بسم الله الرحمن الرحيم
1. التغلب على الطبيعة.
2. أو إحداث مصالحة معها بطريقة ما.
ولما كان عاجزاً في مرحلته تلك عن تحقيق الأمر الأول، خضع مرغماً إلى محاولة الأمر الثاني، ومن هنا رأيناه يخلق أوهاماً مختلفة ويعبدها فيما حكاه عنه التنزيل، وكما هو ثابت في تاريخ الأديان والمعتقدات.
كان الجهل ـ وهو سبب مبرر يومئذٍ ـ سبباً لتعويق الإنسان عن مرتقاه أدهاراً طوالاً من مرحلة صنميته، ونقصد بها الأعم من النظام الوثني، فالجامع بين ما هو منحوت من صنع الإنسان، وبين الكائنات المعبودة من إجرام وأشجار وحيوانات، هو الوهم المخلوق في هذه الرموز مما تواضع عليه البشر لتحصيل الأمن والرضى على حساب الخداع، إسكاتاً للعقل كما نسكت الأطفال باُلهية.
ففي تلك المرحلة الطويلة المرهقة، إنحنى الإنسان بغريزة الخوف أمام الكائنات الطبيعية كالشمس والقمر،وإنحنى رجاء الرزق للضرع والشجر، وإنحنى بعد ذلك لمنحوتات جسَّد بها أخيلته في تماثيل ترمز إلى آلهته، ونصبها في هياكل قريبة منه ليلجأ إليها فيما يخشاه أو يرجوه.
ولقد عوقته أصنامه هذه في صدد العلم وإدراك حقائق الأمور،ذلك لأن قدسيتها في نظره كانت تحول دون التفكير بماهيتها وكنهها، وكان يكتفي من تعليل الأحداث بأنها إنما تجري طبقاً لإرادات علوية، فإذا وجب عليه إحترامها فأنه أقل من فهم أسرارها.
وعلى هذا القياس كان لا يجرؤ على الإستقامة تحت سياط طبقة من الناس، كان يؤمن بأن لهم قداسة الآلهة.
كان يؤمن بأن الأوضاع نهائية مستقرة لا يمكن تغييرها، وأن النظم المقدسة هي التي تخلق له مشكلاته، وتتلاعب بمقدراته، وإذا لا يملك معها من أمر قدَره شيئاً فهو يتقرب إليها بحسب تعاسته فيها، وشقائه بها. وكان النظام الوثني هذا يمكَّنُ لأصنام من البشر كطبقات السادة والأشراف من ملوك وكهنة وأغنياء. وكان، إلى هذا، يؤمن بكل خرافة، ويبنيها على فلسفة سخيفة ترتبط بظواهر الطبيعة، فإذا كان القمر مثلاً في برج العقرب تطير وجمّد حركته خشية شر يصيبه به الله،لأن الله آنذاك يكون مضطرب المزاج، معرضاً لأزمات عصبية،أستغفر الله.
وكان يعبد أصناماً من العادات والتقاليد هن أثقل قيوده وأغلاله، وأبلغها أثراً في جموده وتأخره.
وكانت ذاته، ولعلها لا تزال، أعظم أصنامه على الإطلاق، كان يعبدها فلا يرى الأشياء إلا من خلالها، الحق ما حقَّته وإن كان باطلاً، والباطل ما أبطلته وإن كان حقاً.
