بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
طرح بعض الزملاء المخالفين مؤخراً عدة مواضيع عن شبهة التقية وجوازها على الإمام عليه السلام دون النبي صلى الله عليه وآله
ولما لم تكن الشبهة من بنات أفكارهم بل شبهات شيطانية واهية تعرض لها قبلهم قاضي القضاة في كتابه المغني، فأجاب عليها الشريف المرتضى رحمه الله جواباً شافياً منذ حوالي ألف عام
ولما كان جوابه كافياً وافياً شافياً آثرنا نقله بتمامه لقوة بيانه ووضح برهانه
وفيما يلي نص كلامه رحمه الله وهو يتضمن الإشكالات والجواب عليها كما ذكرها في (الشافي في الإمامة ج4 ص105 وما بعدها)
فأما قوله: "إذا جازت التقية للأئمة وحالهم في العصمة ما تدعون جازت على الرسول صلى الله عليه وآله"
فالفرق بين الأمرين واضح لأن الرسول صلى الله عليه وآله مبتدئ بالشرع، ومفتتح لتعريف الأحكام التي لا تعرف إلا من جهته وبيانه، فلو جازت عليه التقية لأخل ذلك بإزاحة علة المكلفين، ولفقدوا الطريق إلى معرفة مصالحهم الشرعية التي قد بينها أنها لا تعرف إلا من جهته، والإمام بخلاف هذا الحكم لأنه منفذ للشرائع التي قد علمت من غير جهته، وليس يقف العلم بها والحق فيها على قوله دون غيره، فمن اتقى في بعض الأحكام لسبب يوجب ذلك لم يخل تقية بمعرفة الحق، وإمكان الوصول إليه، والإمام والرسول وإن استويا في العصمة فليس يجب أن يستويا في جواز التقية للفرق الذي ذكرناه، لأن الإمام لم تجز التقية عليه لأجل العصمة، وليس للعصمة تأثير في جواز التقية ولا نفي جوازها.
فإن قيل: أليس من قولكم: إن الإمام حجة في الشرائع؟ وقد يجوز عندكم أن ينتهي الأمر إلى أن يكون الحق لا يعرف إلا من جهته وبقوله، بأن يعرض الناقلون عن النقل فلا يرد إلا من جهة من لا تقوم الحجة بقوله، وهذا يوجب مساواة الإمام للرسول فيما فرقتم بينهما فيه.
قلنا: إذا كانت الحال في الإمام على ما صورتموه، وتعينت الحجة في قوله، فإن التقية لا تجوز عليه كما لا تجوز على النبي.
فإن قيل: فلو قدرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قد بين جميع الشرائع والأحكام التي يلزمه بيانها حتى لم يبق شبهة في ذلك ولا ريب، لكان يجوز والحال هذه عليه التقية في بعض الأحكام.
قلنا: ليس يمتنع عند قوة أسباب الخوف الموجبة للتقية أن يتقي إذا لم تكن التقية مخلة بالوصول إلى الحق، ولا منفرة عنه.
ثم يقال لصاحب الكتاب: أليست التقية عندك جائزة على جميع المؤمنين عند حصول أسبابها وعلى الإمام والأمير؟
فإن قال: هي جائزة على المؤمنين وليست جائزة على الإمام والأمير.
قلنا: وأي فرق بين ذلك والإمام والأمير عندك ليسا بحجة في شئ كما أن النبي صلى الله عليه وآله حجة فتمنع من ذلك لمكان الحجة بقولهما فإن اعترف بجوازها عليهما.
قيل له: فألا جاز على النبي صلى الله عليه وآله قياسا على الأمير والإمام؟
فإن قال: لأن قول النبي صلى الله عليه وآله حجة، وليس الأمير والإمام كذلك.
