بسم الله الرحمن الرحيم
وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ويبقى حديث الإفك حديثاً ذا شجون الذي أخرجه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمصنّفات والمعاجم والمستخرجات والسير والمغازي والتواريخ والتراجم والتفاسير، وبألفاظ متقاربة حتّى أصبح رمي عائشة بالإفك ونزول براءَتها من السماء من المسلّمات التي لا يمكن التشكيك فيها والمساس بمدى صحّتها.
ولكنّ التحقيق العلمي والدراسة المتجرّدة من الأهواء لا يساعدان على التسليم بصحّة ذلك والتصديق به، وذلك للأسباب الآتية:
أوّلا: ادّعاء أُمّ المؤمنين في روايتها أنّ الحادثة كانت بعد رجوعهم من غزوة بني المصطلق، وهذه الغزوة وقعت في أواخر سنة خمس من الهجرة بعد غزوة الخندق بشهرين أو ثلاثة أشهر، ثمّ ذكرت في روايتها أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتزلها شهراً ـ وفي لفظ: سبعة وثلاثين يوماً ـ ثمّ نزلت براءتها من السماء في سورة النور.
إلاّ أنّ ما ذكرته أُمّ المؤمنين لا يمكن قبوله بوجه من الوجوه، لأنّ المعروف أنّ سورة النور نزلت في أواخر سنة ثمان على قول، أو أوائل سنة تسع من الهجرة على قول آخر، جملة واحدة، والمقطوع به أنّها نزلت بعد سورة النصر(1) ، وسورة النصر نزلت بعد فتح مكّة كما هو ثابت.
فأيّ شهر ذاك الذي بعده نزلت براءة أُمّ المؤمنين في ما ادّعت من السنين الثلاث؟! تلك المدّة التي بين الرجوع من غزوة بني المصطلق ونزول سورة النور!
وهذا وحده كاف لنسف رواية أُمّ المؤمنين من أساسها، ولكن لا بأس في متابعة بقية فصول الرواية لنرى ماذا فيها!
ثانياً: ادّعاؤها حضور أشخاص في الحادثة لا يمكن حضورهم بأيّ وجه من الوجوه، فقد ادّعت أنّ الذي وجدها عندما تركها الجيش وأتى بها هو صفوان بن المعطّل، وقد كان في هذا الوقت صبياً لا يمكن أن يكون حاضراً في هذه الغزوة، لأنّه مات بشمشاط وهو ابن بضع وستّين كما في
(1) الإتقان ـ للسيوطي ـ ج 1 ص 31، البرهان في علوم القرآن ـ للزركشي ـ ج 1 ص 194.
معرفة الصحابة(1) ، وقد مات سنة 60 هـ وبه جزم الطبري(2) ، وقيل: سنة 58 كما في أُسد الغابة(3) ، وعلى كلّ حال فعمره آنذاك مردّد بين خمس إلى تسع سنوات، فليس من المعقول حضوره ذلك اليوم.
ثالثاً: ادّعاؤها حضور سعد بن معاذ في الحادثة، ولكنّه غير تامّ، لأنّ سعد بن معاذ استشهد في غزوة الخندق وقبل حادثة الإفك(4) .
رابعاً: ادّعاؤها حضور عبيد الله بن جحش وخوضه في الإفك، وهذا لا يتمّ أيضاً، لأنّ عبيد الله بن جحش هاجر إلى الحبشة مع زوجته أُمّ حبيبة، زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد عبيد الله، وتنصّر هناك ومات، كما هو ثابت(5) ، فكيف يمكن حضوره وخوضه في الإفك؟!
خامساً: ادّعاؤها أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدى سيرين أُخت ماريّة إلى حسّان بن ثابت إرضاءً له بعد أن ضربه بالسيف صفوان بن المعطّل عندما أراد قتله بسبب خوضه في حديث الإفك، وحضور سيرين في هذه الحادثة غير تامّ، لأنّ المقوقس أهدى ماريّة وأُختها سيرين إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الحديبية ومجيء سيرين كما في سنة 8 هـ(6) ، وقيل سنة 7 هـ(7) .
(1) معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ج 3 ص 1499.
(2) انظر: الإصابة ج 3 ص 442.
(3) أُسد الغابة ج 2 ص 412.
(4) صحيح البخاري ج 5 ص 244 ح 158، صحيح مسلم ج 5 ص 160، مسند أحمد ج 6 ص 56، و ص 141 ـ 142.
(5) مسند أحمد ج 6 ص 427، سنن أبي داود ج 2 ص 241 ح 2107، المعجم الكبير ج 23 ص 219 ح 402.
