إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الكرام البررة.
    وبعد: لقد اتفقنا أن نجعل حديثنا وبحثنا في هذا الشهر عن أكبر شخصية عرفها التاريخ بعد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
    وهي شخصية سيدنا ومولانا الإمام المرتضى أبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه آلاف التحية والثناء، ونبدأ حديثنا بولادة الإمام (عليه السلام) في الكعبة.
    ولا بأس قبل الخوض في بيان الواقعة، بذكر مقدمة تمهيدية فنقول: نحن بصفتنا مؤمنين بالله وبالقرآن العظيم لا محيص لنا عن قبول الأمور الخارقة للعادة والتي هي ما وراء الطبيعة، المذكورة في القرآن الكريم، ويقال لها: (الماورائيات) أو (الميتافيزيقيا).
    فإن القرآن الكريم يتضمن أكبر كمية من الحوادث الماورائيات، ولا نستطيع (بصفتنا مسلمين) أن نرفضها أو نتردد في قبولها، وخاصة بعد أن آمنا أن القرآن كتاب من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
    مثلاً: طبيعة النار هي الإحراق، وإسناد الإحراق إلى النار من الأمور البديهية الثابتة، والقرآن الحكيم يحدثنا عن إبراهيم وأنه لما كسر الأصنام حكم المشركون عليه بالإعدام فقالوا: (حرّقوه) فأضرموا ناراً عظيمة اشترك جميع طبقات الناس في جمع الحطب لها، فوضعوا إبراهيم الخليل في آلة تسمى (المنجنيق)، وقذفوه من مكان بعيد في وسط تلك النار العظيمة.
    قال تعالى: (وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)(1) في الحديث ـ في تفسير هذه الآية ـ : لما خاطب الله النار بقوله: (كوني برداً) كاد إبراهيم أن يموت من البرد فقال تعالى: (وسلاماً) فسلم إبراهيم من الموت بالبرد.

    وكذلك عصا موسى (عليه السلام) وانقلابها إلى ثعبان وابتلاعه الحبال والعصي التي كانت يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى، ثم عادت العصا كما كانت.
    وهكذا ما قام به عيسى بن مريم (عليه السلام) من إبراء الأكمه (الذي ولد أعمى) والأبرص، وإحياء الموتى حتى الذين انقضت على وفاتهم مئات السنوات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعجزة في ثلاثة مواضع.
    وهكذا وهلم جراً، من القضايا والحوادث الخارقة للعادة والطبيعة المستندة إلى إرادة الله وقدرته، ويسهل الإيمان بهذه الأمور كلها إذا حصل الإيمان بأن الله قادر على كل شيء، وأن جميع الموجودات خاضعة ومطيعة لإرادة الله تعالى.
    إذا ثبت هذا فلا مانع لدى العقل من قبول انشقاق جدار الكعبة لدخول فاطمة بنت أسد حتى تضع ولدها الإمام في جوف الكعبة، وإليك الواقعة:
    علي وليد الكعبة
    أحست السيدة فاطمة بنت أسد بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل، وأقبلت إلى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة، ثم وقفت للدعاء والتضرع إلى الله تعالى ليسهل عليها أمر الولادة، قائلة: يا رب إني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته، وبكل رسول أرسلته...
    ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد بنى بيتك العتيق، وأسألك بحق أنبياءك المرسلين، وملائكتك المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي..
    إلا يسرت عليّ ولادتي.
    انتهى دعاء السيدة، وانشق جدار الكعبة من الجانب المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد إلى جوف الكعبة، وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً هناك(2).

    من المعلوم: أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج، ولكن الباب لم ينفتح، بل انشق الجدار ليكون أبلغ وأوضح وأدل على خرق العادة، وحتى لا يمكن إسناد الأمر إلى الصدفة.
    والغريب: أن الأثر لا يزال موجوداً على جدار الكعبة حتى اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر الانشقاق بالفضة والأثر يرى بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار، والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون إلى الله تعالى في حوائجهم.
    روى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ـ في أماليه ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام): كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق بني عبد العزى إزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت حاملة بأمير المؤمنين (عليه السلام) لتسعة أشهر، وكان يوم التمام، فوقفت إزاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، ورمت بطرفها نحو السماء وقالت...
    إلى آخر كلامها الذي تقدم.
    ووصل الخبر إلى أبي طالب، فأقبل هو وجماعة وحاولوا ليفتحوا باب الكعبة حتى تصل النساء إلى فاطمة ليساعدنها على أمر الولادة، ولكنهم لم يستطيعوا فتح الباب، فعلموا أن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى.
    وحدثت السيدة فاطمة بما جرى عليها في الكعبة، قالت: فجلست على الرخامة الحمراء ساعة، وإذا أنا قد وضعت ولدي علي بن أبي طالب ولم أجد وجعاً ولا ألماً.
    وبقيت السيدة في الكعبة ثلاثة أيام، وانتشر الخبر في مكة، وجعل الناس يتحدثون به حتى النساء، وازدحم الناس في المسجد الحرام، ليشاهدوا مكان الحادثة، حتى كان اليوم الثالث، وإذا بفاطمة قد خرجت ـ من الموضع الذي كان قد انشق لدخولها ـ وعلى يدها صبي كأنه فلقة قمر وأسرعت الجماهير المتجمهرة إليها فقالت: معاشر الناس، إن الله عز وجل اختارني من خلقه وفضلني على المختارات ممن مضى قبلي، وقد اختار الله آسية بنت مزاحم فإنها عبدت الله سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطراراً، ومريم بنت عمران، حيث هانت ويسرت ولادة عيسى فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتى تساقط عليها رطباً جنياً وإن الله تعالى اختارني (فضلني) عليها وعلى كل من مضى قبلي من نساء العالمين لأني ولدت في بيته العتيق، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأرزاقها...الخ(3).

    وبعد هذا كله لم يبق مجال للشك في هذه الحادثة والاستبعاد من قدرة الله تعالى وإرادته، وما المانع أن يختار الله لمولد وليه أشرف بقاع الأرض حتى يكون مولده في ذلك المكان من مزاياه التي تفرد بها عن الخلق أجمعين؟؟ وما المانع أن يمنح الله عباده المقربين هذه العطايا والمنح كي تكون لهم دليلاً على كرامتهم عند الله.
    فقد ذكر الشيخ المفيد (ره) المتوفى سنة 431هـ في الإرشاد مولد الإمام في البيت الحرام، وكذلك من جاء بعده كالشيخ الطوسي والنسابة علي بن أبي الغنائم والشهيد في مزاره والسيد ابن طاووس في المصباح والعلامة الحلي المتوفى سنة 736هـ في كتابه كشف الحق وكشف اليقين.
    وتطرق السيد الحميري في نظمه إلى هذه المفخرة وهو من شعراء القرن الثاني وهو قوله:
    ولدته في حرم الإله وأمنــــه والبيت حيث فناؤه والمسجـد
    بيضاء طاهرة الثـياب كريمـة طابــت وطاب وليدها والمولد
    ما لف في خرق القوابل مثله إلا ابن آمنة النبي محمــــــــد
    وكذلك الشاعر محمد بن منصور السرخسي، وهو من شعراء القرن السادس أشار إلى هذه الفضيلة بقوله:
    ولدته منجبة وكان ولادهـــــا في جوف كعبة أفضل الأكنان
    ولم ينفر أساطين الشيعة وعلماؤهم بذكر هذه المأثرة، بل شاركهم الكثير من علماء السنة، كالمسعودي في مروج الذهب وإثبات الوصية وعبد الحميد خان الدهلوي، في سيرة الخلفاء وغيرهما من المحدثين.
    وأشار عبد الباقي العمري وعبد المسيح الأنطاكي أيضاً إلى هذه الحادثة وأنها من الأمور المتفق عليها، وأنها من خصائص الإمام ولم يشاركه أحد قبله ولا بعده في هذه المكرمة، حتى قال محمود الآلوسي في شرح قصيدة عبد الباقي العمري ما هذا نصه: (وفي كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة...
    ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه كما اشتهر وضعه، وأحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين).
    استقبل سيدنا أبو طالب السيدة فاطمة بنت أسد مهنئاً، وأخذ أبو طالب وليده الحبيب وضمه إلى صدره ثم رده إلى أمه، وأقبل رسول الله وذلك قبل أن يبعث فلما رآه علي جعل يهش ويضحك كأنه ابن سنة، من حيث المشاعر والإدراك فأخذه النبي (صلّى الله عليه وآله) وقبله وحمد الله على ظهور هذا المولود الذي كان يعلم أنه سيكون له أحسن وزير وخير أخ وأول مؤمن به، وتتحقق به آمال رسول الله وأمانيه بنشر دينه الذي سيبعث به فسلم علي على رسول الله ثم قرأ هذه الآيات: (بسم الله الرحمن الرحيم.
    قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)(4) إلى آخر الآيات، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أفلحوا بك.

    وقرأ تمام الآيات إلى قوله (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)(5).
    فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنت والله أميرهم تميرهم من علومك فيمتارون، وأنت والله دليلهم وبك يهتدون.
    وأذن أبو طالب في الناس أذاناً جامعاً وقال: هلموا إلى وليمة ابني علي.
    قال: ونحر ثلاث مائة من الإبل وألف رأس من البقر والغنم واتخذوا وليمة عظيمة وقال: معاشر الناس، ألا من أراد من طعام علي ولدي فهلموا وطوفوا بالبيت سبعاً سبعاً، وادخلوا وسلموا على ولدي علي فإن الله شرفه(6).

