بسم الله الرحمن الرحيم
النظر إلى ما قيل
اليعقوبي ...والخطاب الأخير
علي حسين فرج
22\2\2008
ما أسوء حالنا إذا كنا نحن العراقيين نتصف بما قاله الوردي ذات يوم"إن العراقي، سامحه الله، أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته ولكنه، في نفس الوقت، من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته..انه اقل الناس تمسكا بالدين وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية. فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى"..
لكن وبعد نصف قرن تقريبا -وهنا المفارقة- نجد أنفسنا محصورين بين نبوءة الوردي وسندان الواقع لان هذا الأخير أي الواقع هو المخبر الحقيقي عن سلوكيات الإفراد وبالتالي المجتمع ،والذي يبين بشكل واضح لا شك فيه إننا وليس غيرنا هو المخاطب في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات12.
أسوق هذه المقدمة التي قد تزعج البعض- ولكن( للواقع سحر لا يقاوم) ويجب إلا نخجل من الاعتراف بالحقيقة أو مواجهتها-كي ادخل للموضوع الذي انوي الحديث عنه وهو الخطاب الأخير لآية الله العظمى الشيخ اليعقوبي(دام ظله) في مواكب الوعي الطلابي الحسيني ،الخطاب فقط دون النظر الى من قال مثلما تعلمنا من أمير المؤمنين "ع" الذي نطق كلمته الرائعة عند مصادفته لأشخاص يمتلكون صفات مشابهة لصفات مجتمعنا الحالي ،مجتمع يحاكم الأشخاص دون أقوالهم بغظ النظر عن حسن او قبح تلك ألأقوال.
وخوفا من التباس القصد أرجو إلا يفهم من كلامي إني أتباهى بالخطاب وتقنياته دون صاحبه على العكس فهو المرجع الشاهد وكفى ولكنها رسالة موجهة الى كل من يشملهم قول الله تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }يس30.
على أي حال سأقدم بعض ملاحظاتي عن خطاب المرجعية الأخير والتي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:-
1-حداثة الأسلوب
ابتدأ اليعقوبي خطابه المباشر والموجه الى أساتذة وطلبة الجامعات والمعاهد العراقية الذين حجوا الى كربلاء الحسين"ع" ومن خلالهم الى المجتمع العراقي ،ابتدأ حديثه مذكرا بمأساة كربلاء ولكن بلغة أخرى ممتعة وبليغة ولا تبقي عذرا الى كل من ينظر الى ما يقول،ما يقوله فقط إلا أن يستشعر كربلاء وجدانيا وفكريا بأسلوب أدبي رفيع يشبع الظمأ ويقطع السنة المتقولين بان الخطاب الديني عصيا على التحديث.
اليوم فعلها اليعقوبي مثلما فعلها قبله الشهيد الصدر ود.شريعتي وسيد قطب واعني الاستخدام اللغوي الصحيح الذي ينسجم وطبيعة المرحلة من اجل إغراء الآخرين وإقناعهم بأحقية المشروع الإسلامي خصوصا اذا علمنا ان زماننا هو زمن الصورة بامتياز وبالتالي فان الكلمة القوية والممتعة فقط هي من يستطيع الصمود أمام التقنيات الحديثة كالقنوات الفضائية مثلا وهذا ما أكده صاحب الفقه الاجتماعي في خطابه فيقول(( نعم قد تتنوع آليات العمل وشكل الخطاب بحسب اختلاف الزمان والمكان وتباين مستويات المجتمع البشري)).
2-التركيز على المستقبل
كان الاستهلال صادما لأنه يحكي عما يجب فعله في هذه اللحظة كي نظفر بنصرة الحسين"ع" وهو جواب عن السؤال الكبير ما هو الدور المناسب الذي يمكن ان نقوم به اذا كانت كل أرضا كربلاء وكل يوما عاشورا؟؟.
