سياسات تستهدف الجذور
الأسوة والقدوة :
إن من المقبول ، والمسلّم به لدى الجميع ، نظرناً على الأقل : أن قول النبي (ص) ؛ وفعله ، وتقريره حجة ، ودليل على الحكم الشرعي ، وقد قال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )(1) . وقال : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(2) .
وذلك يعني :أنه لا بد من تتبع أقواله ، وأفعاله ، وأفعال ومواقفه (ص) ، لمعرفة ما يتوجب على المكلفين معرفته في نطاق التزامهم بالحكم الشرعي ، والتأسي بالرسول الأكرم (ص) .
كم أن ذلك يعني : أن النبي (ص) معصوم في كل قول أو فعل ، أو موقف يصدر عنه ، ولا تختص عصمته بمقام التبليغ القولي للأحكام ، كما ربما يوهمه بعض ما يزعمونه في هذا المقام .
ولأجل ذلك فإن من المفترض أن يتناقل الناس كل ما يصدر عن النبي (ص) من قول وفعل عبر الأجيال ، وأن يدوّنوه ويحفظوه، وأن يجمعوه ويفسروه ، لا سيما وأن رسول الله (ص) نفسه قد ذكر : أن قد أوتي القرآن ومثله معه .
وكان جبرائيل (( عليه السلام)) ينزل عليه (ص) ، فيعلمه السنة كما يعلمه القرآن (3). ولا نرى أننا بحاجة إلى ذكر ما يدل على ذلك ، فإنه بحمد الله أكثر من أن يحاط به .
الحث على كتابة الحديث :
هذا ، وقد حثّ (( صلى الله عليه وآله وسلم)) على كتابة ورواية ما يصدر عنه من علوم ومعارف ، وقد وصل إلينا من ذلك الشيء الكثير ، مما هو مبثوث في عشرات المصادر والمراجع (4).
الصحابة وغيرهم يكتبون الحديث :
وقد كتب الصحابة ، وكتب غيرهم ، ممن عاش في القرن الأول الهجري الكثير الكثير عنه (ص) ، وكانوا يأمرون ويحثون غيرهم على الكتابة أيضاً ، وكان كثير منهم يملك صحفاً وكتباً يجمع فيها طائفة من أحاديث الرسول (( صلى الله عليه وآله )) وسننه (5). وقد سافر كثير منهم ومن التابعين إلى الأقطار المختلفة في طلب حديث الرسول الأكرم (ص) (6).
عمر وأبو بكر كتبا الحديث :
وحتى الخليفة أبو بكر ، فإنه قد كتب عن الرسول الأكرم (ص) خمس مئة حديث ، لكنه عاد فمحاها فور وفاته (ص) (7).
وقد كان الصحابة يعقدون حلقات المذاكرة لحديث رسول الله (ص) في المسجد ، وقد يصل عدد بعض الحلقات إلى أكثر من ثلاثين رجلاً ، وذلك في أول إمرة عمر بن الخطاب(8).
بل إن عمر بن الخطاب نفسه قد كتب – فيما يروى عنه- لعتبة بن فرقد بعض السنن (9)، ووُجد في قائم سيفه صحيفة فيها صدقة السوائم (10).
وإن كنا نعتقد : أن هذا النص يهدف إلى مساواته برسول الله (ص) ، حيث قد رووا : أنه قد وُجد في قائم سيف رسول الله صحيفة مشابهة (11) .
علي (ع) وولده شيعته :
أما أمير المؤمنين علي (( عليه السلام)) ، الذي لم يكن يفارق رسول الله (ص) في سفر ولا حضر ، إلا في غزوة تبوك ، فقد كان مهتماً برواية وتدوين حديث رسول الله (ص) اهتماماً بالغاً حتى لقد قيل له :
ما بالك أكثر أصحاب رسول الله (ص) حديثاً ؟!
فقال : كنت إذا سألته أنبأني ، وإذا سكتُّ ابتدأني (12) .
وقد كتب عليه الصلاة عن النبي (ص) كتباً كثيرة ، وقد توارثها عنه الأئمة من ولده(13).
وقد واصل هؤلاء الأئمة الأطهار التشجيع على التزوار ، وتذاكر الحديث حتى لا يدرس ، وحثّوا على كتابة العلم وتناقله ، وحفظه في موارد كثيرة(14). حتى إن الزهري –وكان قد ترك الحديث –لما سمع من الحسن بن عمارة قولاً لعلي ((عليه السلام)) يحث في على نشر العلم ، عاد فحدث الحسن بن عمارة في مجلسه ذاك أربعين حديثاً(15).
