بسم الله الرحمن الرحيم
استيفاء المقال في رواية الخصال
استيفاء المقال في رواية الخصال
جاء في كتاب الخصال للشيخ الصدوق 2 : 639 ـ 640 برقم 15
تحت عنوان (كان أصحاب رسول الله (ص) اثني عشر ألف رجل)
جاء نص الرواية كما يلي:
حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أصحاب رسول الله (ص) اثني عشر ألفًا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم يُرَ فيهم قدريٌّ، ولا مُرجئٌ، ولا معتزليٌّ، ولا صاحب رأي. كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: اقبض أرواحنا قبل أن نأكل خبز الخمير
انتهى بنصه من الخصال.
وعنه في بحار الأنوار 22 : 305 برقم 2 في باب8 فضل المهاجرين والأنصار
وقد طُرحت هذه الرواية في بعض المنتديات؛ بغية الطعن على عقيدة أتباع أهل البيت في الصحابة، وقد تمت الإجابة عنها من بعض الأفاضل، إلا أنني أريد أن أسهم بدوري في الإجابة، وأسأل الله التوفيق.
أقول:
نحتاج إلى معرفة عدة مقدمات لفهم الإجابة، ففيما يلي المقدمات باختصار، ثم تليها الإجابة:
مقدمات الإجابة:
المُقدِّمة الأولى: أنَّ الإجابة تكون تارة على مباني أهل السنة؛ وذلك حين يكون الغرض إقامة الحجة عليهم، حيث أنهم لا يقتنعون بالنتيجة المبنية على أسس لا يقبلونها.. وتكون تارة على مباني الشيعة لدفع الشبهة عنهم، إذ ما يلتزمون به كاف من أجل تبرير موقفهم في المواطن التي يتم توجيه التهمة إليهم، وإذا أضيف إلى ذلك الدفع من خلال مباني المخالف أيضًا؛ فهذا ممَّا يكمِّل عملية الإقناع..
المُقدِّمة الثانية: أنَّ الروايات تنقسم إلى قسمين: آحاد ومتواترات، والمقصود من الآحاد ما لا يفيد القطع، بل يفيد الظن، بغض النظر عن مستوى الظن. والمقصود من المتواترات ما أفاد القطع بثبوت المضمون المنقول..
المُقدِّمة الثالثة: ما يفيد الظن (روايات الآحاد) لا يتمُّ الاستناد إليه لتكوين نظرة علمية؛ لأنَّ العلم يتطلَّب مضمونًا قطعيًّا، وإنما يتمُّ التمسُّك بالروايات الظنية في الفقه الإسلامي لثبوت كونها حجة في المجال الفقهي على نحو خاص، وهذا لا يستلزم التعميم على مجال العقيدة والتاريخ.
المُقدِّمة الرابعة: أنَّ صحَّةَ الإسناد لا تعني بالضرورة صحَّةَ الحديث؛ إذ تُشترط في صحة الحديث سلامة السند مع المتن جميعًا من الضعف، فربَّ إسناد صحيح لمتن ضعيف، ورُبَّ إسناد ضعيف لمضمون صحيح..
المُقدِّمة الخامسة: الحديث الصحيح من قسم الآحاد، وبالتالي فغاية ما يفيده هو الظن، وهذا الظن قد يكون بمستوى عال بسبب خصائص معيَّنة في الإسناد والمتن، وقد يكون بمستوى دان بسبب خصاص معيَّنة كذلك، وقد ينزل مستوى احتمال ثبوت المضمون إلى الضعف الشديد بسبب خصائص معينة بالرغم من الصحَّة الإسنادية.
المُقدِّمة السادسة: أنَّ تقييم السند يتمُّ من خلال علم الرجال والحديث، فيُعرف كونه صحيحًا أو ضعيفًا، وتقييم المتن يتمُّ من خلال عرضه على القرآن الكريم، وعرضه على السنة الثابتة، وعرضه على الثوابت القطعيَّة الأخرى..
تلك كانت مقدِّمات نحتاجها في فهم الإجابة بصورة جيدة.. وإلى الإجابة:
أولاً الإسناد:
لم تُرْوَ هذه الرواية بغير هذا الإسناد في كتبنا، وليس للحديث مصدر في كتب الشيعة غير كتاب الخصال، والبحار ينقل عنه.. وأمَّا كتب أهل السنة فلا أثر للرواية فيها. وهذا الإسناد صحيحٌ، ولكن هذا لا يجدي في الحكم على الرواية بالصحة إلاَّ بعد الفراغ من صحَّة المتن، وستعلم فيما يلي عدم صحَّته.
ثانيًا المتن:
تتضمَّن رواية الخصال كلامًا عن عدد الصحابة.