إذن الميزة الاخرى في الخطاب انه يتحدث عن المستقبل .و(المستقبل هو المحرك الرئيسي للفرد) بتعبير الشهيد الصدر"قدس".وسأورد بعض الأمثلة من الخطاب:-
1-..تضمّنت واقعة كربلاء فصولاً مأساوية عديدة تركت جمرة في قلوب المؤمنين ، و ذوي الضمائر الحية لا تنطفئ أبداً، وستظل تنبض في عروقهم بروح الثورة ضد الطغاة والمستبدين و اللئام و منتهكي حقوق الإنسان في أن يعيش حياة حرة كريمة، و ستبقى هذه الجذور المباركة وتزداد اتقاداً حتى يأذن الله تبارك وتعالى بإقامة دولة الحق والعدل والمثل العليا...
2-إن دوراً بهذه الأهمية لا يقف عند حدود ما أدّته العقيلة زينب والهاشميات ومعهن الإمام السجّاد (عليه السلام) وإن وفوا بما عليهم وإنما يستمر في تحريك المصلحين وطلاب الحقيقة والتواقين للكمال ولإقامة الحق والعدل والسلام والحرية وكل المثل الإنسانية العليا في كل جيل ما دامت الأهداف لم يكتمل تحقيقها وما دامت الانتهاكات التي قام بها يزيد بن معاوية موجودة والتي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) للاحتجاج عليها والمطالبة بإصلاحها وهي كثيرة كالاستبداد والاستئثار وإهدار المال العام و تسلط الفاسدين وقتل الأبرياء وخنق الحريات وتعطيل العمل بالقانون والتجاهر بالشذوذ الجنسي مع المحارم والحيوانات إلى آخر القائمة الطويلة.
ان هذه الفقرات تبين بوضوح حرص المرجع على استحضار مشاكل الزمن الحاضر وكيف يمكن ان يساهم الماضي في صناعة المستقبل، بمعنى ان التراث مهما كان مقدسا يجب ألا نستذكره من اجل التبرك فقط وإنما يجب استخدام مكانته الكبيرة في صناعة التقدم والحضارة.
3-الفهم المتجدد للقضية الحسينية
نعم ان قضية الحسين "ع" رغم واقعيتها فقد تخطت حدود الزمان والمكان ولا يمكن خنقها او تاطيرها لأنها لامست فطرة الإنسان وحاجاته الضرورية وسيبقى أحرار العالم رغم اختلاف انتماءاتهم يستلهمون من الحسين"ع" الصبر والثبات على المبادئ مهما كانت التضحيات .ولكن كربلاء - حصلت في العراق ودونت في تاريخ المسلمين وعلينا تقع المسؤولية بالمرتبة الأولى .بالتحديد هذا هو تكليفنا اتجاه عاشوراء ولا بد من تأدية الأمانة بدقة ..
في احد المرات نقل لي احد أصدقائي الكبار الحكاية التالية : قبل خمسين عاما دخلت المسجد وسمعت الخطيب يقول لقد جعجع الحر بالحسين وقبل أيام دخلت المسجد أيضا فسمعت نفس العبارة ولكن من شخص أخر وهنا انتفض صديقي (العلماني بامتياز) قائلا لا اعلم السر من عدم القدرة على تطوير الخطاب خصوصا بعد التحولات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية الكبيرة .
هذا التساؤل الكبير أجاب عنه الشيخ اليعقوبي"دام ظله" في خطابه الخالد بشكل جريء ذكرنا بخطاب المحنة للشهيد الصدر "قدس" فيقول((هذا ما يجب أن نوصله إلى جميع الناس من خلال شعائرنا ومجالسنا ومحاضراتنا، إذ لم يعد مقنعاً للآخرين خصوصاً الذين يعرفون المنزلة الرفيعة لأهل البيت (عليهم السلام) أن نفسّر لهم ثورتنا وغضبنا وتفجُّرَ عواطفنا هو لأجل أن رجالاً قتلت أو نساءً سبيت أو أطفالاً ذبحت أو شباباً أزهقت أرواحهم قبل أن يتهنوا بالعرس أو لأنهم حرموا من الماء المباح حتى قضوا عطاشى، وإنما لم يعد مقنعاً لأنهم يرون هذه الكوارث تحل بالعراقيين يومياً فيقتل الأبرياء وتلقى الجثث في العراء حتى تأكلها الوحوش وتقطع الرؤوس ويحرم الشاب من كل حقوقه في الحياة وليس الزواج فقط وتهجر مئات آلاف العوائل وتمارس كل أنواع الجرائم وتسرق أموال الشعب الذي يموت جوعاً ويعاني من تردي الأمن وخدمات الصحة والتعليم والغذاء وانتهاك للكرامة والحقوق والحريات فالأولى - من وجهة نظر الآخرين - أن نبكي ونثور ونغضب لحالنا وليس فقط لما جرى على الحسين وآله في كربلاء)).