وعن علي : قيّدوا العلم ، قيدوا العلم . مرتين(16).
وعنه (( عليه السلام)) :قيدوا العلم بالكتاب(17).
أما شيعة علي وأهل بيته ، فأمرهم في الإلتزام بتدوين العلم ونشره أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس ، ولا نرى أننا بحاجة إلى إثبات ذلك(18).
ملاحظة هامة :
لقد كان علي ((عليه السلام)) أعلم أصحاب رسول الله (ص) ، وكان باب مدينة علمه ، وكان أكثر أصحابه (ص) حديثاً عنه ، وقد كتب عنه العديد من الكتب ، ووإلخ …
ولكننا إذا راجعنا ما رووه عنه في كتبهم ، فإننا لا نجد إلا أقل القليل ، بل إننا نجد لأبي هريرة لم يلتق برسول الله (ص) إلا أشهراً يسيرة أضعاف ما روى هؤلاء عن أمير المؤمنين ((عليه السلام)).
ويكفي أن نذكر قول أبي ريّة رحمه الله هنا أن ما روي عن علي ((عليه السلام)) هو مئة وثمانية وخمسون حديثاً ، وروي عن أبي بكر مئة وثمانية وأربعون حديثاً . أما روي عن أبي هريرة فهو 5374 حديثاً(19).فتبارك الله أحسن الخالقين !!
في الإتجاه المضاد :
ونجد في مقابل ذلك كله تياراً قوياً كان ولا يزال يرفض الحديث عن رسول الله (( صلى الله عليه وآله)) ، سواء على مستوى الرواية له ، أو كتابته، أو العمل به .
ويمكن الحديث عن هذا الإتجاه في مرحلتين ، ربما يقال : إنهما تختلفان من حيث الدوافع والأهداف ، وإن كانتا تلتقيان من حيث الآثار والنتائج .
الأولى : في زمن الرسول الأعظم ((صلى الله عليه وآله )) .
والثانية : بعد وفاته عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
ونحن نتكلم عن هاتين المرحلتين ، مع رعاية جانب الإختصار ، والإحالة على المراجع والمصادر مهما أمكن . فنقول :
المنع من الحديث في عهد الرسول (ص) :
لقد ظهرت ملامح الإتجاه الرافض للحديث عن الرسول (ص) ولكتابته لدى قسم من المسلمين ، لا جميعهم ، ويمكن أن نقول : إنهم قريش على وجه الخصوص . ومعها من لفّ لفّها ، ممن يرى رأيها ، ويتعامل معها ، ويرى مصالحه مرتبطة بصورة أو بأخرى بمصالحها .
وقد كانت حجة قريش لإعتراضها على من كان يكتب كلامه (ص) هي: أنه (ص)بشر يرضى ويغضب . فقد يتكلم والحالة هذه بما لا يتفق مع الحق والواقع . وقد شكا البعض قريشاً لأجل ذلك إلى رسول الله (ص) ، فأمره ((صلى الله عليه وآله)) بأن يكتب كل ما يتفوه به عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لا يخرج من بين شفتيه إلا ما هو حق وصدق(20) .
دوافع هذه السياسة :
ولعل دوافع هؤلاء إلى اتخاذ هذا الموقف هي :
إن الكثيرين منهم كانوا موتورين وحاقدين على الإسلام ، وعلى نبيه الأكرم ((صلى الله عليه وآله)) ، وعلى المسلمين. وإن كانوا يتظاهرون بخلاف ما تنطوي عليه نفوسهم وجوانبهم بعد أن اتضح لهم : أنه لا يسعهم إلا التسليم للأمر الواقع ، وكذلك فعلوا رثما تسنح لهم الفرصة للوثبة ، وتسديد الضربة- كما قال أبو سفيان : والآن لو كان لي رجال -.
الحسد لرسول الله (ص) على ما آتاه الله من فضله ، وعدم رغبتهم في أن يروا الناس يتأسون بنبيهم ، ويطبقون أعمالهم وسلوكهم على أعماله(ص) وسلوكه ، ولا يريدون أن يتنافل الناس سيرته ، وأقواله ، ومواقفه (ص) .