(6) مستدرك الحاكم ج 4 ص 41 ح 6819، أُسد الغابة ج 6 ص 261، تاريخ الخميس ج 2 ص 38.
(7) طبقات ابن سعد ج 8 ص 170، الإصابة ج 8 ص 111.
سادساً: وممّن خاض في الإفك زيد بن رفاعة، وهذا لا يصحّ أيضاً، لأنّه مات في المدينة أثناء الغزوة وعندما رجع المسلمون وجدوه ميّتاً(1) .
سابعاً: في بعض طرق الحديث مواضع أُخر للنظر لا يمكن قبولها بوجه أو السكون إليها، بل ينطح بعضها بعضاً.
منها: ادّعاؤها بأنّها تأخّرت تبحث عن عقدها الذي سقط منها، ثمّ تركها الجيش ونسوها بأجمعهم بما فيهم زوجها، ومن طريق آخر أنّ الجيش تأخّر معها يبحث عن العقد وبظروف صعبة من قلّة الماء، إلاّ أنّ الله عزّ وجلّ ـ وهو الرؤوف الرحيم ـ ساعدهم في حلّ هذه المشكلة والتي تفاقمت أثناء البحث عن العقد، فأنزل آية التيمّم ببركة عائشة وآل أبي بكر.
وبسبب هذا التناقض اضطرّ ابن حجر إلى أن يستظهر أنّ العقد ضاع منها في غزوتين مختلفتين، ولكن هيهات.
ومنها: ادّعاؤها بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الجيش أن يتقدّم، ويتأخّر هو وعائشة حتّى يجري سباقاً معها، وجرى السباق، وفاز نبيّ العظمة وهيكل القداسة، وقال لها: هذه بتيك، لأنّهما كانا قد تسابقا قبل هذا السباق وفازت هي، ولا أدري هل كان نوع السباق 100 متر حرّة أو 110 متر موانع مختلط؟!
وسبب خسارتها في السباق أنّها كانت بدينة، وأنّ اللحم قد رهقها على حدّ قولها، ولكن في نفس الوقت تدّعي أنّ إحداهنّ كانت تأكل البلغة، بحيث لم يفرّق صفوان عندما حمل المحمل إن كانت فيه أم لا لخفة
(1) السيرة الحلبية ج 2 ص 600 وغيرها.
وزنها، فأيّ القولين نصدق؟!
ومنها: أنّها وصفت سعد بن عبادة بقولها: وقد كان قبل ذلك رجلا صالحاً ; ولا يخفى على المتتبّع اللبيب أنّ انتهاء صلاحية سعد بن عبادة بسبب امتناعه عن بيعة أبيها.
وفي الرواية أيضاً ـ وإن شئت قل المسرحية ـ مواضع أُخر للتأمّل وتحتاج إلى مناقشة، كنزول آية الحجاب، ونزول آية التيمم، وكون صفوان ابن المعطّل ليس له إربة في النساء في الوقت الذي كانت له زوجة، ولكن ضربنا عنها صفحاً روماً للاختصار، وبما ذكرناه غنىً(1) .
ومن جانب آخر نجد أنّ ماريّة القبطية أُمّ ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتّهمت بالإفك مع ابن عمّ أو نسيب لها اسمه مأبور أو جريح أو غيره، ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّه ليس له ما للرجال فبرّأها الله تعالى على يد علي (عليه السلام) (2) ، والوقت الذي اتّهمت به ماريّة كان أثناء حملها بإبراهيم أو بعد ولادته، أي أواخر سنة 8 هـ أو أوائل 9 هـ، وعليه فإنّ حمل نزول آيات سورة النور على اتّهام ماريّة بالإفك هو الأوفق والأنسب في الحادثة، لأنّ نزول هذه
(1) راجع الحديث في: صحيح البخاري ج 4 ص 2 ـ 7 ح 27، و ج 5 ص 250 ـ 256 ح 171، وج 6 ص 186 ـ 192 ح 271 ومواضع أُخر، صحيح مسلم ج 8 ص 112 ـ 119، مسند أحمد ج 6 ص 59 و ص 194 ـ 198، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ج 23 ص 108 ـ 134 ح 150 ـ 168، مصنّف عبد الرزّاق ج 5 ص 410 ـ 419 ح 9748، مغازي الواقدي ج 2 ص 426، سيرة ابن هشام ج 4 ص 260 وما بعدها، تفسير الطبري ج 9 ص 278 ـ 283، حديث الإفك للحافظ عبد الغني المقدسي، وغيرهم.
(2) صحيح مسلم ج 8 ص 119، طبقات ابن سعد ج 8 ص 172 ـ 173، الاستيعاب ج 4 ص 1912، أُسد الغابة ج 6 ص 261، تاريخ الخميس ج 2 ص 38، شرح ابن أبي الحديد ج 9 ص 195.