4-تحفيز الطاقة الكامنة
هذه المهمة الشاقة والمسؤولية الكبيرة بحاجة الى رجال بمستوى التكليف يؤمنون بالإسلام كشريعة قادرة على إنقاذ البشرية من تصدعها العظيم ،لا يعرفون الملل او الخوف مهما كانت التحديات ،فهموا قضية الحسين"ع" واستوعبوا حركته مثلما يعرفون واقعهم وحاجاته اللامتناهية. وبدأ سماحته يحفز الطاقات الكامنة في نفوس الأساتذة وطلبتهم من اجل إعادة الثقة المستلبة وتذكيرهم بموقعهم الريادي، فالأمة تنظر إليهم وتنتظر منهم الحلول للخروج من التيه و((مَن أولى منكم بتفعيل هذه الحركة المباركة لتحرير الإنسان من أغلال الذل والهوان والحرمان، فأنتم رواد البناء والإعمار وإصلاح ما خرّبته الأنظمة الطاغوتية في هذا الوقت الذي تشتد الحاجة اكثر ما يكون الى الاعمار والخدمات . وأنتم من تستحقون قيادة البلد نحو الازدهار وليكون في مصاف الدول المتقدمة...وأنتم منطلق الوحدة الوطنية لتنفخوا في جسد العراق حب الوطن وروح المواطنة بعد أن مزّقته الطائفية والقومية والأنانية والحزبية والفئوية والأجندات التخريبية... ومنكم النخب والكوادر المتقدمة التي تستحق قيادة المجتمع وإدارة البلاد)).
5-الواقعية في الطرح
ان الشيخ اليعقوبي "دام ظله" وفي اكثر من مناسبة يدعو الجميع الى الاعتراف بحقيقة الواقع مهما كانت مؤلمة وتوفير السبل الكفيلة مواجهة هذا الواقع بعيدا عن الشعارات والوعود المزيفة . اذكر وفي احد لقاءاته مع طلبة الحوزة العلمية ذكرهم بموقف الصحابي الجليل سلمان الفارسي "ر ض" عند اعتراض الناس عليه وهو يقوم بادّخار الطعام فقال (ان النفس اذا أحرزت رزقها اطمأنت)،واليوم يكرر نفس المقولة ولكن بلغة اخرى عندما ناشد المجتمعين قائلا((ولكم بعد ذلك مطالب وحقوق واحتياجات فاغتنموا هذه الفرصة لإعلاء صوتكم بالمطالبة بتحقيقها تبدأ من تكريم الأساتذة وحمايتهم وتوفير أسباب الحياة الكريمة اللائقة بهم إلى تطوير الجامعات وتحديث الوسائل التعليمية والمختبرات لتواكب الجامعات العالمية المرموقة مروراً بدعم الطلبة بمخصصات شهرية تعينهم على مواصلة الدراسة ولا تنتهي عند تحسين أوضاع الأقسام الداخلية وغيرها)).
6-التحليل الاجتماعي لمشاكل الأمة
لقد شخص سماحة المرجع الأسباب الحقيقية وراء نشوء الحركات المهدوية بعيدا التخوين او عقلية المؤامرة التي أصبحت هي المشغّل الرئيسي للكثير من العقول العراقية وبالتأكيد ان هذه العقليات لا تستطيع الاقتراب من المشكلة وبالتالي فهي عاجزة عن إيجاد الحلول المناسبة لها.
