بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان للإمام علي(عليه السلام) الدور القيادي في التربية والتغيير والتصحيح وعلى ما عرفنا من النصوص الشرعية الماضية، لكن الملابسات التاريخية جعلته بعيداً عن الممارسة الفعلية للقيادة السياسية فترة ربع قرن أو أكثر بقليل ولا نريد بحث تلك الملابسات ونحيل ذلك للظرف المناسب. المهم أن الإمام علي(عليه السلام) كانت له مواقفه العقائدية والسياسية والجهادية في زمن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) مما لا ينكره أحد وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ما قام الإسلام إلا بمال خديجة وسيف علي بن أبي طالب).
وقال(صلى الله عليه وآله): (أعلمكم علي، أقضاكم علي، أعدلكم علي، أفقهكم علي).
وفي بحثنا هذا نريد معرفة دوره القيادي في فترتين من حياته الشريفة فترة إبعاده عن السلطة السياسية أولاً وفترة استلامه للحكم حتى شهادته المباركة ثانياً.
أما الفترة الأولى وهي فترة عزله عن الخلافة حيث أجتماع السقيفة وصارت الخلافة لأبي بكر ومن ثم لعمر ومن ثم لعثمان ثم جاءت لعلي(عليه السلام) ففي زمن الخلفاء الثلاث الذين سبقوه كان للإمام علي دوره المتميز في طريقة قيادة المسلمين بالشكل الذي يناسب الظروف الراهنة ـ آنذاك ـ لنذكر أهم التوجهات في ذلك:
باتجاه السلطة الحاكمة:
1 – ترميم ثغرات الجهاز الحاكم مراعاة للمصلحة الإسلامية العليا:
حين صارت الخلافة لأبي بكر رأى الإمام علي أن موقفه منها لا بد أن يكون مطابقاً للمصلحة العليا وإلا سيؤدي موقفه المعارض إلى نزاع دموي بين مؤيديه ومؤيدي أبي بكر وبالتأكيد سيستفيد من هذا الموقف السلبي المنافقون والأعداء حيث الجو الكئيب والمتشابك الذي يصلح عادةً لنمو الجراثيم السامة التي تستهدف الفتك بالأمة الإسلامية ساحقةً أهدافها المقدسة بعجلات المصلحة الذاتية الأنانية فيكون لهم المجال للتعبير عن موقفهم الواقعي المعادي للإسلام والمسلمين فمن باب الحرص على الشريعة وعلى مصلحة المسلمين آثر(عليه السلام) الوفاء للدين الإسلامي وفضله على الموقف الشخصي حيث سلبت الخلافة الشرعية عنه مبيناً موقفه المبدئي المخلص للشريعة الإسلامية ومبيناً أيضاً شرعيته بالخلافة المنصوصة له بطريقته الخاصة فساير الأحداث بالروح الإيجابية دون استجابة للإثارة والنزاع، مرمماً نواقص الخلافة من النواحي الفقهية القانونية حيث النقص الواضح لدى السلطة الحاكمة وكتب التاريخ تذكر عشرات القصص في هذا الصدد ومن النواحي الإدارية والاستشارية أيضاً وبالفعل أصبح المستشار الناصح للحكومة القائمة خدمة للمصلحة العامة وعلى سبيل التوضيح نورد بعض الأمثلة في زمن الخلفاء الثلاثة ـ دون تفصيل. ففي زمن الخليفة أبي بكر وردت مجموعة أسئلة إلى بيت الخلافة فما كانت الإجابات وافية مقنعة أو ما كانت تلقي أذناً واعية لها فكان الإمام علي(عليه السلام) هو كهف الإسلام والمسلمين يضع لها الإجابات الوافية بأدلتها الشرعي وخاصة لو عرفنا أن الكثير من غير المسلمين كانوا يريدون معرفة الخليفة الحق فيحضرون أسئلة معينة ربما تكون من علامات الخليفة كما ورد في كتبهم المقدسة هذا على كافة المستويات الفقهية وتفسير القرآن والسياسة والعقائد والعمل الجهادي والاجتماعي، يروي لنا التاريخ أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى (وفاكهة وأبا) فلم يعرف معنى (أبا) فقال أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني أم كيف اصنع إن قلت في كتاب الله تعالى بما لا أعلم أما الفاكهة فنعرفها وأما الأب فالله أعلم به فبلغ أمير المؤمنين مقاله ذلك في ذلك فقال: يا سبحان الله أما علم أن الأب هو الكلاء والمرعى وأن قوله تعالى (وفاكهة وأبا) اعتداد من الله تعالى بإنعامه على خلقه بما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيي به أنفسهم وتقوم به أجسادهم.
وسئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فبلغ ذلك أمير المؤمنين فقال ما أغناه عن الرأي في هذا المكان أما علم أن الكلالة هم الأخوة والأخوات من قبل الأب والأم ومن قبل الأب على انفراده ومن قبل الأم أيضاً على حدتها قال الله عز وجل(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) وقال عز وجل: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث).
ومما جاء في الخبر أن رجلا رفع إلى الخليفة أبي بكر وقد شرب الخمر فأراد أن يقيم عليه الحد فقال له إني شربتها ولا علم لي بتحريمها لأني نشأت بين قوم يستحلونها ولم أعلم بتحريمها حتى الآن فارتج على أبي بكر الأمر بالحكم عليه ولم يعلم وجه القضاء فيه. . . قال علي: مُر رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ويناشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه وخل سبيله. ففعل ذلك أبو بكر فلم يشهد أحد من المهاجرين والأنصار أنه تلا عليه آية التحريم ولا أخبره عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك فاستتابه أبو بكر وخلى سبيله وسلم لعلي في القضاء.
أما في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فوردت روايات كثيرة من هذا القبيل وكان للإمام علي موقفه المبدئي في ترميم الثغرات القانونية والعقائدية والسياسية ـ حتى يذكر في كتب التاريخ والروايات أن للخليفة عمر كلمات خالدة نحو الإمام علي لأن الإمام كان ينقذه من الهلكات فورد مرات عديدة قوله(لولا علي لهلك عمر) و(لا خير في معضلة ليس لها أبو الحسن).
فمثلا ورد في قصة قدامة بن مظعون وقد شرب الخمر فأراد عمر أن يحده فقال له قدامة إنه لا يجب علي الحد لأن الله تعالى يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وعملوا الصالحات) فدرأ عنه الحد فبلغ ذلك علياً فمشى إلى عمر فقال له: لم تركت إقامة الحد على قدامة في شرب الخمر ؟ فقال إنه تلا علي الآية. . .
فقال علي ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لا يستحلون حراماً فاردد قدامه واستتبه مما قال فإن تاب فأقم عليه الحد وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملة. . وعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة والإقلاع فدرأ عمر عنه القتل ولم يدر كيف يحده فقال لعلي أشر علي في حده فقال حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجلده عمر ثمانين وصار إلى قوله في ذلك.
وروي أن مجنونة على عهد الخليفة الثاني عمر فجربها رجل فقامت البينة عليها بذلك فأمر عمر بجلدها الحد فمر بها علي لتجلد فقال: ما بال مجنونة آل فلان تقتل ؟ فقيل له: إن رجلاً فجر بها وهرب وقامت البينة عليها فأمر عمر بجلدها فقال لهم: ردوها إليه وقولوا له أما علمت أن هذه مجنونة آل فلان وأن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (رفع القلم عن المجنون حتى يفيق) إنها مغلوبة على عقلها ونفسها. فردت إلى عمر وقيل له ما قال علي فقال: فرج الله عنه لقد كدت أن أهلك في جلدها فدرأ عنها الحد
وفي رواية: أتي عمر بامرأة نكحت في عدتها ففرق بينهما وجعل صداقها في بيت المال وقال: لا تجتمعان أبداً فبلغ علياً فقال: لها عليه المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب. فبلغ عمر فقال: لولا علي لهلك عمر. وفي رواية: أتي عمر بامرأة وضعت لستة أشهر فأمر برجمها فقال علي: ليس عليها رجم لأن الله تعالى يقول: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة). فخلى عنها وقال: اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب)
وجاء كذلك في زمن الخليفة الثاني ما حدث به شبابه بن سوار عن أبي بكر الهذلي ـ ملخص الفكرة ـ أن قوما من أهل همدان والري وأصبهان وغيرهم قد أخفوا غضبهم على الرسول والخليفة الأول فتهيأوا لغزو البلاد الإسلامية ولما استلم الخليفة هذا الخبر فزع فرعاً شديداً وجاء للمسجد وجمع المسلمين وخطب بهم بعد الحمد والثناء لله تعالى حتى قال: (. . . قد تعاهدوا وتعاقدوا أن يخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين ويخرجوا إليكم فيغزوكم في بلادكم فأشيروا علي وأوجزوا. . . ) فقام طلحة وخطب. . . وقام عثمان بن عفان وتكلم. . . وقام علي بن أبي طالب وقال بعد الحمد لله (. . أما بعد فإنك ان أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم وإن أشخصت هذين الحرمين انتقضت عليك العرب من أطرافها وأكنافها حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهم إليك ما بين يديك فأما ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم فإنا لم نكن نقاتل على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر وأما ما بلغك من اجتماعهم على المسير إلى المسلمين فإن الله لمسيرهم أكره منك لذلك وهو أولى بتغيير ما يكره وأن الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا هذا رجل العرب فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب وكان أشد لكلبهم وكنت قد ألبتهم على نفسك وأمدهم من لم يكن يمدهم ولكني أرى أن تقر هؤلاء في أمصارهم وتكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاثة فرق فلتقم فرقة منهم إلى إخوانهم مدداً لهم) فقال عمر أجل هذا الرأي وقد كنت أحب أن أتابع عليه وجعل يكرر قول علي وينسقه إعجاباً به واختياراً له.
أما في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان فكذلك كانت لعلي المواقف المبدئية في دعم الخلافة الإسلامية مراعاة للمصلحة العليا لكي لا تنخر الدولة الإسلامية من الداخل وتكون فرصة الشياطين في الانقضاض على الإسلام والمسلمين.
