم عذابها بمعصيته، و حبس بين أطباقها بجرمه و جريرته، و هو يضجّ إليك ضجيج مؤمّلٍ لرحمتك، و يناديك بلسان أهل توحيدك، و يتوسّل إليك بربوبيتك، يا مولاي، فكيف يبقى فى العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار و هو يأمل فضلك و رحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها و أنت تسمع صوته و ترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها و أنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتغلغل بين أطباقها و أنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديك يا ربّه؟ أم كيف يرجو فضلك فى عتقه منها فتتركه فيها؟ هيهات، ما ذلك الظن بك، و لا المعروف من فضلك، و لا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك و إحسانك، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك و قضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً و سلاماً، و ما كان لأحدٍ فيها مقراً و لا مقاماً» (1).
(1) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
قالى لى صديق، من ذوى الفضل و الأدب: إن خصلة البطولة و الشجاعة خصلة أصيلة فى على عليهالسلام ، لا تفارقه حتى فى الدعاء بين يدى رب العالمين. فها هو فى الدعاء الذى علّمه لكميل يتصوّر أن النار قد احتوت العبد المذنب، و أحاطت به من كل جانب، فلا يسكت و لا يسكن و لا يستسلم للعذاب و العقوبة، كما هو مقتضى الحال فيمن أطبق عليه العذاب و احتوشته زبانية النار، و إنما يضج و يبكى و يصرخ و يهتف و ينادي.
ألا تراه كيف يعبّر عن هذه الحالة فى دعاء اللّه؟
«فبعزّتك يا سيدى و مولاى اُقسم صادقاً لئن تركتنى ناطقاً لأضجّن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، و لأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، و لأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، و لاُنادينّك أين كنت يا ولى المؤمنين».
قلت له: لمْ تصب فى تذوق كلام على عليهالسلام ، و لو كان عليهالسلام بهذا الصدد لم يقل فى مقدمة هذا الخطاب «لو تركتنى ناطقاً». أما أنا فأتصور الحالة النفسية لعلى عليهالسلام فى هذه الكلمات بين يدى اللّه تعالى حالة الطفل الصغير الذى لم يعرف فى دنياه غير عطف اُمه، و رحمتها، و حبها و حنانها ملجأً و ملاذاً. فكلّما داهمه أمر أو أضرّ به شيء لجأ إلى اُمه، و استغاث بها و استنجدها، فإذا ارتكب مخالفة و تعرض لعقوبة من اُمه، و أراد أن يلجأ إلى طرف يحميه من عقوبتها نظر إلي أطرافه فلم يجد ملاذاً و ملجأً غيرها، فيحتمى بها، و يستنجدها، و يستغيث، و يلوذ بها، كما كان يفعل عند ما يتعرض لأذيً من غيرها.
و هذا هو حال على عليهالسلام فى هذا الدعاء. إنّه تعلَّم بقلبه الكبير، و اُفقه
الواسع الرحب أن يلجأ إلى اللّه، و يستغيث به، و يلوذ به، و لا يعرف غيره ملجأ و لا ملاذاً.
فهو سبحانه و تعالي، ملجأه و ملاذه الوحيد الذى لا يعرف غيره. فإذا تصوّر أنّ اللّه تعالى قد أحاطه بعذابه و عقوبته (1) فلا يتردد لحظة واحدة أن يلجأ إلى اللّه، و يلوذ به، و يستنجد به، و يستغيث به كما كان يفعل كل مرة.
أو ليس هو سبحانه ملاذه و ملجأه الوحيد؟ فلماذا يتردد هذه المرة أن يستنجد و يستغيث به؟!
يقول زين العابدين على بن الحسين عليهالسلام فى تصوير هذا المعنى في المناجاة:
«فإن طردتنى من بابك فبمن ألوذ؟ و إن رددتنى عن جنابك فبمن أعوذ؟ إلهى هل يرجع العبد الآبق إلاّ إلى مولاه؟ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه؟» (2).
و يقول عليهالسلام فى الدعاء الذى علّمه لأبى حمزة الثمالي: «و أنا يا سيدى عائذ بفضلك هارب منك إليك» (3).
و يقول على بن الحسين عليهالسلام فى نفس الدعاء: «إلى من يذهب العبد إلاّ إلي مولاه؛ و إلى من يذهب المخلوق إلاّ إلى خالقه» (4).