قيل له: وأي تأثير للحجة في ذلك إذا لم تكن التقية مانعة من إصابة الحق ولا مخلة بالطريق إليه؟ وخبرنا عن الجماعة التي نقلها في باب الأخبار حجة لو ظفر بهم جبار ظالم متفرقين أو مجتمعين فسألهم عن مذاهبهم وهم يعلمون أو يغلب في ظنونهم أنهم متى ذكروها على وجهها قتلهم، وأباح حريمهم، أليست التقية جائزة على هؤلاء، مع أن الحجة في أقوالهم؟
فإن منع من جواز التقية على ما ذكرناه دفع ما هو معلوم.
قيل له: وأي فرق بين هذه الجماعة وبين من نقص عن عدتها في جواز التقية؟
فلا يجد فرقا.
فإن قال: إنما جوزنا التقية على من ذكرتم لظهور الاكراه والأسباب الملجئة إلى التقية، ومنعناكم من مثل ذلك لأنكم تدعون تقية لم تظهر أسبابها ولا الأمور الحاملة عليها من إكراه وغيره.
قيل له: هذا اعتراف بما أردنا من جواز التقية عند وجود أسبابها.
وصار الكلام الآن في تفصيل هذه الجملة، ولسنا نذهب في موضع من المواضع إلى أن الإمام اتقى بغير سبب موجب لتقيته، وحامل على فعله والكلام في التفصيل غير الكلام في الجملة، وليس كل الأسباب التي توجب التقية تظهر لكل أحد ويعلمها جميع الخلق، بل ربما اختلفت الحال فيها، وعلى كل حال فلا بد من أن تكون معلومة لمن أوجب تقية ومعلومة أو مجوزة لغيره، ولهذا قد نجد بعض الملوك يسأل رعيته عن أمر فيصدقه بعضهم عن ذلك، ولا يصدقه آخرون ويستعملون ضربا من التورية وليس ذلك إلا لأن من صدق لم يخف على نفسه ومن جرى مجرى نفسه ومن ورى فلأنه خاف على نفسه. وغلب في ظنه وقوع الضرر به متى صدق عما سئل فيه، وليس يجب أن يستوي حال الجميع، وأن يظهر لكل أحد السبب في تقية من اتقى ممن ذكرناه بعينه حتى تقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل وحتى يجري مجرى العرض على السيف في الملأ من الناس، بل ربما كان ظاهرا كذلك، وربما كان خاصا.
فإن قيل: مع تجويز التقية على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه واعتقاده، وكيف يخلص لنا ما يفتي به على سبيل التقية من غيره.
قلنا: أول ما نقوله في ذلك أن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يعلم إلا من جهته، ولا طريق إليه إلا من ناحية قوله، وإنما يجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبينات، ونصبت عليه الدلالات حتى لا يكون فتياه فيه مزيلة الطريق إصابة الحق وموقعة للشبهة، ثم لا يتقي في شئ إلا ويدل على خروجه منه مخرج التقية، أما لما يصاحب كلامه أو يتقدمه أو يتأخر عنه، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا عليهم السلام على سبيل التقية وجده لا يعري ما ذكرناه، ثم إن التقية إنما تكون من العدو دون الولي، ومن المتهم دون الموثوق به، فما يصدر عنهم إلى أوليائهم وشيعتهم ونصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشك في أنه على غير جهة التقية وما يفتون به العدو أو يمتحنون به في مجالس الخوف يجوز أن يكون على سبيل التقية كما يجوز أن يكون على غيرها.
ثم نقلب هذا السؤال على المخالف فيقال له: إذا أجزت على جميع الناس التقية عند الخوف الشديد، وما يجري مجراه فمن أين تعرف مذاهبهم واعتقادهم؟ وكيف يفصل بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقية وبين ما يفتى به وهو مذهب له يعتقد صحته، فلا بد ضرورة من الرجوع إلى ما ذكرناه.