الآيات كان في نفس الفترة، كما تقدّم، والظروف والملابسات التي رافقت اتّهام ماريّة هي الأنسب في حمل التبرئة النازلة في القرآن عليها.
وأمر مهمٌّ آخر يجدر بنا الإشارة إليه، وهو دور عائشة المهمّ في اتّهام ماريّة بالإفك، لما سنتلوه عليك.
روى الحاكم بإسناد صحيح وأقرّه الذهبي، عن عائشة (رض) ، قالت: أُهديت ماريّة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعها ابن عمّ لها.
قالت: فوقع عليها وقعة فاستمرت حاملا.
قالت: فعزلها عند ابن عمّها.
قالت: فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادّعى ولد غيره، وكانت أُمّه قليلة اللبن، فابتاعت له ضائنة لبون، فكان يغذّى بلبنها فحسن عليه لحمه.
قالت عائشة (رض) : فدخل به على النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم.
فقال: كيف ترين؟
فقلت: من غذّي بلحم الضأن يحسن لحمه.
قال: ولا الشبه.
قالت: فحمَلني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت: ما أرى شبهاً.
قالت: وبلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما يقول الناس، فقال لعلي: خذ السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عمّ ماريّة حيث وجدته.
قالت: فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً.
قال: فلمّا نظر إلى عليّ ومعه السيف استقبلته رعدة.
قال: فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله عزّ وجلّ له ما للرجال، شيء ممسوح(1) .
ـ وروى أبو نعيم في المعرفة نحوه وفيه: قالت عائشة: فلمّا استبان حملها جزعتُ من ذلك فسكت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ... فجاء به ذات يوم يحمله على عنقه، فقال: يا عائشة كيف ترين الشبه؟ فقلت وأنا غيرى: ما أرى شبهاً(2) .
ـ وروى ابن مردويه، عن أنس نحوه، إلاّ أنّها قالت: فلمّا استبان حملها فزعتُ من ذلك(3) .
ـ وروى علي بن إبراهيم بإسناد صحيح نحوه، وفيه: لمّا مات إبراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟! فما هو إلاّ ابن جريح... الحديث(4) .
ثمّ مات إبراهيم، فأبطنت عائشة شماتة وإن أظهرت كآبة، ووجم علي (عليه السلام) من ذلك وكذلك فاطمة، وكانا يؤثران ويريدان أن تتميّز ماريّة عليها بالولد، فلم يقدّر لهما ولا لماريّة ذلك، حكاه الشيخ أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني(5) .
فهذه الشواهد، وغيرها ممّا ورد في سورة التحريم عندما صغا قلبها وحفصة، وتظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهُدّدتا بالطلاق وإبدالهما خيراً منهما، وضُرب لهما مثلا امرأة نوح وامرأة لوط، والتي يستظهر منها عظم ما قامتا به، كلّ ذلك يفيدنا يقيناً بأنّ من رمي بالإفك هي ماريّة (رض)
(1) المستدرك ج 4 ص 41 ـ 42 ح 6821.
(2) معرفة الصحابة ج 6 ص 3248 ح 7489.
(3) الدرّ المنثور ج 8 ص 215.
(4) تفسير علي بن إبراهيم ج 2 ص 75.
(5) شرح ابن أبي الحديد ج 9 ص 195.
وهي التي نزلت براءتها من السماء في سورة النور.
وإنّ عائشة وحفصة ومن يدور في دائرتهما كان لهم دور في الاتّهام كما هو الظاهر من الأحاديث المتقدّمة عن الحاكم وابن مردويه وأبي نعيم وعلي بن إبراهيم، كما يظهر أنّ الذي تولّى كبره لا يخرج عن هذه الدائرة التي حدّدناها، والله من وراء ذلك محيط.
لله درُّكِ يا أُمّ المؤمنين ما أبعد مرماكِ، وأعمق غورك! فقد قلبت الأُمور رأساً على عقب، وأدرتيها من ذات اليمين إلى ذات الشمال!!
مسكينة أنتِ يا أُمّ إبراهيم، لقد ظُلِمتِ في حياتك وبعد مماتك وغُصِبْتِ حقّاً كان لك!
وبعد هذا ألا يحقّ لنا أن نقول: إنّ رواية عائشة في الإفك هي أعظم كذبة في التاريخ، إذا وضعنا نصب أعيننا عدد المصدّقين بذلك طيلة أربعة عشر قرناً، وعليه ماذا يتحصّل لدينا من باب الملازمة بين الكذبة وصاحبها، فضلا عن كونه كذبٌ على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين؟!
والحمد لله رب العالمين
وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
تعليق