ان ما قام به سماحة الشيخ اليعقوبي"دام ظله" هو الحفر في جذور المشكلة وتشخيص المغذيات الرئيسة لها فيقول((وما الحركات المدّعية للارتباط بالإمام المهدي الموعود (عليه السلام) زوراً وبهتاناً إلا واحدة من تلك المشاريع التي ما كانت لتنمو وتجد لها أتباعاً يقتنعون بآرائها الضحلة والمتناقضة لولا الجهل وفقر الثقافة والوعي والسذاجة المتفشي لدى أوساط عديدة من المجتمع مما يوجب على المفكرين والخطباء والأساتذة والعاملين الرساليين أن يقودوا حركة علمية فكرية واسعة لانتشال شبابنا من الضياع والضلال والخسران المبين بإتباع تلك الأجندات الشريرة، فليس صحيحاً أن يبقى أهل الحل والعقد يتفرجون على سقوط هؤلاء الشباب ثم ينقضّون عليهم بكل بطش وقسوة ويصفونهم بأشنع الأوصاف مع أن بعضاً منهم - يمتلك نيّة حسنة لكنه- مخدوع ومضلَّل ومأخوذ بسذاجة، ولو قُدِّر لأيدي أمينة أن ترعاه وتحتضنه وتوجهه لما سقط في هذه الهاوية وأفقد الأمة عدداً لا يستهان به من الشباب الذين هم البنية التحتية الحقيقية للبلد .
كما أن الأداء السيئ للحكومة وفشلها في توفير أبسط حقوق الحياة الكريمة للإنسان ساهم في نشوء هذه الحركات من جهتين:-
(الأولى): إنه أوجد حالة من الاستياء والنقمة في النفوس مما هيأ مناخاً ملائماً للتفاعل مع أي دعوة للتمرد والانقضاض على مؤسسات الدولة بحجة الإصلاح واستعادة الحقوق.
(الثانية) إنه أعطى الفرصة لرؤوس الضلال أن يفرقوا بين الناس والمرجعية لأنها دعمت العملية السياسية التي أفرزت الحكومة فكان من اليسير تنفير الناس من المرجعية بتحميلها مسؤولية فشل المتصدين لإدارة البلد، ومع أن المرجعية لم تؤدِ هذا الدور مع ما فيه من تضحيات إلا لأن فيه مصلحة البلاد والعباد وليس لها مطمع في شيء وبذلت قصارى جهودها في توجيه الناس لما ينفعهم. التحديات)).
وبعد ان هذا الخطاب عبارة عن ملحمة متكاملة امتزجت فيها العاطفة والفكر والواقع وأثارت أسئلة جديدة وجريئة تنتظر من يجيب عليها,والى ذلك الحين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النظر إلى ما قيل
اليعقوبي ...والخطاب الأخير
علي حسين فرج
22\2\2008
ما أسوء حالنا إذا كنا نحن العراقيين نتصف بما قاله الوردي ذات يوم"إن العراقي، سامحه الله، أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته ولكنه، في نفس الوقت، من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته..انه اقل الناس تمسكا بالدين وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية. فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى"..
لكن وبعد نصف قرن تقريبا -وهنا المفارقة- نجد أنفسنا محصورين بين نبوءة الوردي وسندان الواقع لان هذا الأخير أي الواقع هو المخبر الحقيقي عن سلوكيات الإفراد وبالتالي المجتمع ،والذي يبين بشكل واضح لا شك فيه إننا وليس غيرنا هو المخاطب في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات12.
أسوق هذه المقدمة التي قد تزعج البعض- ولكن( للواقع سحر لا يقاوم) ويجب إلا نخجل من الاعتراف بالحقيقة أو مواجهتها-كي ادخل للموضوع الذي انوي الحديث عنه وهو الخطاب الأخير لآية الله العظمى الشيخ اليعقوبي(دام ظله) في مواكب الوعي الطلابي الحسيني ،الخطاب فقط دون النظر الى من قال مثلما تعلمنا من أمير المؤمنين "ع" الذي نطق كلمته الرائعة عند مصادفته لأشخاص يمتلكون صفات مشابهة لصفات مجتمعنا الحالي ،مجتمع يحاكم الأشخاص دون أقوالهم بغظ النظر عن حسن او قبح تلك ألأقوال.
وخوفا من التباس القصد أرجو إلا يفهم من كلامي إني أتباهى بالخطاب وتقنياته دون صاحبه على العكس فهو المرجع الشاهد وكفى ولكنها رسالة موجهة الى كل من يشملهم قول الله تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }يس30.