********************
كذلك كان الإنسان في فلوات التاريخ، وعلى هذا النحو بدأ يتكون مجتمعه، وكان من فضائله ـ وله في تلك الأدوار فضائل ـ أن كان يعي تجاربه، وينتفع بنتائجها، ويتطور تدريجاً وفق قوانين حتمية نراها نحن آلهية، ويراها غيرنا مادية. ولما ظهرت الفلسفة مختمرة ناضجة، نادى الفلاسفة بتحرير الإنسان من أغلاله، ودعوا الناس إلى تحطيم أصنامهم المنوعة. ولكن الفئات الرجعية من تجار العقائد رمتهم بالإلحاد والزندقة، فأبطلت مفعول دعوتهم بعزلهم عن الناس، وساعد على الفلاسفة أنهم يخاطبون العقول لا القلوب وليس في الناس إلا قلة تتأثر بهذه اللغة، وتستجيب لها. من هنا كان لا معدى عن تدخل الله الحق سبحانه في عملية التطوير الإجتماعي وتصعيده في درجات الكمال، وأمر الرسل عليهم السلام يختلف، في التأثير عن أمر الفلاسفة إختلافاً تاماً ذلك أن الرسل يواجهون عقول الناس في إطار من وجداناتهم، والدين، كما يعرفه ذوو الإختصاص إستيحاء من النبي 1: فطرة تربط الإنسان بخالقه فكان الإنطلاق بالدعوة من هذه الفطرة. من هذا الشعور أكبر عوامل النجاح في رسالاتهم الحق، وكان الإرتباط الغريزي بين الإنسان وربه يسهل من مهمة الأنبياء ما لا يسهل مثله من مهمة الفلاسفة. بحين يجد هؤلاء أنفسهم في العراء بارزين للشمس، يكون أولئك سلام الله عليهم في حرم مشاعر الناس الأصيلة، فإذ قسوا عليهم حرصاً على إرث أو تقليد سلكت الدعوة إلى نفوسهم من زاوية الإيمان بالله.
********************
رسالات الأنبياء جميعاً تنتظمها وحدة لا تختلف إلا بالأعمار: أدوار الأعمار في ميزان لنشوء والإرتقاء ولا يختلف الأنبياء في مختلف الأدوار والمراحل بجوهر الثورة على الأصنام بكل أشكالها، فهم قادة محررون كما نفهم القيادة والتحرير اليوم بأدق معانيهما.
ولا غلو إذا قلنا: أن النبي محمداً (ص) أعظم الأنبياء، وأن ثورته أعظم الثورات، فذلك وصفها الواقعي بحكم النتائج والسنين.
ولنقس عظمته في هذه الكلمة ببعض أعماله البطولية في تحرير البشر من القيود والأصنام، متجهاً نحو عالمه الأفضل.
أولاً: أسس النبي (ص) دعوته على التوحيد في دنيا تتوزعها أهواء، نحتت لها آلهة حمقاء ذوات هوايات عجيبة في التمزيق والإذلال والتجهيل، ولقد لقي في دعوته التحررية ما عبرعنه ـ وهو المضحي الصبور ـ بقوله: ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت.
وظل يناضل في سبيل تعميق هذا الأصل الجامع من رسالته منذ بدء الدعوة بإرذال الشرك، وتقبيح الصنمية حتى توج ظفره الأغر يوم الفتح، فرفع علياً فتى الإسلام على كتفيه، وأدال الله له منها. بسط علي يومئذٍ راحتيه العظيمتين تحت كبيره '' هبل'' الأعور المرقع 1 واقتلعه من جذوره واتبع به صغاره مزيلاً بإزالتها نظام الشرك.
وما إقتصر النبي (ص) في محاربة الشرك بإزالة المظاهر، بل غزاه في حصونه من النفوس والضمائر فطهرها من هواجسه ووساوسه. يقول: ''ان الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء''. فأي باعث أدعى من حس الخطر هذا إلى تتبع الشرك وإقتصاص أثره في مسالكه المظلمة وأعشاشه الخفية؟ وأية قوة هي القوة المطلوبة لحس كهذا يكافح خطراً يكمن في جنبات الصدور، وقرارات الأنفس.
وفي السنة التاسعة للهجرة، أرسل بعثاً مؤلفاً من علي وأبي بكر إلى اليمن بآيات من سورة البراءة فأعلن الوصي بإسم النبي حرباً في سفارته تلك ضد الإلحاد لا هوادة فيها، وأنزل الشمس والقمر من عرشهما الإلهي إلى مستوى العبودية، موضحاً أنهما وغيرهما من الكائنات مسخرات بأمر الله لما شاء لهما من خير ونفع يعود أكبرهما إلى الإنسان.
