المشروع الوحدوي الكبير في دراسة احاديت كل فرق المسلمين
بِِِِِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
القرآن طريق الوصول إلى الحديث المقبول
من المعلوم أن الاعتصام بالدين ممثلاً في مصدريه القرآن الكريم والسنة المطهرة هو طريق الوحدة والالتقاء، ولكنه قد بات من المعلوم ضرورة اليوم أن السنة من أعظم أسباب الافتراق والاختلاف، فكل يوم تصحح أحاديث ضعفت وتضعف أحاديث صححت، ومن ثم تستنبط أحكام غير التي استنبطت، وتنشأ مذاهب وتبرز أحزاب وفرق لم تكن من قبل، وإن العيب لا يمكن أن يكون ولن يكون في السنة ذاتها فهي وحي وإنما هو في نقلها ، وإن القرآن الكريم لم يكن ولن يكون مصدر اختلاف وافتراق بين العلماء حتى وإن اختلفت اجتهاداتهم في استنباط بعض أحكامه لأن نقله إلينا مقطوع به وليس ظنيًّا، ونقل الشيء ليس ذاته وإنما النقل شيء والذات شيء آخر، فالسنة ثابتة ومحفوظة ومقطوع بحفظها لا محالة، وإلا لما أمرنا الله بها تمسكًا وإيمانًا وعملاً بقوله{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الحشر:7]، وقوله{لاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]، وقوله{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}[الأحزاب:36]، وقوله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء:59]، وقوله{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء8]، وقوله{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء:65]. ولكنها نقلت إلينا بطرق منها المقطوع به ومنها المظنون، ولم تتميز هذه الطرق وإنما اختلطت، فجاء العلماء لتمييزها فاختلفوا لاختلافهم في مناهج وقواعد التمييز والبيان، وإن اتفقوا على لزوم صحة الإسناد وصحة المتن ليصح الحديث ويقبل، وليصح السند فلا بد من اتصاله بنقل الثقات عن بعضهم البعض من أوله إلى منتهاه، وليصح المتن لا بد من سلامته من العلل القادحة فيه، وهذا كله لا غبار عليه ولا اختلاف فيه، ولكن الاختلاف نبع من تحديد الثقات والعلل القادحات في المتن، لاعتمادهم منهجًا ظنيًّا في المعرفة وليس قطعيًّا، هذا المنهج انعكست آثاره سلبًا على السنة على مرِّ القرون وإلى يومنا هذا، ويتلخص هذا المنهج في معرفة الثقات من الرواة والمجروحين باعتماد شهادات العلماء من أهل الفن فيهم، وهذه الشهادات يستحيل القول أو القطع بقطعيتها لأنها ليست وحيًا ولا صادرة من معصوم وإنما هي اجتهادات خاضعة لعلم أصحابها ومعرفتهم بأحوال الرواة ومذاهبهم وآرائهم في أفعال الرواة ومذاهبهم، فهي إما صواب وإما خطأ، وبنوا على ذلك تحديد علل المتن والتي منها مخالفة الراوي للثقات أو لمن هو أوثق منه وكلهم كما بينا وثقوا بظني لا بقطعي، فتصحيح السند والمتن قائم على الظن، وهذا منهج لا يستقيم لأن الظن لا يغني من الحق شيئًا، إذًا لا بد من منهج قطعي سليم في معرفة الثقات والمجروحين وعلل المتن حتى نصل إلى السنة المحفوظة قطعًا، هذا المنهج لا بد وأن يعتمد على قطعي ويستند إليه وينبع منه، ولا قطعي إلا القرآن الكريم وقواعد اللغة والأصول الثابتة فيه، و لحل هذه الأزمة ذات العمر البالغ الأربعة عشر قرنًا التي عاشتها الأمة الإسلامية والتي لم تجد لها حلاًّ إلا حلولاً سطحية مرتبطة بالتقليد وعدم الخروج على الموروث القاصر، لا بد من فعل التالي:
1- دراسة القرآن الكريم دراسة أولية تبنى على العلم باللغة العربية وأصول الفقه لتعلم أحكامه لأنها الأصل القطعي الذي لا بد وأن تعرض الأحاديث المتناولة نفس الأحكام عليه حتى يعلم ثبوتها من عدمه، وهذه الدراسة قد لا نحتاجها من جديد وإنما نحتاج إلى جمعها وترتيبها لأنها موجودة في ثنايا كتب التفسير المختلفة.