على أي حال سأقدم بعض ملاحظاتي عن خطاب المرجعية الأخير والتي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:-
1-حداثة الأسلوب
ابتدأ اليعقوبي خطابه المباشر والموجه الى أساتذة وطلبة الجامعات والمعاهد العراقية الذين حجوا الى كربلاء الحسين"ع" ومن خلالهم الى المجتمع العراقي ،ابتدأ حديثه مذكرا بمأساة كربلاء ولكن بلغة أخرى ممتعة وبليغة ولا تبقي عذرا الى كل من ينظر الى ما يقول،ما يقوله فقط إلا أن يستشعر كربلاء وجدانيا وفكريا بأسلوب أدبي رفيع يشبع الظمأ ويقطع السنة المتقولين بان الخطاب الديني عصيا على التحديث.
اليوم فعلها اليعقوبي مثلما فعلها قبله الشهيد الصدر ود.شريعتي وسيد قطب واعني الاستخدام اللغوي الصحيح الذي ينسجم وطبيعة المرحلة من اجل إغراء الآخرين وإقناعهم بأحقية المشروع الإسلامي خصوصا اذا علمنا ان زماننا هو زمن الصورة بامتياز وبالتالي فان الكلمة القوية والممتعة فقط هي من يستطيع الصمود أمام التقنيات الحديثة كالقنوات الفضائية مثلا وهذا ما أكده صاحب الفقه الاجتماعي في خطابه فيقول(( نعم قد تتنوع آليات العمل وشكل الخطاب بحسب اختلاف الزمان والمكان وتباين مستويات المجتمع البشري)).
2-التركيز على المستقبل
كان الاستهلال صادما لأنه يحكي عما يجب فعله في هذه اللحظة كي نظفر بنصرة الحسين"ع" وهو جواب عن السؤال الكبير ما هو الدور المناسب الذي يمكن ان نقوم به اذا كانت كل أرضا كربلاء وكل يوما عاشورا؟؟.
إذن الميزة الاخرى في الخطاب انه يتحدث عن المستقبل .و(المستقبل هو المحرك الرئيسي للفرد) بتعبير الشهيد الصدر"قدس".وسأورد بعض الأمثلة من الخطاب:-
1-..تضمّنت واقعة كربلاء فصولاً مأساوية عديدة تركت جمرة في قلوب المؤمنين ، و ذوي الضمائر الحية لا تنطفئ أبداً، وستظل تنبض في عروقهم بروح الثورة ضد الطغاة والمستبدين و اللئام و منتهكي حقوق الإنسان في أن يعيش حياة حرة كريمة، و ستبقى هذه الجذور المباركة وتزداد اتقاداً حتى يأذن الله تبارك وتعالى بإقامة دولة الحق والعدل والمثل العليا...
2-إن دوراً بهذه الأهمية لا يقف عند حدود ما أدّته العقيلة زينب والهاشميات ومعهن الإمام السجّاد (عليه السلام) وإن وفوا بما عليهم وإنما يستمر في تحريك المصلحين وطلاب الحقيقة والتواقين للكمال ولإقامة الحق والعدل والسلام والحرية وكل المثل الإنسانية العليا في كل جيل ما دامت الأهداف لم يكتمل تحقيقها وما دامت الانتهاكات التي قام بها يزيد بن معاوية موجودة والتي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) للاحتجاج عليها والمطالبة بإصلاحها وهي كثيرة كالاستبداد والاستئثار وإهدار المال العام و تسلط الفاسدين وقتل الأبرياء وخنق الحريات وتعطيل العمل بالقانون والتجاهر بالشذوذ الجنسي مع المحارم والحيوانات إلى آخر القائمة الطويلة.
ان هذه الفقرات تبين بوضوح حرص المرجع على استحضار مشاكل الزمن الحاضر وكيف يمكن ان يساهم الماضي في صناعة المستقبل، بمعنى ان التراث مهما كان مقدسا يجب ألا نستذكره من اجل التبرك فقط وإنما يجب استخدام مكانته الكبيرة في صناعة التقدم والحضارة.
3-الفهم المتجدد للقضية الحسينية
نعم ان قضية الحسين "ع" رغم واقعيتها فقد تخطت حدود الزمان والمكان ولا يمكن خنقها او تاطيرها لأنها لامست فطرة الإنسان وحاجاته الضرورية وسيبقى أحرار العالم رغم اختلاف انتماءاتهم يستلهمون من الحسين"ع" الصبر والثبات على المبادئ مهما كانت التضحيات .ولكن كربلاء - حصلت في العراق ودونت في تاريخ المسلمين وعلينا تقع المسؤولية بالمرتبة الأولى .بالتحديد هذا هو تكليفنا اتجاه عاشوراء ولا بد من تأدية الأمانة بدقة ..