و الهروب من اللّه إلى اللّه من رقائق المعانى و الأفكار فى علاقة العبد باللّه، و هذه المشاعر التى يصوّرها على عليهالسلام فى علاقة العبد باللّه هى من أرقّ مشاعر
(1) نحن نستعير هنا كلمات على عليهالسلام نفسه، و لو لم يقل ذلك لم نجرؤ أن نتحدث عن العلاقة بينه و بين اللّه تعالى بهذه الطريقة.
(2) بحار الأنوار: 94 / 142.
(3) بحار الأنوار: 98 / 84 .
(4) بحار الأنوار: 98 / 88 .
«الحب» و «الرجاء»، و أصدقها فى نفوس المحبين.
و على عليهالسلام لا يذهب مذهب الشعراء فى هذه الفقرة من الدعاء في الاستعانة بالخيال فى إكمال رسم هذه اللوحة الرائعة من الدعاء، و إنما هو صادق كل الصدق فى التعبير عن إحساسه و شعوره هذا بين يدى اللّه.
و لذلك فهو يعقب هذه اللوحة من «استغاثة العبد بربّه» بلوحة أُخرى في نجدة اللّه لعبده.
فليس يمكن فيما نعرف من رحمة اللّه و فضله أنّ اللّه تعالى يخيّب هذا الإحساس الصادق و الصافى و النقى من العبد فى الحب و الرجاء، فيردّ حبه و يخيّب رجاءه، يقول عليهالسلام : «فكيف يبقى فى العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار و هو يأمل فضلك و رحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها و أنت تسمع صوته و ترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها و أنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتغلغل بين أطباقها و أنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديك يا ربه؟».
فهل يمكن أن تقود الزبانية العبد إلى النار و تزجره فيها، و هو ينادى اللّه ربّه، و يهتف به، و يلوذ به بلسان أهل توحيده؟
إنّ ما سبق من حلمه و فضله فى حياتنا ينفى ذلك نفياً قاطعاً مطلقاً. و الإمام يستدلّ بحلم اللّه على حلمه و فضله على فضله: «و هو يرجو ما سلف من حلمك». و الإمام عليهالسلام قاطع فى هذا الجانب من القضية «الخط النازل» فى علاقة اللّه بعبده كما كان قاطعاً و صريحاً فى الطرف الآخر من القضية «الخط الصاعد» فى علاقة العبد باللّه.
فكما كان قاطعاً و صريحاً فى أنّ القلوب التى ذاقت حلاوة حبّه و رجائه، لايفارقها حبها و رجاؤهاللّه، و لن تستبدل بحب اللّه و رجائه حبّاً و رجاءً، حتي لو أحاط بها عذاب اللّه و عقابه... . كذلك هو قاطع و صريح أن اللّه تعالى لا يخيّب مثل هذا الحب و الرجاء الصادقَين فى قلب العبد.
تأمّلوا فى هذا الجزم و القطع و الصراحة فى كلام على عليهالسلام : «هيهات ما ذلك الظن بك، و لا المعروف من فضلك، و لا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك و إحسانك، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، و قضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً و سلاماً، و ما كانت لأحدٍ فيها مقراً و لا مقاماً»(1).
و هذا الجزم و القطع فى علاقة العبد الذى أحب مولاه «الصاعدة» و علاقة المولى بعبده «النازلة» نجده فى مواضع اُخرى من كلمات على عليهالسلام . فها هو يخاطب اللّه تعالى فى مناجاته المشهورة: «إلهى و عزتك و جلالك لقد أحببتك محبةً استقرّت حلاوتها فى قلبي، و ما تنعقد ضمائر موحديك على أنك تبغض محبيك» (2).
و فى مناجاة الإمام على بن الحسين عليهالسلام : «إلهى نفسٌ أعززتها بتوحيدك كيف تذلّها بمهانة هجرانك؛ و ضمير انعقد على مودّتك كيف تحرقه بحرارة نيرانك»(3).
(1) مفاتيح الجنان: دعاء كميل.
(2) مناجاة أهل البيت: 68 ـ 69.
(3) بحار الأنوار: 94 / 143.
و يقول عليهالسلام أيضاً فى دعاء الأسحار من شهر رمضان الذى علّمه لأبي حمزة الثمالى رضياللهعنه : «أ فتراك يا رب تخلف ظنوننا، أو تخيّب آمالنا؟ كلاّ يا كريم، فليس هذا ظنُّنا بك، و لا هذا طمعنا فيك. يا رب إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً، إنّ لنا فيك رجاءً عظيماً ...» (1).