وفيما يرتبط بذلك؛ يمثِّل الرقم 12000 ما يقرب من عُشر العدد 114000، فالرواية تذكر أن الصحابة كانوا 12000، في حين أنَّ المصادر السنِّية تذكر أنهم كانوا أكثر من 114000 [انظر فتح المغيث للسخاوي 3 : 121] ، ولذا يقول ابن حجر في مقدمة الإصابة 1 : 154 إنَّ مجموع ما حصل لديه ولدى غيره من أسماء الصحابة لا يبلغ عُشر عددهم الحقيقي، علمًا أن عدد الصحابة الذين ترجم لهم ابن حجر في الإصابة لا يبلغ 12500 صحابيٍّ.
فمضمون الرواية إمَّا بصدد ذكر عدد الصحابة الكلي، فهو مضمون غير صحيح، ولا يمكن القبول به في ضوء معطيات التاريخ الواضح.
وإمَّا أنَّه بصدد التعريف بعدد الصحابة المخلصين، وهو ما يستلزم القول بإسقاط أكثر من تسعة أعشار الصحابة من مرتبة الصلاح، وهذا ما لا يقبله السني، فالرواية عنده على كلا الوجهين باطلة.
وأمَّا على مباني أتباع أهل البيت عليهم السلام؛ فالإشكالية لا تكمن في إسقاط معظم الصحابة من مرتبة الصلاح، ولكنها تكمن في وصف 2000 شخص من الطلقاء بالصلاح، إذ هذا يحتمل فيه الوجهان نفسهما:
فإمَّا أنَّ الرواية بصدد تنزيه جميع الطلقاء ووصفهم بالصلاح، باعتبار أنَّ مجموعهم كان 2000 شخص.
وإمَّا أنَّ الراوية بصدد إسقاط جميع الطلقاء عن مرتبة الصلاح ما عدا ألفَي شخص فقط.
فعلى الوجه الأوَّل يكون هذا المضمون باطلاً؛ لأنَّ مجموع الطلقاء يدور بين أن يكون أكثر من هذا أو أقل من هذا؛ أما احتمال أن يكون أكثر من هذا؛ فلأن الذين خرجوا مع النبي من الطلقاء إلى حنين يُقدَّرون بـ 2000 ، باعتبار أنَّ الذين وافوا مع النبي في فتح مكة يقدَّرون بـ 10000 ، والذين خرجوا معه إلى حنين يُقدَّرون بـ 12000 ، فيظهر أن الزيادة بفعل انضمام الطلقاء، وإذا كان الخارج منهم إلى المعركة بهذا العدد، فنقطع بالزيادة لأنه ليس من المفترض أن يخرج جميع الطلقاء، فلا ريب من وجود أصحاب الأعذار، والنساء، أضف إلى ذلك ضعفاء الإيمان، خصوصًا أنَّ القوم إنما دخلوا الإسلام كرهًا وتحت إكراه السيف..
أمَّا احتمال أن يكونوا أقل؛ فلأنَّ ابن حجر نص أنَّ الطلقاء أقل من عشر عشر الـ10000، أي أقل من 100!!! [فتح الباري 8 : 44]، ولو افترضنا أن هناك خللاً طباعياً بزيادة كلمة (عشر) الأولى في عبارة ابن حجر، ستكون النتيجة نفي بلوغ العشر، أي أقل من 1000.
فانحصر التقدير بين الزيادة والنقيصة، وكلا الوجهين يُخطِّئ مضمون روايتنا حسب الوجه الأوَّل في تفسيرها.
ويَرِدُ على هذا الوجه أيضًا: أنَّ من معطيات التاريخ القطعي ـ عند الشيعة على الأقل ـ أنَّ معظم الطلقاء لم يكونوا بذاك المستوى من الخيرية، وفي صحيح البخاري 4 : 1575 ومسلم 2 : 735 أنَّ جميع الطلقاء فرُّوا في معركة حنين.
أمَّا على الوجه الثاني، أي بتفسير أنَّ المراد من الـ2000 هم أهل الصلاح من الطلقاء، دون سائر الطلقاء، فهذا يصطدم مع:
1 ـ نظرية أهل السنَّة في عدالة عموم الطلقاء الصحابة وحسن إسلامهم، وحينئذ فلا معنى لتخصيص الـ2000 بالثناء دون البقية.
2 ـ الوجه الذي ذكره ابن حجر من كون الطلقاء أقل بكثير من هذا العدد، وقد أشرنا إليه سابقًا.
3 ـ استبعادنا أن يكون في مجتمع الطلقاء هذا القدر الكبير من أهل الورع والتقوى والزهد، فإنَّ متابعة سيرة المهاجرين تُعطي أنهم لم يسلموا من فتن الدنيا، والمخالفة والابتداع، فما بالك بالطلقاء؟
هذا كله فيما يرتبط بثناء الرواية على هذا العدد من الطلقاء.. وإذا غضضنا الطرف عن هذا الجانب المشكل من الرواية؛ فإننا بين أمرين:
إمَّا أن نقول بكون الرواية بصدد الدلالة على صلاح هؤلاء الصحابة في خصوص ما قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وإمَّا أن نقول بكونها بصدد الدلالة على الصلاح ما بعد ذلك أيضًا.