في احد المرات نقل لي احد أصدقائي الكبار الحكاية التالية : قبل خمسين عاما دخلت المسجد وسمعت الخطيب يقول لقد جعجع الحر بالحسين وقبل أيام دخلت المسجد أيضا فسمعت نفس العبارة ولكن من شخص أخر وهنا انتفض صديقي (العلماني بامتياز) قائلا لا اعلم السر من عدم القدرة على تطوير الخطاب خصوصا بعد التحولات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية الكبيرة .
هذا التساؤل الكبير أجاب عنه الشيخ اليعقوبي"دام ظله" في خطابه الخالد بشكل جريء ذكرنا بخطاب المحنة للشهيد الصدر "قدس" فيقول((هذا ما يجب أن نوصله إلى جميع الناس من خلال شعائرنا ومجالسنا ومحاضراتنا، إذ لم يعد مقنعاً للآخرين خصوصاً الذين يعرفون المنزلة الرفيعة لأهل البيت (عليهم السلام) أن نفسّر لهم ثورتنا وغضبنا وتفجُّرَ عواطفنا هو لأجل أن رجالاً قتلت أو نساءً سبيت أو أطفالاً ذبحت أو شباباً أزهقت أرواحهم قبل أن يتهنوا بالعرس أو لأنهم حرموا من الماء المباح حتى قضوا عطاشى، وإنما لم يعد مقنعاً لأنهم يرون هذه الكوارث تحل بالعراقيين يومياً فيقتل الأبرياء وتلقى الجثث في العراء حتى تأكلها الوحوش وتقطع الرؤوس ويحرم الشاب من كل حقوقه في الحياة وليس الزواج فقط وتهجر مئات آلاف العوائل وتمارس كل أنواع الجرائم وتسرق أموال الشعب الذي يموت جوعاً ويعاني من تردي الأمن وخدمات الصحة والتعليم والغذاء وانتهاك للكرامة والحقوق والحريات فالأولى - من وجهة نظر الآخرين - أن نبكي ونثور ونغضب لحالنا وليس فقط لما جرى على الحسين وآله في كربلاء)).
4-تحفيز الطاقة الكامنة
هذه المهمة الشاقة والمسؤولية الكبيرة بحاجة الى رجال بمستوى التكليف يؤمنون بالإسلام كشريعة قادرة على إنقاذ البشرية من تصدعها العظيم ،لا يعرفون الملل او الخوف مهما كانت التحديات ،فهموا قضية الحسين"ع" واستوعبوا حركته مثلما يعرفون واقعهم وحاجاته اللامتناهية. وبدأ سماحته يحفز الطاقات الكامنة في نفوس الأساتذة وطلبتهم من اجل إعادة الثقة المستلبة وتذكيرهم بموقعهم الريادي، فالأمة تنظر إليهم وتنتظر منهم الحلول للخروج من التيه و((مَن أولى منكم بتفعيل هذه الحركة المباركة لتحرير الإنسان من أغلال الذل والهوان والحرمان، فأنتم رواد البناء والإعمار وإصلاح ما خرّبته الأنظمة الطاغوتية في هذا الوقت الذي تشتد الحاجة اكثر ما يكون الى الاعمار والخدمات . وأنتم من تستحقون قيادة البلد نحو الازدهار وليكون في مصاف الدول المتقدمة...وأنتم منطلق الوحدة الوطنية لتنفخوا في جسد العراق حب الوطن وروح المواطنة بعد أن مزّقته الطائفية والقومية والأنانية والحزبية والفئوية والأجندات التخريبية... ومنكم النخب والكوادر المتقدمة التي تستحق قيادة المجتمع وإدارة البلاد)).
