إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

    الليلة السادسة


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله على ما أنعم وصلى الله على سيد العرب والعجم محمد وآله أهل الجود والكرم.
    قال الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)(1) الآية.

    الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحافظ على الأمن والسلام، وهو الذي يحافظ على النفوس والأموال والحقوق أكثر من أي دين آخر، وأبغض شيء عند الإسلام هو إراقة دماء البشر وسلبهم نعمة الحياة بغير حق، ولكن الشرع والعقل والقانون يسمح بإراقة دم كل من يقف حجر عثرة في سبيل إسعاد أبناء البشر.
    مثلاً: بلدة ليس فيها طبيب ولا دواء، وقد انتشرت فيهم الأمراض وأخذت منهم كل مأخذ، فجاء طبيب يداوي المرضى ويهب لهم الدواء مجاناً وبلا عوض، ويصلح كل ما فسد منهم ويعيد إليهم ما فقدوه من الصحة والعافية والسلامة ليعيشوا سعداء أصحاء.
    وإذا بجماعة يحولون بين الطبيب وبين تداوي الناس ويحاربونه بكل ما لديهم من قوة ليحطوا من نشاط الطبيب، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكلما صاح فيهم الطبيب وصرخ وذكر لهم الهدف الذي يبتغيه لأجلهم وهو الخير ازدادوا عناداً، وجعلوا يهددون المرضى ـ الذين قد تحسنت صحتهم ولمسوا العافية من نصائح الطبيب ـ بالوعيد، وكأن هؤلاء لا يعجبهم أن يروا السلامة والصحة تخيمان على رؤوس المرضى.
    أليس العقل يحكم على هؤلاء المهرجين بالإعدام؟ أليس هؤلاء أضر على البشر من الحيوانات المفترسة؟ أليس هؤلاء أشد خطراً من الأمراض الفتاكة التي تهدد البشر بالفناء؟ فالمريض هو المجتمع الجاهلي الفاسد، والطبيب هو الرسول، والمهرجون هم المناوئون للرسول، على هذا أمر الإسلام بجهاد المشركين والكفار الذين حاربوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم كان في مكة وهجموا عليه ليقتلوه وكفاه الله شرهم، واضطر النبي أن يترك مسقط رأسه ويهاجر من وطنه كي يستطيع الاستمرار في الدعوة إلى مبدئه وإذا بالأعداء يطاردونه، وتتحزب الأحزاب ضده، ويستعين بعضهم ببعض للقضاء على الرسول ومبدئه وعلى كل من اعتنق ذلك الدين الذي اعتبروه ديناً جديداً.
    ولا بد للرسول الأعظم أن يقف أمام هؤلاء للدفاع عن نفسه ومبدئه فهو بحاجة ماسة إلى الأنصار والأعوان ليقاوم بهم الأعداء الألداء، وهم ـ الأنصار ـ أصحابه الذين أسلموا على يديه وهاجروا من مكة، وفيهم الشيوخ والكهول والشبان والمراهقون، وقد امتلأوا حباً للإسلام وتسلحوا بسلاح الإيمان الذي هو أقوى سلاح.
    ولكن غريزة حب الحياة ما فارقتهم في بدء الأمر، فمن الصعب المستصعب عليهم أن يخوضوا غمار الموت، ويستقبلوا السيوف والرماح وخاصة وهم الأقلون عدداً وعدة، وعدوهم هو الأكثر عدداً وعدة.
    وقعت الحرب الأولى للمسلمين في منطقة بين المدينة ومكة يقال لها: (بدر) فقد خرج الرسول بجيشه إلى ذلك الموضع واستقبل المشركين الذين قصدوه من مكة، وفي بدر التقى العسكران وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وعدد المشركين بين التسعمائة والألف وقد اجتمع مشركو مكة وكفارها، وفيهم أقطاب الشرك كأبي جهل وأبي سفيان، وهم يزعمون أن الغلبة لهم والنصر والظفر من نصيبهم، ولكن الله أراد شيئاً آخر، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله.
    وكان علي (عليه السلام) له الحظ الأوفر والنصيب الأكثر من الشجاعة ومقاتلة الأبطال ومنازلة الشجعان، ولا أقصد من كلمتي هذه أن علياً كان سفاكاً للدماء، بل المقصود: أن إيمان علي (عليه السلام) بالله كان فوق كل غريزة وكل اتجاه، مع العلم أنه كان يومذاك في ريعان الشباب، والشاب أكثر تعلقاً بالحياة من الشيخ الذي قضى وطره في حياة الدنيا، مع ذلك لم يكن علي (عليه السلام) يعرف للخوف معنى، ولا للجبن مفهوماً في نفسه، بل كان يستقبل الموت برحابة صدر ويهرول في الحرب جانب العدو كأنه يقصد شيئاً يحبه حتى أجمع المسلمون وغير المسلمين أن علياً أشجع العرب والعجم، ولم يشهد التاريخ له مثيلاً ونظيراً فضلاً من أن يرى أشجع منه.
    وهذه نبذة من غزوات الرسول (صلّى الله عليه وآله) التي حضرها الإمام.
    وكان نصيبه من الجهد والعناء أكثر من غيره، ولم يسلم علي من سهام العدو وسيوفهم، بل كانت الجراحات تأخذ من مقاديم بدنه كل مأخذ، ولولا حفظ الله وعنايته لكان علي من المقتولين في تلك الحروب.
    قال ابن أبي الحديد: وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند ـ صديقه وعدوه ـ أنه سيد المجاهدين وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له؟ وقد عرفت أن أعظم غزوة غزاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأشدها نكاية في المشركين: بدر الكبرى التي قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر، وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الأشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما...
    فلنبدأ بذكر الغزوات حسب التاريخ مع رعاية الإجمال والاختصار ونذكر مواقف علي (عليه السلام) فيها:
    علي (عليه السلام) يوم بدر
    في البحار: ج6 قال الإمام الباقر (عليه السلام): انتدب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليلة بدر إلى الماء، فانتدب علي (عليه السلام)، فخرج، وكانت ليلة باردة ذات ريح وظلمة فخرج بقربته، فلما كان إلى القليب (البئر) لم يجد دلواً، فنزل في الجب تلك الساعة، فملأ قربته، ثم أقبل فاستقبلته ريح شديدة فجلس حتى مضت، ثم قام، ثم مرت به ريح أخرى فجلس حتى مضت، ثم قام، ثم مرت به أخرى فجلس حتى مضت، فلما جاء إلى النبي قال له النبي (صلّى الله عليه وآله): ما حبسك يا علي؟ قال: لقيت ريحاً ثم ريحاً ثم ريحاً شديدة فأصابتني قشعريرة.
    فقال: أتدري ما كان ذلك يا علي؟ فقال: لا.
    فقال: ذاك جبريل مر في ألف من الملائكة وقد سلم عليك وسلموا، ثم مر ميكائيل في ألف من الملائكة فسلم عليك وسلموا، ثم مر إسرافيا وألف من الملائكة فسلم عليك وسلموا.
    وفي هذه الليلة اختص أمير المؤمنين (عليه السلام) بثلاثة آلاف فضيلة وثلاث فضائل، لتسليم ثلاثة آلاف وثلاثة من الملائكة عليه، وفيها يقول الحميري:
    أقســـــم بــــــالله وآلائـــــه والـــمرء عما قال مســؤول
    إن عـلـــي بن أبــي طالـــب عـلــى التقى والبر مجــبول
    كان إذا الحرب مرتها القــنا وأحجمت عـنها البهاليـــــل
    يمشي إلى القرن وفي كفـه أبيض ماضي الحد مصقول
    مشــــي العفرنا بين أشباله أبـــرزه للقـنـــــص الغيــــل
    ذاك الذي سلم فـــــــي ليلة عـليـــه ميكــــال وجـبريــل
    ميكال في ألف وجبريل في ألف ويتلــــوهم اسرافـيـــل
    ليلة بـــدر مــــدداً أنزلــــوا كأنهـــم طيــــر أبابيــــــــل
    ولما أصبح الصباح استعد الفريقان للحرب، وتقدم عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقالوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش، فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش، فنظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان له يومئذ سبعون سنة فقال: قم يا عبيدة، فقام بين يديه بالسيف ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عم، ثم نظر إلى علي فقال: قم يا علي (وكان أصغر القوم) فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها، تريد أن تطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره فقاموا بين يدي رسول الله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة وقال لحمزة: عليك بشيبة.
    وقال لعلي (عليه السلام): عليك بالوليد، فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها (قطعها) فسقطا جميعاً وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه، قال علي (عليه السلام) لقد أخذ الوليد يمينه بشماله فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى الكلب (بهر) نهز عمك؟ فحمل عليه علي (عليه السلام) فقال: يا عم طأطئ رأسك، وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضرب علي (عليه السلام) شيبة فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه.
    وفي رواية أخرى: أنه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة وبرز علي للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي الوليد، وضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلي، وحمل حمزة وعلي عبيدة حتى أتيا به رسول الله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيداً؟ قال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي.
    فقال: أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه، قال: وأي أعمامي تعني؟ فقال: أبو طالب حيث يقول:
    كذبتم وبيت الله يبزى محمد ولما نطاعن دونه ونناضل
    ونسلمه حتى نصرع حولــه ونذهل عن أبنائنا والحلائل
    فقال رسول الله رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة، فقال: يا رسول الله أسخطت علي في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك.
    كان القتلى من المشركين في يوم بدر سبعين، قتل منهم علي بن أبي طالب سبعة وعشرين، وكان الأسرى سبعين!! صورة أخرى للواقعة: فصاح بهم عتبة: اتسبوا نعرفكم، فإن تكونوا أكفاء نقاتلكم.
    فقال عبيدة: أنا عبيدة وهو يومئذ أكبر المسلمين، فقال: هو كفو كريم، ثم قال لحمزة: من أنت؟ قال: حمزة بن عبد المطلب، أنا أسد الله وأسد رسوله، أنا صاحب الحلفاء، فقال له عتبة: سترى صولتك اليوم يا أسد الله وأسد رسوله قد لقيت أسد المطيبين!! فقال لعلي: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله وأخو رسوله، أنا علي بن أبي طالب.
    فقال: يا وليد دونك الغلام، فأقبل الوليد يشتد إلى علي، قد تنور وتخلق.
    وعليه خاتم من ذهب، بيده السيف قال علي: قد طال علي في طول نحو من ذراع، فختلته حتى ضربت يده التي فيها السيف، فبدرت يده وبدر السيف حتى نظرت إلى بصيص (بريق) الذهب في البطحاء، وصاح صيحة أسمع أهل العسكرين فذهب مولياً نحو أبيه وشد عليه علي (عليه السلام)، فضرب فخذه فسقط، وقام علي (عليه السلام) وقال:
    أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب وهاشم المطعم في العام السغب
    أوفي بميثاقي وأحمي عن حسب
    ثم ضربه فقطع فخذه.
    ففي ذلك تقول هند بنت عتبة:
    أبي وعمي وشقيق بكري أخي الذي كانوا كضوء البدر
    بهم كسرت يا علي ظهري
    علي (عليه السلام) يوم أحد
    أحد: اسم منطقة بالقرب من المدينة في سفح الجبل، وفيها وقعت واقعة أحد، والتقى المسلمون بالمشركين، واشتعلت نار الحرب وقامت على ساق، نقتطف من الواقعة موقف علي (عليه السلام) فيها، وما أصابه من العناء.
    وقد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي العبدري من بني عبد الدار، فبرز ونادى: يا محمد أو يا معاشر أصحاب محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إلي، فبرز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول:
    يا طلح إن كنتم كما تقول لكم خيول ولنا نصـــول
    فاثبت لننظر أينا المقـتول وأينا أولـــى بما تقـــول
    فقد أتاك الأسد الصؤل
    بصارم ليس به فـلــــــول ينصره القاهر والرسول
    فقال طلحة: من أنت يا غلام؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: قد علمت يا قضم، إنه لا يجسر علي أحد غيرك، فشد عليه طلحة فضربه، فاتقاه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالحجفة، ثم ضربه أمير المؤمنين على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره، وسقطت الراية، فذهب علي (عليه السلام) ليجهز عليه فحلفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا أجهزت عليه؟ قال: قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً، ثم أخذ الراية سعيد بن أبي طلحة، فقتله علي (عليه السلام)، وسقطت رايته إلى الأرض فأخذها عثمان بن طلحة، فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلى الأرض فأخذها الحارث بن أبي طلحة، فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلى الأرض فأخذها عزيز بن عثمان فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلى الأرض فأخذها عبد الله بن جميلة بن زهير فقتله علي (عليه السلام) وسقطت رايته إلى الأرض، فقتل أمير المؤمنين التاسع من بني الدار وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزة، وسقطت الراية إلى الأرض فأخذها مولاهم صوأب فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) على يمينه فقطعها، وسقطت الراية إلى الأرض فأخذها بشماله، فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) على شماله فقطعها فسقطت الراية إلى الأرض فاحتضنها بيديه المقطوعتين، ثم قال: يا بني عبد الدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) على رأسه فقتله وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فنصبتها.
    وانهزم المشركون وتبعهم المسلمون وشرعوا بجمع الغنائم، ولما رأى المشركون ذلك ووجدوا المسلمين مشغولين بالنهب رجعوا من طريق آخر، وجعلوا المسلمين في الوسط، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، بقيادة خالد بن الوليد، وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة، وانقسم الناس آنذاك إلى قسمين: المنهزمين وهم الأكثر عدداً، والثابتين وهم ما بين قتيل وجريح، وكان علي (عليه السلام) أكثرهم جراحاً، فقد أصيب في ذلك اليوم بتسعين جراحة يصعب علاجها وتداويها(2).