لم يهن النبي في دعوته هذه، ولا لان لا على إغراء ولا على تهديد، وإنما قابل هذا وذاك بالشموخ الذي يبرزه قوله: ''والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أموت دونه.
عجيب ما رواه الطبري وإبن حجر من أسطورة ( الغرانيق ) فهي مما يكفي في فضحها أن تقابل بدعوة النبي وسيرته.
رووا أن عبء الإضطهاد ثقل على المسلمين في السنة الخامسة من بدء الدعوة حتى أمر النبي جماعة منهم بالهجرة إلى الحبشة، وأن النبي كان يتمنى في نفسه أن يؤمر بآية ترخصه بمجاملة الطغاة من أصنام قريش، فنزلت سورة النجم، وتلاها النبي على جمهور من الناس فلما وصل إلى هاتين الآيتين: ''أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى القى روعه، فجرى على لسانه: ''لك الغرانيق العلى، منهن الشفاعة ترتجى''. ففرح المشركون إذ رأوه يحترم آلهتهم، ويشركها بالأمر. رووا: وأنه ندم ليلاً بعد خلوة إلى الوحي، وأسف، وأنكر ما جرى على لسانه، وأعادها جذعة.
وإليك مبطلات هذه القصة بإختصار:
أ. في سند روايتها من لم يكن مولوداً زمن تنزيل سورة النجم كمحمد بن كعب إذ ولد قبل وفاة النبي بعامين، وفيهم من كان مهاجراً إلى الحبشة كمحمد بن قيس، ولم نعثر على راوٍ واحد حضر الحادثة.
ب. البخاري والدرامي وغيرهما من المحدثين وأهل السير رووا سجود النبي في سورة النجم دون أن يعرضوا لأمر الغرانيق.
ج. نص القاضي عياض وتبعه الفقهاء والمحدثون على أن قصة الغرانيق إنما هي من إختراع الزنادقة.
د. ولندع كل ما تقدم فالرجوع إلى القرآن نفسه يثبت بطلان القصة، فآيات السورة نفسها صريحة بالسخرية من اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟! يقول:''أن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، أن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى'' (النجم /23) فكيف يجتمع هذا مع قصة الغرانيق؟. وفي مطلع السورة يقول الله: ''والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * أن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى.'' (النجم / 1 ـ 5)
ثانياً: حرّر الناس من الوهة موهومة، حرر الفكر لأول مرة على وجه أفضل في تاريخ البشر،فشق من حطام الأصنام طريق العلم، إذ لم تعد البحار والجبال والكواكب مناطق محرمة لا يقترب الفكر منها إلا راسغاً بأغلال ثقال من قدس وغموض، ومن ثم دفع المسلمين إلى طلب العلم كي يستخدموه ويخضعوه لخير الإنسان، ودعا إلى فتح مغالق الطبيعة بالتأمل والتجربة، وأمر بطلب العلم ولو بالصين، وبالدأب والمثابرة ''من المهد إلى اللحد'' فقطع لطريق على الشعوذة والتخريف وأخذ البسطاء بالعقائد المبهمة المغلفة بإطارات التقديس والرهبة كما كانت الحال في أوروبا التي أذاقت العلماء والمتحررين أشد النكال في القرون الوسطى، وليس حديث غاليلو وكوبرنيك وديكارت ومئات أمثالهم ببعيد عن الأذهان.
ثالثاً: حطم، من أجل عالم واحد ومجتمع أفضل، سائر القيود في إستيعاب مبكر فريد.