    وهنا سؤالان: الأول كيف تكلم علي وهو ابن ثلاثة أيام، والسؤال الثاني كيف قرأ آيات القرآن والقرآن بعد لم ينزل على النبي؟
    أما الجواب عن السؤال الأول: إن القرآن الكريم يصرح بتكلم عيسى لما حملته أمه مريم وجاءت به إلى قومها، فسألها قومها عن عيسى (فأشارت إليه) أي سلوا الطفل فإنه يخبركم عن الحقيقة.
    قال اليهود: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ قال (عيسى): (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) فإذا أمكن أن يتكلم عيسى في المهد صبياً فما المانع أن يتكلم علي وهو طفل فإن كان عيسى نبياً فعلي خليفة نبي ووصيه وليس ذلك على الله بعزيز، وليس هذا بمستحيل أمام قدرة الله تعالى فإن الله على كل شيء قدير.
    والجواب عن السؤال الثاني: أن القرآن الحكيم يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)(7) مع العلم أن القرآن نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) في خلال ثلاث وعشرين سنة، من يوم مبعثه إلى أيام قبل وفاته، فما المقصود من هذه الآية المباركة التي تصرح بنزول القرآن في ليلة القدر؟

    هناك أحاديث متواترة عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية مفادها: أن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ومن السماء الدنيا نزل تدريجياً ومن هنا يستفاد أن القرآن كان موجوداً في السماء قبل نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله).
    فالطفل الذي اختار الله له الكعبة مولداً وأنطق لسانه يوم ولادته لا مانع عند العقل أن يلهمه الله شيئاً من كتابه المخلوق الموجود في السماء.
    وكانت ولادته يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، بعد مضي ثلاثين سنة من عام الفيل.
    وقيل: أقل من ذلك، والله العالم.

    (1) سورة الأنبياء، الآية: 69
    (2) البحار ـ ج9.
    (3) نفس المصدر.
    (4) سورة المؤمنون، الآيتان: 1 و2.
    (5) سورة المؤمنون، الآيتان: 10 و11.
    (6) البحار ـ ج9.
    (7) سورة القدر، الآية: 1.
    الليلة الثانية
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على محمد وآله خير البرية.
    كلامنا الليلة: حول التربية الإسلامية التي ترباها علي (عليه السلام) خلال السنوات الطوال التي قضاها مع النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره حتى بلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وهي المدة التي عاش فيها مع الرسول، ولا أملك بياناً كافياً لوصف تلك التربية المدهشة، وتأثيرها في نفس علي (عليه السلام)، والأفضل أن نستمع إلى كلام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع، فإنه يشرح لنا مدى اختصاصه والتصاقه بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من صغر سنه، يذكر (عليه السلام) ذلك في خطبته الجليلة المعروفة بالقاصعة.
    قال (عليه السلام): (أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر.
    وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرقه.
    وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلّى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.
    ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
    ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنة؟ فقال: إنه الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي. ولكنك وزير وإنك لعلى خير(1).
    فقد روى العلامة الحلي عليه الرحمة في كشف اليقين وغيره...: وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ لفاطمة بنت أسد ـ : اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يلي علياً أكثر تربيته، وكان يطهر علياً في وقت غسله، ويوجره اللبن (يجعله في فمه) عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره، ويقول: هذا أخي ووليي، وصفيي، وذخري وكهفي وظهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان يحمله دائماً ويطوف به في جبال مكة وشعابها وأوديتها(2).
    وذكر الثعلبي في تفسيره عن مجاهد قال: كان من نعم الله على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما صنع الله له وزاده من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة (قحط) شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ للعباس عمه وكان أيسر بني هاشم ـ : يا عباس أخوك أبو طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ أنا من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت من بنيه رجلاً، فنكفيهما عنه من عياله.
    قال العباس: نعم فانطلقا، حتى أتيا أبا طالب فقالا: نريد أن نخفف عنك عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال أبو طالب: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما.
    فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى بعثه الله نبياً، واتبعه علي فآمن به وصدقه.. الخ.
    وأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً، فانتخبه لنفسه واصطفاه لمهم أمره، وعول عليه في سره وجهره، وهو مسارع لمرضاته موفق للسداد في جميع حالاته، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ابتداء طروق الوحي إليه، كلما هتف به هاتف أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً يخبر بذلك خديجة وعلياً (عليهما السلام) ويستسرهما هذه الحالة فكانت خديجة نثبته وتصبره، وكان علي (عليه السلام) يهنئه ويبشره ويقول له: والله يا ابن عم ما كذب عبد المطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك، ولم يزل كذلك إلى أن أمر (صلّى الله عليه وآله) بالتبليغ.
    فكان أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الذكور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعمره يومئذ عشر سنين، وكانت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) تشاهد النبي يعطف ويحنو على علي (عليه السلام) ويتولى رعايته منذ نعومة أظفاره، فكانت السيدة خديجة تستزيده وتزينه وتحليه وتلبسه وترسله مع جواريها، ويحمله خدمها.
    وقد أجمع علماء النفس والتربية واتفقت كلمتهم على: أن جميع نفسيات الإنسان وأخلاقه وصفاته إنما هي انطباعات التربية التي تركزت في نفسه منذ صغره، بحيث يمكن لنا أن نعرف مصير الطفل ومستقبله من منهاج التربية التي قام بها الوالدان والمربي تجاه الطفل في صباه.
    فالحقارة والعقد النفسية والدناءة والخمول وما شاكلها من الصفات التي تظهر في الناس إنما هي من ولائد التربية الفاسدة في باكورة حياتهم.
    وكذلك شرافة النفس وعلو الهمة، وقوة الروح وما شابهها إنما هي من نتائج التربية الصحيحة في أيام الصبا.
    وفي المناقب: عن أبي رافع أن النبي (صلّى الله عليه وآله)...
    قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إلي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي، فقال أبو طالب: خذ أيهم شئت.
    فأخذ علياً (عليه السلام) فاستقى عروقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، ونشأ في دار الوحي، وربي في بيت التنزيل، ولم يفارق النبي (صلّى الله عليه وآله) في حال حياته إلى حال وفاته، لا يقاس بسائر الناس، إذ كان (عليه السلام) في أكرم أرومة، وأطيب مغرس، والعرق الصالح ينمي والشهاب الثاقب يسري...
    ولم يكن الرسول ليتولى تأديبه، ويتضمن حضانته وحسن تربيته إلا على ضربين: إما على التفرس فيه، أو بوحي من الله تعالى، فإن كان بالتفرس فلا تخطى فراسته، ولا يخيب ظنه، وإن كان بالوحي فلا منزلة أعلى ولا حال أدل على الفضيلة والإمامة.
    بناء على هذا اهتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) غاية الاهتمام وبذل ما في وسعه في تربية علي (عليه السلام) وتأديبه وتقوية نفسه وتوجيهه، وطبع غرائزه على أحسن ما يرام وتعليمه الفضائل والمكارم.
    فأنتجت تلك التربية الإسلامية الفريدة في نفس علي (عليه السلام) أحسن الأثر، وتربى تحت ظل الرسول أفضل تربية، واجتمعت فيه جميع المؤهلات للصعود إلى أعلى مرقاة، فاستحق أن يجعله الله نفس النبي في آية المباهلة، وكملت فيه الكفاءة والإنسانية بجميع معنى الكلمة حتى صار أهلاً لكل منحة إلهية وعطية ربانية وصار جديراً بالولاية والخلافة، والوصية، والوراثة، وبكل عظمة وكل تقدير من الخالق والمخلوق، وكل إكبار وإعجاب من الرسول، وتجلت فيه الفتوة والشهامة، والاعتماد على النفس، والإحساس بالشخصية وعظمة النفس حينما قدم لتقبل أكبر مسؤولية في العالم، واستعد للقيام بأكبر مهمة من أقل لوازمها التضحية بكل غال ونفيس، وذلك يوم الدار أو الإنذار، وإليك الواقعة:
    في أمالي الشيخ عن ابن عباس عن علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (وأنذر عشيرتك الأقربين)(3) دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا علي إن الله تعالى أمرني: أن أنذر عشيرتك الأقربين.

    قال: فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت على ذلك.
    فاصنع لي يا علي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به.
    ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم أجمع وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا له، دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، ولما وضعته تناول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جذمة من اللحم فنتفها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال: خذوا باسم الله.
    فأكل القوم حتى صدروا ما لهم بشيء من طعام حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده أن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم جئتهم بذلك العسّ فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله أن كان الرجل الواحد منهم يشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشد ما سحركم صاحبكم!! فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي في الغد: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي.
    قال: ففعلت، ثم جمعتهم، فدعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى صدروا ما لهم به من حاجة ثم قال: اسقهم.
    فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي، ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي؟
    قال: فأمسك القوم، وأحجموا (سكتوا) عنها جميعاً، قال: فقمت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً، فقلت: أنا ـ يا نبي الله ـ أكون وزيرك على ما بعثك الله به...
    قال: فأخذ بيدي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.
    فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه.
    وفي رواية فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن من غيركم ثم لتندمن، ثم أعاد الكلام ثلاث مرات فقام علي فبايعه ثم قال له (صلّى الله عليه وآله): ادن مني، فدنا منه ففتح فاه، ومج من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك إن أجابك فملأت وجهه وفاهه بزاقاً! فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): ملأته حكماً وعلماً وفهماً(4).