2- عرض الأحاديث على القرآن الكريم فما وافق منها قطعي القرآن قبلناه وقطعنا بصحته، وما خالف منها قطعي القرآن رددناه وقطعنا ببطلانه، وأما الأحاديث المتضمنة أحكامًا زائدة على الأحكام القرآنية ولم تعارضها فنقطع بقبولها أو ردها بالقطع بصحة أسانيدها أو عدم صحتها، وللقطع بصحة الأسانيد أو عدم صحتها لا بد من إصدار أحكام قطعية على رواتها جرحًا وتوثيقًا، وذلك بتوثيق الراوي الذي روى المتن المقبول أو أكثر وقبول رواياته الموافقة لما في القرآن الكريم أو الزائدة عليه وغير المعارضة له، وبعدم توثيق الراوي الذي روى المتن المردود ورد رواياته المعارضة لما في القرآن الكريم أو الزائدة عليه، وبذلك نعلم أننا بعرضنا الأحاديث المتناولة أحكامًا قرآنية على القرآن الكريم نكون قد أنجزنا أمورًا عظيمة لم تنجز على مر التاريخ الإسلامي وهي:
1- حصر الأحاديث المقبولة بموافقتها للقرآن الكريم، وحصر الأحاديث المردودة بمخالفتها للقرآن الكريم. وهذه الأحاديث المقبولة من الممكن أن يكون في رواتها أي بعد استقراء مروياتهم ومعرفة الحكم فيهم بناء على عرضها على القرآن الكريم غير موثق لأن صحة المتن هي المقصود ونحن إنما نبحث في السند لنعلم به صحة المتن أو عدم صحته، و علمنا بصحة المتن بموافقته لقطعي قرآني يكفينا حتى وإن ضعف السند لأن القرآن أكبر شاهد عليه.
2- الحكم على رواة هذه الأحاديث جميعهم ومنهم الصحابة وتصنيفهم إلى صنفين مقبول الرواية وممكن أن يكون عدلاً ضابطًا أو فاسقًا تبين صدقه ضابطًا، ومردود الرواية وممكن أن يكون فاسقًا غير ضابط، أو عدلاً غير ضابط،أو فاسقًا تبين كذبه ضابطًا أو غير ضابط. وهذا لا يكون إلا باستقراء مرويات كل راو وعرضها على القرآن الكريم فإن تبين في مروياته معارض للقرآن الكريم فهو مردود الرواية وإن لم يكن في مروياته معارض للقرآن فهو مقبول الرواية، وهذا وإن كان يعني كتابة كتاب جديد جامع في الرجال رواة الأحاديث وبمنهجية وأدلة غير التي ورثناها قي كتب الرحال فبدلاً من أن نقول في راوٍ ما وثقه أحمد وابن معين وابن المديتي مثلاً نقول هو مقبول الرواية لموافقة مروياته الأحكام القطعية القرآنية في رأي المراجع العلماء الأفذاذ فلان وفلان وفلان...، وبدلاً من أن نقول في راو آخر ضعفه أحمد وابن معين وابن المديتي مثلاً نقول هو مردود الرواية لمعارضة مروياته الأحكام القطعية القرآنية في رأي المراجع العلماء الأفذاذ فلان وفلان وفلان...، إلا أنه لا يعني إهمال الكتب السابقة في هذا الفن لأن فيها كثيرًا من الرواة اتفق على الحكم عليهم بكثرة المتابعات الدالة على توثيقهم أو الروايات الدالة على جرحهم، وعلومًا أخرى تفيد في إثبات اتصال السند أو عدمه، وهذا الجهد من الضروري الاستفادة منه وعدم إهماله.
3- الحكم على الأحاديث المتناولة أحكامًا زائدة على التي في القرآن الكريم والتي لا تتعارض مع أحكام القرآن الكريم ولا يمكن الحكم عليها من خلال عرضها على القرآن الكريم كالأحاديث المبينة لكيفية الصلاة والحج والزكاة وغيرها من المجملات القرآنية، وذلك بالحكم عليها من خلال الحكم على أسانيدها بناء على الأحكام القطعية على الرجال التي توصلنا إليها من خلال عرض المتون التي جاءت بأحكام قرآنية على القرآن الكريم.