5-الواقعية في الطرح
ان الشيخ اليعقوبي "دام ظله" وفي اكثر من مناسبة يدعو الجميع الى الاعتراف بحقيقة الواقع مهما كانت مؤلمة وتوفير السبل الكفيلة مواجهة هذا الواقع بعيدا عن الشعارات والوعود المزيفة . اذكر وفي احد لقاءاته مع طلبة الحوزة العلمية ذكرهم بموقف الصحابي الجليل سلمان الفارسي "ر ض" عند اعتراض الناس عليه وهو يقوم بادّخار الطعام فقال (ان النفس اذا أحرزت رزقها اطمأنت)،واليوم يكرر نفس المقولة ولكن بلغة اخرى عندما ناشد المجتمعين قائلا((ولكم بعد ذلك مطالب وحقوق واحتياجات فاغتنموا هذه الفرصة لإعلاء صوتكم بالمطالبة بتحقيقها تبدأ من تكريم الأساتذة وحمايتهم وتوفير أسباب الحياة الكريمة اللائقة بهم إلى تطوير الجامعات وتحديث الوسائل التعليمية والمختبرات لتواكب الجامعات العالمية المرموقة مروراً بدعم الطلبة بمخصصات شهرية تعينهم على مواصلة الدراسة ولا تنتهي عند تحسين أوضاع الأقسام الداخلية وغيرها)).
6-التحليل الاجتماعي لمشاكل الأمة
لقد شخص سماحة المرجع الأسباب الحقيقية وراء نشوء الحركات المهدوية بعيدا التخوين او عقلية المؤامرة التي أصبحت هي المشغّل الرئيسي للكثير من العقول العراقية وبالتأكيد ان هذه العقليات لا تستطيع الاقتراب من المشكلة وبالتالي فهي عاجزة عن إيجاد الحلول المناسبة لها.
ان ما قام به سماحة الشيخ اليعقوبي"دام ظله" هو الحفر في جذور المشكلة وتشخيص المغذيات الرئيسة لها فيقول((وما الحركات المدّعية للارتباط بالإمام المهدي الموعود (عليه السلام) زوراً وبهتاناً إلا واحدة من تلك المشاريع التي ما كانت لتنمو وتجد لها أتباعاً يقتنعون بآرائها الضحلة والمتناقضة لولا الجهل وفقر الثقافة والوعي والسذاجة المتفشي لدى أوساط عديدة من المجتمع مما يوجب على المفكرين والخطباء والأساتذة والعاملين الرساليين أن يقودوا حركة علمية فكرية واسعة لانتشال شبابنا من الضياع والضلال والخسران المبين بإتباع تلك الأجندات الشريرة، فليس صحيحاً أن يبقى أهل الحل والعقد يتفرجون على سقوط هؤلاء الشباب ثم ينقضّون عليهم بكل بطش وقسوة ويصفونهم بأشنع الأوصاف مع أن بعضاً منهم - يمتلك نيّة حسنة لكنه- مخدوع ومضلَّل ومأخوذ بسذاجة، ولو قُدِّر لأيدي أمينة أن ترعاه وتحتضنه وتوجهه لما سقط في هذه الهاوية وأفقد الأمة عدداً لا يستهان به من الشباب الذين هم البنية التحتية الحقيقية للبلد .
كما أن الأداء السيئ للحكومة وفشلها في توفير أبسط حقوق الحياة الكريمة للإنسان ساهم في نشوء هذه الحركات من جهتين:-
(الأولى): إنه أوجد حالة من الاستياء والنقمة في النفوس مما هيأ مناخاً ملائماً للتفاعل مع أي دعوة للتمرد والانقضاض على مؤسسات الدولة بحجة الإصلاح واستعادة الحقوق.
(الثانية) إنه أعطى الفرصة لرؤوس الضلال أن يفرقوا بين الناس والمرجعية لأنها دعمت العملية السياسية التي أفرزت الحكومة فكان من اليسير تنفير الناس من المرجعية بتحميلها مسؤولية فشل المتصدين لإدارة البلد، ومع أن المرجعية لم تؤدِ هذا الدور مع ما فيه من تضحيات إلا لأن فيه مصلحة البلاد والعباد وليس لها مطمع في شيء وبذلت قصارى جهودها في توجيه الناس لما ينفعهم. التحديات)).
وبعد ان هذا الخطاب عبارة عن ملحمة متكاملة امتزجت فيها العاطفة والفكر والواقع وأثارت أسئلة جديدة وجريئة تنتظر من يجيب عليها,والى ذلك الحين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليق