فـرهود بغـداد 2003
"الفرهود" هو اللفظ العراقي الأكثر دقة، معنوياً وصوتياً، لعمليات النهب الجماعية التي تجري في حالات الإنفلات الأمني وهيمنة الغرائز الأولية البدائية للإنسان. وقد اسُتعمل اللفظ في اللهجة العراقية بهذا المعنى المنطوي على تاريخ طويل من "الفرهدة"، يعود إلى إجتياح هولاكو خان بغداد العباسية 1258م ونهبها، ثم إجتياحها من قبل القبائل التركمانية المتنوعة، خاصة السلاجقة والجلائريون والـ"آق قوينلو" و "القره قوينلو"، قبائل الخروف الأبيض والخروف الأسود. وقد ضم اللفظ إلى اللهجة العراقية والى الذهنية الشعبية في العراق عبر قرون طوال من حالات الفرهود الآتية مع تواتر الغزوات الأجنبية التي كانت أول ما تستهدف نهب ممتلكات الأغنياء وحتى سبي نسائهم أحياناً ومصادرة حلالهم. بيد أن اللفظ لم يأخذ معناه هذا كاملاً إلا عندما أصدر يهودي عراقي الأصل كتاباً باللغة الإنكليزية بعنوان The Farhood of Baghdad (فرهود بغداد) ليصف ما قاساه اليهود من عمليات نهب وفرهدة قام بها الرعاع والبسطاء ضد مساكن ومتاجر الأقلية اليهودية في العراق تحت دعاوي العمالة لبريطانيا والصهيونية والشيوعية، الأمر الذي أدى إلى عدد من الجرائم وحالة من الرعب التي إجتاحت يهود العراق ثم، بعد ذلك، جميع الإغنياء، إذ زادت الخشية من إمتداد الفرهود المتعامي إلى الجميع تحت طائلة الفقر وهيمنة الغرائز البدائية حتى ظهور رجل دولة وطني عراقي إسمه أرشد العمري أعلن إطلاق النار على كل من يشك بأنه يسهم في الفرهود، وقد تم له ذلك حتى تم فرض النظام وعاد الرعاع والجياع إلى سكينتهم. قبل عامين فقط (2006) أصدر الكاتب اليهودي العراقي الأصل "سول سايلوس فتحي" Saul Silos Fathi كتاباً إستذكارياً لهذه الصفحة المظلمة من تاريخ العراق، بقدر تعلق الأمر به شخصياً وبعائلته، تحت عنوان (الدائرة كاملة) Full Circle.
ربما ذكر فرهود بغداد بعد الغزو 2003 فتحي بعائلته عندما كان عمره عشر سنوات أثناء فرهود بغداد الذي عاشه نهاية أربعينيات القرن الماضي. بيد أن علينا أن نتذكر فرهود 2003 الذي رافق الغزو الأميركي للعراق، وتلاه ذلك الفرهود الذي لم ينتهِ إلا بعد أن أقعد الدولة العراقية على الأرض، وبعد أن أكمل حالة "إستحالة" إعادة ايقافها على اقدامها. ومع هذا كله تبقى صفحة فرهود 2003 من أكثر غوامض تاريخ العراق المعاصر، خاصة بعد أن أخذت بعض المعلومات تتكشف بواسطة شهود عيان أحياء إعتماداً على بيانات يمكن أن تلقي الضوء على خفايا قد لا تخطر على بال احد. ويبدو أن أهمية فرهود عام 2003 تنبع مما طالته أيادي اللصوص والعابثين من كنوز لا تقدر بثمن، ومنها محتويات مخازن دائرة الآثار العامة والمتحف العراقي في منطقة الصالحية ببغداد، حيث تمت سرقة قصة النوع ألآدمي كاملة من خلال نقل أقدم اللقى الآثارية، ناهيك عن عمليات إفراغ قاصات وخزائن البنك المركزي العراقي والبنوك العراقية الأخرى التي بقيت مفتوحة "أمام الجمهور" لأيام. إن أهم ما يمكن للمرء أن يخلص إليه الآن، وبعد توافر معلومات جديدة، هو أن فرهود عام 2003 كان مطابقاً بدقة متناهية لأوامر الرئيس السابق بإستباحة مشتملات مدينة الكويت حال الشعور بأن هجوم قوات التحالف لإخراج القوات العراقية قد اصبح مؤكداً، إذ أطلقت ايادي الضباط والمسؤولين العاملين في بغداد والكويت وغالبيتهم من دائرة المقربين أو أقرباء الرئيس السابق أو أقرباء نائبه عزة الدوري لنقل محتويات الدولة الكويتية بالكامل إلى العراق، من الوزارات والبنوك والمتاحف والمدارس. ربما كان الرئيس السابق يعتقد بأنه يطبق خطة ستالين المعنونة بـ"الأرض المحروقة" كي يأتي الغزاة فلا يجدوا ما يفيدون منه في الكويت، وفي بغداد بعد إقتراب قواتهم من بغداد.