ففي الرواية: ان مكاتبة زنت على عهد عثمان وقد عتق منها ثلاثة أرباع فسأل عثمان علياً فقال: يجلد منها بحساب الحرية ويجلد منها بحساب الرق. وسأل زيد بن ثابت فقال: تجلد بحساب الرق فقال له الإمام علي: كيف تجلد بحساب الرق وقد عتق منها ثلاثة أرباعها؟ وهلا جلدتها بحساب الحرية فإنها فيها أكثر؟ فقال زيد لو كان ذلك كذلك لوجب توريثها بحساب الحرية فقال له أمير المؤمنين: أجل، ذلك واجب فافحم زيد
ومن هذه الأحداث المروية نجدها بكثرة في كتب التاريخ الإسلامي والروايات والسير نحيل القارئ الكريم إليها. .
2ـ تنبيه الجهاز الحاكم بحقه الشرعي بالخلافة:
والحق أن الطبقة الواعية في الأمة تعلم ذلك فكان الإمام علي(عليه السلام) يتصدى للحالات الطارئة والعسيرة ليكشف عن قوته العلمية والفكرية والإدارية فكان الجميع يطأطىء أمام علم الإمام وروحه وإرادته وبهذا كان يشير إلى أحقيته بهذا الموقع حسب النص الشرعي في القرآن وحديث الرسول وإشاراته هذه بأحقيته للخلافة يستهدف منها المصلحة العليا للإسلام والمسلمين أيضا.
قال أحمد في (الفضائل) حدثنا عبد الله القواريري حدثنا موئل عن يحيى بن سعيد بن أبي المسيب قال كان عمر بن الخطاب يقول أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن قال ابن المسيب: ولهذا القول سبب وهو إن ملك الروم بعث إلى عمر مجموعة من الأسئلة ينتظر إجابتها ليرتب عليها الأثر الطبيعي ونذكر بعض الأسئلة (. . . وما شيء كله فم ؟ وما شيء كله رجل؟ وما شيء كله عين؟ وما شيء كله جناح؟ وعن رجل لا عشيرة له؟ وعن أربعة لم تحمل بهم رحم؟. . . وعن مكان لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة؟. . . وعن مفاتيح الجنة ما هي؟).
فقرأ الإمام علي(عليه السلام) الكتاب وكتب في الحال خلفه: نذكر إجابات الأسئلة التي ذكرناها فقط. . قال(عليه السلام) (بسم الله الرحمن الرحيم. . أما بعد ـ فقد وقفت على كتابك أيها الملك وأنا أجيبك بعون الله وقوته وبركته وبركة نبينا محمد(صلى الله عليه وآله). . وأما الذي كله فم فالنار تأكل ما يلقى فيها وأما الذي كله رجل فالماء وأما الذي كله عين فالشمس وأما الذي كله جناح فالريح وأما الذي لا عشيرة له فآدم(عليه السلام) وأما الذي لم يحمل بهم رحم فعصا موسى وكبش إبراهيم وآدم وحواء. . . وأما المكان الذي لم تطلع عليه الشمس إلا مرة واحدة فأرض البحر لما فلقه الله لموسى(عليه السلام) وقام الماء أمثال الجبال ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها ثم عاد ماء البحر إلى مكانه. . . وأما مفاتيح الجنة فلا إله إلا الله محمد رسول الله) قال ابن المسيب فلما قرأ قيصر الكتاب قال ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة ثم سأل عن المجيب فقيل له هذا جواب ابن عم محمد(صلى الله عليه وآله) فكتب إليه سلام عليك أما بعد: فقد وفقت على جوابك وعلمت إنك من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وأنت موصوف بالشجاعة والعلم وأوثر أن تكشف لي عن مذهبكم. . . )
ومن هذه القصص مذكورة في التاريخ الإسلامي بشكلٍ جلي وفي كل أدوار الخلافة الإسلامية قبل عهد الإمام علي(عليه السلام) وكانت للإمام خطابات خاصة في هذا المضمار مذكورة في كتب الاختصاص فكان يخاطب الخلافة والناس بهذا الصدد كإسقاط للواجب الشرعي عن كاهله فكان يقول ـ مثلا ـ (لقد تقمصها ابن أبي قحافة (الخليفة الأول) وأنه يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى. . ) في شقشقيته المعروفة المهم يسجل للإمام علي هذا الدور الشرعي أثناء الخلافة التي سبقته.
(ب) باتجاه المسلمين:
بعد ما ذكرنا موقفه المبدئي اتجاه الجهاز الحاكم لنتحدث قليلاً عن توجهاته المباركة اتجاه عموم الناس ونجمل القول بما يلي:
1ـ الإعداد التربوي:
كان الإمام علي(عليه السلام) يعمل في وسط الجماهير لغرض إعداد الإنسان المؤمن للمرحلة القادمة وبهذا الجهد العمقي في التربية استطاع الإمام أن بيني جيلاً مؤمناً صلباً مقاوماً لكل الظروف السلبية في الأمة وهذه النخبة المؤمنة أصبحت الطليعة المعتمدة في تعديل الانحراف السياسي والاجتماعي والإداري فكان الإمام(عليه السلام) يتعب في تربيتهم وعطائهم فبذلك أنتج العناصر المركزة إيمانياً هي التي حملت أعباء الرسالة الإسلامية في زمن الخلفاء الثلاثة وفي زمن الإمام علي(عليه السلام) وأصبحوا بحق القدوات الصالحة للجيل الثائر والإدارة الناجحة أمثال عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري ومالك الأشتر وميثم التمار وحجر بن عدي الكندي وكميل بن زياد وغيرهم.
وكانت وصاياه القلبية هي أهم مصادر التربية المركزة عند الإمام لخلق حالة الوعي المكثف لدى أصحابه ورجاله تلك الوصايا التي تجمع بين التوجهات الشرعية في القرآن والرسول الأكرم بالإضافة إلى المعاناة الميدانية التي تواجه العاملين والتي بدورها تخلق البون الشاسع بين الحالة الفكرية والحالة التطبيقية على الأرض فكانت تأتي وصاياه وآراؤه المباركة كبلاسم الشفاء لأوضاع الولاة والرعية معاً. . . فكان يخاطبهم بهذه اللغة الهادفة قاصداً هذا العمق في التربية والإعداد ومن جملة أقواله(عليه السلام) (طوبى لمن عرف الناس ولم يعرفه الناس أولئك مصابيح الدجى وأئمة الهدى بهم يكشف الله عن هذه الأمة كل فتنة أو مظلمة أولئك سيدخلهم الله في رحمة منه وفضل ليسوا بالمذاييع البذر ولا الجفاة المرائين. . ) وقال(عليه السلام) يصف المؤمن: (حزنه في قلبه وبشره في وجهه أوسع الناس صدراً وأرفعهم قدراً يكره الرفعة ولا يحب السمعة). . (لسان المؤمن من وراء قلبه وقلب المنافق من وراء لسانه لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شراً واراه والمنافق يتكلم بما جاء على لسانه لا يدري ماذا له ولا ماذا عليه).
وكانت تربيته(عليه السلام) تشمل الطريقتين تربية جماعية عامة وتربية فردية خاصة والطريقتان تلتقيان في هدف مقدس واحد ألا وهو الإعداد التربوي والبناء الإيماني في المجتمع.
وغالباً لابد من استخدام الحديث الشخصي في التربية الفردية لغرض تنشئة الكادر المتقدم رسالياً يروي لنا الصحابي الجليل كميل بن زياد أنه: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي(عليه السلام) فأخرجني إلى ناحية الجبانة فلما أصحرنا جلس فتنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها احفظ ما أقول لك الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق يا كميل العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال العلم يزكو على الإنفاق والمال يزول ومحبة العلم دين يدان به يكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد مماته، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق. . . يا كميل مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. . . اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته لكيلا تبطل حجج الله على عباده أولئك هم الأقلون عدداً الأعلون عند الله قدراً بهم يحفظ الله دينه حتى يؤدونه. . ).
وهكذا كان يتحدث الإمام مع المقربين له ويربيهم التربية الدقيقة ليتم بناءهم النفسي والديني على أتم صورة وحينما كان يصطدم أحد طلابه بالواقع الفاسد فيعيش آلام ردود الفعل كان(عليه السلام) يسليه ويطمئنه. . . فهذا أبو ذر الغفاري الذي غضب لله في زمن الخليفة الثالث وناقشه على فقدان العدالة في التوزيع فأبعد ـ بأمر الخليفة ـ إلى الربذة في حالة عسيرة هنا كتب له الإمام علي(عليه السلام) برواية الشعبي:
(أما بعد يا أبا ذر فإنك غضبت لله تعالى فآرج من غضبت له، ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك لهم ما خافوك عليه واهرب منهم لما خفتهم عليه فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك وستعلم من الرابح غداً فلو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد ثم أتقى الله لجعل له منها مخرجاً لا يؤانسنك إلا الحق ولا يوحشنك إلا الباطل ولو قبلت دنياهم لأحبوك ولو قرضت منها لآمنوك).
أوردنا هذه الأمثلة للتوضيح ونحيل القارئ الكريم لقراءة كتب هذه الحقبة الزمنية من التاريخ الإسلامي لمزيد من الاطلاع.
2ـ الثورة الأخلاقية:
قام الإمام علي(عليه السلام) بثورة أخلاقية عامة في الوسط الاجتماعي فكان ينشر أفكاره والقيم الخلقية الإسلامية عبر كلماته العامة والخاصة التي كان يلقيها على المسلمين في المناسبات وحين الاجتماع عنده ليقاوموا الشر والباطل ويصبروا على صعوبة المسير ويتحصنوا من الحالات المرضية المستجدة في حياة المسلمين فكان المأوى لشكاوى الناس من السلطة والمظالم في البلدان وكان يمتص غضب الناس من ناحية ليزودهم بالقيم الأخلاقية السامية في التجاوز والبناء والإحسان والعمل الصالح وتجميع القوى العامة وصبها في الهدف التغييري نحو الأفضل وفي هذا الصدد ملأ الإمام(عليه السلام) الفراغات النفسية والخلقية التي كانت سائدة في ذلك الظرف بالذات وذلك لأن الفتوحات الإسلامية منحت للمسلمين ابتسامات عريضة من الدنيا من أموال وفتيات حسان بالسبي والغنائم والتسلط السياسي والعسكري مما جعل الكثير من المسلمين يفكر في دنياه وراحته ولذاته وقد أصيب الوسط الاجتماعي بالغرور النفسي وهو من أخطر الأمراض وأبرز بواطن الإثم. . . فكانت الثورة الأخلاقية التي أعلنها الإمام(عليه السلام) وقادها في الظرف الحساس لهي الثورة المطلوبة فكان يذكرهم بالموت والآخرة والعاقبة وتجارب السابقين للموعظة والإرشاد والعبرة ليحدّ من الغرور واللهاث المادي. . ومن جملة الأمثلة على ذلك قوله(عليه السلام): (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك فلا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبة ورجل يسارع في الخيرات ولا يقل عملاً في تقوى فكيف يقل ما يتقبل).