    وللمأمون العباسي مناظرة لطيفة ظريفة قيمة مع الفقهاء، نقتطف منها محل الحاجة: المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله رسوله؟ إسحاق: الإخلاص بالشهادة.
    المأمون: أليس السبق إلى الإسلام؟
    إسحاق: نعم.
    المأمون: اقرأ ذلك في كتاب الله يقول: (والسابقون السابقون أولئك المقربون)(5) إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام؟

    إسحاق: يا أمير المؤمنين إن علياً أسلم وهو حديث السن، لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
    المأمون: أخبرني أيهما أسلم قبل؟
    ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال.
    إسحاق: علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.
    المأمون: فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم؟ لا يخلو من أن يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعاه إلى الإسلام أو يكون إلهاماً من الله؟؟ أطرق إسحاق!!
    المأمون: يا إسحاق لا تقل: إلهاماً.
    فتقدمه على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبرائيل عن الله تعالى.
    إسحاق: أجل بل دعاه رسول الله إلى الإسلام.
    المأمون: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟؟ (أطرق إسحاق)!!.
    المأمون: يا إسحاق لا تنسب رسول الله إلى تكلف، فإن الله قال: (وما أنا من المتكلفين)(6).
    إسحاق: أجل، يا أمير المؤمنين بل دعاه بأمر الله.
    المأمون: فهل من صفة الجبار (جل ذكره) أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟
    إسحاق: أعوذ بالله.
    المأمون: أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم قد تكلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهل يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حكم الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟؟ أترى هذا جائزاً عندك أن تنسبه إلى رسول الله؟؟
    إسحاق: أعوذ بالله... الخ.
    وليس هذا بأول خطوة كبيرة خطاها (عليه السلام) إلى مراقي الصعود ولا بأول موقف مشرف وقف فيه للحق، فقد دعاه الرسول قبل ذلك إلى الاعتراف له بالنبوة والتصديق له بالرسالة، وذلك يوم بعثه الله تعالى في غار حراء وانحدر متحملاً أعباء الرسالة وقصد بيت خديجة وفتحت له الباب وقالت: ما هذا النور؟ فأجابها: إنه نور النبوة، اشهدي يا خديجة بأن لا إله إلا الله وإني رسول الله.
    فشهدت بذلك فكانت أول امرأة آمنت، ثم دعا علياً (عليه السلام) ليشهد له بذلك فاعترف له علي فكان أول من أسلم من الرجال.
    ويمتاز إسلام علي (عليه السلام) عن بقية المسلمين في ذلك العهد فإن الذين أسلموا على يد النبي (صلّى الله عليه وآله) كان جلهم غير موحدين، بل يهوداً ونصارى ومشركين، وسبق الكفر أو الشرك إسلامهم، ولكن علياً (عليه السلام) لم تتغير فطرته التي فطره الله عليها، ولم يدنس ساحته شرك ولا كفر، بل كان موحداً وبقي على التوحيد، وازداد إيماناً بالله ويقيناً به على أثر تلك العلوم والمعارف الإلهية التي كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يزقه إياها زقاً، ولما بعث النبي بالنبوة كان علي أول من صدقه وآمن به وقام بما يتطلب ذلك التصديق والإيمان.
    ولا بأس أن نذكر الشيء اليسير من الأحاديث التي تصرح بهذه الفضيلة الفريدة لعلي (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أوّلكم وروداً على الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب.
    ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وابن أبي الحديد في شرحه.
    وأخذ النبي بيد علي فقال: إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر.
    وقال أيضاً: لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين لأنا كنا نصلي وليس معنا أحد يصلي غيرنا.
    وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفترٍ، ولقد صليت مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين، وأنا أول من صلى معه.
    وقال أيضاً: أنا أول رجل أسلم مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
    وقال أيضاً: أنا أول من صلى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
    وقال أيضاً: أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين.
    وقال أيضاً: اللهم إني لا أعرف عبداً من هذه الأمة عبَدَك قبلي غير نبيك.
    (قاله ثلاث مرات) ثم قال: لقد صليت قبل أن يصلي الناس.
    وقال أيضاً: بُعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وقال في أبيات له:
    سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
    وله أيضاً:
    أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي بـــــــه ربيت وسبطاه هما ولدي
    صدقته وجــــــــميع الناس في بُهَم من الضـــــلالة والإشراك والنكد
    قال جابر: سمعت علياً ينشد بهذا ورسول الله يسمع، فتبسم رسول الله وقال: صدقت يا علي.
    وكان هذا الأمر من الأمور الثابتة عند الصحابة والتابعين وقد روي ذلك نظماً ونثراً عن جماعة منهم يتجاوز عددهم خمسين رجلاً، تجد ذلك بالتفصيل في الجزء الثالث من الغدير لشيخنا الأميني (رحمه الله).
    ولشيخنا الأميني كلام لطيف قيّم في هذا الموضوع (وكل كلامه لطيف) قال: وأما نحن فلا نقول: إنه (علياً) أول من أسلم بالمعنى الذي يحاوله ابن كثير وقومه، لأن البدأة به (الإسلام) تستدعي سبقاً من الكفر، ومتى كفر أمير المؤمنين حتى يسلم؟ ومتى أشرك حتى يؤمن؟ وقد انعقدت نطفته على الحنيفية البيضاء، واحتضنه حجر الرسالة، وغذته يد النبوة، وهذبه الخلق النبوي العظيم، فلم يزل مقتصاً أثر الرسول قبل أن يصدع بالدين الحنيف وبعده، فلم يكن له هوى غير هواه، ولا نزعة غير نزعته (إلى أن قال) بل نحن نقول: إن المراد من إسلامه وإيمانه وأوليته فيهما وسبقه إلى النبي في الإسلام هو المعنى المراد من قوله تعالى ـ عن إبراهيم الخليل (عليه السلام) ـ : (وأنا أول المسلمين)(7).
    وفيما قال سبحانه عنه: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)(8) وفيما قال سبحانه عن موسى (عليه السلام): (وأنا أول المؤمنين)(9) وفيما قال تعالى عن نبيه الأعظم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه)(10) وفيما قال: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم)(11) وفي قوله: (وأُمرت أن أُسلم لرب العالمين)(12).
    وقال ابن أبي الحديد:
    وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله، وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير: محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
    ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه الصلاة والسلام أول الناس اتباعاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإيماناً به، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون.
    ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق له ذلك، وعلمه واضحاً وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب.
    أبو طالب حامي الرسول
    قد ذكرنا في أول كلامنا الليلة أن التربية الصحيحة إنما تتسنى للطفل عن طريق المربي والوالدين والبيت الذي يفتح الطفل فيه عيناه، فقد كان علي (عليه السلام) يتلقى دروس التوحيد من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) من أيام صباه ويتعلم منه العلوم الإلهية طيلة أيام كونه طفلاً ويافعاً وشاباً وخليفة، وكان يجد كل التشجيع من والده أبي طالب (عليه السلام) الذي كفل النبي من يوم وفاة عبد المطلب، ولم يبلغ النبي يومذاك من العمر ثمان سنين وأخذه إلى بيته وضمه إلى أهله وولده، وكان هو وزوجته السيدة فاطمة بنت أسد يبذلان كل ما في وسعهما في خدمة النبي والترفيه عنه حتى أنهما كانا يفضلانه على أولادهما في المطعم والملبس والعناية والخدمة، وقام أبو طالب بما قام من أنواع العطف والحنان والرعاية والاهتمام بشأن النبي والإشادة بمواهبه في السفر والحضر.
    ولأبي طالب (عليه السلام) الحظ الأوفر في القيام بتزويج النبي من السيدة خديجة والقضاء على المشاغبات والمنافسات التي كادت أن تحول دون ذلك الزواج الميمون.
    ومواقف أبي طالب في سبيل التحفظ على النبي والدفاع عنه والحماية له من بدء بعثته إلى آخر حياة أبي طالب، مشكورة مذكورة في تاريخ المسلمين، وإسلام أبي طالب (عليه السلام) وإيمانه بالنبي مما لا شك فيه عند كل مسلم منصف، وهذا بعض تلك البحوث الشاهدة لما نحن فيه الآن: قال ابن الأثير: إن أبا طالب رأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلياً يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله عنه: صل جناح ابن عمك وصل عن يساره.
    وفي رواية: فقام جعفر إلى جنب علي، فأحس النبي، فتقدمهما، فأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا، فانصرف أبو طالب مسروراً، وأنشأ يقول:
    إن علياً وجعفـــــراً ثقتـــــي عنــد ملم الزمان والنُـوَب
    لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم وأبي
    والله لا أخـــذل النبـــــي ولا يخذله من بنيَّ ذو حســب
    وكان أبو طالب إذا رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحياناً يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي، وكان عبد الله أخاه لأبويه، وكان شديد الحب والحنو عليه، وكذلك كان عبد المطلب شديد الحب له، وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) البيات إذا عرف مضجعه، فكان يقيمه ليلاً من منامه ويضجع ابنه علياً مكانه، فقال له علي ليلة: يا أبت إني مقتول.
    فقال له:
    اصبرنْ يا بني فالصبر أحـجى كل حي مصـيره لشعــــوب
    قـــد بذلناك والبلاءُ شـــديــــد لفداء الحبيب وابـن الحبيب
    لفــداء الأغــر ذي الحسب الثا قـب والباع والكريم النجيب
    فأجاب علي بقوله:
    أتأمرني بالصبر في نصر أحمـــد ووالله مــا قلت الذي قلت جازعا
    ولكنني أحببت أن تر نصرتــــــي وتعــلم أنـــــــي لم أزل لك طائعا
    سأسعى لوجه الله في نصر أحمد نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا
    وقال القرطبي في تفسيره: روى أهل السير قال: كان النبي قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي (صلّى الله عليه وآله) فانفتل النبي من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: يا عم! ألا ترى إلى ما فعل بي؟ فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): عبد الله بن الزبعري.
    فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي.
    فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: عبد الله بن الزبعري، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم، وأساء لهم القول.
    وهناك أحاديث كثيرة متواترة حول إسلام أبي طالب وإيمانه، بل وكتب طائفة من العلماء والفضلاء مؤلفات واسعة قيمة حول إيمان أبي طالب أمثال كتاب أسنى المطالب، وأبو طالب مؤمن قريش، وكتاب: الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، وفي المجلد السابع من الغدير لشيخنا الأميني ما يروي الغليل.
    ولسيدنا أبي طالب (عليه السلام) قصائد وأبيات في مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) والاعتراف برسالته والتصديق بنبوته، وذكر الشيخ الأميني في المجلد السابع من الغدير عن بعض المؤرخين: أن الأبيات التي قالها أبو طالب في مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) قد بلغت ثلاثة آلاف ونحن نقتطف أبياتاً تصرح بإيمان أبي طالب وتفانيه في نصرة النبي، فقد كتب أبو طالب أبياتاً إلى النجاشي ملك الحبشة وهي :
    ليعلم خيــــار الناس أن محمــــداً وزير كموسى والمسيح بــن مريــم
    أتانا بهــــدي مثـــل ما أتنا بــــه فكــل بأمـــر الله يهــــدي ويعصــم
    وقال أيضاً:
    ألا أبلغا عنــي علــى ذات بينــها لوَّيا وخُصّا مــــن لويِ بنـــي كعب
    ألم تعلمـــوا أنا وجـــدنا محمــداً رسولاً كموسى خُطّ فـي أول الكتب
    وقال أيضاً:
    يرجون أن نسخـــي بقتل محمـــد ولم تختضب سمر العوالي من الدم
    كذبتم وبيـــت الله حتــــى تفلقــوا جماجــم تلقــــى بالحطيــــم وزمزم
    وقال يخاطب النبي:
    والله لن يصلـــــوا إليك بجمعهـم حتى أوسّـــــد فــــي التراب دفينـــا
    فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بـــذاك وقُــرّ منـــك عيونــا
    ودعوتني وعلمت أنك ناصحـــي ولقـــد دعـــوت وكنــت ثَــم أمينـــا
    ولقـــد علمت بأن ديــــن محمــد من خيـــر أديـــان البريـــــة دينــــا
    وقال يمدح النبي:
    لقــــد أكرم الله النبــــي محمــــــداً فأكــــــــــــرم خلــق الله في الناس أحمـد
    وشــق لــه مـــــن اسمـــه ليجلــه فــذو العرش محمود وهـذا محمــد(13)
    وقال أيضاً:
    كذبتم وبيــت الله نبـــزي محمــــداً ولمـــا نطاعــــن دونـــه ونناضـــل
    ونسلمـــه حتـــى نصـــرّع حولـــه ونــذهــل عـــن أبنائنــا والحلائــــل
    وأبيض يستسقـى الغمــام بوجهــه ثمـــال اليتامــى عصمـــة للأرامـــل
    يلوذ بـــه الهُلاك مـــن آل هاشــــم فهم عنــــده فـــي رحمة وفواضــل
    ألــم تعلمـــوا أن ابننـــا لا مكــــذب لــــــدينا ولا نعبــأ بقـــول الأباطـــل
    فأيـــــــده رب العبـــــاد بنصــــــره وأظـــهر دينــاً حقــه غـيــر باطـــل
    وقال أيضاً:
    أوصــي بنصــر نبــي الخير أرـبعة ابني عـلياً وشيـــخ القـــوم عباسا
    وحمـــزة الأســـد الحامــي حقيقتـه وجعفــراً أن تذودوا دونــه الناسا
    كونــوا فــداءً لكم أمـي وما ولـدت فـي نصر أحمد دون الناس أتراسا
    وقال أيضاً:
    إن ابـــن آمنــة النبــــي محمـــــــداً عنــدي يفــــوق منــــازل الأولاد
    راعيت فـيـــه قـرابـة موصـــولــــة وحفـظـت فـيــه وصيــة الأجــداد
    وغير ذلك من قصائده وأبياته المفصلة المذكورة في ديوانه وسجلتها كتب التراجم والتاريخ.
    أما تكفي هذه الأحاديث وهذه القصائد أن تكون وثيقة لإيمان أبي طالب وإسلامه، وهل الإسلام غير هذا؟ ولو كان جزء من هذه الآثار والمآثر لأبي قحافة والخطاب أو عفان لكانوا أول المسلمين، ولكن أبا طالب (عليه السلام) بالرغم من تلك المواقف والمواطن التي وقف بها للدفاع عن النبي والمحافظة على حياته في الشعب وقبله وبعده، وهذه الاعترافات منه بنبوة محمد ورسالته، لا تكفي للدلالة على إسلامه فيقولون: مات أبو طالب مشركاً كافراً.
    فليكن كل هذا، فإن هذه الغارات التي تشن على كفيل رسول الله وناصره والمحامي عنه إنما هي لأجل ولده علي (عليه السلام) فإن القوم لم يرضوا أن تكون ساحة نسب علي (عليه السلام) منزهة عن كفر الجاهلية، ولم تطب نفوسهم أن تكون هذه المفاخر لعلي (عليه السلام) وسيعلمون غداً يوم يساقون إلى الحساب عما كتبت أيديهم.