لقد كنا نعتقد حتى وقت قريب أن فرهود 2003 إنما قام به الغوغاء من الفقراء والكادحين بسبب الجوع وماتعرضوا له من ظلم وتمييز عبر سنوات الحصار الغاشم على العراق؛ إلاّ أن هناك مؤشرات جديدة تدل على أن هؤلاء الفقراء المجهولين ما كانوا قادرين على فتح خزائن البنوك أو كسر أقفال المتاحف، خاصة بعد أن تمت إحاطتها بجدران ثقيلة قبل الحرب، الأمر الذي يزيد الشكوك في أن هؤلاء الفقراء والكادحين إنما وصلوا إلى أماكن هذه الكنوز متأخرين، أي بعد قيام المسؤولين الحكوميين ممن كانت المفاتيح لديهم بفتحها وأخذ المطلوب وحصة الأسد منها قبل وصول الغوغاء. هذه الحقيقة تتأكد عندما تأكد بالأدلة أن المسؤولين في النظام السابق، وأغلبهم من أقارب عائلة الرئيس السابق قاموا بالسرقات الرئيسية، بادئين بالسرقة من سياراتهم الفارهة الخاصة بهم كمدراء وكمسؤولين أو كضباط كبار، حيث قاموا ببيع هذه السيارات الراقية، ثم أعلنوا بأنها قد سلبت منهم في الأيام التالية. قد لا يصدق القاريء أن من بين هؤلاء اللصوص كان هناك عمداء كليات بجامعة بغداد: لاحظ عميد كلية مسؤول عن تربية الأجيال جيل بعد جيل آخر، يبيع سيارته التي كان يتبختر بها أمام المستضعفين من زملائه بوصفه من أقرباء الرئيس، ثم يضع المقسوم في جيبه كي يعلن بأن السيارة قد سلبت منه في الشارع!
إن ما يزيد الشكوك في أن فرهود بغداد كان من تدبير النظام السابق وأزلامه أنفسهم هو أن أحداً لم يكن يجرؤ على مهاجمة البنوك أو المخازن الرئيسية التي كانت مملوءة بسبائك الذهب وبصناديق هارون وقارون من العملات الصعبة التي يستعملها "ابطال المقاومة" اليوم لقتل العراقيين بالتفجيرات الإنتحارية بالطرق المعهودة وبالتعاون مع القاعدة وأمثالها من المنظمات الإرهابية! لقد كانت الهزيمة مروعة درجة أن هؤلاء اللصوص، في حالات معينة هربوا محملين بما كانوا قادرين على شحنه في سياراتهم ولكنهم لم يتمكنوا من حمل كل ما قد هيأوه على حساب جوع وفاقة الشعب العراقي المسكين، الأمر الذي يفسر الأفلام التي قدمتها شبكة CBS و ABC الأميركية حول الكنوز التي وجدها الأميركان (صدفة)، وهي كنوز مؤلفة من آلاف سبائك الذهب وصناديق النقد بالدولار والباون الاسترليني العائدة ملكيتها للشعب العراقي والتي استولى عليها الرفاق من أصحاب البزات الزيتوني، ثم كانت الهزيمة المروعة فلم يتمكنوا من حمل كل شيء بالسرعة الكافية لينتقلوا به إلى الأردن أو سوريا حيث ابتاع هؤلاء اللصوص، ومنهم أفراد حماية الرئيس السابق الذين إشتهروا بسرقة الآثار العراقية وتسويقها. هم الآن يملكون عشرات الأبراج والفلل الأسطورية في الشقيقة الأردن والشقيقة سوريا وفي القاهرة والإمارات العربية المتحدة. هم اليوم يمارسون نفس الإستهتار وسوء السلوك الذي إشتهروا به في بغداد في عهدهم الزائل بلا عودة.
لقد كانت عمليات فتح خزائن العراق والبنوك والمتاحف من النوع الفني المدبر التي لا يمكن لأحد من البسطاء أو الكادحين أن يقوم بها، الأمر الذي يلقي الضوء على ترجيح إفتراض أن عملية الفرهود كانت مبيتة ومدبرة بأوامر حكومية، بالتعاون مع أقارب الدم من ابناء العائلة الحاكمة من هؤلاء الذين يعيشون اليوم حياة أسطورية بأموال الشعب العراقي المنهوبة سابقاً ولاحقاً. لقد تم إصدار أوامر إستباحة اموال العراق لأقرباء الدم والعائلة كمكافأة ثم تم الهروب إلى تكريت، ظناً أن هؤلاء الأقارب لن يسلموا الرئيس السابق للأميركان فما كان منهم إلاّ أن سلموه بعد أن سلموا ولديه ببضعة أسابيع للأميركان كي يلقى الثلاثة المصير الدموي الذي شاهده العالم كاملاً.
إن الحكومة العراقية بغض النظر عمن له اليد العليا فيها الآن أو في المستقبل يجب أن تنشيء هيئة خاصة بمتابعة الأموال العراقية التي سرقها هؤلاء المجرمون الذين ينفقون أموال العراق اليوم في الملاهي وصناديق الليل الحمراء في أوتيلات دبي وعمان ، دمشق وبيروت. أن عملية متابعة هذه الأموال هي واجب وطني وقومي، خاصة وأن منها قطع اثرية لا تقدر بثمن تم نهبها أثناء فرهود حرب 2003 وهي من الممتلكات الإنسانية، وليس العراقية فقط. هذا هو الإجراء الذي فعلته جميع الحكومات الوطنية التي قامت بعد إسقاط أنظمة الطغم الفاسدة على سبيل ملاحقة وإستعادة الأموال الوطنية كي يستفاد منها ابناء البلد وليس فقط الأقلية التي إعتاشت على رقاب العراقيين لأكثر من ثلاثين سنة مظلمة منذ 1968. وعلى الهيئة المطلوب تشكيلها إستدعاء جميع المسؤولين الذين حصلوا على وظائفهم بسبب المحسوبية والمنسوبية والحزبية ومحاسبتهم على كل ما كان تحت أيديهم من ممتلكات وكل ما إدعوا بأنه قد سرق أو سلب، إبتداءً من سياراتهم الفارهة، وإنتهاءً بالكومبيوترات والمعلومات المكنونة فيها والمخبأة اليوم مع ملابسهم الشخصية في خزانات بيوتهم وبعكسه نكون قد اسهمنا بسرقة العراق وأبنائه.
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
http://www.kitabat.com/i42632.htm
تعليق