    في البحار: وقال شقيق بن سلمة: كنت أماشي عمر بن الخطاب إذ سمعت منه همهمة، فقلت له: مه يا عمر؟ فقال: ويحك!! أما ترى الهزبر القثم بن القثم، والضارب بالبهم، الشديد على من طغى وبغى، بالسيفين والراية!!! فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب.
    فقال: ادن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي (صلّى الله عليه وآله) يوم أحد على أن لا نفر، ومن فر منا فهو ضال، ومن قتل منا فهو شهيد، والنبي (صلّى الله عليه وآله) زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد، تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون، فأزعجونا عن طاحونتنا، فرأيت علياً (عليه السلام) كالليث يتقي الذر إذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به وجوهنا، ثم قال: (شاهت الوجوه، وقطت وبطت ولطت، إلى أين تفرون؟ إلى النار؟) فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت!!! فقال: بايعتم ثم نكثتم؟ فو الله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل، فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوءين دماً، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت: يا أبا الحسن، الله الله!! فإن العرب تفر وتكر، وإن الكرة تنفي الفرة.
    فكأنه استحيا، فولىا بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي فو الله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة...
    ولم يبق مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلا أبو دجانة سماك بن خرشة وأمير المؤمنين (عليه السلام) وكلما حملت طائفة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) استقبلهم أمير المؤمينن (صلوات الله عليه) فيدفعهم عن رسول الله، ويقتلهم حتى انقطع سيفه.
    عن عكرمة قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لحقني من الجزع عليه ما لم يلحقني قط، ولم أملك نفسي وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره فقلت: ما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليفر، وما رأيته في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سيفي، وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فأفرجوا عني وإذا أنا برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وقع على الأرض مغشياً عليه فقمت على رأسه، فنظر إلي فقال: ما صنع الناس يا علي: فقلت: كفروا يا رسول الله، وولوا الدبر من العدو، وأسلموك، فنظر النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة، فحملت عليها أضربها بسيفي يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء؟ إن ملكاً يقال له رضوان ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
    فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه على نعمته.
    وفي رواية قال الصادق (عليه السلام): انهزم الناس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فغضب غضباً شديداً وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبهته مثل اللؤلؤ من العرق، فنظر فإذا علي (عليه السلام) إلى جنبه، فقال: ما لك لم تلحق ببني أبيك؟ فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله أكفر بعد إيماني؟ إن لي بك أسوة، فقال: أما الآن فاكفني هؤلاء، فحمل علي (عليه السلام) فضرب أول من لقي منهم، فقال جبرائيل (عليه السلام): إن هذه لهي المواساة يا محمد، قال: (إنه مني وأنا منه) قال جبرائيل: وأنا منكما.
    وأقبل علي (عليه السلام) إلى المدينة وهو ثقيل بالجراحات، وبات على الفراش، ولما أصبح النبي (صلّى الله عليه وآله) جاء إلى دار علي يعوده، فبكى علي (عليه السلام) وقال: يا رسول الله أرأيت كيف فاتتني الشهادة؟ فقال الرسول: إنها من ورائك يا علي(3).
    علي (عليه السلام) يوم بني النضير
    يوم توجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى بني النضير عمد يحمل على حصارهم، فضرب قبته في أقصى بني حطمة من البطحاء، فلما جن الليل رماه رجل من بني النضير بسهم، فأصاب القبة، فأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن تحول قبته إلى السفح، وأحاط بها المهاجرون والأنصار فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال الناس: يا رسول الله ما نرى علياً؟!، فقال (صلّى الله عليه وآله): أراه في بعض ما يصلح شأنكم.
    فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان يقال له: عزوراً، فطرحه بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال النبي: كيف صنعت؟ فقال: إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً، فكمنت له، وقلت: ما أجرأ أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غرة، فأقبل مصلتاً بسيفه في تسعة نفر من اليهود، فشددت عليه وقتلته، فأفلت أصحابه، ولم يبرحوا قريباً، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم.
    فبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) معه عشرة، فأدركوهم قبل أن يدركوا الحصن، فقتلوهم وجاءوا برؤوسهم إلى النبي وأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة.
    وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير.
    علي (عليه السلام) يوم الخندق
    تحزبت الأحزاب ضد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مكة وضواحيها وقصدت المدينة لمحاربة رسول الله، ونزل جبرائيل على النبي وأخبره فاستشار النبي أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق حول المدينة، فأقبل رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار، وحفروا الخندق، في جانب من المدينة يشبه نصف الدائرة، فلما فرغوا من حفر الخندق، وصل المشركون، ونزلوا بالقرب من الخندق.
    وخرج فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله قد تلبسوا للقتال، وخرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وتعرفها قبل ذلك فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه (سلمان) ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيولهم، فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ منهم الثغرة التي منها اقتحموا، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان بينهم عمرو بن عبد ود فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتث (حمل من المعركة) وأثقلته الجراح فلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده، وكان يعد بألف فارس وكان يسمى: فارس يليل لأنه: أقبل في ركب من قريش حتى إذا هو بيليل وهو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا، فمضوا، فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلك، وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق: المداد، وكان أول من طفره عمرو وأصابه، فقيل في ذلك:
    عمرو بن ود كان أول فارس جزع المداد وكان فارس يليل
    وركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول حوله، ويرتجز.
    وذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود كان ينادي من يبارز؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد فقام علي (عليه السلام) وهو مقنع في الحديد، فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، اجلس، ونادى عمرو: ألا رجل؟ وجعل يؤنبهم ويسبهم، ويقول أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ فقام علي (عليه السلام) فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي كانت تبكي على جراحات علي (عليه السلام) يوم أحد، ثم نادى الثالثة فقال:
    ولقد بححت من النــداء بــجمعكم هـل من مبارز؟
    ووقفت إذ جبن المشجع مـــــوقـف البطل المناجز
    إنــــي كـــذلك لــــم أزل متسرعاً نحـــو الهزائـــز
    إن السماحــــة والشجــا عة في الفتى خير الغرائز
    فقام علي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أنا.
    فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمراً وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه عمامة السحاب على رأسه تسعة أكوار (أدوار) ثم قال له: تقدم.
    فقال لما ولى: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق
    رأسه ومن تحت قدميه).
    ثم قال: برز الإيمان كله إلى الشرك كله.
    فمشى إليه وهو يقول:
    لا تعجلن فـقـــــــــــد أتا ك مجيب صوتك غير عاجز
    ذو نيــــة وبصيــــــــرة والصــدق منجـــي كل فائز
    إني لأرجو أن أقيــــــــم عـليك نائحـــــــة الجنائــــز
    من ضربة نجلاء يبـــقى ذكـــرها عنـــــد الهزاهــــز
    وما زال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آنذاك رافعاً يديه مقحماً رأسه إلى السماء داعياً به قائلاً: اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد، فاحفظ علي اليوم علياً، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.