    (1) نهج البلاغة، خطبة رقم 187.
    (2) البحار: ج9.
    (3) سورة الشعراء، الآية: 214.
    (4) البحار ـ ج9.
    (5) سورة الواقعة، الآية: 10.
    (6) سورة ص، الآية: 86.
    (7) سورة الأنعام، الآية: 163.
    (8) سورة البقرة، الآية: 131.
    (9) سورة الأعراف، الآية: 143.
    (10) سورة البقرة، الآية: 285.
    (11) سورة الأنعام، الآية: 14.
    (12) سورة غافر، الآية: 66.
    (13) وقد ضمن حسان بن ثابت هذا البيت في مديح النبي (صلّى الله عليه وآله).

  • #2
    من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

    الليلة الثالثة..





    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين وسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.
    قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)(1).

    حديثنا ـ الليلة ـ حول ما قام به علي (عليه لسلام) من التضحية والتفادي في سبيل رسول الله والدفاع عنه، ولقد ذكرنا في الليلة الماضية شيئاً يسيراً مما قام به أبوه سيدنا أبو طالب (عليه السلام) في الدفاع عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والحماية له.
    ومن هذه الليلة نبدأ بشرح ما قام به علي (عليه السلام) من توطين النفس لكل بلاء ومكروه في سبيل الإسلام، ولقد صدق من قال:
    ولولا أبو طالب وابنـــه لما مثل الدين شخصاً وقاما
    فذاك بمكة آوى وحامى وهـــذا بيثرب جس الحماما
    فـللـــه ذا فاتحاً للهـــدى ولله ذا للمعــالــــي ختـــاما
    فقد خلق الله تعالى علياً (عليه السلام) ليكون أحسن وزير وأشرف نصير
    للرسول وأوفى مدافع وأقوى مجاهد في سبيل الإسلام، ولقد تحقق الهدف الذي خلق علي (عليه السلام) من أجله، وقد ذكرنا نهضته المباركة يوم الإنذار وإجابته طلب الرسول وتلبيته لندائه، وكانت تلك النهضة فاتحة قيامه وجهاده، إذ تجلت فيها شخصية علي (عليه السلام) وعبقريته، وظهر مدى اعتماده على الله تعالى وعلى نفسه المتشبعة بالإيمان وقلبه المطمئن بذكر الله.
    واستمر الأمر من ذلك اليوم فكأنه فترة التدريب أو الامتحان التمهيدي الذي لا بد منه لكل مصلح منقذ أن يجس نبض المجتمع ليكون على بصيرة أكثر فينضج فكره بالتجارب لاتخاذ التدابير اللازمة لمشروعه الذي ينوي القيام به والسير على المخطط الذي جعله برنامجاً لحياته.
    ولولا خشية الافتراء على علي (عليه السلام) لقلت: إن قلب علي (عليه السلام) هو أقوى قلب خلقه الله في صدور البشر، وإن أعصاب علي كانت تستمد القوى من طاقة غير متناهية.
    وإلا فكيف يمكن للبشر أن لا يدخل الخوف قلبه، ولا تتوتر من الأهوال أعصابه، ولا يخشى من المستقبل المبهم الغامض ولا تستولي عليه الغرائز: غريزة حب الذات، حب الحياة، الأنانية وغيرها من الطبائع التي كثيراً ما تحول بين الإنسان وبين ما يريد؟
    ومن هذا الحديث ندرك الشجاعة التي خامرت نفس علي (عليه السلام) من صباه: عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة ـ لما بارزه علي (عليه السلام) ـ : يا قضم؟
    قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، وشكى ذلك إلى علي (عليه السلام)، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك.
    فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه أمير المؤمنين (عليه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، الصبيان يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا علي (عليه السلام) قضمنا علي.
    فسمي لذلك: القضم.
    ولقد حاول المشركون وكفار مكة خنق الإسلام والقضاء على حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشتى الطرق والأساليب، فكانت حركاتهم فاشلة، وجاءوا إلى أبي طالب وسألوه أن يمنع الرسول عن سب الآلهة!! وإفساد الشبان!! وتسفيه الأحلام! فلم يجدوا التجاوب من أبي طالب (عليه السلام).
    فجعلوا يحاربون النبي حرب الأعصاب، وجاءوا عن طريق التهديد والوعيد وإسناد السحر والجنون إليه، وقذفه بالحجارة وتلويث ثيابه بالدم والأقذار.
    وكتبوا الصحيفة القاطعة وقاطعوا بني هاشم أقسى مقاطعة، كل ذلك لا يزيد النبي إلا ثباتاً واستقامة، وخاصة لما نزلت عليه الآية: (فاستقم كما أُمرت)(2) واستمر الحال على هذا المنوال حتى توفيت السيدة خديجة الكبرى وبعد مدة يسيرة توفي سيدنا أبو طالب، وكانا بمنزلة جناحين لرسول الله، وخيمت الأحزان على قلب الرسول حتى سمي تلك السنة (عام الحزن).