ضعف الإعتقاد لدى الكثيرين منهم ، ولا سيما من أسلم لتوّه بنبوة رسول الله (ص) ، ولا يرون في ذلك أية فائدة أو عائدة .
المنع عن الحديث بعد وفاة النبي (ص) :
أما بعد وفاته (ص) ، وتسلُّم قريش لإزمة الحكم والسلطان ، فقد رأت أن مصلحتها تكمن في المنع من رواية حديث الرسول ، ومن كتابته ، ومن العمل به . بل وجمع كل ما كتب في عهده (ص) ، ثم إحراقه بالنار . وهكذا كان . وقد تابعت سياساتها هذه بقوة وبحزم كما سنرى .
أهداف هذه السياسة :
وأما عن دوافع هذه السياسة وأهدافها ، ثم ما نجم عن ذلك من آثار ونتائج فذلك ما سوف نفصله في فصل مستقل يأتي إن شاء الله تعالى ، بعد إلقاء نظرة موضحة على المسار العام لهذه السياسة .
البادرة الأولى : حسبنا كتاب الله :
وغني عن البيان هنا : أن أول مواجهة مباشرة وصريحة لرسول الله (ص) في هذا الخصوص ، ومنعه هو شخصياً من كتابة ما يريد ، هي ما جرى في مرض موته (( صلى الله عليه وآله)) ،فما عُرِفَ بـ ((رزية يوم الخميس )) ، حينما أراد (ص) أن يكتب كتاباً للأمة لكي لا تضل بعده ، فصدرت من بعض الحاضرين كلمات غير لائقة في حق النبي الأقدس ((صلى الله عليه وآله)) ، ثم جاء الرفض القاطع والجازم لكل ما يكتب في كلمة عمر الشهيرة له (ص) :
((حسبنا كتاب الله))
ثم كثر التنازع واللغط من الحاضرين ، فأمرهم (ص) ، بالقيام عنه ، والقضية معروفة ومشهورة ، وقد وردت بها صحاح الأخبار والآثار(21) كما تنبأ ((صلى الله عليه وآله )) ، كما سيأتي في آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى .
البادرة الثانية :
ثم أحرق أبو بكر خمس مئة حديث ، حسبما أسلفنا فكان هو الواضع الأول لركيزة سياسة إحراق حديث النبي الأكرم ((صلى الله عليه وآله)) .
ذروة هذه السياسة :
ثم كانت خلافة عمر بن الخطاب ، فكان التحرك في هذا الإتجاه أكثر دقة ، كما أكثر شمولية واستقصاء ، حتى ليخيل إليك : أن هذا الأمر هو أعظم ما كان يشغل بال الخليفة ، ويقضّ مضجعه ، فكان يتابع هذا الأمر ، ويحث عليه ثم يراقب ويعاقب ويتخذ القرارات والإجراءات بصورة ظاهرة ومستمرة ودؤوبة .
وقد أرسل بأوامره القاضية بإقلال الحديث عن رسول الله (ص) ، وبأن لا يكون هذا الحديث ظاهراً ، وبتجريد القرآن عن الحديث ، أرسل بها إلى جميع الأقطار والأمصار . وكان يوصي بذلك ولآته ، وبعوثه وجيوشه . ولم يزل يشيعهم بهذه الوصايا(22) .
وقد كانت سياساته في هذا المجال دقيقة ومدروسة ، وتصعيدية ز فهو يطلب ذلك ويوصي به باستمرار ، فإذا روى أحد حديثاً طالبه بالبينة والشهود، كما فعل مع أبي بن كعب وأبي موسى ، وإن لم يكن لديه بينة ، عاقبه ونكل به . فإذا وجد أحداً يصر على رواية الحديث هدّده بالطرد ، والنفي إن لم ينفع معه التهديد والضرب(23) .
إحراق حديث رسول الله (ص) :
وفي خطوة تصعيدية حاسمة وحازمة يطلب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من الصحابة أن يأتوه بما كانوا قد كتبوه عن النبي (( صلى الله عليه وآله)) ، بحجة أنه يريد جمع الحديث النبوي ، وكتابته ، حتى لا يندس . فبقي شهراً وهو يجمع مكتوبات الصحابة ، ثم قام بإحراق ما اجتمع لديه محتجّاً لعمله هذا بقوله .
مثناة كمثناة أهل الكتاب ؟!
والظاهر أن الصحيح : ((مشناة كمشناة أهل الكتاب)) (24)وقد اشتبه ذلك على النساخ لعدم النقط في السابق ، وتقارب رسم الكلمتين.