انتهى ما أردنا نقله من كتاب الشافي في الإمامة ج4 ص105 وما بعدها
ولنا عودة إن شاء الله
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
والحمد لله رب العالمين
طرح بعض الزملاء المخالفين مؤخراً عدة مواضيع عن شبهة التقية وجوازها على الإمام عليه السلام دون النبي صلى الله عليه وآله
ولما لم تكن الشبهة من بنات أفكارهم بل شبهات شيطانية واهية تعرض لها قبلهم قاضي القضاة في كتابه المغني، فأجاب عليها الشريف المرتضى رحمه الله جواباً شافياً منذ حوالي ألف عام
ولما كان جوابه كافياً وافياً شافياً آثرنا نقله بتمامه لقوة بيانه ووضح برهانه
وفيما يلي نص كلامه رحمه الله وهو يتضمن الإشكالات والجواب عليها كما ذكرها في (الشافي في الإمامة ج4 ص105 وما بعدها)
فأما قوله: "إذا جازت التقية للأئمة وحالهم في العصمة ما تدعون جازت على الرسول صلى الله عليه وآله"
فالفرق بين الأمرين واضح لأن الرسول صلى الله عليه وآله مبتدئ بالشرع، ومفتتح لتعريف الأحكام التي لا تعرف إلا من جهته وبيانه، فلو جازت عليه التقية لأخل ذلك بإزاحة علة المكلفين، ولفقدوا الطريق إلى معرفة مصالحهم الشرعية التي قد بينها أنها لا تعرف إلا من جهته، والإمام بخلاف هذا الحكم لأنه منفذ للشرائع التي قد علمت من غير جهته، وليس يقف العلم بها والحق فيها على قوله دون غيره، فمن اتقى في بعض الأحكام لسبب يوجب ذلك لم يخل تقية بمعرفة الحق، وإمكان الوصول إليه، والإمام والرسول وإن استويا في العصمة فليس يجب أن يستويا في جواز التقية للفرق الذي ذكرناه، لأن الإمام لم تجز التقية عليه لأجل العصمة، وليس للعصمة تأثير في جواز التقية ولا نفي جوازها.
فإن قيل: أليس من قولكم: إن الإمام حجة في الشرائع؟ وقد يجوز عندكم أن ينتهي الأمر إلى أن يكون الحق لا يعرف إلا من جهته وبقوله، بأن يعرض الناقلون عن النقل فلا يرد إلا من جهة من لا تقوم الحجة بقوله، وهذا يوجب مساواة الإمام للرسول فيما فرقتم بينهما فيه.
قلنا: إذا كانت الحال في الإمام على ما صورتموه، وتعينت الحجة في قوله، فإن التقية لا تجوز عليه كما لا تجوز على النبي.
فإن قيل: فلو قدرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قد بين جميع الشرائع والأحكام التي يلزمه بيانها حتى لم يبق شبهة في ذلك ولا ريب، لكان يجوز والحال هذه عليه التقية في بعض الأحكام.
قلنا: ليس يمتنع عند قوة أسباب الخوف الموجبة للتقية أن يتقي إذا لم تكن التقية مخلة بالوصول إلى الحق، ولا منفرة عنه.
ثم يقال لصاحب الكتاب: أليست التقية عندك جائزة على جميع المؤمنين عند حصول أسبابها وعلى الإمام والأمير؟
فإن قال: هي جائزة على المؤمنين وليست جائزة على الإمام والأمير.
قلنا: وأي فرق بين ذلك والإمام والأمير عندك ليسا بحجة في شئ كما أن النبي صلى الله عليه وآله حجة فتمنع من ذلك لمكان الحجة بقولهما فإن اعترف بجوازها عليهما.
قيل له: فألا جاز على النبي صلى الله عليه وآله قياسا على الأمير والإمام؟
فإن قال: لأن قول النبي صلى الله عليه وآله حجة، وليس الأمير والإمام كذلك.