    وعند ذلك خلا الجو للمشركين، واستضعفوا النبي لفقدان الناصر، وعزموا على اغتيال النبي وقتله، وإليكم التفصيل:
    اجتمع المشركون في دار الندوة وتذاكروا حول قتل النبي (صلّى الله عليه وآله) وتقرر أخيراً أن يجتمع من كل قبيلة رجل واحد ويهجموا على النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويقتلوه في بيته، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلة واجتمعوا على باب دار النبي (صلّى الله عليه وآله) ونزل جبرائيل على النبي وأخبره بمكيدة القوم وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة، فأرسل النبي إلى علي وقال له: يا علي إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وأنه أوحى إلي عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور، تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل وصانع؟
    فقال علي (عليه السلام): أوَ تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من سلامته، فكان علي (عليه السلام) أول من سجد لله شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما رفع رأسه قال له: امضي لما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكون فيه كمسرتك وأقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أو أن ألقي عليك شبهة مني، أو قال: شبهي، قال: أن يمنعوني نعم، قال: فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبراً صبراً، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجداً به، وبكى علي (عليه السلام) جزعاً على فراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
    وفي رواية: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ لعلي (عليه السلام) ـ : أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد؟ فلعله أن يبادر إليك الجهال فيقتلوك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءً ونفسي لنفسك فداء، بل رضيت أن يكون روحي ونفسي فداء أخ لك أو قريب...
    وهل أحب الحياة إلا لخدمتك، والتصرف بين أمرك ونهيك، ولمحبة أوليائك ونصرة أصفيائك ومجاهدة أعدائك.
    لولا ذلك لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة.
    وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لعلي (عليه السلام) فإذا قضيت ما أمرتك من أمر فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي عليك، ولا تلبث بعده.
    فانطلق النبي إلى الغار، ونام علي في مكانه ولبس برده، فجاء قريش يريدون أن يقتلوا النبي (صلّى الله عليه وآله)، فجعلوا يرمون علياً وهم يرون أنه النبي وكان علي (عليه السلام) يتضور (يتلوى) من الألم ولا يتكلم لئلا يعرفوه، وكان القوم يريدون الهجوم على البيت ليلاً، فيمنعهم أبو لهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم، ولا نأمن أن تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن، فيبقى ذلك علينا مسبة وعاراً إلى آخر الدهر في العرب.
    فجلسوا على الباب حتى طلع الفجر، فتواثبوا إلى الدار شاهرين سيوفهم، وقصدوا نحو مضجع النبي ومعهم خالد بن الوليد، فقال لهم أبو جهل: لا تقعوا به وهو نائم لا يشعر، ولكن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه، أيقظوه ليجد ألم القتل، ويرى السيوف تأخذه!! فرموه بأحجار ثقال صائبة، فكشف عن رأسه، وقال: ما شأنكم؟ فعرفوه، فإذا هو علي (عليه السلام) فقال أبو جهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به؟ وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد، وإلا فما منعه أن يبيت في موضعه إن كان ربه يمنع عنه كما يزعم.
    ثم قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.
    فأرادوا أن يضربوه فمنعهم أبو لهب، وقالوا لعلي: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة (أي بنومك على فراش النبي خدعتنا وظننا أنك محمد) وبقي النبي (صلّى الله عليه وآله) في الغار ثلاثة أيام وكان علي يأتيه بالطعام والشراب وفي رواية: استأجر ثلاث رواحل للنبي ولأبي بكر ولدليلهم.
    وخرج النبي بعد ذلك من الغار وتوجه نحو المدينة.
    روى الثعلبي في تفسيره قال: لما أراد النبي (صلّى الله عليه وآله) الهجرة خلف علياً (عليه السلام) لقضاء ديونه، ورد الودائع التي كانت عنده وأمر ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، وقال له يا علي: اتشح ببردي الحضرمي، ثم نم على فراشي فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، ففعل ما أمره، فأوحى الله عز وجل إلى جبرائيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله عز وجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمد (صلّى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله بك ملائكته؟؟ فأنزل الله عز وجل على رسوله (صلّى الله عليه وآله) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)(3).

    قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نزل علي جبرائيل صبيحة يوم الغار، فقلت: حبيبي جبرائيل أراك فرحاً، فقال: يا محمد وكيف لا أكون كذلك وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت: بماذا أكرمه الله؟ قال: باهى بعبادته البارحة ملائكته، وقال: ملائكتي! انظروا إلى حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي.
    وكان علي (عليه السلام) يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالى فقال شعراً:
    وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى ومــن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
    محمـــد لما خاف أن يمكـــروا بــه فوقـاه ربــــــي ذو الجلال من المكر
    وبتُّ أراعـيهــم متـــــى ينشرونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
    وبات رســـول الله فـــي الغار آمـناً هـنـاك وفــي حفظ الإله وفــــي ستر
    أقام ثلاثاً ثـــم زمـــــت قلائــــــص قلائـــص يفرين الحصى أينما تفـري
    إن هذا العمل العظيم الذي قام به الإمام العظيم علي (عليه السلام) وقع من أهل السماوات موقع الإعجاب والإكبار والتقدير، وهذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ الإسلام بل وفي تاريخ الأنبياء، فلا غرو ولا عجب إذا طأطأ العظماء رؤوسهم إجلالاً لعلي (عليه السلام) ونثروا الثناء الجميل نظماً ونثراً، ولم ينحصر التنويه والإشادة بهذه المكرمة بالمسلمين، بل شاركهم من غير المسلمين كل من تطبع بروح الفضيلة وحمل بين جوانح صدره قلباً وعى جزءً من الفتوة والشهامة والنجدة وكل يعمل على شاكلته، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
    أما من المسلمين فالسيد ابن طاووس له كلام لطيف وتحقيق ظريف سنذكره.
    وأما من غير المسلمين فأحدهم جورج جرداق الكاتب المعاصر وبولس سلامة في ملحمة الغدير، ونكتفي ـ هنا ـ بكلام ابن طاووس وجورج جرداق وبولس سلامة.
    قال السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال...
    ومن أسرار هذه المهاجرة: أن مولانا علياً (عليه السلام) بات على فراش المخاطرة وجاد بمهجته لمالك الدنيا والآخرة ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) فاتح أبواب النعم الباطنة والظاهرة، ولولا ذلك المبيت واعتقاد الأعداء أن النائم على الفراش هو سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) لما كانوا صبروا عن طلبه إلى النهار حتى وصل إلى الغار، فكانت سلامة صاحب الرسالة من قبل أهل الضلالة صادرة عن تدبير الله جل جلاله بمبيت مولانا علي (عليه السلام) في مكانه وآية باهرة لمولانا علي (عليه السلام) شاهدة بتعظيم شأنه، وأنزل الله جل جلاله في مقدس قرآنه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)(4) فأخبر أن لمولانا علي (عليه السلام) كانت بيعاً لنفسه الشريفة، وطلباً لرضاء الله جل جلاله دون كل مراد، وقد ذكرنا في الطرائف من روى هذا الحديث من المخالف، ومباهاة الله جل جلاله تلك الليلة بجبرائيل وميكائيل في بيع مولانا علي (عليه السلام) بمهجته، وأنه سمح بما لم يسمح به خواص ملائكته.