وفي نص آخر أنه قال : (( ذكرت قوماً كانوا قبلكم ، كتبوا كتباً فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله . وإني – والله – لا أشوب كتاب الله بشيءٍ أبداً))
أو قال : لا كتاب مع كتاب الله .
وكتب إلى الأمصار : ((من كان عنده شيء منها فليمحه)).
ومهما يكن من أمر فلقد بلغ من تشدّد الخلفية في هذا الأمر : أنهم يذكرون في ترجمة أبي هريرة : أنهم ما كانوا يستطيعون أن يقولوا : قال رسول الله
(ص) : حتى قبض عمر (25)
وبكلمة موجزة : إن سياسة عمر القاضية بالمنع من رواية الحديث ومن تدوينه تعتبر من البديهيات التاريخية ومن الواضحات ، فلا حاجة إلى ذكر النصوص ، والإكثار من الشواهد .
بل قيل : إنه (يعني عمر) ضرب من نسخ كتب دانيال ، وأمره بمحوها (26).
وضرب الذي جاءه بكتاب وجده في المدائن حينما فتحوها (27)
وأما بالنسبة لأمره عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية(28) وإتلاف كتب كثيرة وجدوها في بلاد فارس(29) . فقد شكك فيه الشهيد العلامة المطهري(30) ، وإن كنا لا نوافقه على كثير مما قاله في هذا المجال . ولبحث ذلك مجال آخر .
الصليبيون والتراث العلمي الإسلامي:
وبالمناسبة فإننا نشير إلى جريمة نكراء ارتكبها الصليبيون الحاقدون ضد التراث العلمي للبشرية ، حيث يذكر موندي في تاريخه : ان ما أحرقه الأسبان من كتب قرطبة قد بلغ مليوناً .خمسين ألف مجلد ، عدا عما أتلفوه مما عثروا عليه في أقاليم الأندلس(31).
أما ويلس ، فيرى : أنهم قد أحرقوا مليون وخمسة آلاف مجلد فقط .
وفي وفيات الأسلاف : أن أسقف طليطلة قد أحرق من الكتب الإسلامية ما ينوف على ثمانية ألف كتاب . وأن الإفرنج لما تغلبوا على غرناطة قد أحرقوا من الكتب النفسية ما يتجاوز مليون كتاب(32) .
((وقال بعض المؤرخين المصريين : إن الباقي من الكتب التي ألفها المسلمون ليس إلا نقطة من بحر مما أحرقه الصليبيون ، والتتر ، والأسبان )) (33)
ولما فتح الإفرنج طرابلس في أثناء الحروب الصليبية أحرقوا مكتبتها بأمر الكونت برترام سنت جيل ، ويقال : إنها كانت تحتوي على ثلاثة ملايين مجلد(34).
وأضاف جرجي زيدان : وفعل الأسباب نحو ذلك بمكتبات الأندلس لما استخرجوها من أيدي المسلمين في أواخر القرن الخامس عشر (35).
حجة عمر تصبح حديثاً نبوياً !! :
ومهما يكن من أمر فإننا نلاحظ هنا : أن الكلمات التي استخدمها عمر بن الخطاب كمبرر أمام الناس لتنفيذ نواياه تجاه حديث رسول الله (ص) ، مثل قوله :
من كان عنده شيء منها فليمحه ، قد أصبحت بعين ألفاظها تقريباً ، وبنفس صياغتها حديثاً ينسب إلى النبي الأكرم (( صلى الله عليه وآله)) ، فراجع وقارن(36).
وهكذا بالنسبة لاستدلاله على صحة ما أقدم عليه بأن الأمم السالفة قد ضلت بسبب عكوفها على أقوال علمائها وتركها كتاب الله (يعني التوراة)!! فإنه قد أصبح هو الآخر حديثاً يروى عن رسول الله (( صلى الله عليه وآله)) ، يقول أبو هريرة فجمعناها في صعيد واحد ، فألقيناها في النار(37) .
وراجع أيضاً ما رووه عن علي أمير المؤمنين ((عليه السلام)) في هذا المجال(38).
وقد نسي هؤلاء الوضاعون الأغبياء : أن وجود حديث من هذا القبيل عن الرسول (ص) يسد الطريق على عمر بن الخطاب للتفكير في كتابة السنن ، وتجد الكثيرين يتعرضون عليه حينما طلب منهم أن يأتوه بما كتبوه : بأن هذا يخالف أمر النبي (ص) بمحو ما كتب .