قيل له: وأي تأثير للحجة في ذلك إذا لم تكن التقية مانعة من إصابة الحق ولا مخلة بالطريق إليه؟ وخبرنا عن الجماعة التي نقلها في باب الأخبار حجة لو ظفر بهم جبار ظالم متفرقين أو مجتمعين فسألهم عن مذاهبهم وهم يعلمون أو يغلب في ظنونهم أنهم متى ذكروها على وجهها قتلهم، وأباح حريمهم، أليست التقية جائزة على هؤلاء، مع أن الحجة في أقوالهم؟
فإن منع من جواز التقية على ما ذكرناه دفع ما هو معلوم.
قيل له: وأي فرق بين هذه الجماعة وبين من نقص عن عدتها في جواز التقية؟
فلا يجد فرقا.
فإن قال: إنما جوزنا التقية على من ذكرتم لظهور الاكراه والأسباب الملجئة إلى التقية، ومنعناكم من مثل ذلك لأنكم تدعون تقية لم تظهر أسبابها ولا الأمور الحاملة عليها من إكراه وغيره.
قيل له: هذا اعتراف بما أردنا من جواز التقية عند وجود أسبابها.
وصار الكلام الآن في تفصيل هذه الجملة، ولسنا نذهب في موضع من المواضع إلى أن الإمام اتقى بغير سبب موجب لتقيته، وحامل على فعله والكلام في التفصيل غير الكلام في الجملة، وليس كل الأسباب التي توجب التقية تظهر لكل أحد ويعلمها جميع الخلق، بل ربما اختلفت الحال فيها، وعلى كل حال فلا بد من أن تكون معلومة لمن أوجب تقية ومعلومة أو مجوزة لغيره، ولهذا قد نجد بعض الملوك يسأل رعيته عن أمر فيصدقه بعضهم عن ذلك، ولا يصدقه آخرون ويستعملون ضربا من التورية وليس ذلك إلا لأن من صدق لم يخف على نفسه ومن جرى مجرى نفسه ومن ورى فلأنه خاف على نفسه. وغلب في ظنه وقوع الضرر به متى صدق عما سئل فيه، وليس يجب أن يستوي حال الجميع، وأن يظهر لكل أحد السبب في تقية من اتقى ممن ذكرناه بعينه حتى تقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل وحتى يجري مجرى العرض على السيف في الملأ من الناس، بل ربما كان ظاهرا كذلك، وربما كان خاصا.
فإن قيل: مع تجويز التقية على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه واعتقاده، وكيف يخلص لنا ما يفتي به على سبيل التقية من غيره.
قلنا: أول ما نقوله في ذلك أن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يعلم إلا من جهته، ولا طريق إليه إلا من ناحية قوله، وإنما يجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبينات، ونصبت عليه الدلالات حتى لا يكون فتياه فيه مزيلة الطريق إصابة الحق وموقعة للشبهة، ثم لا يتقي في شئ إلا ويدل على خروجه منه مخرج التقية، أما لما يصاحب كلامه أو يتقدمه أو يتأخر عنه، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا عليهم السلام على سبيل التقية وجده لا يعري ما ذكرناه، ثم إن التقية إنما تكون من العدو دون الولي، ومن المتهم دون الموثوق به، فما يصدر عنهم إلى أوليائهم وشيعتهم ونصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشك في أنه على غير جهة التقية وما يفتون به العدو أو يمتحنون به في مجالس الخوف يجوز أن يكون على سبيل التقية كما يجوز أن يكون على غيرها.
ثم نقلب هذا السؤال على المخالف فيقال له: إذا أجزت على جميع الناس التقية عند الخوف الشديد، وما يجري مجراه فمن أين تعرف مذاهبهم واعتقادهم؟ وكيف يفصل بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقية وبين ما يفتى به وهو مذهب له يعتقد صحته، فلا بد ضرورة من الرجوع إلى ما ذكرناه.
انتهى ما أردنا نقله من كتاب الشافي في الإمامة ج4 ص105 وما بعدها
ولنا عودة إن شاء الله
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
تعليق