    فقال عمرو: من أنت؟ وكان عمرو شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.
    فقال عمرو: أجل، لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فارجع فإني لا أحب قتلك! فقال علي (عليه السلام): لكني أحب أن أقتلك! فقال عمرو: يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك خير لك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إلي أن أختطفك برمحي هذا فأتركك شايلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت!! فقال له علي (عليه السلام): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة.
    فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي؟ تلك إذاً قسمة ضيزى!! فقال علي (عليه السلام): إن قريشاً تتحدث عنك أنك قلت: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجيب، ولو إلى واحدة منها؟ قال: أجل.
    قال: فإني أدعوك إلى الإسلام، وفي رواية: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
    قال: دع هذه!! أو نح هذا.
    قال: فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن يتبعك من قريش إلى مكة، فإن يك محمد صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.
    قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وينشد الشعراء في أشعارها أني جبنت، ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم.
    قال: فإني أدعوك إلى البراز راجلاً، فجمى عمرو وقال: ما كنت أظن أحداً من العرب يرومها مني.
    ثم نزل فعقر فرسه ـ وقيل ضرب وجه فرسه ففر ـ ثم قصد نحو علي (عليه السلام) وضربه بالسيف على رأسه، فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف إلى رأس علي (عليه السلام).
    فضربه علي (عليه السلام) على عاتقه فسقط، وفي رواية: فضربه على رجليه بالسيف فوقع على قفاه، وثار العجاج والغبار، وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس على صدره، فتفل اللعين في وجه الإمام (عليه السلام) فغضب (عليه السلام)، وقام عن صدره يتمشى حتى سكن غضبه، ثم عاد إليه فقتله.
    وقال ربيعة بن مالك السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان، فقلت: يا أبا عبد الله: إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل البصيرة: إنكم لتفرطون في تفريط (تقريظ) هذا الرجل.
    فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس؟ فقال: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي؟ وما الذي أحدثك به عنه؟ والذي نفس حذيفة بيده: لو وضع جميع أعمال أمة محمد في كفة الميزان منذ بعث الله تعالى محمداً إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال علي في كفة أخرى لرجح على أعمالهم كلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل، إني لأظنه إسرافاً يا أبا عبد الله!!! فقال حذيفة: يا لكع! وكيف لا يحمل؟ وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه؟ فملكهم الهلع والجزع، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله؟
    والذي نفس حذيفة بيده: لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة.
    وجاء علي برأس عمرو إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فتهلل وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقام أبو بكر وعمر بن الخطاب وقبلا رأسه، وكان علي (عليه السلام) يقول:
    أنا علي وابن عبد المطلب الموت خير للفتى من الهرب
    فقال عمر: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع مثلها؟ فقال علي (عليه السلام): إني استحييت أن أكشف سوأة ابن عمي.
    وفي رواية: لما جلس علي (عليه السلام) على صدر عمرو ليذبحه قال له عمرو: يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي، فقال (عليه السلام): هي أهون علي من ذلك.
    ولما قتل علي (عليه السلام) عمراً انهزم المشركون وانكسرت شوكتهم، وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام).
    قال حسان بن ثابت في قتل عمرو بن عبد ود:
    أمسى الفـتى عـمرو بن ود يبتغي بجنــــــــوب يثرب غارة لم تنظـــر
    فـلقــد وجدت سيوفـنا مشهــورة ولقــــــد وجدت جيادنا لم تقـصــــر
    ولقـــد رأيت غـــــداة بدر عـصبة ضربوك ضرباً غير ضرب المحضر
    أصبحت لا تدعـــى ليـــوم كريهة يا عـمـــرو أو لجسيـم أمــر منـكــر
    فأجابه بعض بني عامر:
    كــذبتم وبيــــت الله لم تقـتلـــــوننا ولكن بسيف الهاشميين فافخــروا
    بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغا بكــف عـلــي نلتم ذاك فاقـصـروا
    ولم تقتلوا عمرو بن ود ولا ابنـــه ولكـنه الكفـــو الهزبر الغضنفـــر
    عـلي الذي فــــي الفخر طال ثناؤه فلا تكثروا الدعوى عليه فتفجروا
    ببــدر خـــــرجتم للبراز فــــــردكم شيــوخ قـريش جهــرة وتأخــروا
    فـلما أتاهـــم حمــــزة وعـبيــــــدة وجاء عـلـــي بالمهنـــــد يخطـــر
    فـقالــوا: نعم أكفاء صـدق فاقـبلوا إليهــم سراعاً إذ بغــوا وتجـبروا
    فجــــال عـلـــــي جــــولة هاشمية فـــدمرهم لما عـتــوا وتكـبـــروا
    فـليس لكم فخـــر عـلينا بغيـــــــرنا وليـــس لكـم فخــر يعــد ويذكــر
    وكان (عليه السلام) يقول ـ مشيراً إلى هذه الفضيلة ـ :
    أعـلـــيّ تفتخــر الفـوارس هكـــذا؟ عـنـــي وعـنهم خبروا أصحابي
    اليــوم يمنعنــي الفـرارَ حفـيظتـــي ومصمم بالرأس ليــس بنابـــــي
    أرديت عـمــراً إذ طغـــى بمهنـــــد صافــــي الحـديد مجرب قـضاب
    نصــر الحجارة عــن سفاهــة رأيه ونصـــرت رب محمـــد بصواب
    فـصــدرت حيــن تركـتــه متجـــدلاً كالجــــذع بين دكادك وروابـــي
    وعـفـفـت عــن أثوابــه ولـو أننــي كــــنت المقـطّـر بزّني أثوابــــي
    لا تحسبــــــن الله خــــاذل دينـــــه ونبيــــــه يا معشــــر الأحـــزاب
    وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.
    وفي رواية الحاكم في المستدرك: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة.
    وسبب ذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهنٌ بقتل عمرو، ولم يبق في المسلمين بيت من بيوت المسلمين إلا ودخله عزٌّ بقتل عمرو.
    ولما وصل الخبر إلى أخت عمرو قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا: علي بن أبي طالب.
    فقالت: لم يعد موته إلا على يد كفو كريم لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قاتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:
    لو كان قاتل عـمــرو غـير قاتله لكنت أبكــــي عـليـــه آخر الأبد
    لكـن قاتلــــه مــــن لا يعاب بــه وكان يدعــــى قــديماً بيضة البلد
    وفي نسخة: وكان يدعى أبوه بيضة البلد.
    ولقد أجاد المرحوم الشيخ كاظم الأزري (عليه الرحمة) في قصيدته الألفية التي يقول فيها:
    ظهرت منه فـي الوغى سطوات ما أتـــــى القـــــوم كلهم ما أتاها
    يوم غصت بجيش عمرو بن ود لهـــوات الفلا وضـــاق فـضــاها
    وتخطـــى إلــى المـدينـــة فــرداً بســـــرايا عـــــزائم ســـــــاراها
    فـــدعاهم وهـــم ألـــوف ولكــن ينـظـــــرون الــــذي يشـب لظاها
    أيــن أنت عـــن قـســور عامري تتقي الأسد بأســـــه فـــي شراها
    فابتـــدى المصطفــى يحدث عما يؤجر الصــابـــرون فـــي أخراها
    قائــــــلاً: إن للجليـــــل جـــــناناً ليس غـيـــــر المجاهـــدين يراها
    أيــــــن مــــن نفـســه تتوق إلى الجنـات أو يورد الجحيم عــــداها
    مــن لعمرو؟ وقـــد ضمنت على الله لــــه مـــــن جنـاتـــــه أعلاها
    فالتـــووا عـــن جــوابه كســوام لا تراها مجيبـــــة مــــــن دعاها
    وإذا هـــم بــــفارس قـــرشـــــي ترجــــف الأرض خيفــة إذ يطاها
    قائلاً: ما لها ســــــواي كفـيـــــل هــــــذه ذمــــة عـلــــــي وفــاها
    ومشــى يطلــب الصـفــــوف كما تمشي خماص الحشا إلى مرعاها
    فانتضـــــى مشـــــرفـية فـتلقـــى ساق عـمـــرو بضــربة فـبـــراها
    وإلى الحشر رنة السـيـــف منـــه يمــلأ الخافـقـيـــن رجـــع صداها
    يا لها ضــربة حــــوت مكرمــات لم يـــــزن ثقـل أجـــرها ثقــــلاها
    هـــذه مــن علاه إحــدى المعالي وعـلـــى هـــــذه فـقـس ما سواها
    علي (عليه السلام) يوم خيبر
    قال الطبرسي (رحمه الله): لما قدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة، ثم خرج منها غازياً إلى خيبر.
    خيبر اسم منطقة تبعد عن المدينة المنورة ساعات، وهي عبارة عن حصون وقلاع محصنة، كانت اليهود تسكنها يومذاك، فلما وصل النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى خيبر، واستعد للقتال واصطف العسكران، خرج رجل من المسلمين اسمه: عامر بن الأكوع يبارز رجلاً من اليهود اسمه مرحب، وكان مرحب يرتجز ويقول:
    قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
    فأجابه عامر:
    قــد عـلمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر
    فتضاربا بالسيف، فوقع سيف عامر على ركبته فمات منه.
    وحاصر النبي تلك الحصون خمساً وعشرين يوماً، ثم أعطى رايته أبا بكر وقيل: أعطى الراية إلى عمر بن الخطاب أولاً فنهض ونهض معه المسلمون فلقوا أهل خيبر فرجعوا.
    وأعطى الراية أبا بكر في اليوم الثاني فذهب مع المسلمين فرجع يجبِّن أصحابه ويجبنونه، فلما علم النبي ذلك قال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
    فبات الناس يتفكرون حول الرجل الموصوف بهذا الصفات، المقصود بكلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكان علي غائباً في تلك الغزوة، وما كان الناس يحسبونه المقصود بكلام النبي، حتى قال بعضهم: أما علي فقد كُفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه.
    بل كان كل منهم يرجو أن يعطى الراية، وأصبح الصباح وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالراية، وأقبل الناس إلى النبي ليعرفوا الرجل الذي يستحق أن يكون حاملاً لراية الإسلام وفاتحاً لحصون اليهود؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فقال: أرسلوا إليه.
    فجاءوا به على بغلة وعينه معصوبة بخرقة، فأخذ سلمة بن الأكوع بيده وأتى به إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال النبي: ما تشتكي يا علي؟ قال: رمد ما أبصر معه، وصداع برأسي.
    فقال النبي: اجلس وضع رأسك على فخذي.
    ففعل علي ذلك، فدعا له النبي (صلّى الله عليه وآله) وتفل في يده فمسح بها على عينيه ورأسه فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع وقال النبي: اللهم قِهِ الحر والبرد.
    وأعطاه الراية وكانت بيضاء فقال له: خذ الراية وامض بها، فجبرائيل معك، والنصر أمامك والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم: أن الذي يدمر عليهم اسمه: (إيليا) فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء الله.
    فأقبل علي (عليه السلام) بالراية يهرول بها ولحقه الناس فركز رمحه قريباً من الحصن، وأشرف عليه حبر من الأحبار فقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب.
    فقال اليهودي: غُلبتم وما أُنزل على موسى ـ أي غلبتم قسماً بالتوراة التي نزلت على موسى (عليه السلام) ـ.
    فخرج إليه مرحب في عامة اليهود، وعليه مغفرة وحجر قد ثقبه مثل البيضة على أُم رأسه وهو يرتجز ويقول:
    قــــد عـلمت خيبر أنـــي مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
    أطعن أحياناً وحيناً أضرب
    فقال علي (عليه السلام):
    أنا الذي سمتنـــي أمـــي حيــدرة ضرغام آجام وليث قسورة
    على الأعادي مثل ريح صرصرة أكيلكم بالسيف كيل السندرة
    أضرب بالسيف رقاب الكفرة
    فلما سمع مرحب منه ذلك هرب ولم يقف، خوفاً مما حذرته منه ظئره، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود فقال له: إلى أين يا مرحب؟ فقال: قد تسمى علي هذا القرن بحيدرة فقال له إبليس: فما حيدرة؟ قال مرحب: إن فلانة ظئري (مرضعتي) كانت تحذرني من مبارزة رجل اسمه: حيدرة.
    وتقول: إنه قاتلك.
    فقال إبليس: شوهاً لك! لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن، وحيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك.
    فرجع مرحب إلى قتال علي (عليه السلام) فدعاهم علي (عليه السلام) إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا الحرب، فضربه الإمام بالسيف على رأسه ضربة قطعت الحجر والمغفر رأسه حتى وقع السيف في أضراسه، فخر صريعاً، وحمل علي (عليه السلام) على الجيش اليهودي فانهزموا ودخلوا الحصن، وسدوا بابه، وكان الباب حجراً منقوراً في صخر، والباب من الحجر في ذلك الصخر المنقور، كأنه حجر رحى، وفي وسطه ثقب لطيف، وقد ذكرنا في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة بياناً حول الباب المزبور.
    رمى علي (عليه السلام) القوس من يده اليسرى وجعل يده اليسرى في ذلك الثقب الذي في وسط الحجر وكان السيف بيده اليمنى ثم جذبه إليه فانهار الصخر المنقور، وصار الباب في يده اليسرى، فحملت عليه اليهود، فجعل علي (عليه السلام) الباب ترساً له، وحمل عليهم فانهزموا، فرمى الحجر بيده اليسرى إلى خلفه فمر الحجر على رؤوس الناس من المسلمين إلى أن وقع في آخر العسكر، وإلى هذا أشار ابن أبي الحديد في قصيدته مخاطباً الإمام (عليه السلام):
    يا قالع الباب الذي عــــن هــــــزه عجزت أكف أربعون وأربع
    واجتمع المسلمون ليرفعوا ذلك الحجر فلم يستطيعوا وهم أربعون رجلاً، وفتح علي تلك الحصون.
    وتقدم حسان بن ثابت واستأذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يقول شعراً فقال له: قل.
    فأنشأ يقول:
    وكان عـلــــي أرمد العـــيــن يبتغي دواء فـلما لـم يحـس مداويا
    شفاه رســـــول الله منـــه بتفـلــــة فـبــورك مرقياً وبورك راقيا
    وقال: سأعطي الراية اليوم صارماً كمياً محــباً للـــرسول مواليا
    يحـــب إلهـــــي والإلــــه يحبــــــه به يفتح الله الحصون الأوابيا
    فأصفـــــى بها دون البـــرية كلــها عـلياً وسماه الوزير المواخيا
    فعند ذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب رجليك، ومن فضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك: أن تكون أنت مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنك مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، وأنك تبرئ ذمتي وتقاتل على سنتي، وأنك في الآخرة أقرب الناس مني، وأنك غداً على الحوض خليفتي، وأنك أول من يرد علي الحوض غداً، وأنك أول من يكسى معي، وأنك أول من يدخل الجنة من أمتي، وأن شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي أشفع لهم، ويكونون في الجنة جيراني، وأن حربك حربي، وأن سلمك سلمي، وأن سرك سري وأن علانيتك علانيتي، وأن سريرة صدرك كسريرة صدري وأن ولدك ولدي وأنك تنجز عدتي، وأن الحق على لسانك وفي قلبك، وبين عينيك، وأن الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنه لا يرد علي الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محب لك غداً حتى يردوا الحوض معك.
    فخر علي ساجداً شكراً لله.
    وقال المرحوم الشيخ الأزري في قصيدته الفريدة:
    ولـــه يـــــوم خيبــــر فـتكات كبــــــرت منظراً على من رآها
    يوم قال النبـي: إني لأعطـــي رايتـــــي ليثها وحامــي حماها
    فاستطالت أعـناق كـل فـريــق ليروا أي ماجــــــــــــد يعطاها
    فدعى: أين وارث العلم والحلـ ـم مجيـــر الأيـــــام من باساها
    أين ذو النجـــدة الذي لو دعته فــــي الثـــريا مــــروعة لباها
    فأتاه الوصــي أرمــــد عـيـــن فـسقاها مــن ريقـــــه فـشفاها
    ومضى يطلب الصفوف فولّت عـنــــه عـلماً بأنـــــــه أمضاها
    وبرى مـرحباً بكـــف اقـتـــدار أقوياء الأقـــدار مـــن ضعفاها
    ودحـــى بابــها بقــــــوة بأس لو حمتها الأفلاك منــــه دحاها
    عائــــد للمؤمليـــن مجيـــــب سامـــــع ما تسر من نـــجواها
    إنما المصطفــــى مدينــة علم وهـــو الباب مـــن أتاه أتـــــاها
    وهـما مقـلتـا العــــوالم: يسرا ها عـلــــي وأحمـــــد يمـــناها
    علي (عليه السلام) يوم حنين
    وفي يوم حنين لما تقدم أبو جرول ووراءه المشركون، وكانت الراية بيده وهو يرتجز قائلاً:
    أنا أبــــو جرول لا براح حتـــى نبيح القــوم أو نباح
    فقصده أمير المؤمنين فضرب عجز بعيره ثم ضربه وقتله ثم قال:
    قد علم القوم لدى الصباح إني لدى الهيجاء ذو نصاح
    فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول، وحمل عليهم المسلمون يقدمهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقتل منهم أربعين رجلاً وانهزم الباقون، وأُسر من أُسر منهم، وذلك بعد هزيمة المسلمين وتفرقهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد ذكر القرآن الكريم موقف المسلمين يومذاك بقوله تعالى: (ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)(4) ثم أنزل الله سكينته على رسول الله وعلى المؤمنين.
    ولابن أبي الحديد كلمة بالمناسبة في مقدمة شرحه على النهج:
    (أما الشجاعة: فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ومحى اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية.
    وفي الحديث: كانت ضرباته وتراً، ولما دعى معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، فقال له عمرو بن العاص: لقد أنصفك! فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم !! أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي...).