كما أن حديثاً كهذا يجعل وجود حديث مكتوب عند الصحابة أمراً متعذراً، إلا إذا فرض أنهم أو كثير منهم لا يأبهون لأوامر النبي الأعظم ((صلى الله عليه وآله )) ، ولا لنواهيه .
أو يكون المقصود هو إظهار المنافقين الذين خالفوا أوامر النبي (ص) في هذا الأمر . وإذا كان المنافقون هو أهل تلك الأحاديث المجموعة ، فإن حديثهم لا قيمة له . كما أن المنافقين لا بد أن يلتفتوا إلى وجه الخدعة لهم ، ولسوف لن يقروا على أنفسهم بأمر فيه إدانة وإهانة لهم .
التقليد والمحاكاة :
ونسجل هنا : أننا نجد أن استدلال الخليفة الثاني لصحة ما أقدم أو يريد أن يقدم عليه ، من المنع من كتابة ورواية حديث النبي (ص) بما تقدم ذكره ، قد صار هو الإستدلال التقليدي لكل الذين جاؤا بعد عمر ، وحرصوا على العمل بسنته ، وتنفيذ سياساته ، فراجع النصوص التاريخية المختلفة فيما يرتبط بهذه الناحية(39) .
المنع من العمل بالسنة أيضاً :
ولم يقتصر الأمر على المنع من رواية وكتابة حديث النبي (ص) ، بل تعدّاه إلى ما هو أهم وأكثر ، وأدهى وأمرّ ، وهو المنع عن العمل والجري على السنة النبوية الشريفة ، حيث رأينا أن الخليفة يضرب الناس إذا رآهم يصلون بعد العصر(40). ولما ضرب زيد بن خالد الجهني لأجل ذلك ، وقال له زيد : إنه لا يدعهما بعد إذ رأى رسول الله (ص) يصلّيهما ، قال له عمر :
(( لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلّماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما )) (41)
كما أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما .
فقيل له : ما هذا ؟
فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما (42).
فإذا كان مثل أبي أيوب لا يجرؤ على العمل بما سنّه النبي (ص) ، فما ظنك بغيره من الناس العاديين ، الذين ليس لهم ما لأبي أيوب من احترام وتقدير ومكانة لدى صحابة رسول الله (ص).
كما أننا لم نفهم ما هو المحذور في أن يصلي الناس حتى الليل !! حتى جاز لعمر ضرب الناس لأجل ذلك !!
وأخيراً … فقد روي : أن عمر قد همّ أن يمنع الناس عن كثرة الطواف . وقال :
(( خشيت أن يأنس الناس هذا البيت ، فتزول هيبته من صدورهم )) (43).
أضف إلى ما تقدم أن الصحابي الجليل ، حذيفة بن اليمان يقول :
(( ابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلى إلا سراً ))(44) .
وحذيفة إنما توفي في أوائل خلافة علي ((عليه السلام)) ، بعد البيعة له (ع) بأربعين يوماً ، على ما قيل .
وهو من القوّاد الكبار الذين كان الكّام قبل علي ((عليه السلام)) يعتمدون عليهم في فتوحاتهم ، وله مكانته المرموقة ودوره الكبير فيما بين الشخصيات الفاعلة في النظام القائم.
فقوله المتقدم يدل على أن الأجواء العامة كانت ضد المؤمنين ، وأن السيطرة كانت لأناس لا يهمّهم أمر الدين في شيء ، بل كان المؤمنون يتعرضون للسخرية والاستهزاء ، تماماً كما هو الحال بالنسبة لطغيان الفسّاق والفجّار في بعض البلاد الإسلامية اليوم ، مع عدم ظهور اهتمامٍ من الحكام بردعهم ومكافحتهم ، لأسبابٍ مختلفة .
حبس كبار الصحابة في المدينة :
وفي هذا الإتجاه بالذات يقدم الخليفة الثاني على خطوة أخرى أيضاً ، وهي : أنه جمع الصحابة من الآفاق ، وطالبهم بما أفشوه من حديث رسول الله (ص) ، ثم أمرهم بالمقام عنده ، وأن لا يفارقوه ما عاش ، ومنعهم من مغادرة المدينة ، فبقوا فيها إلى أن مات(45) .