فأعلن، أولاً،أن النظام الفاسد إنما هو أثر مباشر من عمل الناس وسلوكهم، ولو شاؤه أفضل مما هو لكان. قال:'إ'ن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم'' (الرعد /11)
وقال:''ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون'' (الروم / 41)
وصرح، ثانياً، بوجوب الثورة في وجه الطغيان كلما هبت رياحه، ودعا إلى مقاطعة الطغاة والظالمين. قال:''ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.(هود / 113)
واشترع، ثالثاً، المساواة في الحقوق والواجبات فلا طبقات ولا تمايز إلا بالعلم والعمل والتقوى في تدرج تنظيمي لا شأن فيه للدم والثروة ولا إعتبار. الملوك والزعماء كغيرهم أمام الله ''لا يقدرون على شي''. ''قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء، وتذل من تشاء''.(ال عمران / 26)
ولنذكر المعري بالرحمة إذ قال:
وكرّهني إلى الرؤساء كوني وإياهم لخالقنا عبيدا
وقد تجمل الإشارة إلى التشديد على الأغنياء في صدد تحطيم صنمية المال إذ تمنى مفتونون من عبيد المال لو نزل الوحي على قارون العرب الوليد بن المغيرة أو زميله عروة بن مسعود الثقفي.
يقول القرآن:''وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم'' (الزخرف 31/32).
وتحدى، رابعاً، آلهة الشرك من حجر وبشر بما يظهر ضعفها وسخفها تحدياً ملحاً نجح في إسقاط إعتبارها. قال:''يا أيها الناس ضرب لكم مثل فاستمعوا له وأن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب''.(الحج /72)
ولعل أبلغ ما يروى عنه (ص) في حل عقد الخوف من نفوس الجماهير،وإسقاط الهيبة من أذهانهم لغير الحق، أن أعرابياً تاه فنخع له معظماً كما يفعل العبيد بين يدي الملوك، فقال له متلطفاً به:''إنما أنا إبن إمرأة من قريش كانت تأكل القديد''.
ولم يكن موقفه، خامساً، من التطير والتفاؤل والتنجيم بأقل عنفاً من مواقفه في محاربة غيرها من الأوهام. لقد نهي في بعض الغزوات عن المسير إلى الحرب بناءً على''طالع نحس'' فسار وقلبه طالع سعد،وكان يقول:'' لا طيرة ولا عدوى'. ويقول:''لا تعادوا الأيام فأنها تعاديكم''، ويقول: ''من آمن بحجر حشره الله معه''.
واتخذ، سادساً، من العادات والتقاليد الموقف نفسه، وأبرز كونها خاضعة للتطور فلا ينبغي أن تتحجر وتتأله، وضرب بنفسه المثل في الخروج على أشدها حرجاً وخطراً بتشريع إسلامي سمح في حادثة زيد ربيبه وزينب بنت جحش إبنة عمته. ويحسن الرجوع إلى تفسير الإمام الشيخ محمد عبده وغيره من المراجع للإطلاع على تفاصيل حكمة التشريع في هذه الحادثة الجريئة على صنم العادة.
رابعاً: بقي الصنم الأكبر،ألا وهوا''الأنانية'. من المعروف أنه سمى التحرر منها الجهاد الأكبر، وفي القرآن الشريف:''افرأيت من إتخذ آلهة هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون'' (الجاثية / 23)
عليك سلام الله ـ أبا القاسم ـ ورحمته وتحياته،لقد عبدت الطريق إلى فردوسك المنشود،وأتيت بقوة قائد ماهر على معوقات البشر عن بلوغه بإستئصال آفات الحركة، وأرهافها في سواء القصد. فألهمنا أن نتحرك بقواك في طريقك المشقوق، وخذ بأيدينا من يومنا هذا لنتحرر من أعدائنا. . مما حررت الإنسانية منه في يومك.
هدانا الله بيمنك.
1 من الصحيح المأثور عنه (ص): ''كل مولود يولد على فطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه''.
1 في المثيولوجيا أن ''عمروا' حاكم مكة قبل قريش إستقدمه من حوران وكان متآكلاً أعور مقطوع اليد، فرممه ونصبه كبير الآلهة في مكة.
تعليق