    (1) سورة التوبة، الآية: 111.
    (2) البحار ـ ج6.
    (3) البحار ـ ج9.
    (4) سورة التوبة، الآيتان: 25 و26.

  • #2
    من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..2



    الليلة السابعة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
    القرآن كتاب الله عز وجل ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام الله الذي لا يتبع الهوى ولا يميل إلى الاتجاهات بدافع العاطفة بل هو الحق.
    هناك حديث نبوي شريف اتفق عليه الشيعة والسنة، أنه قال (صلّى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
    نجد ـ في الحديث ـ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يقرن العترة بالقرآن والقرآن بالعترة، ويخبر عنهما أنهما لن يفترقا ولن يختلفا في المبدأ وفي أي شيء، فالقرآن يوافق العترة، والعترة تمشي تحت ظل القرآن، فلا اختلاف ولا تنافي بين القرآن والعترة، بل هما متلازمان ومتفقان.
    وبناء على هذا هل يمكن أن يسكت القرآن عن عديله وقرينه؟ فيخلو عن اسم العترة والإشارة إليهم؟؟ كلا ثم كلا، فالقرآن فيه تبيان كل شيء وحاشاه أن يسكت عن الإشادة والتنويه عن أشرف أسرة على وجه الأرض وهم أسرة رسول الله الطيبة وعترته الطاهرة، وعلى رأسهم سيد العترة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي ضرب الرقم القياسي في كل مباراة وفاز بكأس البطولة في كل ميدان سباق، وهو والقرآن يسيران في طريق واحد، ويدعوان إلى مبدأ وهدف واحد، فعلي (عليه السلام) يعرف القرآن وفنونه وعلومه وأحكامه وفضائله ومزاياه، والقرآن يجلب الانتباه إلى شخصية علي (عليه السلام) ومكارمه ومحاسنه وخصائصه، وينوّه عن مواقفه ومواطنه وتضحياته في سبيل الهدف الذي أنزل من أجله القرآن.
    أليس القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؟ أو ليس القرآن يهدي للتي هي أقوم؟ أو ليس القرآن فيه موعظة وشفاء وهدى ورحمة للمؤمنين؟ أو ليس القرآن هو الحق ويدعو إلى الحق؟ فهذا علي (عليه السلام) عديل القرآن ويسير مع القرآن جنباً بجنب، يدعو ويهدي ويبين ويعظ ويفرق بين الحق والباطل.
    إذن، فلا مانع أن يحتوي القرآن (وهو كلام الله المجيد) شيئاً من تقدير الله تعالى لمواقف علي (عليه السلام) والإشادة بفضله وإن لم يكن التنويه صريحاً فقد تكون الكناية أبلغ من التصريح وأوقع في النفس للتحري عن الحقيقة المقصودة.
    ولم يكتف القرآن بالإشارة إلى فضائل علي، فحسب، بل نجد كمية هائلة وافرة من الآيات البينات التي شملت أهل البيت (عليهم السلام) أولاً ثم بقية المسلمين ثانياً، فقد روى ابن عباس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: ما أنزل الله آية فيها: (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي رأسها وأميرها.
    وروى ابن حجر في الصواعق: عن ابن عباس لما نزلت هذه الآية (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)(1) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هم أنت يا علي وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، وتأتي أعداؤك غضاباً مقحمين.

    إلى غير ذلك من عشرات الآيات المأولة بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) المذكورة في الصحاح ورواها المحدثون في صحاحهم.
    وفي القرآن آيات واضحات نزلت في شأن أهل البيت (عليهم السلام) وكان علي (عليه السلام) أحدهم بل سيدهم، كما في آية المباهلة وسورة هل أتى وآية التطهير وغيرها مما يطول الكلام بذكر تلك الآيات فلنذكر ـ بصورة موجزة ـ كلاماً حول آية التطهير والمباهلة وسورة هل أتى، ثم ننظر أين ينتهي بنا الكلام: لقد أجمع المفسرون والمحدثون ـ إلا الشاذ النادر منهم ـ واتفقت كلمتهم على: أن آية التطهير نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وإن كان هناك اختلاف في ألفاظ الحديث فالمؤدى واحد.
    وخلاصة الواقعة: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألقى رداء أو عباءة أو كساء أو ثوباً أو قطيفة على علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
    فقالت أم سلمة: يا رسول الله فأنا؟ وفي رواية: فأنا من أهلك أو: وأنا معكم؟ أو: ألا أدخل معكم؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): إنك على خير، أو: مكانك، أو: تنحي وفي رواية: فرفعت الكساء لأدخل فجذبه من يدي وقال: إنك على خير وإنك من أزواج النبي.
    فنزلت الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(2).

    قال أبو سعيد الخدري: كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يأتي باب علي أربعين صباحاً فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا، أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم.
    وقال أبو الحمراء: خدمت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تسعة أشهر أو عشرة أشهر ـ فأما التسعة فلا أشك فيها ـ ورسول الله يخرج من طلوع الفجر فيأتي باب فاطمة وعلي والحسن والحسين فيأخذ بعضادتي الباب فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الصلاة، يرحمكم الله.
    فيقولون: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
    فيقول رسول الله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.
    أما المحدثون والمفسرون من الشيعة فكلهم متفقون على اختصاص آية التطهير بعلي وفاطمة والحسن والحسين، لا تشاركهم زوجات النبي فيها.
    ومن أعلام السنة ذكر ذلك: الثعلبي في تفسيره وأحمد بن حنبل في مسنده، والواحدي في تفسيره (البسيط)، وابن البطريق في المستدرك.
    والرازي في تفسيره وغيرهم ممن يطول الكلام بذكرهم والباقون يقولون إن الآية تشمل أهل البيت وسائر زوجات النبي (صلّى الله عليه وآله).
    وقد مر عليكم أن المفسرين والمحدثين ذكروا أن النبي لم يأذن لزوجته أم سلمة أن تدخل تحت الكساء أو الثوب، فكيف تشمل الآية صفية أخت مرحب التي كانت يهودية خيبرية وغيرهن ممن سبق الكفر والشرك إسلامهن؟ ولا دليل لهؤلاء إلا سياق الآية وترتيبها، أو ما يكفي مجيء رسول الله إلى باب بيت علي وفاطمة أربعين صباحاً أو ستة أشهر أو تسعة أشهر يطرق عليهم الباب ويتلو عليهم الآية ليكون دليلاً على أن المقصود بآية التطهير هم أهل هذا البيت فقط، ولم يعهد من النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه طرق باب إحدى زوجاته وتلى عليها الآية ولو مرة واحدة.
    ثم إن سياق الآية وأسلوبها يدلان على كلامنا، فإن الخطابات الموجهة إلى زوجات النبي في الآية كلها ضمائر مؤنثة.
    قال تعالى: (يا نساء النبي (لستن) كأحد من النساء إن (اتقيتن) فلا (تخضعن) بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض و(قلن) قولاً معروفاً و(قرن) في (بيوتكن) ولا (تبرجن) تبرج الجاهلية الأولى، و(أقمن) الصلاة و(آتين) الزكاة و(أطعن) الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، و(اذكرن) ما يتلى في (بيوتكن) من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً)(3).

    ويظهر بكل وضوح أن الضمائر الموجودة في آية التطهير تختلف عما سبقتها ولحقتها من الآيات والخطابات، فقد قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) ولم يقل: عنكن، ويطهركن.
    فالعدول عن الضمائر المؤنثة إلى الضمائر المذكرة يدل على اختصاص الخطاب بغير نساء النبي المخاطبات في الآية.
    هذا وقد ذكر سيدنا المغفور له السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه: (الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء) بياناً كافياً وكلاماً شافياً حول الأدلة والبراهين والقرائن التي تدل على تخصيص آية التطهير بفاطمة وبعلها وبنيها، وقبل ذلك أسهب شيخنا المجلسي رحمه الله في تفسير هذه الآية وفي ما قيل فيها من الدلالة على الاختصاص بأهل البيت (عليهم السلام).
    وقد ذكروا في شأن نزول آية التطهير واجتماع النبي (صلّى الله عليه وآله) مع علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجوهاً كثيرة، والكل متفقون على أن آية التطهير نزلت في هؤلاء (عليهم السلام).
    وهذه الآية تدل بكل صراحة على عصمة أصحاب الكساء، وإنهم معصومون من كل ذنب وكل خطأ، والعصمة من مراتب الأنبياء والأوصياء وهي أعلى درجات الرقي والتقرب عند الله تعالى.
    علي (عليه السلام) يوم المباهلة
    ذكر البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده أن رسول الله كتب إلى أهل نجران قبل أن تنزل عليه سورة النمل (طس) سليمان: (بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران، إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم، وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم فقد أُوذنتم بحرب، والسلام) فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وادعة، فدفع إليه كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن من أن يكون ذلك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه وجهدت لك، فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وادعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألهم وسألوه، فلم تنزل بهم وبه المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة، فأنزل الله (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)(4) إلى قوله: (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(5) فأبوا أن يقروا بذلك.
    فلما أصبح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له ومعه علي (عليه السلام) وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمراً مقبلاً إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فنُلاعنه ولا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً مقبلاً لا يحكم شططاً أبداً، فقالا له: أنت وذاك، فتلقى شرحبيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك، قال: وما هو؟ قال: أحكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية.
    صورة أخرى للمباهلة
    عن علي (عليه السلام) قال: لما قدم وفد نجران على النبي (صلّى الله عليه وآله) قدم فيهم ثلاثة من النصارى من كبارهم: العاقب ومحسن والأسقف فجاءوا إلى اليهود وهم في البيت، فصاحوا بهم يا إخوة القردة والخنازير هذا الرجل بين ظهرانيكم قد غلبكم، انزلوا إلينا، فنزل إليهم منصور اليهودي وكعب بن الأشرف اليهودي، فقالوا لهم: احضروا غداً نمتحنه، فقال: وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) إذا صلى الصبح سأل: هيهنا من الممتحنة أحد؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم يجد أحداً قرأ على أصحابه ما أنزل عليه في تلك الليلة، فلما صلى الصبح جلسوا بين يديه فقال له الأسقف: يا أبا القاسم فذاك موسى من أبوه؟ النبي (صلّى الله عليه وآله): عمران.
    الأسقف: فيوسف من أبوه؟ النبي (صلّى الله عليه وآله): يعقوب.
    الأسقف: فداك أبي وأمي فأنت من أبوك؟ النبي (صلّى الله عليه وآله): عبد الله بن عبد المطلب.
    الأسقف: فعيسى من أبوه؟ فسكت النبي (صلّى الله عليه وآله) فنزل جبرائيل، فقال هو روح الله وكلمته.
    الأسقف: يكون روح بلا جسد؟ فسكت النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأوحي إليه (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون)(6) فوثب الأسقف وثبة إعظام لعيسى أن يقال له من تراب.

    ثم قال: ما نجد هذا يا محمد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلا عندك.
    فأوحى الله إليه (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)...(7).