وقد أضاف سبباً آخر إلى إفشائهم حديث رسول الله (ص) ، فذكر أنه إنما يمنعهم من المشاركة في الغزو ؛ حتى لا يفسد عليه أصحاب محمد (ص)(46) .
نعم .. لقد رووا عن الخليفة أنه فعل ذلك ، رغم أنه نفسه يقول للناس – كما قيل – إنه إنما يرسل إليهم العمال ؛ ليعلموهم دينهم وسنتهم(47) .
الخلف عن السلف :
ولم يقتصر الأمر في المنع عن الحديث رواية وكتابة إلخ .. على زمان أبي بكر وعمر ، فإن الذين جاءا بعدهما من خلفاء بني أمية ، إبتداءً من عثمان ، ثم معاوية ، فمن تلاه من الخلفاء : قد اتبعوا نفس الطريقة ، وساروا على نفس النهج ، في المنع عن الحديث إلا حديثاً كان على عهد عمر(48).
وأصبحت كتابة الحديث عيباً عند الناس ، كما عن أبي المليح(49) .
بل لقد رووا عن ابن الحنفية أنه قال : (( إياكم وهذه الأحاديث ، فإنها عيب عليكم ، وعليكم بكتاب الله إلخ .. )) (50).
لا قرآن ولا سنة :
ولكن ورغم توصية ابن الحنفية الآنفة بكتاب الله وقبل وفوق ذلك وصاي النبي (ص) والوصي (ع) به أيضاً ، ورغم أن النبي (( صلى الله عليه وآله )) كان يعلّم أصحابه الآيات من القرآن ، ويوقفهم على ما فيها من علمٍ وعمل ، وما فيها من حلال وحرام ، وما ينبغي أن يقف عنده(51) .
ثم ما روي عنه (ص) من أنه قال : تعلموا القرآن ، والتمسوا غرائبه . وغرائبه فرائضه ، وفرائضه حدوده ، وحدوده حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه إلخ .. .
وما روي عن عمر أنه قال حين وفاة النبي (ص) : حسبنا كتاب الله –كما تقدم- ثم مبادرته حين تولّيه الخلافة إلى المنع من تدوين الحديث وروايته ، ووإلخ ..
نعم رغم ذلك ، فإننا لانجد لدى رواد هذه السياسة كبير اهتمام بالقرآن، وتعليمه ، وتفسيره للناس ، بل نجد عكس ذلك تماماً ، فإن عمر بن الخطاب نفسه كان يمنع الناس من الؤال عن معاني القرآن ، ويضرب ويعاقب من يسأل عن شيء منه ، وما فعله بصبيغ حيث ضربه ماءه ثم مئة حتى اضطربت الدماء في ظهره وفي رأسه ، ومنع الناس من الكلام معه ، ومن مجالسته ، فمكث حولاً على ذلك حتى أصابه الجهد ، ولم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه .
وقد بقي ابن عباس سنة كاملة أو سنتين لا يجرؤ على سؤال عمر عن آية في كتاب الله، رغم ما كان له من المكانة عنده .
قراءة القرآن أيضاً مرفوضة :
بل إن عمر كان لا يرغب في كثرة القُرَّاء للقرآن أيضاً ، فقد كتب إليه أبو موسى بعدة ناس قرأوا القرآن ، فحمد الله عمر . ثم كتب إليه في العام القابل بعدةٍ هي أكثر من العدّة الأولى ، ثم كتب إليه في العام الثالث . فكتب إليه عمر يحمد الله على ذلك ، وقال : إن بني إسرائيل إنما هلكت حينما كثرت قراؤهم .
ونلاحظ : أن هذه العبارة الأخيرة هي من سنخ استدلاله للمنع من كتابة الحديث !! فاقرأ ، واعجب بعد هذا ما بدا لك !!
هذا .. ومن المفارقات هنا : أن نرى هذا الخليفة بالذات يسمح لكعب الأحبار أن يقرأ التوراة آناء الليل وأطرف النهار ، كما سنرى !!
الدقة في التنفيذ :
وقد كان للأهتمام الذي أولاه الحكام للمنع من رواية الحديث وكتابته ، ومالمسه الناس من جدّيٍة وإصرارٍ في تنفيذ هذه السياسة ، ومتابعة فصولها بدقة وحزم من قبل شخص الخليفة الثاني ، الذي كان قوله ورأيه في العرب نافذاً ومقبولاً – قد كان لذلك تأثيرات سريعة وحاسمة ، على صعيد الإلتزام التام بالتعليمات الصادرة لهم في هذا الخصوص ؛ فهذا أبو موسى الأشعري (وكذلك أنس بن مالك ) بمجرد أن أحسّ أن عمر يفكر في أمر مّا في هذا الإتجاه ، يمسك عن الحديث حتى يعلم ما أحدثه عمر .