وحينما شيع جنازة فلما وُضعت في لحدها عج أهلها وبكوا فقال: مم تبكون أما والله لو عاينوا ما عاين لأذهلهم ذلك عن البكاء عليه أما والله أن له إليهم لعودة ثم عوده حتى لا يبقى منهم أحد ثم قام فيهم فقال(عليه السلام):
(أوصيكم بتقوى الله عباد الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقت الآجال وجعل لكم أسماعاً. . . إن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يضرب عنكم الذكر صفحاً بل أكرمكم بالنعم السوابغ. . . بادروا بالعمل قبل الندم قبل هادم اللذات ومفرق الجماعات فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ولا يؤمن فجايعها غرور حايل وسناد مايل ونعيم زايل. . . ).
ومن أقواله في التربية الأخلاقية (الدنيا دار ممر والأخرى دار مقر فخذوا من ممركم لمقركم ولاتهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها أختبرتم ولغيرها خلقتم. . ).
وقال: (لا تكن ممن يريد الآخرة بعمل الدنيا أو بغير عمل ويؤخر التوبة بطول الأمل يقول في الدنيا قول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين)، (إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوماً عبدوه رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار).
وقال(عليه السلام): (اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم)
وقال في وصف المتقين: (فالمتقون في هذه الدار، هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد وعيشهم التواضع غضوا أبصارهم عن المحارم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع. . . عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قد رآها منعّمون، وفي النار كمن رآها معذبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة أجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة. . . ومن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وورعاً في يقين وحزماً في علم وعزماً في حكم وقصداً في غناء وخشوناً في عباده. . . وفي الزلازل صبور وفي المكاره وقور وفي الرضا شكور. . )
وبالفعل كانت أحاديث الإمام وأفعاله وتصرفاته المثل الأعلى للرؤية الإسلامية الحقة وكان الناس يرون فيه الامتداد الروحي للنبي(صلى الله عليه وآله) ففي عصر اللهاث نحو الدنيا والمادة والتسابق على حطام الأرض ينمو خط الإمام علي(عليه السلام) كتيار مضاد للحالة السلوكية الجديدة في صفوف المجتمع الإسلامي وكان يشعر(عليه السلام) أن الأزمة الرئيسية التي تخنق الإسلام والمسلمين هي الأزمة الأخلاقية فلذلك نرى الكتب التي بحثت حول الإمام علي(عليه السلام) في كل حياته تشهد لثورته الأخلاقية العالية فكان يحاسب نفسه ويسهر ليله ويجهد حاله لحفظ الإسلام بالطريقة الصحيحة ليصل إلى الأجيال الصاعدة بأمانة ولكي لا نفهم الإسلام كما يصوره الأعداء دين التسلط والقمع والدماء والسلب بل هو دين المحبة والإخاء والتعاون وهو دين الدفاع والجهاد ضد الأعداء في نفس الوقت فحينما شعر الإمام بغياب الجانب الإصلاحي والتعاوني من حياة المسلمين أصر على إعادة الصورة الحقيقية للإسلام لذهنية المسلمين والناس أجمعين فكان يجالس الضعفاء والفقراء ويأكل معهم بل كان يأكل في بيته الخبز اليابس ويذكر المشايخ أن طعامه كان من خبز الشعير اليابس وكان يختمه لكي لا يأتي الحسنان ويضيفان عليه زيتاً. . وكان يحمل سيفه في أسواق الكوفة وهو الحاكم آنذاك ليبيعه ثم يقسم في نفسه والله لو كان عندي عشاء الليلة ما بعته. . .
وهكذا بيّن الإمام أسس الثورة الخلقية لتكون نبراساً لكل المؤمنين عبر الزمن.
(ج) الإمام علي الخليفة الحاكم:
عرفنا مما سبق الدور القيادي المتميز للإمام علي(عليه السلام) في فترة إبعاده عن الممارسة السياسية المباشرة والقاعدة مطردة لدى جميع الأئمة(عليهم السلام) فكانوا يؤدون دورهم القيادي في الأمة مع أحلك الظروف المحيطة بهم مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف السياسية والفكرية والاجتماعية والنفسية في المجتمع القائم من جانب ومن جانب آخر الموازنة بين المبدئية الصارمة وهذه الظروف المحيطة وبالذات الظروف السياسية فهم يرفضون الخضوع لهذه الظروف لأن الخضوع ـ هنا ـ يخرجهم من الطور القيادي للأمة وهم كذلك يحاولون التغيير بخطوات هادفة حيث لا تأخذهم في الله لومة لائم من ناحية ومن ناحية ثانية نراهم متأطرين بالمصلحة الإسلامية والمجتمع القائم وفيما بين الناحيتين وضع الأئمة(عليهم السلام) نظريتهم وفق الظروف المستجدة ونزلوا ليطبقوها بكل دقة وصرامة على الأرض فكأنهم يسيرون في أرض مزروعة بالألغام فكانت مسيرتهم دقيقة وجادة تمضي بخطوات ثابتة في الميادين الحياتية وليس معنى ذلك هو التوقف عن التطبيق الإسلامي وإنما الاستمرار في العطاء والعمل بأساليب تتناسب مع ما ذكرنا من الناحيتين المحيطتين للقرار الشرعي الصادر من الأئمة(عليهم السلام) فكان العمل الاجتماعي والثقافي والسلوكي والتأثير الواضح على المجتمع وتربيته.
ونعود للإمام علي(عليه السلام) وهو الخليفة الحاكم في الأمة والماسك بزمام الأمور مباشرة فإنه بالفعل قاد الثورة التصحيحية في الإسلام وهذه الثورة كانت شاملة نذكر بعض جوانبها بما يناسب المقام:
1 – بوادر الثورة التصحيحية:
قبل أن يخوض في غمار الثورة التصحيحية هيأ أذهان المسلمين بالبداية للتغيرات الجذرية لبعض المفاهيم السائدة والتي تبدلت بعد وفاة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) حيث دخل الاجتهاد وأسيء استخدامه أحياناً ولا أرى ضرورة لتقديم أمثلة تاريخية وإنما الأمر يبدو واضحاً للمتطلعين وحدثت اختلافات بين الخلفاء الثلاث في صدد قضايا فقهية معينة وأمامنا قصة خالد بن الوليد وقتله للصحابي مالك بن نويره وهو يؤدي فرض الصلاة وعمل ما لم يعمله المسلم العادي ولا أحب إكمال القصة ـ فلتراجع في مصادرها ـ فاختلف الخلفاء في عقوبته أو العفو عنه لأنه اجتهد فأخطأ. . وأمثلة كثيرة من هذا النمط لذلك لما استلم الخلافة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أعاد المسلمين إلى سنة رسول الله ومنهجيته مباشرة لذلك نلاحظ في خطبته ما يؤكد هذا المعنى فقد قال(عليه السلام): (إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أُمرت به. . . ).
وبهذا نفهم معنى الثورة التصحيحية في حياة الأمة الإسلامية بعد أكثر من ربع قرن عاشت الأمة تقلبات سياسية وآراء اجتهادية متناقضة أحياناً يأتي الإمام علي(عليه السلام) ليعيدها إلى الأصالة.
2ـ الثورة الاقتصادية:
أعاد الإمام(عليه السلام) مبدأ المساواة في العطاء واعتبر عدم المساواة في العطاء بين المسلمين لأسباب عرقية وقومية مبدأ غير مشروع واعترض على التوزيع السابق حيث صار العربي مفضل على غيره والقرشي مفضل على غيره من العرب وهكذا. . . ففي اليوم الثاني من بيعته صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وكان مما قال: (. . ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده فأنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسويّة لا فضل لأحد على أحد وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب. . . ). ومما قال في تكملة الخطبة السابقة(ألا أن كل قطيعة أقطعها عثمان بن عفان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وملّكت به الإماء وفُرّق بين البلدان لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. . . )
وقال(عليه السلام) لمالك الأشتر: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنىً ببعضها من بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة. . . وكل قد سمّى الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه(صلى الله عليه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً. . . )
وهكذا بدأ بالثورة الاقتصادية والعودة إلى الإسلام الحق لا تأخذه لومة لائم ولن يعطي أحداً من أقاربه شيئاً من بيت مال المسلمين وقصته مع أخيه عقيل معروفة حيث أحمى له حديدة ووضعها في يده بدلاً من الأموال وحينما ضج قال له. . (ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه !).
وقال(عليه السلام): (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه).
فعلى كافة الأصعدة بنى الحياة الاقتصادية بعيدةً عن الغش والفوارق قريبة إلى الحب والوداد والعدل فازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة وشجع العمل ودفع الناس لمواصلة العمل لدفعوا كابوس الفقر ـ لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته. . ـ.
وساوى في العطاء كما قلنا تطبيقاً للاخوة الإسلامية والإنسانية ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. وكلكم لآدم وآدم من تراب. .
3 ـ الثورة الإدارية:
عالج الإدارة القائمة فغير الولاة وتابعهم خطوة خطوة في أعمالهم وتصرفاتهم ليرمم أخطاءهم فكان يبعث إليهم انطباعاته عن سلوكهم مع الرعية وكان يوبخهم على أخطائهم وسلبياتهم ويعزلهم أحياناً وكان يربيهم ويهذبهم حيث يصف لهم صفات المتقين والواعين والصالحين كي يتعلموها وطبقوها ويذكر السيد القزويني في كتابه(علي من المهد إلى اللحد) في صدد أعمال الخليفة الثالث قوله: (ومنها تسليطه أقاربه وأرحامه على رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم وأموالهم ويصلون بالمسلمين في حالة السكر ويتقيئون الخمر في المحراب.