    فقالوا: أنصفتنا يا أبا القاسم، فمتى موعدك؟ قال: بالغداة إن شاء الله، ثم قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): فلما صلى النبي (صلّى الله عليه وآله) الصبح أخذ بيدي وجعلني بين يديه، وأخذ فاطمة (عليها السلام) فجعلها خلف ظهره، وأخذ الحسن والحسين عن يمينه وعن شماله ثم برك لهما باركاً، فلما رأوه قد فعل ذلك ندموا وتآمروا فيما بينهم وقالوا: والله إنه لنبي، ولئن باهلنا ليستجيب الله له علينا فيهلكنا ولا ينجينا شيء منه إلا أن نستقيله، قال: فأقبلوا حتى جلسوا بين يديه، ثم قالوا: يا أبا القاسم أقلنا، قال: نعم، قد أقلتكم، أما والذي بعثني بالحق لو باهلتكم ما ترك الله على ظهر الأرض نصرانياً إلا أهلكه.
    قال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الفصول: قال المأمون يوماً للرضا (عليه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يدل عليها القرآن؟ قال: فقال الرضا (عليه السلام) فضيلة في المباهلة، قال جل جلاله: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(8) فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فكانا ابنيه، ودعا فاطمة (عليها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءه ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان نفسه بحكم الله عز وجل، وقد أثبت أنه ليس أحد من خلق الله تعالى أجل من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأفضل، فواجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله بحكم الله عز وجل، قال: فقال المأمون: أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ابنيه خاصة؟ وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟ فلا يكون لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما ذكرت من الفضل، قال: فقال له الرضا (عليه السلام): ليس يصح ما ذكرت ـ يا أمير المؤمنين ـ وذلك أن الداعي إنما يكون داعياً لغيره كما أن الآمر آمر لغيره ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة، وإذ لم يدع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المباهلة رجلاً إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه وجعل حكمة ذلك في تنزيله.

    قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال.
    قال الطبرسي (رحمه الله) : أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين (عليهما السلام)، قال أبو بكر الرازي: هذا يدل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله، وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة.
    وقال ابن أبي علان ـ وهو أحد أئمة المعتزلة ـ : هذا يدل على أن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.
    وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حد بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حداً لتعلق الأحكام الشرعية، وكان سنهما في تلك الحال سناً لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل، على أن عندنا يجوز أن يخرق العادات للأئمة ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به، ومما يؤيده من الأخبار قول النبي (صلّى الله عليه وآله): ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.
    (ونساءنا) اتفقوا على أن المراد به فاطمة (عليها السلام) لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، وهذا يدل على تفضيل الزهراء على جميع النساء، (وأنفسنا) يعني علياً خاصة، ولا يجوز أن يكون المعني به النبي (صلّى الله عليه وآله) لأنه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعي الإنسان نفسه، وإنما يصح أن يدعو غيره.
    وإذا كان قوله: (وأنفسنا) لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول وجب أن يكون إشارة إلى علي (عليه السلام) لأنه لا أحد يدعي دخول غير أمير المؤمنين (عليه السلام) وزوجته وولديه (عليهم السلام) في المباهلة، وهذا يدل على غاية الفضل وعلو الدرجة والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله الله سبحانه نفس الرسول، وهذا ما لا يدانيه أحد ولا يقاربه ـ انتهى.
    قال شيخنا المجلسي (رحمه الله) : ويدل على كون المراد بأنفسنا أمير المؤمنين (عليه السلام) ما رواه ابن حجر في صواعقه رواية عن الدار قطني: أن علياً (عليه السلام) يوم الشورى احتج على أهلها فقال لهم: أنشدكم الله هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الرحم مني؟ ومن جعله نفسه، وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري؟ قالوا: اللهم لا.
    ولا يخفى أن تخصيص هؤلاء من بين جميع أقاربه (صلّى الله عليه وآله) للمباهلة دون عباس وعقيل وجعفر وغيرهم لا يكون إلا لأحد شيئين:
    إما لكونهم أقرب الخلق إلى الله بعده، حيث استعان بهم في الدعاء على العدو دون غيرهم، وإما لكونهم أعز الخلق عليه حيث عرضهم للمباهلة إظهاراً لوثوقه على حقيته، حيث لم يبال بأن يدعو الخصم عليهم مع شدة حبه لهم، وظاهر: أن حبه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن من جهة البشرية والأمور الدنيوية، بل لم يكن يحب إلا من يحبه الله، ولم يكن حبه إلا خالصاً لله... الخ.
    قال بعض الأعلام: وخلاصة الكلام: أن مدار الحب في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) التقوى والورع وسائر الفضائل والملكات الحسنة لا الأغراض الدنيوية الفاسدة، فتخصيصه (صلّى الله عليه وآله) هؤلاء من بين جميع أقاربه دليل على محبته إياهم، ومحبته دليل على كونهم أتقى وأورع وأفضل من غيرهم.
    قال المجلسي (رحمه الله) : فإذا ثبت ذلك فيرجع هذا أيضاً إلى كونهم أقرب الخلق وأحبهم إلى الله، فيكونون أفضل من غيرهم، فيقبح عقلاً تقديم غيرهم عليهم.
    وأيضاً لما ثبت أن المقصود بنفس الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذه الآية، ليس المراد النفسية الحقيقية، لامتناع اتحاد الاثنين، وأقرب المجازات إلى الحقيقة اشتراكهما في الصفات والكمالات وخرجت النبوة بالدليل، فبقي غيرها، ومن جملتها وجوب الطاعة والرئاسة العامة والفضل على من سواه وسائر الفضائل.
    قال الإمام الرازي في كتابه الأربعين: وأما الشيعة فقد احتجوا على أن علياً أفضل الصحابة بوجوه: الحجة الأولى التمسك بقوله تعالى (فقل تعالوا)(9) وثبت بالأخبار الصحيحة أن المراد من قوله: (وأنفسنا) هو علي، ومن المعلوم أنه يمتنع أن تكون نفس علي هي نفس محمد بعينه فلا بد أن يكون المراد هو المساواة بين النفسين وهذا يقتضي أن كل ما حصل لمحمد من الفضائل والمناقب فقد حصل مثله لعلي، ترك العمل بهذا في فضيلة النبوة فوجب أن تحصل المساواة بينهما وراء هذه الصفة، ثم لا شك أن محمداً (صلّى الله عليه وآله) كان أفضل الخلق في سائر الفضائل، فلما كان علي مساوياً له في تلك الفضائل وجب أن يكون أفضل الخلق، لأن المساوي للأفضل يجب أن يكون أفضل.

    ولنعم ما قال الشيخ كاظم الأزري في هذه المناسبة:
    يا بن عـم النبـــي أنت يــــــد الله التي عم كل شيء نداها
    أنت قـــرآنه القــــديم وأوصا فـك آياتـــه التــــي أوحاها
    خصك الله فـــي مآثر شتــــى هي مثل الأعداد لا تتناهى
    ليت عيناً بغير روضك ترعـى قـــذيت واستمر فيها قذاها
    أنت بعــــد النبي خيـــر البرايا والسما خير ما بها قمراها
    لك ذات كـــذاتـــه حيـــث لولا أنـــها مثلـــها لمــــا آخاها
    علي (عليه السلام) يتصدق بالخاتم
    عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله عز وجل: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)(10) الآية قال: إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن صوريا، فأتوا النبي (صلّى الله عليه وآله) فقالوا: يا نبي الله إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): قوموا.
    فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي، قال: على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً.
    فكبر النبي (صلّى الله عليه وآله) وكبر أهل المسجد، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبعلي بن أبي طالب ولياً، فأنزل الله عز وجل: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)(11) فتقدم حسان بن ثابت وأنشأ يقول:

    أبا حسن تفــديك نفـسي ومهجتـي وكل بطيء فـــي الهدى ومسارع
    أيذهـب مــدحي والمحبر ضائــــع وما المدح فــي جنب الآله بضائع
    فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكـــعاً فـدتك نفـوس القـوم يا خـيـر راكع
    فأنـــزل فـيــك الله خيــــر ولايـــة وبيّنها فـــي محكـمـــات الشرايــع
    وقال أيضاً:
    عـلـــي أمير المؤمنين أخو الهدى وأفـضل ذي نعل ومـن كان حافـيا
    وأول مـــن أدى الــزكــاة بكفـــــه وأول مـن صلى ومن صام طاويا
    فـما أتاه ســائــل مـــــد كــفـــــــه إليـــه ولـم يبخـل ولـم يك جافـيـــا
    فـــــدس إليــــه خاتماً وهــو راكع وما زال أواهاً إلـــى الخيـر داعـيا
    فـبشـــر جبـــريل النبـــي محمـــداً بذاك وجاء الوحي في ذاك ضاحيا
    وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين:
    فـــديت عـلياً إمـــام الـــورى ســراج البــــرية مأوى التقـــــــى
    وصي الرسول وزوج البتول إمــام البـــرية شمــس الضحــــى
    تصــــدق خاتمـــــه راكعـــــاً فأحســــن بفعــــل إمام الـــــورى
    فـفـضـــله الله رب العـبــــــاد وأنـــزل فـــي شأنــــه هـل أتــــى
    صورة أخرى لنزول الآية
    عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا جلوساً عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ ورد علينا أعرابي أشعث الحال عليه أثواب رثة والفقر ظاهر بين عينيه، ومعه عياله، فلما دخل المسجد سلم على النبي (صلّى الله عليه وآله) ووقف بين يديه وأنشد يقول:
    أتيتك والعـــذراء تبكــــــي بِرنةِ وقـــد ذهـلت أم الصبي عـن الطفـل
    وأخـــت وبنتــان وأم كـــبيـــرة وقد كدت من فقري أخالط في عقلي
    وقــــد مسنــي فـقر وذل وفاقة وليس لنا شــــيء يمـــر ولا يحـلـى
    ولسنا نـــرى إلا إليــــــك فرارنا وأيـن مفــــر الخلق إلا إلـــى الرسل
    فلما سمع النبي (صلّى الله عليه وآله) ذلك بكى بكاء شديداً، ثم قال لأصحابه: معاشر المسلمين إن الله تعالى، قد ساق إليكم ثواباً، وقاد إليكم أجراً، والجزاء من الله غرف في الجنة، تضاهي غرف إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فمن منكم يواسي هذا الفقير؟ فلم يجبه أحد، وكان في ناحية المسجد علي بن أبي طالب يصلي ركعات تطوعاً كانت له دائماً، فأومأ إلى الأعرابي بيده فدنا منه، فدفع إليه الخاتم من يده وهو في صلاته فأخذه الأعرابي وانصرف.
    ثم إن النبي أتاه جبرائيل ونادى: السلام عليك يا رسول الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: اقرأ (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
    ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)(12).