ولنا أن نظن ظناً قوياً : أنهما كانا على علمٍ مسبق بما كان الخليفة قد عقد العزم عليه في هذا الصدد ، وأراد ترويض الناس على قبول ذلك ، والإلتزام به .
بل لقد بلغ بهم التحاشي عن الحديث رسول الله (ص) حدّاً مثيراً للدهشة ، حتى إن عبد الله بن مسعود – وهو الصحابي المعروف – كانت تأتي عليه السّنة لا يحدث عن رسول الله (ص) بشيء (52).
بل لقد قال عمرو بن ميمون

ويقول الشعبي :قعدت مع ابن عمر سنتين ، أو سنة ونصفاً ، فما سمعته يحدث عن رسول الله 0ص) إلا حديثاً .
أو قال : جالست ابن عمر سنتين فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئاً (54).
وكان زيد بن أرقم إذا طلبوا منه أن يحدثهم يزعم أنه كبر ونسي(55).
وقال عمرو بن ميمون الأودي :
((كنا جلوساً بالكوفة ، فجاء رجل ومعه كتاب ، فقلنا : ما هذا ؟
قال : كتاب دانيال .
فلولا أن الناس تحاجزوا عنه لقتل . وقالوا : كتاب سوى القرآن ؟!)) (56)
وكيف لا يقتله الناس ، وهو قد خالف سنّة عمر في حديث رسول الله (ص) ، وتجاوز سياساته تجاهه ؟! فإنه ولا شك قد ارتكب جريمة نكراء !! وجاء ببدعة صلعاء !!.
ثم إننا لا ندري ماذا كان يوجد في ذلك الكتاب المنسوب الى دانيال النبي عليه السلام. ولعل الذين اعترضوا على هذا الكتاب كانوا لا يعرفون شيئاً عن مضمون ذلك أيضاً .
إلى متـى ؟! :
هذا ، وقد استمر المنع من رواية الحديث وتدوينه ساري المفعول –بصورة أو بأخرى- إلى زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، الذي تول الخلافة في مطلع القرن الثاني (في صفر سنة 99 هـ) لفترة وجيزة انتهت بموته في رجب سنة 101 هـ.
فقد أظهر عمر بن عبد العزيز هذا رغبة في جمع الحديث ، فأمر محمد بن عمرو بن حزم بأن يكتب له حديث النبي (ص) ، أو سنة ماضيةً ، أو حديث عمرة بنت عبد الرحمان(57).
ومراده بالسنة الماضية هي سنّة أبي بكر ، وعمر وعثمان ، كما سنشير إليه . وإنما أراد حديث عمر لأجل الوصول الى حديث عائشة كما هو معلوم ، ولا ندري : إن كان طلب الخليفة هذا قد نُفِّذ أو لا . ولكن الزهري المتوفي سنة 124 هـ . قد كتب له طائفة من الروايات ، فأرسل إلى كل بلد دفتراً من دفاتره التي كتبها له .
وقد كانت هذه المحاولة أيضاً ضعيفة ومحدودة جداً ،(58) ولا تستطيع أن تعيد لحديث رسول الله (ص) دوره وحيويته في الناس كما هو واضح .
ورووا أيضاً : أن أبا الزناد كتب سنن الحج لهشام بن عبد الملك ، وذلك في سنة 106هـ .(59)لكن ليس ثمة ما يدل على أن ذلك قد وصل إلى أيدي الناس ، وتداولوه .
بل إن ما كتبه الزهري لم نجد له أثراً ملموساً فيما بين أيدينا من تراث مكتوب ليمكننا تقييمه والحكم عليه .
ومهما يكن من أمر ، فإن من المؤكد : مفعول المنع من تدوين الحديث قد انتهى في أواسط القرن الثاني ، وأن الحركة الواسعة لتدوين الحديث قد بدأت في أواسط القرن الثاني للهجرة ، على يد ابن جريج ، ومالك بن أنس ، والربيع بن صبيح ، والثوري ، والأوزاعي ، وغيرهم (60)