وسأضرب مثالاً توضيحيًّا يبين ذلك بجلاء بإذن الله تعالى: قال البخاري حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد أو هُشَيم، عن إسماعيل، عن قيس عن جرير قال "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة - يعني البدر - فقال: إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}"([1])، وهذا الحديث فيه بيان جلي أن الله يرى يوم القيامة، وهو بذلك مخالف للقطعي من القرآن الكريم الذي بين وبقطعية عدم رؤية الله في الدنيا والآخرة، والأدلة القرآنية القطعية التي ناقضها هذا الحديث هي:
1- قول الله تبارك وتعالى{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]. وفي هذه الآية نفى الله تبارك وتعالى إدراك الأبصار لله تعالى، والأبصار جمع بصر والبصر هو حاسة الرؤية([2])، وحاسة الرؤية حاستان العين والقلب فالعين ترى وتعمى وكذلك القلب يرى ويعمى ولكن رؤية القلب وعماه ليست كرؤية العين وعماها، يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى{قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}[الأنعام:104]، وقوله{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}[الأعراف:198]، وقوله{وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ}[يونس:43]، وقوله{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}[السجدة:12]، وقوله{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ}[غافر:58]، وقوله{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21]، وقوله{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، وقوله{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}[الأعراف:64]، ويطلق على القلب الرائي الفاقه العاقل المتفكر المتدبر المعتبر عين كما يطلق عليه بصر لاشتراكه مع العين في الرؤية اشتراكًا لفظيًّا أو لأن رؤية العين كما سمع الأذن وسيلة إليه، يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[الأعراف:179]. ورؤية القلب هي رؤية علم وعقل وفقه لأحكام الله وآياته ورؤية إيمان بالله واعتبار، وهذه هي التي كلف الله بها المكلفين من عباده ووصف القلوب بها وبالعمى إن انتفت عنها، يدل عليها قول الله تبارك وتعالى وقوله{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر:2]، وقوله{وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ}[يونس:43]، وقوله{وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}[الإسراء:72]، وقوله{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:23]، وقوله{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، وأما رؤية الإحاطة بالله وإدراك حقيقته فهذه ليست من رؤية القلوب بالمرة وإن كان هناك من ينسبها إليها كذبًا وافتراءً أو جهلاً وضلالاً، وهي التي نفاها الله مع رؤية الأعين المبصرة لله تعالى بقوله{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:103]. لأن كلمة (تدرك) تشمل هاتين الرؤيتين([3])، ولذلك عبر الله عن نفي الرؤية بقوله{لاَّ تُدْرِكُهُ}بدلاً من القول لا تراه لينفي رأي العيون المبصرة لله تعالى وينفي إحاطة القلوب بالله وإدراكها حقيقته ويبقي رؤية القلوب لله التي بينا لزومها غير منفية، ولو قال (لا تراه) لنفى رؤية القلوب اللازمة وأجاز إدراكها حقيقة الله المستحيلة وهذا محال.
والنفي في الآية ينفي مطلق الإدراك الشامل لإدراك القلب حقيقة الله ورؤية العين لله نفيًا غير مؤقت أي ليس في الدنيا فحسب وإنما في الدنيا والآخرة، ويؤكد ذلك أن لفظ الأبصار لفظ عام يشمل كل الأبصار المخلوقة في الدنيا والآخرة ولا تصلح الأحاديث الواردة في إثبات رؤية الله في الآخرة مقيدة لهذا الإطلاق وجعل النفي مؤقتًا بالحياة الدنيا وذلك لأن النفي ليس نفي رؤية وإنما هو نفي إدراك ولو قلنا إن الأبصار ترى الله يوم القيامة للزم القول بأنها تدركه كذلك لأن نفيهما ورد بلفظ واحد، وهذا محال لم يقل به أحد، وبذلك نستطيع القول إن هذا الحديث معارض لهذه الآية، وهذه المعارضة تصلح لرده وعدم الاحتجاج به وكذلك كل الأحاديث التي بمعناه.