    فعند ذلك قام النبي (صلّى الله عليه وآله) قائماً على قدميه وقال: معاشر المسلمين أيكم اليوم عمل خيراً حتى جعله الله ولي كل من آمن؟ قالوا: يا رسول الله ما فينا من عمل خيراً سوى ابن عمك علي بن أبي طالب فإنه تصدق بخاتمه على الأعرابي وهو يصلي.
    فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): وجبت الغرف لابن عمي علي بن أبي طالب، فقرأ عليهم الآية... الخ.
    صورة ثالثة
    في المناقب وكشف الغمة: بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ أقبل رجل متعمم بعمامة، فجعل كلما قال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي: أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهاتين وإلا صُمّتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.
    أما إني صليت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً من الأيام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً.
    وكان علي (عليه السلام) راكعاً، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيه، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره، وذلك بمرأى من النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال: (اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري)(13) فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا)(14) اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به أزري.

    قال أبو ذر: فلما أتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلامه حتى نزل جبرائيل من عند الله عز وجل فقال: يا محمد: اقرأ فأنزل الله عليه (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
    وقد روى المفسرون في نزول هذه الآية أنها نزلت في شأن علي (عليه السلام) لما تصدق بخاتمه على السائل، وإن اختلفت ألفاظ الحديث فالمفاد والمضمون واحد.
    وهذه الآية تصرح لعلي (عليه السلام) بالولاية العامة على المسلمين تلك الولاية الثابتة لله ولرسوله، وسنذكر في حديث الغدير ما تيسر من معنى الولي والمولى إن شاء الله...
    علي (عليه السلام) في سورة هل أتى
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
    في أمالي الصدوق عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه في قوله عز وجل: (يوفون بالنذر)(15) قالا: مرض الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما صبيان صغيران فعادهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنك نذراً إن الله عافاهما، فقال أصوم ثلاثة أيام شكراً لله عز وجل، وكذلك قالت فاطمة (عليها السلام) وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام، وكذلك قالت جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام، فانطلق علي (عليه السلام) إلى جار له من اليهود يقال له: شمعون.

    يعالج الصوف فقال هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير؟ قال: نعم، فأعطاه فجاء بالصوف والشعير وأخبر فاطمة (عليها السلام) فقبلت وأطاعت، ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرصاً، وصلى علي (عليه السلام) مع النبي (صلّى الله عليه وآله) المغرب؟ ثم أتى منزله فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) وإذا مسكين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة، فوضع علي (عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:
    فاطم ذات المجد واليقين يا بنت خير الناس أجمعين
    إلى آخر الأبيات.
    ومضمونها التعطف على المسكين ويطلب (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام) أن تعطي شيئاً للمسكين.
    فأقبلت فاطمة تقول:
    أمرك سمع يا بن عم وطاعة ما بي من لؤم ولا وضاعة
    إلى آخر الأبيات التي تذكر فيها استعدادها لمساعدة المسكين الواقف على الباب ينتظر، وعمدت إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعاً وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح.
    ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير وطحنته وغزلته وخبزت منه خمسة أقرصة لكل واحد قرصاً، وصلى علي المغرب مع النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم أتى منزله فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) وإذا بيتيم من يتامى المسلمين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد أنا يتيم من يتامى المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة، فوضع علي اللقمة من يده ثم قال:
    فاطم بنت السيد الكريم قد جاءنا الله بذا اليتيم
    إلى آخر أبياته التي يحرضها على إطعام اليتيم.
    ثم أقبلت فاطمة وهي تقول:
    فسوف أعطيه ولا أبالي وأوثر الله على عيالي
    أمسوا جياعاً وهم أشبالي
    إلى آخر الأبيات التي تظهر فيها الموافقة على إطعام اليتيم ثم عمدت فأعطته جميع ما على الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلا الماء القراح، وأصبحوا صياماً، وعمدت فاطمة (عليها السلام) فغزلت الثلث الباقي من الصوف وطحنت الباقي وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرصاً.
    وصلى علي المغرب مع النبي (عليهما السلام)، ثم أتى منزله، فقرب إليه الخوان وجلسوا خمستهم فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) وإذا بأسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا؟ فوضع علي (عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:
    فاطم يا بنت النبي أحمد بنت نبي سيد مسود
    إلى آخر الأبيات.
    ثم أقبلت فاطمة وهي تقول:
    لم يبق مما كان غير صاع قد دبرت كفي مع الذراع
    ثم تذكر استعدادها لمواساة الأسير.
    وعمدوا إلى ما كان على الخوان فأعطوه وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء.
    قال شعيب في حديثه: وأقبل علي بالحسن والحسين (عليهما السلام) نحو رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: يا أبا الحسن شد ما يسوؤني ما أرى بكم!؟ انطلق إلى ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ضمها إليه وقال: واغوثاه بالله؟ أنتم منذ ثلاث فيما أرى؟ فهبط جبرائيل فقال: يا محمد خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك، قال: وما آخذ يا جبرائيل؟ قال: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر)(16) حتى إذا بلغ (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً)(17).

    وقال الحسن بن مهران في حديثه: فوثب النبي (صلّى الله عليه وآله) حتى دخل منزل فاطمة (عليها السلام) فرأى ما بهم فجمعهم ثم انكب عليهم فبكى وهو يقول: أنتم منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم؟ فهبط عليه جبرائيل بهذه الآيات: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً)(18) قال: هي عين في دار النبي (صلّى الله عليه وآله) يفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين (يوفون بالنذر)(19) يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجاريتهم (ويخافون يوماً كان شره مستطيراً) (ويطمعون الطعام على حبه)(20) يقول: على شهوتهم للطعام وإيثارهم له (مسكيناً) من مساكين المسلمين (ويتيماً) من يتامى المسلمين (وأسيراً) من أسراء المشركين ويقولون إذا أطعموهم: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً)(21) قال: والله ما قالوا هذا لهم ولكنهم أضمروه في أنفسهم، فأخبر الله بما في ضمائرهم، ويقولون: لا نريد جزاء تكافئوننا، به ولا شكوراً تثنون علينا به، ولكن إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه، قال الله تعالى ذكره: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة)(22) في الوجوه (وسروراً) في القلوب (وجزاهم بما صبروا جنة)(23) يسكنونها (وحريراً) يفترشونه ويلبسونه (متكئين فيها على الأرائك) والأريكة: السرير عليه الحجلة (لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً)(24) قال شيخنا المجلسي (رحمه الله) بعد ذكر أقوال المفسرين والمحدثين: في هذه السورة أقوال: بعدما عرفت من إجماع المفسرين والمحدثين على نزول هذه السورة في أصحاب الكساء (عليهم السلام) علمت أنه لا يريب (يشك) أريب ولا لبيب في أن مثل هذا الإيثار لا يتأتى إلا من قبل الأئمة الأخيار وأن نزول هذه السورة مع المائدة عليهم يدل على جلالتهم ورفعتهم ومكرمتهم لدى العزيز الجبار... الخ.
    أقول: وأما كيف يمكن لهؤلاء أن يتجوعوا ثلاثة أيام بلياليها فليس ذلك بمستبعد، لأننا نسمع ونقرأ في الصحف أن بعض الأفراد استمر صومهم تسعة أيام بدون أن يدخل شيء في جوفهم، وأما المرتاضون الذين يتجوعون بصورة مدهشة وينحصر أكلهم في كل يوم في لوزة واحدة ولا يموتون من الجوع بل يعيشون أعواماً وأعواماً، ويمكن أن نقول: إن العادة في التجوع وعدمه لها تأثير ودخل في الموضوع.
    وما قاله بعض الجهال: أنه هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحد ويجوع نفسه وأهله حتى يشرف على الهلاك؟ فقد ضرب الرقم القياسي في التجاهل أو العناد، لأن هذا هو المواساة والله تعالى يقول: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(25) مع احتياجهم إلى الطعام يفضلون غيرهم على أنفسهم فلو كان هذا الإيثار قبيحاً لما مدحهم الله تعالى: وأيضاً: إن الله تعالى أنزل سورة على نبيه تقديراً لهذا الإيثار الذي لا نظير له في البشر، إلا عند الأنبياء فما دونهم.

    فما قيمة انتقاد المخلوق الجاهل لهذا العمل العظيم الذي لم يسجل ولا يسجل التاريخ شبيهاً ومثيلاً له في تاريخ الكرماء الأسخياء فضلاً عن غيرهم؟؟
    مفاخرة علي (عليه السلام) والعباس
    روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني عن ابن بريدة عن أبيه قال: بينا شيبة بن أبي طلحة والعباس عم النبي يتفاخران إذ مر بهما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاج.
    وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام.
    فقال علي (عليه السلام) استحييت لكما فقد أوتيت على صغري ما لم تأتيا، فقالا: وما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله.
    فقام العباس يجر ذيل ثوبه حتى دخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): ادعوا لي علياً فدعي له، فقال: ما حملك على ما استقبلت به عمك؟ فقال: يا رسول الله صدمته (دفعته) بالحق، فمن شاء ليغضب ومن شاء فليرضى.
    فنزل جبرائيل وقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: أتل عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون)(26) فقال العباس: إنا قد رضينا ـ ثلاث مرات.
    آية النجوى
    المفاخرة بصورة أخرى
    قد ذكرنا ـ فيما مضى ـ شيئاً من خصائص الإمام (عليه السلام) التي تفرد بها عن غيره وكان يفتخر بها، لأن الله تعالى أنزل في حقه وشأنه آية أو أكثر.
    ومن جملة تلك الخصائص الفريدة والمزايا الحميدة ما رواه المفسرون، في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر)(27).