    ومنها: أن الله جل جلاله زاد مولانا علياً (عليه السلام) من القوة الإلهية والقدرة الربانية إلى أنه ما قنع له أن يفدي النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسه الشريفة، حتى أمره أن يكون مقيماً بعده في مكة مهاجراً للأعداء قد هربه منهم وستره بالمبيت على الفراش وغطاه عنهم، وهذا ما لا يحتمله قوة البشر إلا بآيات باهرة من واهب النفع ودافع الضرر.
    ومنها: أن الله عز وجل لم يقنع لمولانا علي (عليه السلام) بهذه الغاية الجليلة حتى زاده من المناقب الجميلة، وجعله أهلاً أن يقيم ثلاثة أيام بمكة لحفظ عيال سيدنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأن يسير بهم ظاهراً على رغم الأعداء وهو وحيد من رجاله، ومن يساعده على ما بلغ من المخاطرة إليه.
    ومنها: أن فدية مولانا علي (عليه السلام) لسيدنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانت من أسباب التمكين من مهاجرته ومن كل ما جرى من السعادات والعنايات بنبوته، فيكون مولانا علي (عليه السلام) قد صار من أسباب التمكين من ما جرت حال الرسالة عليه ومشاركاً في كل خير فعله النبي (صلوات الله عليه)، وبلغ حاله إليه، وقد اقتصرت في ذكر أسرار المهاجرة الشريفة النبوية على هذه المقامات الدينية، ولو أردت بالله جل جلاله أوردت مجلداً منفرداً في هذه الحال، ولكن هذا كاف شاف للمنصفين وأهل الإقبال.
    وقال الكاتب المسيحي جورج جرداق في كتابه: (صوت العدالة الإنسانية): أما علي بن أبي طالب، فما كان أعجب أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمد بن عبد الله، وفي سبيل الحق ورعاية الشرف والإخاء هذه المغامرة التي لم يعرف التاريخ أجل منها، وأقوى وأدل على وحدة الذات بين عظيم وعظيم.
    وإنها لإرادة على التضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في الظروف النادرة التي تقف بها النفس الإنسانية الواعية بين حالين من وجود وفناء في حيز من إدراك معنى الوجود على مثال خاص.
    فإما أن تؤثر لهذا الجسد عيشاً يقربه دون ما يحييه من قيم الحياة الصاعدة، فتنكر هذه القيم وتفضل عليها وجوداً هو أشبه بالفناء من حيث أن الوجود حياة تحيا! وإما أن تؤثر لهذا الكيان الإنساني انصهاراً بكليات القيم دونما نظر إلى وجود عضوي لا يتصل بروح الوجود الفذ، فتأتي هذه القيم سالكاً إليها طريق التهلكة.
    وما فناؤك آنذاك إلا دليل على أن الوجود إنما هو لديك حياة تحيا لا عيش يعاش!
    أجل، إنها لتضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في اختيار سقراط للموت وفي مسلك غيره من السقارطة، تضحية علي بن أبي طالب يفدي النبي بنفسه راضياً مختاراً على صورة أهون منها على لقاء الموت في ساحة القتال، أو على شفاه قمقم السم! فما أصعب على المرء أن يأخذ مكان رجل حكم عليه المجرمون بالقتل.
    وأن يرقد في فراشه فلا يخطئه هؤلاء إذا دخلت إرادتهم طور التنفيذ وهم منه على خطوات ينظرون إليه ويسمع إليهم.
    ثم إنه يترقب بين حين وحين رؤية أنظارهم تتوامض بالغدر تحت عينيه، وسيوفهم تتلامع بالموت فوق رأسه، طوال ليلة كاملة!
    لقد كان علي بمغامرته هذه استمراراً لمحمد.
    وكانت تضحيته من روح المقاومة التي عرف بها ابن عمه العظيم، وكان مبيته في فراش النبي تزكية للدعوة وحافزاً على الجهاد الطويل! ثم إن في هذه المغامرة ما يوجز الحقيقة عن الإمام وطباعه ومزاجه، فإذا هي صادرة عنه كما تصدر الأشياء عن معادنها دون تكلف ودون إجهاد.
    ففيها نموه الذهني المبكر الذي جعله يدرك من الدعوة التي يدق فهمها فهماً صحيحاً على من كان في مثل سنه.
    وفيها زهده بالحياة إذا لم تكن عمراً لمكارم الأخلاق.
    وفيها صدقه المر وإخلاصه العجيب.
    وفيها عدله بين نفسه وبين سواه من أهل الجهاد وما يتوخاه بذلك من نصرة للمظلومين والمستضعفين إذا قتل هو ونجحت الرسالة على يدي صاحب الهجرة.
    وفيها مواجهته للأمور بسماحة وبساطة لا يعرف معهما إلى الكلفة سبيلاً.
    وفيها المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات الفروسية التي يمثلها علي بن أبي طالب.
    بل قل هي شيء من استشهاده المقبل
    وقال الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير:
    هــــزه الشوق للنبــــــي فشـــــد العزم يهفــــو إلى جماع المآثر
    في رمال الصحراء يسري وحيداً مقـفـر الكـف أعـوزته الأباعـر
    صابر في العذاب والجوع حتـــى عجب القـفر مـن تقـشف صابر
    إلى أن يقول:
    لا فـراش ســوى الثرى، لا غــطاء لا ضياء سـوى النجوم الزواهر
    فيناجي السهى يصعــد فــــي الأجــ ــــــواء طرفاً يشـق ستــــر الدياجر
    إن هذا الصمت الرهـيب لقـــــــدس يغسل المــرء بالعـــذاب الصاهر
    فالخطــــــوب الجســـــام والألم الممــ ـــدود وحــــــي مطهــــر للضمائر
    فإذا كان طاهـــــــــــراً كعلــــــــــي شــــــــد لله قـلبـــــه بأواصــــر
    يذكـــــــــــر الله بكـــــرة وعـشيـــا ويـصــلي فــي كل ومضة خاطر
    فالمناجــاة والصــــــلاة عـطــــــور تتعـالـــى إلـــى السماء مباخـــر
    يا رمال الصحـــراء هــــذا عـلـــــي فاملــئي الدرب والضفاف أزاهر
    هـــو بعـــد النبـــــي أشرف ظـــــل لاح في الـسبسب الخلــي مهاجر
    حملـــــي أجنــــــح الأثيـــــر نسيماً من جفــون الأسحار ريان عاطر
    وابسطــي حولـــه الزنابــــق فـرشاً وانشري فـوقـــه الغمام مقاصر

    (1) سورة البقرة، الآية: 207.
    (2) سورة هود، الآية: 112.
    (3) سورة البقرة، الآية: 207.
    (4) سورة البقرة، الآية: 27.


    الليلة الرابعة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وصلى الله على سيد أنبياء الله محمد وآله سادات أولياء الله.
    ومن كلام لإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): ( أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني.
    فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة).
    هذه الجملات تجدونها في أكثر كتب الحديث وخصوصاً في كتاب نهج البلاغة في ضمن خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
    أخبر الإمام الناس باستيلاء معاوية على رقاب المسلمين، وذكر صفة من رذائله وهي كثرة الأكل وعدم الشبع لأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعا عليه بقوله: (لا أشبع الله بطنه).
    ولسنا الآن في مقام التحدث عن معاوية ونفسياته وإنما نقتطف من هذه الجملات جملة واحدة، ونجعلها محور حديثنا الليلة، وهي قوله (عليه السلام): (سبقت إلى الإيمان والهجرة) أما السبق إلى الإسلام والإيمان فقد مضى الكلام عنه، وأما السبق إلى الهجرة، فليس المقصود من الهجرة الانتقال من بلد إلى آخر، ولا يعد هذا فضيلة، فما أكثر المهاجرين! ولعل المقصود من الهجرة هو ترك الوطن وكل ما فيه لله وفي الله، وقد قال تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله)(1) وهذه الآية في شأن المجاهدين الذين يقتلون في سبيل الله والحجاج الذين يموتون في طريق الحج.

    والله تعالى يفضل المهاجرين على غيرهم لأنهم تركوا كل ما كانوا يملكون من المال والأهل والولد لأجل المحافظة على دينهم والتخلص من المشركين الذين كانوا يحاربون المسلمين أشد محاربة.
    وعلي (عليه السلام) سبق المسلمين إلى الهجرة، وقد اتفق المؤرخون وأجمعوا على أن علياً هو أول من التحق بالرسول وهو في المدينة وذلك بعد أن رد الودائع والأمانات إلى أهلها وعزم على الخروج من مكة إلى المدينة، وقد ذكر المؤرخون: أن أبا بكر هاجر مع النبي من الغار إلى المدينة فيمكن لنا أن نقول: أن خطاب علي (عليه السلام) كان موجهاً إلى الناس المخاطبين في ذلك اليوم وليس فيهم أبو بكر، وعلي سبق المسلمين إلى الهجرة، ويمكن أن نناقش في خروج أبي بكر مع النبي بأنه لم يقصد الهجرة أي ترك مكة وما فيها وإنما خرج مداراة ومجاراة وصحبة مع النبي وسايره حتى وصل إلى قباء خارج المدينة.
    وعلي خرج من مكة بهذا القصد، وترك وراءه كل شيء، فيصح أن يقال عنه: إنه أول المهاجرين على الإطلاق، ويمكن أن يكون المقصود الهجرة إلى الدين كما قال تعالى عن لسان لوط: (إني مهاجر إلى ربي)(2) وأما كيفية هجرة علي (عليه السلام) من مكة إلى المدينة فقد رواها المحدثون بهذه الكيفية: كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه، وقلة التلوم، وكان الرسول بعث إليه أبا واقد الليثي، فلما أتاه كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة.

    قال ابن شهر آشوب: واستخلفه الرسول (صلّى الله عليه وآله) لرد الودائع، لأنه كان أميناً، فلما أداها قام على الكعبة فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصية؟ هل من عدة له قبل رسول الله؟ فلما لم يأت أحد لحق بالنبي.
    وقال ابن شهر آشوب أيضاً: أمره النبي أن يؤدي عنه كل دين وكل وديعة وأوصى إليه بقضاء ديونه، فأذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا ـ إذا ملأ الليل بطن كل واد ـ إلى ذوي طوى، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وقد قيل: هي ضباعة، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأبو واقد رسول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (عليه السلام): ارفق بالنسوة أبا واقد! إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدركنا الطالب ـ أو قال: الطلب ـ فقال علي (عليه السلام): أربع عليك، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه، ثم جعل ـ يعني علياً (عليه السلام) ـ يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:
    ليس إلى الله فارفع ظنكا يكفيك رب الناس ما أهمكا
    وسار، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبع فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولى الحارث بن أمية يدعى جناحا، فأقبل علي (عليه السلام) على أيمن وأبي واقد وقد تراءى القوم فقال لهما: أنيخا الإبل وأعقلاها.
    وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم علي (عليه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت أنك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبا لك، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.
    ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته، وتختله علي (عليه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه حتى مس كاثبة فرسه، فكان علي (عليه السلام) يشد على قدمه شد الفرس، أو الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:
    خلوا سبيل الجاهد المجاهد آليت لا أعبد غير الواحد
    فتصدع القوم عنه، فقالوا له: اغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما، ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلبثوا هناك هو والفواطم: أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة بنت الزبير يصلون لله ليلتهم ويذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى علي (عليه السلام) بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلك منزلاً بعد منزل يعبدون الله عز وجل ويرغبون إليه كذلك حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً)(3) إلى قوله: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى)(4).
    ولما نزل الرسول (صلّى الله عليه وآله) بقباء خارج المدينة بقي ينتظر قدوم علي (عليه السلام)، فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك، وهم يستريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم إليك إلى شهر، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): كلا، ما أسرعه.
    ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل وأحب أهل بيتي إلي فقد وقاني بنفسه من المشركين فبقي النبي (صلّى الله عليه وآله) خمسة عشر يوماً فوافى علي بعياله وقد تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبكى رحمة لما بقدميه من الورم.
    وتفل في يديه وأمرهما على قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك أبداً.

    (1) سورة النساء، الآية: 100.
    (2) سورة العنكبوت، الآية: 26.
    (3) سورة آل عمران، الآية: 191.
    (4) سورة آل عمران، الآية: 195.

    تعليق


    • #3
      من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..2

      الليلة الخامسة
      بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله وسلام على رسول الله وعلى آله آل الله.
      قال الله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)(1).