مقابل ذلك إبعاد الصحابة المخلصين كأبي ذر وعمار بن ياسر بعد ضربهما وإهانتهما وعزلهما عن الأدوار الشرعية المطلوبة منهم.
قال(عليه السلام) لعثمان: (فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة).
وقال(عليه السلام) أيضا(أيها الناس إن لي عليكم حقاً ولكم علي حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب. . . )
وكتابه إلى عامله عثمان الأنصاري حين أبلغ بحضوره في وليمة خاصة خير شاهد فقال: (. . . وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو. . . ).
4ـ الثورة الأخلاقية التربوية:
أشاع الإمام(عليه السلام) المفاهيم الإسلامية التي ابتعدت عن حياة المسلمين نسبياً، فبدأ بتربية الولاة والمقربين له وشملت تربيته جميع الناس فكان يغرس مفاهيم التقوى والعدل والمراقبة الذاتية والخوف من عقاب الله وغضبه، في قلوب الناس ففي خطاباته وأحاديثه كان يؤكد على المسألة النفسية والتعامل الصادق مع الإسلام فقد قال الإمام(عليه السلام): (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة) وقال: (لولا التقى والورع لكنت أدهى العرب).
ومن كلماته في تأديب الإنسان نفسه قبل غيره قال: (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم. . ) وقال أيضاً: (احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك. . ) (ومن نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه) وقال في ميزان السلوك ومعاملة الناس وهو يوصي ابنه الحسن(عليه السلام): (يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك. . ) وقال: (وكفى أدباً لنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك. . )
وكلماته(عليه السلام) في هذا الميدان كثيرة جداً مثلاً قال لابن عباس: (إن إمرتكم هذه أهون علي من هذه النعل إلا أن أحق حقاً وأبطل باطلاً) فأشاع بذلك الأسس الأخلاقية بين المسلمين.
5ـ الثورة السياسية:
ابتعد الإمام(عليه السلام) عن مركز التوتر العالي حيث التراكمات السلبية المتفاقمة في العاصمة الإسلامية(المدينة المنورة) نتيجة الأضغان القديمة القبلية وحالة الصراع المتفشية بين الأجنحة المتعددة في صفوف المسلمين ولحالة البعد الإيماني أيضاً بظهور اللهاث المادي. . فقرر الإمام أن يبتعد بالمكان ليفتح آفاقاً جديدة من موقع جديد فأعلن تشكيل حكومته في العاصمة الإسلامية الجديدة (الكوفة) وهذا الفتح السياسي الجديد جاء بعد البناء المجهد لهذه الأرضية والإعداد لهذه القفزة السياسية النوعية في حياة الخلافة الإسلامية وبالفعل استطاع الإمام أن يدير الأمر من الموقع الجديد بالشكل الأنسب ويقترب بقراره هذا من مواقع التوتر السياسي في البصرة والشام ويكون على تماس أكثر من التيارات الأجنبية ليقف لها بالمرصاد وبالفعل كان قراره الحكيم هذا في ظرفه المناسب جداً وما عادت المدينة المنورة صالحة لإدارة شؤون الدولة الإسلامية الكبرى والدليل أن الخلافة الإسلامية بكل عصورها المتلاحقة والمتصارعة فيما بينها ما عادت للمدينة المنورة لتعتبرها عاصمتها فقد بقيت في أرض الرافدين والشام وتركيا وهذا دليل على البعد السياسي عند الإمام(عليه السلام).
ولن تقتصر ثورته السياسية على نقل الخلافة إلى مكان جديد بل شملت ثورته السياسية كل النواحي السياسية الأخرى فسادت الحرية في الرأي وحالة التنظيم في الوزارة وبالذات بيت المال والبرامج السياسية للولاة في مسألة العلاقات السياسية مع الدول الأخرى وطرق التعامل معها وهكذا. .
6ـ المعركة الحضارية:
جبهات المعركة الحضارية لدى الإمام علي(عليه السلام) كانت فاعلة وكان الإمام نشيطاً في تحريكها للصالح الإسلامي فمما لا شك فيه أن المهمة التي قام بها الإمام تتلخص في إحياء الإسلام وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) بالشكل المتقن في حياة المسلمين فخاض معركة شجاعة من أجل الوعي الإسلامي بإدارة ذكية متقنة أيضاً يقول العلامة المدرسي: (فمن دون التوعية وتحريك الناس وإثارة تطلعاتهم وتوجيه شعورهم بالحرمان والشعور بالقدرة على تغيير الواقع الفاسد لا يمكن حشد الطاقات جميعاً لتصب في قنوات محددة تسير بصورة تدريجية وتصاعدية حتى تبلغ ذروة الوعي المتجسدة في التحرك الجماهيري الصانع للثورة، والإدارة التي تقوم بحشد الطاقات ـ العامل الثاني بعد الوعي ـ وضبط الأمور ونظمها وتوحيد الصفوف للاستفادة من كل الجهود في سبيل الحصول على المكتسبات الثورية عبر رحلة التغيير التحررية ويمكن أن نشبه التوعية الثقافية بالأمطار الهائلة من السماء التي تهز الأرض بعد ذلك معطية الفرصة للبذور الكامنة في باطن التربة كي تنبت وتتبرعم وهكذا المشاعر والأحاسيس الكامنة في أعماق الجماهير كالإحساس بالحرمان والإحساس بضرورة التغيير وهنا يأتي دور الإدارة التي تصنع القنوات التي تستوعب تلك الأمطار والثورة لا تقوم بغير هذين العاملين)
فخاض الإمام معركة لأجل الوعي في الميدان الأخلاقي ضد انحراف المجتمع وخاصة بعد الفتوحات التي أسالت لعاب العيش والترف وحب الدنيا لدى المسلمين فوقف ليعيد الحالة الإسلامية الأولى حيث التضحية والعطاء في لقاء الله بالشهادة فقد قال: (وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعه (غير مستقره) وليست بدار نجعه قد تزينت بغرورها وغرت بزينتها دار هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرها وحياتها بموتها وحلوها بمرها. . . وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم، إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا ويشتد حزنهم وإن فرحوا. . . ).
(إن الدنيا دار فناء وعناء وغيَر وعبر. . . ) وكثيرة من هذه الأقوال التي تعد بحق أنجح مدرسة في الأخلاق والتربية.
وخاض معركة اجتماعية ليعيد التقييم الصحيح للإنسان والمجتمع بالتقوى والإيمان لا بالمادة والدنيا والأولاد. .
وهكذا على كافة الأصعدة وبالذات المستجدات في حياة المسلمين كالتعليم في الميادين العلمية كالنحو والفقه والفلسفة وبالذات معركة البناء العقائدي فقد خاضها بقوة لأن المرحلة كانت تسودها حالة الاضطراب والفوضى العقائدية فقد بدأت تتسرب بعض الأفكار الدخيلة عبر العلاقات والفتوحات الإسلامية والتجارة، المهم انبرى لها الإمام لتسود الاستقامة والصرامة فقد رد الشبهات ووضح المبهمات وضرب المساومات على حساب المبدأ فقد قال(عليه السلام) (العمل العمل ثم النهاية النهاية والاستقامة الاستقامة ثم الصبر الصبر والورع الورع إن لكم نهاية فانتبهوا إلى نهايتكم وإن لكم علماً (القرآن) فاهتدوا بعلمكم وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته. . . ).
وهكذا خاض المعركة العسكرية الحاسمة ضد الانفصال السياسي وضد نعرات التجزئة للبلد الإسلامي الكبير فكانت معركة الجمل وصفين والنهروان فأعاد التلاحم الإسلامي في ظل الشرعية الحاكمة وخاض معركة سياسية ضد ترسبات الجاهلية التي كانت عالقة في أفكار بعض الولاة والحاكمين كالوراثة والتمييز العنصري ليطرح الفكرة الإسلامية القائمة على الإيمان والتقوى دون حسابات أخرى ولم يساير الظروف السائدة فكرياً بل وقف ضدها بحزم ليعيد الأفكار الإيمانية للساحة.
7ـ المعركة المستقبلية:
المعركة المستقبلية كان يهيىء لها الإمام علي(عليه السلام) ضمن التربية الفردية والتوجيهات الاجتماعية العامة كي تستقبلها أذهان الناس فمرحلة صعبة سيفرزها المستقبل لا بد من الاستعداد لها فجذور الفساد التي بقيت متقطعة بسيفه المبارك ستعود في أجواء التخلف لتنمو وتستعيد صحتها لتقاوم الحق من جديد. . فكان(عليه السلام) يستعمل أسلوب التربيتين ـ الفردية والعامة ـ لهذا الغرض المتوقع فكان يربي الجيل الناشئ لخوض المعارك المصيرية في المستقبل فكان يخاطب ابنه الحسن ويوصيه (ومن خير حظّ امرئٍ قرين صالح).
يقول السيد المدرسي: أليست هذه وصية ثورية؟ الإمام يريد أن يتجمع الصالحون مع بعضهم وليشكلوا بذلك الخلايا الاجتماعية الرسالية القادرة على التصدي للأوضاع الفاسدة ثم يقول(عليه السلام): (فقارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن منهم لا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يدع بينك وبين صديق صفحاً. . ) إلى قوله(عليه السلام): (وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النّوكى) فالأحمق هو الذي يمني نفسه أما العاقل فإنه يعتمد السعي والحركة كي لا تقعده أمانيه بالتماطل عن الوصول إلى أهدافه الدنيوية والأخروية. . و(بادر الفرصة قبل أن تكون غصة) وهذا أقوى سلاح يمتلكه الثوري إذا امتلك عنصر المبادرة وترك عدوه في دوامة من ردود الفعل والبعض يترك الفرصة تمر دون اغتنامها وفوقها غصة إذ لا تعود إليك)
وهكذا كما في التربية الاجتماعية للإمام كان يستهدف الإعداد التام للدور المستقبلي والمعركة المقبلة كان يدفع الناس للتحابب وقلع الحالة الوحشية من النفس ليوفر المناخ الانسجامي ما بين الناس فيقول: (قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه).
وقال: (مقاربة الناس في أخلاقهم أمنٌ من غوائلهم).
وقال: (وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير ويدك التي بها تصول).