2-قول الله تبارك وتعالى{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى:51]. وفي هذه الآية نفى الله تبارك وتعالى رؤية أحد له حتى الذين يكلمهم من عباده في الدنيا وفي الآخرة لأنه لا يكلمهم إلا من وراء حجاب، وكلمة (بشر) من ألفاظ العام فهي نكرة جاءت في سياق النفي فهي تشمل كل البشر في الدنيا والآخرة، ويؤكد ذلك أن هذا النفي لم يقيد بزمان لنقول هو متعلق بما يكون في الدنيا وليس في الآخرة، ولو قلنا إن هذه الآية إنما تبين الحكم في الحياة الدنيا فلا يعني ذلك أن الله يرى في الآخرة لأن القول بذلك يحتاج إلى دليل وإن الدليل السابق أثبت عدم الرؤية وعدم صحة الاحتجاج بالأحاديث التي أثبتتها. والله تعالى أعلم وأحكم.
ورد هذا الحديث يعني أن في رواته من هو مردود الرواية ولكي نستطيع تحديده أو تحديدهم من بين رواته لا بد من استقراء مروياتهم المتناولة أحكامًا قرآنية كل على حدة بدءًا بجرير وانتهاء بعمرو بن عون فمن وافقت مروياته أحكام القرآن الكريم فهو مقبول الرواية ومن خالفت مروياته أو بعضها أحكام القرآن فهو مردود الرواية.
وإن هذا المنهج في قبول الأحاديث وردها وكذلك في توثيق الرواة وجرحهم هو خروج على الموروث في علوم السنة والحديث والرجال، ولكنه يحتاج إلى جرأة تنقذنا من التقليد الذي أوقعنا في الاختلاف والاضطراب والأخطاء العقائدية والفقهية، وتمكننا من إنجازه أي من إخراج كتاب معتمد صحيح ودقيق في علم الرجال جرحًا وتوثيقًا، وكذلك كتاب جامع للسنة النبوية القطعية، وكذلك يحتاج إلى جهد كبير وعمل دءوب من أكابر وأفاضل العلماء مكلل بتوفيق من الله وتهيئة للأسباب.
ولا ننسى أن نبين أن هناك من الرواة من هم فوق هذا العمل أي لا يخضعون للدراسة وهم صنفان: صنف مقبول الرواية بلا تردد وهم الذين أثبت القرآن وثاقتهم كأهل الكساء عليهم السلام، أو اتفق علماء الطوائف على وثاقتهم، وصنف مردود الرواية وهم الذين أثبت القرآن عدم وثاقتهم، أو اتفق علماء الطوائف على جرحهم ورد رواياتهم.
([1]) رواه البخاري(فتح)ج2 ص33،ج8ص297 ، ومسلم، وأبو داود رقم4729، والترمذي رقم2554، وابن ماجة رقم177، وأحمد ج4ص360، والبيهقي في السنن الكبرى ج1ص359،والطبراني في الكبير ج2ص332، وأبو عوانة ج1ص376.
([2]) قال ابن منظور في لسان العرب " قال ابن الأَثير: في أَسماء الله تعالى البَصِيرُ، هو الذي يشاهد الأَشياء كلها ظاهرها وخافيها بغير جارحة، والبَصَرُ عبارة في حقه عن الصفة التي ينكشف بها كمالُ نعوت المُبْصَراتِ. الليث: البَصَرُ العَيْنُ إِلاَّ أَنه مذكر، وقيل: البَصَرُ حاسة الرؤْية. ابن سيده: البَصَرُ حِسُّ العَين والجمع أَبْصارٌ. بَصُرَ به بَصَراً وبَصارَةً وبِصارَةً وأَبْصَرَهُ وتَبَصَّرَهُ: نظر إِليه هل يُبْصِرُه...وأَبْصَرْتُ الشيءَ: رأَيته...ورجل بَصِيرٌ مُبْصِرٌ: خلاف الضرير".
([3]) قال منظور في ابن لسان العرب " قال ابن منظور في لسان العرب "الدَّرَكُ: اللحَاق، وقد أَدركه... وأَدْرَكْتُه ببصري أَي رأَيته".
تعليق