      النكاح من سنن الله تعالى في عباده، والمقصود منه التناسل والتكاثر تحت ظل القانون الإلهي، وليس الهدف منه إشباع الغريزة الجنسية فقط بل هو في ضمنه وإنما هو كالحصن يحفظ الإنسان من فساد الخلاعة وويلات الفجور.
      والهدف الأسمى من النكاح هو: تأسيس بيت عائلي لتكوين جيل يربط الوالدين بتقبل المسؤوليات التي يتطلبها الجيل من بدو إيجاده إلى أن يقطع أدوار الحياة، وأطوارها من جنين ووليد ورضيع وفطيم وصبي وغلام ومراهق وشاب ويافع، أو بنت وشابة وفتاة وامرأة.
      فالنسل بحاجة ماسة ـ في أدواره ـ إلى الكفيل والمربي والمنفق والمؤدب والولي، إلى جانب حاجته إلى الرضاعة والحضانة والتربية والعناية والخدمة وتأمين لوازم الحياة من المأكل والملبس والمسكن والتعليم وما شابه ذلك.
      ولا يندفع أحد إلى تحمل هذه المسؤوليات كما يندفع الوالدان، ولا أظن أني أحتاج في هذا البحث إلى إقامة الدليل والبرهان.
      فهل تكون المرضعة كالأم؟، وهل الموظفات في دور الحضانة والروضات يسهرن الليالي للطفل المريض كما تسهر الأم الحنون؟؟ وقد قيل: ليست الثكلى كالمستأجرة، فهناك فرق كبير وبون شاسع بين من يندفع للعناية والرعاية بالأطفال بدافع الأبوة والعاطفة والمحبة التي لا يكدرها شيء، وبين من يتحمل مسؤولية بدافع الراتب والوظيفة.
      وإدراك أهمية هذا الموقف كثيراً ما يحول بين الوالدين وبين إجابة رغبات الأولاد وتحقيق هواياتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالارتباط بالعائلة يدفع الإنسان إلى التفكير حول تأمين حياته والخوض في معركة العمل المثمر والإنتاج المفيد، وفي الوقت نفسه يردعه عن كل مجازفة تهدد كيانه وحريته وتعرقل عليه المساعي كالإقدام على جريمة القتل أو ارتكاب الجنايات التي تؤدي إلى شقاء الوالدين.
      وإن هذه الأحزاب والمبادئ ـ التي استولت على الشباب واستنزفت منهم كل نشاط وطاقة ـ لم تنجح إلا بعد أن تقهقرت سنة الزواج بين المسلمين، وكثر عدد العزاب والبطالين الذين لا تربطهم بالحياة البيتية والعائلية أية رابطة أو مسؤولية، ولعل الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) يشير إلى هذا الموضوع حيث قال (عليه السلام): من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر.
      هذا والبحث طويل والكلام يحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا هذه المقدمة لحديثنا العذب في هذه الليلة.
      العراقيل والمشاكل التي سدت على شبابنا طرق الزواج وجعلتهم يهابون النكاح ولا يهابون السفاح، ويفضلون الكبت والضغط (على غرائزهم) أو يرجحون الفساد والمجون على انتخاب زوجة تشاركهم حلو الحياة ومرها وأفراحها وأتراحها.
      هذه العراقيل كانت موجودة في الجاهلية ولكن بصورة أخرى.
      كغلاء المهر والعصبيات القبلية وما شاكلها، فتكونت عندهم الأزمات بجميع أقسامها، واشتدت الحالة حتى أدت إلى دفن البنات وهن في قيد الحياة، قال تعالى: (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)(2) وقال عز وجل: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون)(3).

      فكان من جملة الخطوات الإصلاحية التي قام بها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) هو القضاء على هذه العادات الجهنمية والتقاليد الجاهلية، وإلى هذه الناحية أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(4).
      ولم يكتف الرسول الأقدس (صلّى الله عليه وآله) بمكافحة هذه السيئات ن طريق اللسان، فالكلام وحده لا يجدي، وإنما قام الرسول بفك هذه الأغلال عن طريق العمل.
      فمن جملة ذلك: أنه زوج ابنته الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) بأبسط ما يمكن، وتجسم التساهل في ذلك الزواج المبارك بخفة المؤونة وانتهاء الأمر بكل بساطة بعيداً عن التكاليف المجهدة المتعبة التي يفر من شبحها الشباب المغلول بسلاسل التقاليد ويفضل العزوبة على الزواج المقرون بالمشاكل، وإليكم الواقعة:
      لما أدركت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مدرك النساء خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام، والشرف والمال، وكان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعرض عنه رسول الله بوجهه، حتى كان الرجل منهم يظن ـ في نفسه ـ أن رسول الله فيه وحي من السماء.
      ولقد خطبها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبو بكر، فقال له رسول الله: أمرها إلى ربها، وخطبها بعد أبي بكر عمر بن الخطاب، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كمقالته لأبي بكر.
      فجاء أبو بكر وسعد بن معاد إلى علي (عليه السلام) وهو خارج المدينة يسقي نخلاً له، وسألاه عما يمنعه عن خطبة فاطمة (عليها السلام) فقال لهما علي: ما يمنعني إلا الحياء وقلة ذات اليد (المال) فقال له سعد: اذهب إلى رسول الله واخطب منه فاطمة، فإنه يزوجك، والله ما أرى رسول الله يحبسها إلا عليك.
      فقال علي: فأقول ماذا؟ فقال سعد: تقول: جئت خاطباً إلى الله ورسوله فاطمة بنت محمد.
      فأقبل علي (عليه السلام) يقصد دار النبي، وهبط جبرائيل على الرسول وأخبره بمجيء علي، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في دار أم سلمة، فدق علي الباب، فقالت أم سلمة: من بالباب؟ فقال لها الرسول ـ من قبل أن يقول علي: أنا ـ : قومي يا أم سلمة فافتحي له الباب، ومريه بالدخول، فهذا رجل يحبه الله ورسوله ويحبهما.
      فقالت أم سلمة: فداك أبي وأمي، ومن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره؟ فقال: مه يا أم سلمة، فهذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق(5) هذا أخي وابن عمي وأحب الخلق إلي.

      فقامت أم سلمة وفتحت الباب وإذا هو علي بن أبي طالب قالت أم سلمة: والله ما دخل حين فتحت الباب حتى علم أني رجعت إلى خدري، ثم دخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
      فقال النبي: وعليك السلام اجلس.
      فجلس علي، وجعل ينظر إلى الأرض، كأنه قصد لحاجة وهو يستحي أن يبديها، فهو مطرق إلى الأرض حياء من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال النبي: إني أرى أنك أتيت لحاجة، فقل ما حاجتك؟ وأبد ما في نفسك فكل حاجة لك مقضية.
      فقال علي (عليه السلام): فداك أبي وأمي، إنك لتعلم أنك أخذتني من عمك أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد وأنا صبي، فغذيتني بغذائك وأدبتني بأدبك، فكنت إلي أفضل من أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد في البر والشفقة، وأن الله تعالى هداني بك وعلى يديك وأنت (والله) يا رسول الله ذخري وذخيرتي في الدنيا والآخرة.
      يا رسول الله: فقد أحببت ـ مع ما شد الله من عضدي بك ـ أن يكون لي بيت وأن يكون لي زوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً راغباً، أخطب إليك ابنتك فاطمة! فهل أنت مزوجي يا رسول الله؟ فتهلل وجه رسول الله فرحاً وسروراً، ثم تبسم في وجه علي وقال: فهل معك شيء أزوجك به؟ فقال علي: فداك أبي وأمي، والله ما يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي وناضحي (البعير الذي يحمل عليه الماء) وما لي شيء غير هذا.
      فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا علي أما سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله وتقاتل به أعداء الله.
      وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك ولكني قد زوجتك بالدرع، ورضيت بها منك.
      يا علي أبشرك؟.
      فقال: نعم فداك أبي وأمي، بشرني فإنك لم تزل ميمون النقيبة، مبارك الطائر، رشيد الأمر، صلى الله عليك.
      فقال (صلّى الله عليه وآله): ابشر فإن الله قد زوجكها في السماء من قبل أن أزوجك في الأرض.. إلى آخر كلامه.
      ثم قال: يا علي إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها ولكن على رسلك حتى أخرج إليك فدخل عليها فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بالوضوء فوضئته بيدها وغسلت رجليه ثم قعدت فقال لها: يا فاطمة فقالت: لبيك ما حاجتك يا رسول الله؟ قال: إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه وإني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه وقد ذكر عن أمرك شيئاً فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها ولم ير فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كراهة، فقام وهو يقول: الله أكبر، سكوتها إقرارها، فمضى علي إلى المسجد، وجاء رسول الله في أثره، وفي المسجد المهاجرون والأنصار، فصعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على درجة من المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: معاشر المسلمين إن جبرائيل أتاني آنفاً فأخبرني عن ربي عز وجل أنه جمع الملائكة عند البيت المعمور وأنه أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة بنت رسول الله من عبده علي بن أبي طالب، وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم على ذلك، ثم جلس وقال لعلي: قم يا أبا الحسن فاخطب أنت لنفسك: فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال: الحمد لله شكراً لأنعمه وأياديه، ولا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه، وصلى الله على محمد صلاة تزلفه وتحظيه، والنكاح مما أمر الله عز وجل به ورضيه، ومجلسنا هذا مما قضاه الله وأذن فيه، وقد زوجني رسول الله ابنته فاطمة، وجعل صداقها درعي هذا وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا.
      فقال المسلمون لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): زوجته يا رسول الله؟ فقال: نعم.
      فقالوا بارك الله لهما شملهما.
      وانصرف رسول الله إلى أزواجه وأقبل فقال: يا علي انطلق الآن فبع درعك وائتني بثمنه حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما قال علي: فانطلقت فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية وقيل بأربعمائة وثمانين أو خمسمائة من عثمان بن عفان فلما قبضت الدراهم أقبلت إلى رسول الله وطرحت الدراهم بين يديه، فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأبي بكر فدفعها إليه وقال: اشتر بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها، وبعث معه سلمان وبلالاً ليعيناه على حمل ما يشتريه، قال أبو بكر: أحصيت الدراهم التي أعطانيها ثلاثة وستين درهماً فانطلقت واشتريت فراشاً من خيش مصر محشواً بالصوف، ونطعاً من أدم، ووسادة من أدم حشوها من ليف النخل، وعباءة خيبرية، وقربة للماء، وكيزاناً، وجراراً، ومطهرة للماء، وستر صوف، رقيقاً وحملناه جميعاً حتى وضعناه بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما نظر إليه بكى، وجرت دموعه ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف! قال علي: ودفع رسول الله باقي ثمن الدرع إلى أم سلمة فقال: اتركي هذه الدراهم عندك.
      ومكثت بعد ذلك شهراً لا أعاود رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أمر فاطمة بشيء استحياء من رسول الله غير أني كنت إذا خلوت برسول الله يقول لي: يا أبا الحسن ما زوجتك سيدة نساء العالمين.
      قال علي: فلما كان بعد شهر دخل علي أخي عقيل بن أبي طالب فقال: يا أخي ما فرحت بشيء كفرحي بتزويجك فاطمة بنت محمد (صلّى الله عليه وآله)، يا أخي فما بالك لا تسأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يدخلها عليك فتقر عيناً باجتماع شملكما؟ قال علي: والله يا أخي إني لأحب ذلك وما يمنعني من مسألته إلا الحياء منه، فقال: أقسمت عليك إلا قمت معي.
      فقمنا نريد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلقيتنا في طريقنا أم أيمن مولاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فذكرنا ذلك لها فقالت لا تفعل ودعنا نحن نكلمه، فإن كلام النساء في هذا الأمر أحسن وأوقع بقلوب الرجال.
      ثم انثنت راجعة فدخلت على أم سلمة فأعلمتها بذلك وأعلمت نساء النبي فاجتمعن عند رسول الله وكان في بيته عائشة فأحدقن به وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء لقرت بذلك عينها.
      قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم قال: خديجة! وأين مثل خديجة؟ صدقتني حين كذبني الناس وآزرتني على دين الله وأعانتني عليه بمالها!! إن الله عز وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.
      قالت أم سلمة فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك، غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورضوانه ورحمته، يا رسول الله وهذا أخوك في الدنيا وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحب أن تدخل عليه زوجته فاطمة تجمع بها شمله.
      فقال: يا أم سلمة فما بال علي لا يسألني ذلك؟ فقلت: الحياء منك يا رسول الله.
      قالت أم أيمن: فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): انطلقي إلى علي فآتيني به، فخرجت من عند رسول الله، فإذا علي ينتظرني، ليسألني عن جواب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحضر علي (عليه السلام) عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
      فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هيئ منزلاً حتى تحول فاطمة إليه، فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله ما هاهنا منزل إلا منزل حارثة بن النعمان وكان لفاطمة (عليها السلام) يوم بنى بها أمير المؤمنين (عليه السلام) تسع سنين، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): والله لقد استحينا من حارثة بن النعمان قد أخذنا عامة منازله.
      فبلغ ذلك حارثة فجاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أنا ومالي لله ولرسوله، والله ما شيء أحب إلي مما تأخذه والذي تأخذه أحب إلي مما تتركه، فجزاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيراً، فحولت فاطمة إلى علي (عليه السلام) في منزل حارثة، وبسطوا في بيت علي كثيباً (الرمل)، ونصبوا عوداً يوضع عليه السقاء (القربة) وستروه بكساء ونصبوا خشبة من حائط إلى حائط للثياب وبسط جلد كبش ومخدة ليف.
      فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): يا علي اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً، فجاء أصحابه بالهدايا، فأمر النبي فطحن البر (الحنطة) وخبز، وذبح الكبش واشترى علي تمرأ وسمناً، وأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحسر عن ذراعيه، وجعل يشدخ التمر في السمن فقال النبي: يا علي ادع من أحببت.
      قال علي: فأتيت المسجد وهو غاص بالناس، فناديت: أجيبوا إلى وليمة فاطمة بنت محمد، فأجابوا من النخلات والزروع، وأقبل الناس إرسالاً وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، وساير نساء المدينة، ورفعوا منها ما أرادوا، ولم ينقص من الطعام شيء، ثم دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالصحاف (الأواني) فملئت، ووجه بها إلى منازل أزواجه ثم أخذ صحفة، وقال: هذه لفاطمة وبعلها.
      (عن ابن بابويه): أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة سلام الله عليها وأن يفرحن ويرجزن ويكبرن ويحمدن ولا يقولن ما لا يرضي الله.
      قال جابر: فأركبها على ناقته ـ وفي رواية على بغلته الشهباء ـ وأخذ سلمان زمامها والنبي وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ونساء النبي (صلّى الله عليه وآله) قدامها يرجزن، فأنشأت أم سلمة تقول:
      سرن بعــــــون الله جاراتـــي واشكرنه فــــي كــــــل حالات
      واذكــرن ما أنعـــم رب العـلا مــــن كشف مكــــــروه وآفات
      فـقــد هـدانا بعد كفـر وقـــــد أنعشـــــــنا رب السمـــــــاوات
      وسرن مـع خير نساء الورى تفــــــدى بعمـــــات وخــــالات
      يا بنت مــــن فـضله ذو العلا بالوحـــي منـــه والرســــــالات
      وقالت عائشة:
      يا نسوة استتـــرن بالمعاجــر واذكرن ما يحسن في المحاضر
      واذكرن رب الناس إذ يخصـنا بـــدينـــه مع كل عـبـــد شاكـــر
      والحمـــد لله علـــى أفـضالـــه والشكـــر لله العـزيـــز القــــادر
      سرن بها فالله أعـطــى ذكرها وخصها منــــه بطهـــر طاهـــر
      وقالت حفصة:
      فاطمـــة خيـــر نساء البشــر ومــن لها وجــــه كوجه القـمر
      فــضلك الله عـلــى كل الورى بفـضل مـــن خص بآي الزمـــر
      زوجــــك الله فـتــى فاضــــلاً أعـنـي علياً خير من في الحضر
      فـســرن جاراتـــي بها فإنهــا كريمـــة بنت عـظيــــم الخطـــر
      وقالت معاذة أم سعد بن معاذ:
      أقـــول قـــولاً فـيـــه ما فـيــه وأذكـــــر الخـيـــــر وأبديـــــه
      محمــــد خيــــــر بنــــــي آدم ما فـيـــه مــــن كـبـــر ولا تيه
      بفـضلـــه عـــــرفـنا رشــــدنا فالله بالخيـــــــــر يجازيـــــــــه
      ونحــن مع بنت نبــي الهــدى ذي شـــرف قـــد مكــنت فـيــه
      فــــي ذروة شامخـة أصـــلها فـما أرى شيئـــــــــاً يدانيــــــه
      وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كل رجز ثم يكبرن ودخلن الدار ثم أنفذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) ثم دعا فاطمة سلام الله عليها فأخذ يدها ووضعها في يده وقال: بارك الله في ابنة رسول الله.
      يا علي: نعم الزوجة فاطمة ويا فاطمة نعم الزوج علي، ثم قال: يا علي هذه فاطمة وديعتي عندك، ثم قال النبي (صلّى الله عليه وآله): اللهم اجمع شملهما، وألف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة، واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما يرضيك، اللهم إنهما أحب خلقك إلي، فأحبهما واجعل عليهما منك حافظاً وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم.
      ثم خرج إلى الباب وهو يقول: طهركما وطهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما، وحرب لمن حاربكما، أستودعكما الله، وأستخلفه عليكما.
      وباتت أسماء عندهما في البيت، وأصبح الصباح، وجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى زيارة العروسين، وقال: السلام عليكما، أأدخل؟ ففتحت أسماء الباب فدخل النبي، فسأل علياً (عليه السلام): كيف وجدت أهلك؟ قال: نعم العون على طاعة الله، وسأل فاطمة فقالت: خير بعل، وجاء النبي بعس (قدح) فيه لبن فقال لفاطمة: اشربي فداك أبوك، وقال لعلي: اشرب فداك ابن عمك.
      ثم قال (صلّى الله عليه وآله): يا علي آتيني بكوز من ماء، فجاء علي بكوز من ماء فتفل فيه ثلاثاً، وقرأ عليه آيات من كتاب الله تعالى ثم قال: يا علي اشربه، واترك فيه قليلاً ففعل علي ذلك.
      فرش النبي (صلّى الله عليه وآله) باقي الماء على رأسه وصدره، ثم قال: أذهب الله عنك الرجس يا علي وطهرك تطهيراً.
      وأمره بالخروج من البيت وخلي بابنته فاطمة وقال: كيف أنت يا بنية؟ وكيف رأيت زوجك؟ قالت: يا أبه خير زوج إلا أنه دخل علي نساء من قريش وقلن لي: زوجك رسول الله من فقير لا مال له.
      فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يا بنية ما أبوك بفقير، ولا بعلك بفقير.
      ولقد عرضت علي خزائن الأرض من الذهب والفضة فاخترت ما عند ربي عز وجل، يا بنية لو تعلمين ما علم أبوك لسمحت الدنيا في عينيك، والله يا بنية ما ألوتك نصحاً، إني زوجتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً، يا بنية إن الله عز وجل اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار من أهلها رجلين فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك.
      يا بنية نعم الزوج زوجك لا تعصي له أمراً(6).

      (1) سورة النور، الآية: 32.
      (2) سورة التكوير، الآيتان: 8 و9.
      (3) سورة النحل، الآيتان: 58 و59.
      (4) سورة الأعراف، الآية: 157.
      (5) الخرق: سيئ التصرف والجاهل. والنزق: الخفيف في كل أمر، العجول في الجهل والحمق.
      (6) اقتطفنا أحاديث هذا البحث من المجلد العاشر من كتاب بحار الأنوار لشيخنا المجلسي (ره).
      الليلة السادسة

      تعليق


      • #4
        احسنتـــــــــــــــــــــــــــم

        تعليق

        المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
        حفظ-تلقائي
        x

        رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

        صورة التسجيل تحديث الصورة

        اقرأ في منتديات يا حسين

        تقليص

        لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

        يعمل...
        X