ويوصي ابنه الحسن(عليه السلام): (احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبد وكأنه ذو نعمة عليك وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله ولا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة. . . )
وهكذا كان يتوقع الإمام(عليه السلام) المعارك المستقبلية في ميادين الخلافة والسلطة والاستيلاء فأعد لذلك عدته
السلام عليك يا أمير المؤمنين
وقال(صلى الله عليه وآله): (أعلمكم علي، أقضاكم علي، أعدلكم علي، أفقهكم علي).
وفي بحثنا هذا نريد معرفة دوره القيادي في فترتين من حياته الشريفة فترة إبعاده عن السلطة السياسية أولاً وفترة استلامه للحكم حتى شهادته المباركة ثانياً.
أما الفترة الأولى وهي فترة عزله عن الخلافة حيث أجتماع السقيفة وصارت الخلافة لأبي بكر ومن ثم لعمر ومن ثم لعثمان ثم جاءت لعلي(عليه السلام) ففي زمن الخلفاء الثلاث الذين سبقوه كان للإمام علي دوره المتميز في طريقة قيادة المسلمين بالشكل الذي يناسب الظروف الراهنة ـ آنذاك ـ لنذكر أهم التوجهات في ذلك:
باتجاه السلطة الحاكمة:
1 – ترميم ثغرات الجهاز الحاكم مراعاة للمصلحة الإسلامية العليا:
حين صارت الخلافة لأبي بكر رأى الإمام علي أن موقفه منها لا بد أن يكون مطابقاً للمصلحة العليا وإلا سيؤدي موقفه المعارض إلى نزاع دموي بين مؤيديه ومؤيدي أبي بكر وبالتأكيد سيستفيد من هذا الموقف السلبي المنافقون والأعداء حيث الجو الكئيب والمتشابك الذي يصلح عادةً لنمو الجراثيم السامة التي تستهدف الفتك بالأمة الإسلامية ساحقةً أهدافها المقدسة بعجلات المصلحة الذاتية الأنانية فيكون لهم المجال للتعبير عن موقفهم الواقعي المعادي للإسلام والمسلمين فمن باب الحرص على الشريعة وعلى مصلحة المسلمين آثر(عليه السلام) الوفاء للدين الإسلامي وفضله على الموقف الشخصي حيث سلبت الخلافة الشرعية عنه مبيناً موقفه المبدئي المخلص للشريعة الإسلامية ومبيناً أيضاً شرعيته بالخلافة المنصوصة له بطريقته الخاصة فساير الأحداث بالروح الإيجابية دون استجابة للإثارة والنزاع، مرمماً نواقص الخلافة من النواحي الفقهية القانونية حيث النقص الواضح لدى السلطة الحاكمة وكتب التاريخ تذكر عشرات القصص في هذا الصدد ومن النواحي الإدارية والاستشارية أيضاً وبالفعل أصبح المستشار الناصح للحكومة القائمة خدمة للمصلحة العامة وعلى سبيل التوضيح نورد بعض الأمثلة في زمن الخلفاء الثلاثة ـ دون تفصيل. ففي زمن الخليفة أبي بكر وردت مجموعة أسئلة إلى بيت الخلافة فما كانت الإجابات وافية مقنعة أو ما كانت تلقي أذناً واعية لها فكان الإمام علي(عليه السلام) هو كهف الإسلام والمسلمين يضع لها الإجابات الوافية بأدلتها الشرعي وخاصة لو عرفنا أن الكثير من غير المسلمين كانوا يريدون معرفة الخليفة الحق فيحضرون أسئلة معينة ربما تكون من علامات الخليفة كما ورد في كتبهم المقدسة هذا على كافة المستويات الفقهية وتفسير القرآن والسياسة والعقائد والعمل الجهادي والاجتماعي، يروي لنا التاريخ أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى (وفاكهة وأبا) فلم يعرف معنى (أبا) فقال أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني أم كيف اصنع إن قلت في كتاب الله تعالى بما لا أعلم أما الفاكهة فنعرفها وأما الأب فالله أعلم به فبلغ أمير المؤمنين مقاله ذلك في ذلك فقال: يا سبحان الله أما علم أن الأب هو الكلاء والمرعى وأن قوله تعالى (وفاكهة وأبا) اعتداد من الله تعالى بإنعامه على خلقه بما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيي به أنفسهم وتقوم به أجسادهم.
وسئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فبلغ ذلك أمير المؤمنين فقال ما أغناه عن الرأي في هذا المكان أما علم أن الكلالة هم الأخوة والأخوات من قبل الأب والأم ومن قبل الأب على انفراده ومن قبل الأم أيضاً على حدتها قال الله عز وجل(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) وقال عز وجل: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث).
ومما جاء في الخبر أن رجلا رفع إلى الخليفة أبي بكر وقد شرب الخمر فأراد أن يقيم عليه الحد فقال له إني شربتها ولا علم لي بتحريمها لأني نشأت بين قوم يستحلونها ولم أعلم بتحريمها حتى الآن فارتج على أبي بكر الأمر بالحكم عليه ولم يعلم وجه القضاء فيه. . . قال علي: مُر رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ويناشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه وخل سبيله. ففعل ذلك أبو بكر فلم يشهد أحد من المهاجرين والأنصار أنه تلا عليه آية التحريم ولا أخبره عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك فاستتابه أبو بكر وخلى سبيله وسلم لعلي في القضاء.
أما في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فوردت روايات كثيرة من هذا القبيل وكان للإمام علي موقفه المبدئي في ترميم الثغرات القانونية والعقائدية والسياسية ـ حتى يذكر في كتب التاريخ والروايات أن للخليفة عمر كلمات خالدة نحو الإمام علي لأن الإمام كان ينقذه من الهلكات فورد مرات عديدة قوله(لولا علي لهلك عمر) و(لا خير في معضلة ليس لها أبو الحسن).
فمثلا ورد في قصة قدامة بن مظعون وقد شرب الخمر فأراد عمر أن يحده فقال له قدامة إنه لا يجب علي الحد لأن الله تعالى يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وعملوا الصالحات) فدرأ عنه الحد فبلغ ذلك علياً فمشى إلى عمر فقال له: لم تركت إقامة الحد على قدامة في شرب الخمر ؟ فقال إنه تلا علي الآية. . .
فقال علي ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لا يستحلون حراماً فاردد قدامه واستتبه مما قال فإن تاب فأقم عليه الحد وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملة. . وعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة والإقلاع فدرأ عمر عنه القتل ولم يدر كيف يحده فقال لعلي أشر علي في حده فقال حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجلده عمر ثمانين وصار إلى قوله في ذلك.
وروي أن مجنونة على عهد الخليفة الثاني عمر فجربها رجل فقامت البينة عليها بذلك فأمر عمر بجلدها الحد فمر بها علي لتجلد فقال: ما بال مجنونة آل فلان تقتل ؟ فقيل له: إن رجلاً فجر بها وهرب وقامت البينة عليها فأمر عمر بجلدها فقال لهم: ردوها إليه وقولوا له أما علمت أن هذه مجنونة آل فلان وأن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (رفع القلم عن المجنون حتى يفيق) إنها مغلوبة على عقلها ونفسها. فردت إلى عمر وقيل له ما قال علي فقال: فرج الله عنه لقد كدت أن أهلك في جلدها فدرأ عنها الحد
وفي رواية: أتي عمر بامرأة نكحت في عدتها ففرق بينهما وجعل صداقها في بيت المال وقال: لا تجتمعان أبداً فبلغ علياً فقال: لها عليه المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب. فبلغ عمر فقال: لولا علي لهلك عمر. وفي رواية: أتي عمر بامرأة وضعت لستة أشهر فأمر برجمها فقال علي: ليس عليها رجم لأن الله تعالى يقول: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة). فخلى عنها وقال: اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب)
وجاء كذلك في زمن الخليفة الثاني ما حدث به شبابه بن سوار عن أبي بكر الهذلي ـ ملخص الفكرة ـ أن قوما من أهل همدان والري وأصبهان وغيرهم قد أخفوا غضبهم على الرسول والخليفة الأول فتهيأوا لغزو البلاد الإسلامية ولما استلم الخليفة هذا الخبر فزع فرعاً شديداً وجاء للمسجد وجمع المسلمين وخطب بهم بعد الحمد والثناء لله تعالى حتى قال: (. . . قد تعاهدوا وتعاقدوا أن يخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين ويخرجوا إليكم فيغزوكم في بلادكم فأشيروا علي وأوجزوا. . . ) فقام طلحة وخطب. . . وقام عثمان بن عفان وتكلم. . . وقام علي بن أبي طالب وقال بعد الحمد لله (. . أما بعد فإنك ان أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم وإن أشخصت هذين الحرمين انتقضت عليك العرب من أطرافها وأكنافها حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهم إليك ما بين يديك فأما ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم فإنا لم نكن نقاتل على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر وأما ما بلغك من اجتماعهم على المسير إلى المسلمين فإن الله لمسيرهم أكره منك لذلك وهو أولى بتغيير ما يكره وأن الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا هذا رجل العرب فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب وكان أشد لكلبهم وكنت قد ألبتهم على نفسك وأمدهم من لم يكن يمدهم ولكني أرى أن تقر هؤلاء في أمصارهم وتكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاثة فرق فلتقم فرقة منهم إلى إخوانهم مدداً لهم) فقال عمر أجل هذا الرأي وقد كنت أحب أن أتابع عليه وجعل يكرر قول علي وينسقه إعجاباً به واختياراً له.
أما في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان فكذلك كانت لعلي المواقف المبدئية في دعم الخلافة الإسلامية مراعاة للمصلحة العليا لكي لا تنخر الدولة الإسلامية من الداخل وتكون فرصة الشياطين في الانقضاض على الإسلام والمسلمين.
ففي الرواية: ان مكاتبة زنت على عهد عثمان وقد عتق منها ثلاثة أرباع فسأل عثمان علياً فقال: يجلد منها بحساب الحرية ويجلد منها بحساب الرق. وسأل زيد بن ثابت فقال: تجلد بحساب الرق فقال له الإمام علي: كيف تجلد بحساب الرق وقد عتق منها ثلاثة أرباعها؟ وهلا جلدتها بحساب الحرية فإنها فيها أكثر؟ فقال زيد لو كان ذلك كذلك لوجب توريثها بحساب الحرية فقال له أمير المؤمنين: أجل، ذلك واجب فافحم زيد
ومن هذه الأحداث المروية نجدها بكثرة في كتب التاريخ الإسلامي والروايات والسير نحيل القارئ الكريم إليها. .
2ـ تنبيه الجهاز الحاكم بحقه الشرعي بالخلافة:
والحق أن الطبقة الواعية في الأمة تعلم ذلك فكان الإمام علي(عليه السلام) يتصدى للحالات الطارئة والعسيرة ليكشف عن قوته العلمية والفكرية والإدارية فكان الجميع يطأطىء أمام علم الإمام وروحه وإرادته وبهذا كان يشير إلى أحقيته بهذا الموقع حسب النص الشرعي في القرآن وحديث الرسول وإشاراته هذه بأحقيته للخلافة يستهدف منها المصلحة العليا للإسلام والمسلمين أيضا.
قال أحمد في (الفضائل) حدثنا عبد الله القواريري حدثنا موئل عن يحيى بن سعيد بن أبي المسيب قال كان عمر بن الخطاب يقول أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن قال ابن المسيب: ولهذا القول سبب وهو إن ملك الروم بعث إلى عمر مجموعة من الأسئلة ينتظر إجابتها ليرتب عليها الأثر الطبيعي ونذكر بعض الأسئلة (. . . وما شيء كله فم ؟ وما شيء كله رجل؟ وما شيء كله عين؟ وما شيء كله جناح؟ وعن رجل لا عشيرة له؟ وعن أربعة لم تحمل بهم رحم؟. . . وعن مكان لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة؟. . . وعن مفاتيح الجنة ما هي؟).
فقرأ الإمام علي(عليه السلام) الكتاب وكتب في الحال خلفه: نذكر إجابات الأسئلة التي ذكرناها فقط. . قال(عليه السلام) (بسم الله الرحمن الرحيم. . أما بعد ـ فقد وقفت على كتابك أيها الملك وأنا أجيبك بعون الله وقوته وبركته وبركة نبينا محمد(صلى الله عليه وآله). . وأما الذي كله فم فالنار تأكل ما يلقى فيها وأما الذي كله رجل فالماء وأما الذي كله عين فالشمس وأما الذي كله جناح فالريح وأما الذي لا عشيرة له فآدم(عليه السلام) وأما الذي لم يحمل بهم رحم فعصا موسى وكبش إبراهيم وآدم وحواء. . . وأما المكان الذي لم تطلع عليه الشمس إلا مرة واحدة فأرض البحر لما فلقه الله لموسى(عليه السلام) وقام الماء أمثال الجبال ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها ثم عاد ماء البحر إلى مكانه. . . وأما مفاتيح الجنة فلا إله إلا الله محمد رسول الله) قال ابن المسيب فلما قرأ قيصر الكتاب قال ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة ثم سأل عن المجيب فقيل له هذا جواب ابن عم محمد(صلى الله عليه وآله) فكتب إليه سلام عليك أما بعد: فقد وفقت على جوابك وعلمت إنك من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وأنت موصوف بالشجاعة والعلم وأوثر أن تكشف لي عن مذهبكم. . . )
ومن هذه القصص مذكورة في التاريخ الإسلامي بشكلٍ جلي وفي كل أدوار الخلافة الإسلامية قبل عهد الإمام علي(عليه السلام) وكانت للإمام خطابات خاصة في هذا المضمار مذكورة في كتب الاختصاص فكان يخاطب الخلافة والناس بهذا الصدد كإسقاط للواجب الشرعي عن كاهله فكان يقول ـ مثلا ـ (لقد تقمصها ابن أبي قحافة (الخليفة الأول) وأنه يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى. . ) في شقشقيته المعروفة المهم يسجل للإمام علي هذا الدور الشرعي أثناء الخلافة التي سبقته.
(ب) باتجاه المسلمين:
بعد ما ذكرنا موقفه المبدئي اتجاه الجهاز الحاكم لنتحدث قليلاً عن توجهاته المباركة اتجاه عموم الناس ونجمل القول بما يلي:
1ـ الإعداد التربوي:
كان الإمام علي(عليه السلام) يعمل في وسط الجماهير لغرض إعداد الإنسان المؤمن للمرحلة القادمة وبهذا الجهد العمقي في التربية استطاع الإمام أن بيني جيلاً مؤمناً صلباً مقاوماً لكل الظروف السلبية في الأمة وهذه النخبة المؤمنة أصبحت الطليعة المعتمدة في تعديل الانحراف السياسي والاجتماعي والإداري فكان الإمام(عليه السلام) يتعب في تربيتهم وعطائهم فبذلك أنتج العناصر المركزة إيمانياً هي التي حملت أعباء الرسالة الإسلامية في زمن الخلفاء الثلاثة وفي زمن الإمام علي(عليه السلام) وأصبحوا بحق القدوات الصالحة للجيل الثائر والإدارة الناجحة أمثال عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري ومالك الأشتر وميثم التمار وحجر بن عدي الكندي وكميل بن زياد وغيرهم.
وكانت وصاياه القلبية هي أهم مصادر التربية المركزة عند الإمام لخلق حالة الوعي المكثف لدى أصحابه ورجاله تلك الوصايا التي تجمع بين التوجهات الشرعية في القرآن والرسول الأكرم بالإضافة إلى المعاناة الميدانية التي تواجه العاملين والتي بدورها تخلق البون الشاسع بين الحالة الفكرية والحالة التطبيقية على الأرض فكانت تأتي وصاياه وآراؤه المباركة كبلاسم الشفاء لأوضاع الولاة والرعية معاً. . . فكان يخاطبهم بهذه اللغة الهادفة قاصداً هذا العمق في التربية والإعداد ومن جملة أقواله(عليه السلام) (طوبى لمن عرف الناس ولم يعرفه الناس أولئك مصابيح الدجى وأئمة الهدى بهم يكشف الله عن هذه الأمة كل فتنة أو مظلمة أولئك سيدخلهم الله في رحمة منه وفضل ليسوا بالمذاييع البذر ولا الجفاة المرائين. . ) وقال(عليه السلام) يصف المؤمن: (حزنه في قلبه وبشره في وجهه أوسع الناس صدراً وأرفعهم قدراً يكره الرفعة ولا يحب السمعة). . (لسان المؤمن من وراء قلبه وقلب المنافق من وراء لسانه لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شراً واراه والمنافق يتكلم بما جاء على لسانه لا يدري ماذا له ولا ماذا عليه).
وكانت تربيته(عليه السلام) تشمل الطريقتين تربية جماعية عامة وتربية فردية خاصة والطريقتان تلتقيان في هدف مقدس واحد ألا وهو الإعداد التربوي والبناء الإيماني في المجتمع.
وغالباً لابد من استخدام الحديث الشخصي في التربية الفردية لغرض تنشئة الكادر المتقدم رسالياً يروي لنا الصحابي الجليل كميل بن زياد أنه: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي(عليه السلام) فأخرجني إلى ناحية الجبانة فلما أصحرنا جلس فتنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها احفظ ما أقول لك الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق يا كميل العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال العلم يزكو على الإنفاق والمال يزول ومحبة العلم دين يدان به يكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد مماته، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق. . . يا كميل مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. . . اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته لكيلا تبطل حجج الله على عباده أولئك هم الأقلون عدداً الأعلون عند الله قدراً بهم يحفظ الله دينه حتى يؤدونه. . ).
وهكذا كان يتحدث الإمام مع المقربين له ويربيهم التربية الدقيقة ليتم بناءهم النفسي والديني على أتم صورة وحينما كان يصطدم أحد طلابه بالواقع الفاسد فيعيش آلام ردود الفعل كان(عليه السلام) يسليه ويطمئنه. . . فهذا أبو ذر الغفاري الذي غضب لله في زمن الخليفة الثالث وناقشه على فقدان العدالة في التوزيع فأبعد ـ بأمر الخليفة ـ إلى الربذة في حالة عسيرة هنا كتب له الإمام علي(عليه السلام) برواية الشعبي:
(أما بعد يا أبا ذر فإنك غضبت لله تعالى فآرج من غضبت له، ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك لهم ما خافوك عليه واهرب منهم لما خفتهم عليه فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك وستعلم من الرابح غداً فلو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد ثم أتقى الله لجعل له منها مخرجاً لا يؤانسنك إلا الحق ولا يوحشنك إلا الباطل ولو قبلت دنياهم لأحبوك ولو قرضت منها لآمنوك).
أوردنا هذه الأمثلة للتوضيح ونحيل القارئ الكريم لقراءة كتب هذه الحقبة الزمنية من التاريخ الإسلامي لمزيد من الاطلاع.
2ـ الثورة الأخلاقية:
قام الإمام علي(عليه السلام) بثورة أخلاقية عامة في الوسط الاجتماعي فكان ينشر أفكاره والقيم الخلقية الإسلامية عبر كلماته العامة والخاصة التي كان يلقيها على المسلمين في المناسبات وحين الاجتماع عنده ليقاوموا الشر والباطل ويصبروا على صعوبة المسير ويتحصنوا من الحالات المرضية المستجدة في حياة المسلمين فكان المأوى لشكاوى الناس من السلطة والمظالم في البلدان وكان يمتص غضب الناس من ناحية ليزودهم بالقيم الأخلاقية السامية في التجاوز والبناء والإحسان والعمل الصالح وتجميع القوى العامة وصبها في الهدف التغييري نحو الأفضل وفي هذا الصدد ملأ الإمام(عليه السلام) الفراغات النفسية والخلقية التي كانت سائدة في ذلك الظرف بالذات وذلك لأن الفتوحات الإسلامية منحت للمسلمين ابتسامات عريضة من الدنيا من أموال وفتيات حسان بالسبي والغنائم والتسلط السياسي والعسكري مما جعل الكثير من المسلمين يفكر في دنياه وراحته ولذاته وقد أصيب الوسط الاجتماعي بالغرور النفسي وهو من أخطر الأمراض وأبرز بواطن الإثم. . . فكانت الثورة الأخلاقية التي أعلنها الإمام(عليه السلام) وقادها في الظرف الحساس لهي الثورة المطلوبة فكان يذكرهم بالموت والآخرة والعاقبة وتجارب السابقين للموعظة والإرشاد والعبرة ليحدّ من الغرور واللهاث المادي. . ومن جملة الأمثلة على ذلك قوله(عليه السلام): (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك فلا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبة ورجل يسارع في الخيرات ولا يقل عملاً في تقوى فكيف يقل ما يتقبل).
وحينما شيع جنازة فلما وُضعت في لحدها عج أهلها وبكوا فقال: مم تبكون أما والله لو عاينوا ما عاين لأذهلهم ذلك عن البكاء عليه أما والله أن له إليهم لعودة ثم عوده حتى لا يبقى منهم أحد ثم قام فيهم فقال(عليه السلام):
(أوصيكم بتقوى الله عباد الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقت الآجال وجعل لكم أسماعاً. . . إن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يضرب عنكم الذكر صفحاً بل أكرمكم بالنعم السوابغ. . . بادروا بالعمل قبل الندم قبل هادم اللذات ومفرق الجماعات فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ولا يؤمن فجايعها غرور حايل وسناد مايل ونعيم زايل. . . ).
ومن أقواله في التربية الأخلاقية (الدنيا دار ممر والأخرى دار مقر فخذوا من ممركم لمقركم ولاتهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها أختبرتم ولغيرها خلقتم. . ).
وقال: (لا تكن ممن يريد الآخرة بعمل الدنيا أو بغير عمل ويؤخر التوبة بطول الأمل يقول في الدنيا قول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين)، (إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوماً عبدوه رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار).
وقال(عليه السلام): (اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم)
وقال في وصف المتقين: (فالمتقون في هذه الدار، هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد وعيشهم التواضع غضوا أبصارهم عن المحارم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع. . . عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قد رآها منعّمون، وفي النار كمن رآها معذبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة أجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة. . . ومن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وورعاً في يقين وحزماً في علم وعزماً في حكم وقصداً في غناء وخشوناً في عباده. . . وفي الزلازل صبور وفي المكاره وقور وفي الرضا شكور. . )
وبالفعل كانت أحاديث الإمام وأفعاله وتصرفاته المثل الأعلى للرؤية الإسلامية الحقة وكان الناس يرون فيه الامتداد الروحي للنبي(صلى الله عليه وآله) ففي عصر اللهاث نحو الدنيا والمادة والتسابق على حطام الأرض ينمو خط الإمام علي(عليه السلام) كتيار مضاد للحالة السلوكية الجديدة في صفوف المجتمع الإسلامي وكان يشعر(عليه السلام) أن الأزمة الرئيسية التي تخنق الإسلام والمسلمين هي الأزمة الأخلاقية فلذلك نرى الكتب التي بحثت حول الإمام علي(عليه السلام) في كل حياته تشهد لثورته الأخلاقية العالية فكان يحاسب نفسه ويسهر ليله ويجهد حاله لحفظ الإسلام بالطريقة الصحيحة ليصل إلى الأجيال الصاعدة بأمانة ولكي لا نفهم الإسلام كما يصوره الأعداء دين التسلط والقمع والدماء والسلب بل هو دين المحبة والإخاء والتعاون وهو دين الدفاع والجهاد ضد الأعداء في نفس الوقت فحينما شعر الإمام بغياب الجانب الإصلاحي والتعاوني من حياة المسلمين أصر على إعادة الصورة الحقيقية للإسلام لذهنية المسلمين والناس أجمعين فكان يجالس الضعفاء والفقراء ويأكل معهم بل كان يأكل في بيته الخبز اليابس ويذكر المشايخ أن طعامه كان من خبز الشعير اليابس وكان يختمه لكي لا يأتي الحسنان ويضيفان عليه زيتاً. . وكان يحمل سيفه في أسواق الكوفة وهو الحاكم آنذاك ليبيعه ثم يقسم في نفسه والله لو كان عندي عشاء الليلة ما بعته. . .
وهكذا بيّن الإمام أسس الثورة الخلقية لتكون نبراساً لكل المؤمنين عبر الزمن.
(ج) الإمام علي الخليفة الحاكم:
عرفنا مما سبق الدور القيادي المتميز للإمام علي(عليه السلام) في فترة إبعاده عن الممارسة السياسية المباشرة والقاعدة مطردة لدى جميع الأئمة(عليهم السلام) فكانوا يؤدون دورهم القيادي في الأمة مع أحلك الظروف المحيطة بهم مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف السياسية والفكرية والاجتماعية والنفسية في المجتمع القائم من جانب ومن جانب آخر الموازنة بين المبدئية الصارمة وهذه الظروف المحيطة وبالذات الظروف السياسية فهم يرفضون الخضوع لهذه الظروف لأن الخضوع ـ هنا ـ يخرجهم من الطور القيادي للأمة وهم كذلك يحاولون التغيير بخطوات هادفة حيث لا تأخذهم في الله لومة لائم من ناحية ومن ناحية ثانية نراهم متأطرين بالمصلحة الإسلامية والمجتمع القائم وفيما بين الناحيتين وضع الأئمة(عليهم السلام) نظريتهم وفق الظروف المستجدة ونزلوا ليطبقوها بكل دقة وصرامة على الأرض فكأنهم يسيرون في أرض مزروعة بالألغام فكانت مسيرتهم دقيقة وجادة تمضي بخطوات ثابتة في الميادين الحياتية وليس معنى ذلك هو التوقف عن التطبيق الإسلامي وإنما الاستمرار في العطاء والعمل بأساليب تتناسب مع ما ذكرنا من الناحيتين المحيطتين للقرار الشرعي الصادر من الأئمة(عليهم السلام) فكان العمل الاجتماعي والثقافي والسلوكي والتأثير الواضح على المجتمع وتربيته.
ونعود للإمام علي(عليه السلام) وهو الخليفة الحاكم في الأمة والماسك بزمام الأمور مباشرة فإنه بالفعل قاد الثورة التصحيحية في الإسلام وهذه الثورة كانت شاملة نذكر بعض جوانبها بما يناسب المقام:
1 – بوادر الثورة التصحيحية:
قبل أن يخوض في غمار الثورة التصحيحية هيأ أذهان المسلمين بالبداية للتغيرات الجذرية لبعض المفاهيم السائدة والتي تبدلت بعد وفاة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) حيث دخل الاجتهاد وأسيء استخدامه أحياناً ولا أرى ضرورة لتقديم أمثلة تاريخية وإنما الأمر يبدو واضحاً للمتطلعين وحدثت اختلافات بين الخلفاء الثلاث في صدد قضايا فقهية معينة وأمامنا قصة خالد بن الوليد وقتله للصحابي مالك بن نويره وهو يؤدي فرض الصلاة وعمل ما لم يعمله المسلم العادي ولا أحب إكمال القصة ـ فلتراجع في مصادرها ـ فاختلف الخلفاء في عقوبته أو العفو عنه لأنه اجتهد فأخطأ. . وأمثلة كثيرة من هذا النمط لذلك لما استلم الخلافة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أعاد المسلمين إلى سنة رسول الله ومنهجيته مباشرة لذلك نلاحظ في خطبته ما يؤكد هذا المعنى فقد قال(عليه السلام): (إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أُمرت به. . . ).
وبهذا نفهم معنى الثورة التصحيحية في حياة الأمة الإسلامية بعد أكثر من ربع قرن عاشت الأمة تقلبات سياسية وآراء اجتهادية متناقضة أحياناً يأتي الإمام علي(عليه السلام) ليعيدها إلى الأصالة.
2ـ الثورة الاقتصادية:
أعاد الإمام(عليه السلام) مبدأ المساواة في العطاء واعتبر عدم المساواة في العطاء بين المسلمين لأسباب عرقية وقومية مبدأ غير مشروع واعترض على التوزيع السابق حيث صار العربي مفضل على غيره والقرشي مفضل على غيره من العرب وهكذا. . . ففي اليوم الثاني من بيعته صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وكان مما قال: (. . ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده فأنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسويّة لا فضل لأحد على أحد وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب. . . ). ومما قال في تكملة الخطبة السابقة(ألا أن كل قطيعة أقطعها عثمان بن عفان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وملّكت به الإماء وفُرّق بين البلدان لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. . . )
وقال(عليه السلام) لمالك الأشتر: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنىً ببعضها من بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة. . . وكل قد سمّى الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه(صلى الله عليه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً. . . )
وهكذا بدأ بالثورة الاقتصادية والعودة إلى الإسلام الحق لا تأخذه لومة لائم ولن يعطي أحداً من أقاربه شيئاً من بيت مال المسلمين وقصته مع أخيه عقيل معروفة حيث أحمى له حديدة ووضعها في يده بدلاً من الأموال وحينما ضج قال له. . (ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه !).
وقال(عليه السلام): (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه).
فعلى كافة الأصعدة بنى الحياة الاقتصادية بعيدةً عن الغش والفوارق قريبة إلى الحب والوداد والعدل فازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة وشجع العمل ودفع الناس لمواصلة العمل لدفعوا كابوس الفقر ـ لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته. . ـ.
وساوى في العطاء كما قلنا تطبيقاً للاخوة الإسلامية والإنسانية ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. وكلكم لآدم وآدم من تراب. .
3 ـ الثورة الإدارية:
عالج الإدارة القائمة فغير الولاة وتابعهم خطوة خطوة في أعمالهم وتصرفاتهم ليرمم أخطاءهم فكان يبعث إليهم انطباعاته عن سلوكهم مع الرعية وكان يوبخهم على أخطائهم وسلبياتهم ويعزلهم أحياناً وكان يربيهم ويهذبهم حيث يصف لهم صفات المتقين والواعين والصالحين كي يتعلموها وطبقوها ويذكر السيد القزويني في كتابه(علي من المهد إلى اللحد) في صدد أعمال الخليفة الثالث قوله: (ومنها تسليطه أقاربه وأرحامه على رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم وأموالهم ويصلون بالمسلمين في حالة السكر ويتقيئون الخمر في المحراب.
مقابل ذلك إبعاد الصحابة المخلصين كأبي ذر وعمار بن ياسر بعد ضربهما وإهانتهما وعزلهما عن الأدوار الشرعية المطلوبة منهم.
قال(عليه السلام) لعثمان: (فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة).