أمَّا على الوجه الأوَّل، فالرواية لا تفيد في محلِّ النزاع، إذ المختلف فيه هو ما إذا كان الصحابة أحدثوا بعد النبي فيما يرتبط بإمامة أهل البيت عليهم السلام أم لا، فلا يستبعد أن يكون ذلك المجتمع الذي كان على مستوى من الالتزام في عهد النبي؛ أخذ في التقهقر بعد فراقه في ظل عوامل الانحراف الضاغطة..
وأمَّا على الوجه الثاني، فالرواية تتعارض مع الثابت بالقطع عند أتباع أهل البيت من أنَّ عليا عليه السلام استُضعف، واغتُصبت الخلافة، فلو كان هناك اثنا عشر ألف صحابي بهذا المستوى من الورع والارتباط بالله تعالى، لما كان ثمة مجال لأن ينجرفوا بهذه السذاجة في مؤامرة السقيفة وتبعاتها السخيفة..
إلاَّ أن يُقال بكون هذا الصلاح كان مُجرَّد ارتباط روحي، لكن مجرَّدًا عن النضج الإيماني الذي يستلزم الارتباط الولائي مع إمام المتقين عليه السلام، وحينئذ فالرواية بصدد الكلام عن انتفاء الأغراض السيِّئة في شريحة كبيرة من الصحابة، بغض النظر عن مواقفهم الإيجابيَّة أو السلبيَّة إزاء مسألة الولاء والولاية.. إلا أنَّه يبقى تصديق ذلك بالنسبة إلى ألفي رجل من الطلقاء مُستبعدًا جدًا، وأنا أنصح قارئي الكريم أن يُطلَّ إطلالة سريعة على أحداث فتح مكة في كتاب تاريخي، مثل الكامل في التاريخ لابن الأثير، ليرى بنفسه وجه الاستبعاد..
الخلاصة:
أن الرواية بالرغم من صحَّتها السنديَّة، إلا أنَّ متنها مُبتلًى بعدة إشكاليات:
1 ـ فالمراد بالـ12000 إن كان جميع الصحابة؛ فهذا غير صحيح قطعًا لمعارضته للمعلوم من كونهم كانوا أكثر من هذا بكثير.. أضف إلى ذلك أنَّ صلاح جميع الصحابة يتعارض مع المقطوع به تاريخيًا من حال الصحابة عن أتباع أهل البيت عليهم السلام.
2 ـ وإذا كان المراد بالـ12000 بعض جيل الصحابة، فهذا يتنافى مع معتقد أهل السنة؛ حيث تكون الرواية بصدد إسقاط صفة الصلاح عن الغالبية العظمى من الصحابة. كما أنه يتنافى مع معتقد الشيعة حيث لا يلتئم مع الثابت عندهم بالقطع من أنَّ تخاذل جيل الصحابة وعدم تمسكهم بولاية أهل البيت كان السبب في خروج الحق عن أهله؛ ولو كان هناك اثنا عشر ألف صحابي من أهل الصلاح لنصروا الحق وكانوا من أهل الولاية..
3 ـ كما أن المراد من عدد الطلقاء إذا كان تحديد جميعهم بهذا العدد، فهو خطأ قطعًا، لأنَّهم إما أكثر من ذلك، أو أقل، ووجه الأكثرية يتضح من خلال ملاحظة فارق الجيش الإسلامي ما قبل وما بعد فتح مكة، ووجه الأقلية يتضح من خلال تصريح ابن حجر في فتح الباري.
4 ـ أمَّا إذا كان المراد ذكر من صلح منهم، فهذا يتنافى مع المعتقد السني في صلاح عمومهم، كما يتنافى مع الارتكاز القطعي عند الشيعة من كون الطلقاء لم يكن فيهم هذا القدر من أهل الصلاح.
فالرواية كادت أن تكتسب نصيبًا من الثبوت الظني بصحة الإسناد، لكن مضمونها سقط إلى الضعف الشديد بسبب ما تكتنفه من إشكاليات..
وأحتمل أنَّ في الرواية خللاً لفظيًّا ما، لو تمَّت معرفته لاستطعنا استنقاذ الرواية من الإشكاليات، ولكن ما دام ذلك متعسِّرًا، وربما متعذِّرًا، فلا محيص من اطِّراح الرواية، وردِّ حقيقة الصواب فيها إليهم عليهم السلام، وليس بأيدينا إلاَّ التوقُّف المساوق لسقوط إمكان الاحتجاج بها والاستناد إليها.
والحمد لله أوَّلاً وآخرًا.