وقال(عليه السلام) أيضا(أيها الناس إن لي عليكم حقاً ولكم علي حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب. . . )
وكتابه إلى عامله عثمان الأنصاري حين أبلغ بحضوره في وليمة خاصة خير شاهد فقال: (. . . وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو. . . ).
4ـ الثورة الأخلاقية التربوية:
أشاع الإمام(عليه السلام) المفاهيم الإسلامية التي ابتعدت عن حياة المسلمين نسبياً، فبدأ بتربية الولاة والمقربين له وشملت تربيته جميع الناس فكان يغرس مفاهيم التقوى والعدل والمراقبة الذاتية والخوف من عقاب الله وغضبه، في قلوب الناس ففي خطاباته وأحاديثه كان يؤكد على المسألة النفسية والتعامل الصادق مع الإسلام فقد قال الإمام(عليه السلام): (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة) وقال: (لولا التقى والورع لكنت أدهى العرب).
ومن كلماته في تأديب الإنسان نفسه قبل غيره قال: (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم. . ) وقال أيضاً: (احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك. . ) (ومن نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه) وقال في ميزان السلوك ومعاملة الناس وهو يوصي ابنه الحسن(عليه السلام): (يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك. . ) وقال: (وكفى أدباً لنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك. . )
وكلماته(عليه السلام) في هذا الميدان كثيرة جداً مثلاً قال لابن عباس: (إن إمرتكم هذه أهون علي من هذه النعل إلا أن أحق حقاً وأبطل باطلاً) فأشاع بذلك الأسس الأخلاقية بين المسلمين.
5ـ الثورة السياسية:
ابتعد الإمام(عليه السلام) عن مركز التوتر العالي حيث التراكمات السلبية المتفاقمة في العاصمة الإسلامية(المدينة المنورة) نتيجة الأضغان القديمة القبلية وحالة الصراع المتفشية بين الأجنحة المتعددة في صفوف المسلمين ولحالة البعد الإيماني أيضاً بظهور اللهاث المادي. . فقرر الإمام أن يبتعد بالمكان ليفتح آفاقاً جديدة من موقع جديد فأعلن تشكيل حكومته في العاصمة الإسلامية الجديدة (الكوفة) وهذا الفتح السياسي الجديد جاء بعد البناء المجهد لهذه الأرضية والإعداد لهذه القفزة السياسية النوعية في حياة الخلافة الإسلامية وبالفعل استطاع الإمام أن يدير الأمر من الموقع الجديد بالشكل الأنسب ويقترب بقراره هذا من مواقع التوتر السياسي في البصرة والشام ويكون على تماس أكثر من التيارات الأجنبية ليقف لها بالمرصاد وبالفعل كان قراره الحكيم هذا في ظرفه المناسب جداً وما عادت المدينة المنورة صالحة لإدارة شؤون الدولة الإسلامية الكبرى والدليل أن الخلافة الإسلامية بكل عصورها المتلاحقة والمتصارعة فيما بينها ما عادت للمدينة المنورة لتعتبرها عاصمتها فقد بقيت في أرض الرافدين والشام وتركيا وهذا دليل على البعد السياسي عند الإمام(عليه السلام).
ولن تقتصر ثورته السياسية على نقل الخلافة إلى مكان جديد بل شملت ثورته السياسية كل النواحي السياسية الأخرى فسادت الحرية في الرأي وحالة التنظيم في الوزارة وبالذات بيت المال والبرامج السياسية للولاة في مسألة العلاقات السياسية مع الدول الأخرى وطرق التعامل معها وهكذا. .
6ـ المعركة الحضارية:
جبهات المعركة الحضارية لدى الإمام علي(عليه السلام) كانت فاعلة وكان الإمام نشيطاً في تحريكها للصالح الإسلامي فمما لا شك فيه أن المهمة التي قام بها الإمام تتلخص في إحياء الإسلام وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) بالشكل المتقن في حياة المسلمين فخاض معركة شجاعة من أجل الوعي الإسلامي بإدارة ذكية متقنة أيضاً يقول العلامة المدرسي: (فمن دون التوعية وتحريك الناس وإثارة تطلعاتهم وتوجيه شعورهم بالحرمان والشعور بالقدرة على تغيير الواقع الفاسد لا يمكن حشد الطاقات جميعاً لتصب في قنوات محددة تسير بصورة تدريجية وتصاعدية حتى تبلغ ذروة الوعي المتجسدة في التحرك الجماهيري الصانع للثورة، والإدارة التي تقوم بحشد الطاقات ـ العامل الثاني بعد الوعي ـ وضبط الأمور ونظمها وتوحيد الصفوف للاستفادة من كل الجهود في سبيل الحصول على المكتسبات الثورية عبر رحلة التغيير التحررية ويمكن أن نشبه التوعية الثقافية بالأمطار الهائلة من السماء التي تهز الأرض بعد ذلك معطية الفرصة للبذور الكامنة في باطن التربة كي تنبت وتتبرعم وهكذا المشاعر والأحاسيس الكامنة في أعماق الجماهير كالإحساس بالحرمان والإحساس بضرورة التغيير وهنا يأتي دور الإدارة التي تصنع القنوات التي تستوعب تلك الأمطار والثورة لا تقوم بغير هذين العاملين)
فخاض الإمام معركة لأجل الوعي في الميدان الأخلاقي ضد انحراف المجتمع وخاصة بعد الفتوحات التي أسالت لعاب العيش والترف وحب الدنيا لدى المسلمين فوقف ليعيد الحالة الإسلامية الأولى حيث التضحية والعطاء في لقاء الله بالشهادة فقد قال: (وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعه (غير مستقره) وليست بدار نجعه قد تزينت بغرورها وغرت بزينتها دار هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرها وحياتها بموتها وحلوها بمرها. . . وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم، إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا ويشتد حزنهم وإن فرحوا. . . ).
(إن الدنيا دار فناء وعناء وغيَر وعبر. . . ) وكثيرة من هذه الأقوال التي تعد بحق أنجح مدرسة في الأخلاق والتربية.
وخاض معركة اجتماعية ليعيد التقييم الصحيح للإنسان والمجتمع بالتقوى والإيمان لا بالمادة والدنيا والأولاد. .
وهكذا على كافة الأصعدة وبالذات المستجدات في حياة المسلمين كالتعليم في الميادين العلمية كالنحو والفقه والفلسفة وبالذات معركة البناء العقائدي فقد خاضها بقوة لأن المرحلة كانت تسودها حالة الاضطراب والفوضى العقائدية فقد بدأت تتسرب بعض الأفكار الدخيلة عبر العلاقات والفتوحات الإسلامية والتجارة، المهم انبرى لها الإمام لتسود الاستقامة والصرامة فقد رد الشبهات ووضح المبهمات وضرب المساومات على حساب المبدأ فقد قال(عليه السلام) (العمل العمل ثم النهاية النهاية والاستقامة الاستقامة ثم الصبر الصبر والورع الورع إن لكم نهاية فانتبهوا إلى نهايتكم وإن لكم علماً (القرآن) فاهتدوا بعلمكم وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته. . . ).
وهكذا خاض المعركة العسكرية الحاسمة ضد الانفصال السياسي وضد نعرات التجزئة للبلد الإسلامي الكبير فكانت معركة الجمل وصفين والنهروان فأعاد التلاحم الإسلامي في ظل الشرعية الحاكمة وخاض معركة سياسية ضد ترسبات الجاهلية التي كانت عالقة في أفكار بعض الولاة والحاكمين كالوراثة والتمييز العنصري ليطرح الفكرة الإسلامية القائمة على الإيمان والتقوى دون حسابات أخرى ولم يساير الظروف السائدة فكرياً بل وقف ضدها بحزم ليعيد الأفكار الإيمانية للساحة.
7ـ المعركة المستقبلية:
المعركة المستقبلية كان يهيىء لها الإمام علي(عليه السلام) ضمن التربية الفردية والتوجيهات الاجتماعية العامة كي تستقبلها أذهان الناس فمرحلة صعبة سيفرزها المستقبل لا بد من الاستعداد لها فجذور الفساد التي بقيت متقطعة بسيفه المبارك ستعود في أجواء التخلف لتنمو وتستعيد صحتها لتقاوم الحق من جديد. . فكان(عليه السلام) يستعمل أسلوب التربيتين ـ الفردية والعامة ـ لهذا الغرض المتوقع فكان يربي الجيل الناشئ لخوض المعارك المصيرية في المستقبل فكان يخاطب ابنه الحسن ويوصيه (ومن خير حظّ امرئٍ قرين صالح).
يقول السيد المدرسي: أليست هذه وصية ثورية؟ الإمام يريد أن يتجمع الصالحون مع بعضهم وليشكلوا بذلك الخلايا الاجتماعية الرسالية القادرة على التصدي للأوضاع الفاسدة ثم يقول(عليه السلام): (فقارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن منهم لا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يدع بينك وبين صديق صفحاً. . ) إلى قوله(عليه السلام): (وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النّوكى) فالأحمق هو الذي يمني نفسه أما العاقل فإنه يعتمد السعي والحركة كي لا تقعده أمانيه بالتماطل عن الوصول إلى أهدافه الدنيوية والأخروية. . و(بادر الفرصة قبل أن تكون غصة) وهذا أقوى سلاح يمتلكه الثوري إذا امتلك عنصر المبادرة وترك عدوه في دوامة من ردود الفعل والبعض يترك الفرصة تمر دون اغتنامها وفوقها غصة إذ لا تعود إليك)
وهكذا كما في التربية الاجتماعية للإمام كان يستهدف الإعداد التام للدور المستقبلي والمعركة المقبلة كان يدفع الناس للتحابب وقلع الحالة الوحشية من النفس ليوفر المناخ الانسجامي ما بين الناس فيقول: (قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه).
وقال: (مقاربة الناس في أخلاقهم أمنٌ من غوائلهم).
وقال: (وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير ويدك التي بها تصول).
ويوصي ابنه الحسن(عليه السلام): (احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبد وكأنه ذو نعمة عليك وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله ولا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة. . . )
وهكذا كان يتوقع الإمام(عليه السلام) المعارك المستقبلية في ميادين الخلافة والسلطة والاستيلاء فأعد لذلك عدته
السلام عليك يا أمير المؤمنين