    فقد أورد الثعلبي والواحدي وغيرهما من علماء التفسير: أن الأغنياء أكثروا مناجاة النبي (صلّى الله عليه وآله) وغلبوا الفقراء على المجالس عنده حتى كره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذلك واستطالة جلوسهم وكثرة مناجاتهم، فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فأمر بالصدقة أمام المناجاة.
    وأما أهل العسرة (الفقراء) فلم يجدوا، وأما الأغنياء فبخلوا، وخف ذلك على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخف ذلك الزحام، وغلبوا على حبه والرغبة في مناجاته حب الحطام، واشتد على أصحابه، فنزلت الآية التي بعدها راشقة لهم بسهام الملام، ناسخة بحكمها حيث أحجم من كان دأبه الإقدام.
    وقال علي (عليه السلام): إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي آية المناجاة، فإنها لما نزلت كان لي دينار فبعته بعشر دراهم وكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى فنيت الدراهم، فنسخت (الآية) بقوله: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات)(28) الآية.

    وقال ابن عمر: ثلاث كن لعلي لو أن لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه بفاطمة، وإعطاءه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
    وروى الشيخ الطوسي (ره) عن الترمذي والثعلبي عن علي (عليه السلام) أنه قال: بي خفف الله عن هذه الأمة، لأن الله امتحن الصحابة بهذه الآية فتقاعسوا عن مناجاة الرسول، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق وكان معي دينار فتصدقت به، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالآية، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب لامتناع الكل عن العمل بها.
    وفي كتاب فرائد السمطين: أن علياً (عليه السلام) ناجى رسول الله عشر مرات بعشر كلمات قدمها عشر صدقات، فسأل في الأولى: ما الوفاء؟ قال: التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله.
    ثم قال: وما الفساد؟ قال: الكفر والشرك بالله عز وجل.
    قال: وما الحق؟ قال: الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك.
    قال: وما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.
    قال: وما علي؟ قال: طاعة الله وطاعة رسوله، قال: وكيف أدعو الله تعالى؟ قال: بالصدق واليقين، قال: وما أسأل الله تعالى؟ قال: العافية.
    قال: وماذا أصنع لنجاة نفسي؟ قال: كل حلالاً وقل صدقاً قال: وما السرور؟ قال: الجنة.
    قال: وما الراحة؟ قال: لقاء الله تعالى، فلما فرغ نسخ حكم الآية.
    قال بعض الأعلام: وأنت إذا تأملت في هذه الكلمات العشر وما فيها من الحكم والخير الكثير التي لا يعطيها الله ولا يؤتيها إلا خاصة خلقه والصالحين من عباده تجد أنها جديرة بأن يبذل بإزائها الدنيا وما فيها، وكيف لا وقد بذل أمير المؤمنين (عليه السلام) كل ما كان يملك ـ وهو دينار واحد كما استفدنا من الروايات السابقة ـ ليأخذ هذه الكنوز الغالية من الحكم...
    الخ وقد ذكرنا فيما مضى نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)(29).

    أنها نزلت في مبيت علي (عليه السلام) على فراش رسول الله، وقد ذكر ذلك المفسرون من الشيعة والسنة.
    وقد ذكر المفسرون والمحدثون من الفريقين آيات كثيرة نزلت في شأن علي (عليه السلام) وأنه المقصود بها تفسيراً أو تأويلاً بأنه: الشهيد، والشاهد، والمشهود، والذكر والنور والهدى والصادق والمصدق والصديق والفضل والرحمة والنعمة، والذي عنده علم الكتاب، وقد ورد لكل اسم من هذه الأسماء حديث أو أكثر، يصرح بأن علياً (عليه السلام) هو المقصود بذلك الاسم ورعاية للاختصار اكتفينا بالإشارة فقط، ولنا في المستقبل مجال للتحدث عن الآيات القرآنية التي ترتبط بالإمام علي (عليه السلام).

    (1) سورة البينة الآية: 7.
    (2) سورة الأحزاب، الآية: 33.
    (3) سورة الأحزاب، الآيات: 32 ـ34
    (4) سورة آل عمران، الآية: 59.
    (5) سورة آل عمران، الآية: 61.
    (6) سورة آل عمران، الآية: 59.
    (7) سورة آل عمران، الآية: 61.
    (8) سورة آل عمران، الآية: 61.
    (9) سورة آل عمران، الآية: 61.
    (10) سورة المائدة، الآية: 55.
    (11) سورة المائدة، الآية: 56.
    (12) سورة المائدة، الآيتان: 55 و56.
    (13) سورة طه، الآيات: 25ـ32.
    (14) سورة القصص، الآية: 35.
    (15) سورة الإنسان، الآية: 7.
    (16) سورة الإنسان، الآية: 1.
    (17) سورة الإنسان، الآية: 22.
    (18) سورة الإنسان، الآيتان: 5 و6.
    (19) سورة الإنسان، الآية: 7.
    (20) سورة الإنسان، الآية: 8.
    (21) سورة الإنسان، الآية: 9.
    (22) سورة الإنسان، الآية: 11.
    (23) سورة الإنسان، الآية: 12.
    (24) سورة الإنسان، الآية: 13.
    (25) سورة الحشر، الآية: 9.
    (26) سورة التوبة، الآية: 19.
    (27) سورة المجادلة، الآية: 12.
    (28) سورة المجادلة، الآية: 13.
    (29) سورة البقرة، الآية: 207.

    تعليق


    • #3
      من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..3

      الليلة الثامنه
      بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله فوق حمد الحامدين وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
      قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1) لا شك أن العلم فضيلة وكمال، ويعترف البشر بشرفه، ويفضل العالم على الجاهل بالفطرة لا بالتقليد، وعلى هذا الأساس لم يسكت الإسلام عن فضيلة العلم والعالم فقد قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم.

      والقرآن الكريم يشير إلى مزية العلم وقيمته وكرامته في كثير من الآيات، ويثني على كل من أوتي العلم نصيباً.
      ومن أهم الأسس للوظائف الراقية والمناصب السامية (كالحكم والقضاء) هو العلم بالأحكام الشرعية وتعاليم آداب القضاء والفتوى، ودرجات الإيمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.
      ونحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدى إيمانه بالله تعالى، لأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال ـ في حديث صحيح ـ : يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا.
      ولا نستطيع أن نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالى، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالى عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم: أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شيء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، وإليكم بعض تلك الآيات: (وقل: رب زدني علماً)(2).

      (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً)(3).
      (وزاده بسطة في العلم والجسم)(4).
      (وكلاً آتيناه حكماً وعلماً)(5).
      (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)(6).
      (ولقد آتينا داود وسليمان علماً)(7).
      (فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً)(8).
      (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(9).
      (إذ قال الله يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب والحكمة)(10).
      (وعلم آدم الأسماء كلها)(11).
      (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك)(12).
      (ففهمناه سليمان)(13).
      (ذلكما مما علمني ربي)(14).
      (وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)(15).
      (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)(16).
      (وإنه لذو علم لما علمناه)(17).
      (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)(18).
      إذا عرفتم ذلك فكيف نستطيع أن نعرف مقياس علوم الإمام ومستوى معارفه وثقافته الإلهية؟ وكيف نتمكن من الإحاطة بعلم باب مدينة علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتلميذ الأول للرسول الأعظم الذي فرغ رسول الله علومه في صدر الإمام، وعلمه في وجبة واحدة ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب؟.
      وما يدري هل آسف على الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلى العلم؟ فقد مضى خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جليس بيته مسلوب الإمكانيات مكبوتاً عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟ قد نسمع أن بعض الغربيين يبدي أسفه على مكتبة الإسكندرية التي حكم عليها بالإحراق، وما ضاعت هناك من علوم وكنوز وأسرار وفنون وصارت طعمة للحريق، فلو كانت تلك العلوم في متناول البشر اليوم وقبل اليوم لكانوا في أرقى درجات الحضارة وأوج العظمة يتصرفون في تلك الكنوز ويعيشون في أوسع فضاء يستنشقون شتى العلوم ويتنعمون بتلك الثروة الفكرية التي كانت تساعدهم في التقدم بصورة مدهشة.
      وسبب تأخر المسلمين خاصة والبشر عامة في خلال هذه القرون إنما هو من بركات ذلك العمل اللالإنساني!.
      إن كان احتراق مكتبة تضم الكتب المتنوعة يوجب التأثر والتألم في نفوس هواة العلم ورواد الفضيلة مع العلم أن الكتب كانت صامتة لا ينتفع بها الأميون والذين لا يحسنون لغة تلك الكتب، فإن تجميد شخصية قد تمثلت وتجمعت فيها دوائر المعارف بكافة أنواعها وجميع أقسامها يؤسف له أكثر وأكثر، أليس من المؤسف أن تعيش أمة من الناس في الظلمات، وعندهم الضياء اللامع والسراج المنير الذي يضيء لهم الدروب والطرق وهم بأمس الحاجة إليه؟؟ وإذا بجماعة يحاولون إخفاء ذلك الضياء والحيلولة بينه وبين الإضاءة والإشراق، ويعجبهم أن يشاهدوا الناس محرومين عن الاستضاءة بأنوار ذلك القمر، وفعلاً وصلوا إلى ما أرادوا، وحكموا على المجتمع الإسلامي بالخيبة والحرمان من العلوم الإلهية وكنوز المعارف الربانية، وذلك حينما حكموا على علي (عليه السلام) بالاعتزال وسلبوه كل نشاط علمي، وضيقوا عليه المجال غاية التضييق خلال خمس وعشرين سنة ـ كما تقدم الكلام ـ .
      وبعد أن وجد المجال وعادت إليه الإمكانيات واسترد ما سلب منه، وإذا بالحروب الداخلية والاضطرابات تحط من نشاطه العلمي وتبلبل فكره وتشغل قلبه، وتسلب القرار والاطمئنان من ذلك المجتمع، فينقلب النشاط العلمي إلى طاقة حربية، وتنقلب المعاهد الثقافية إلى معارك دامية ومجازر مشجية وما هنالك من نتائج وخيمة.
      بالرغم من هذا كله فقد استطاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يرفع أضوأ مشعل للعلم في سماء الثقافة والمعرفة، فهذا كتاب نهج البلاغة وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً من خطب الإمام وكلماته الحكمية ورسائله القيمة، وهذه الكمية هي التي حفظها التاريخ ولا تسأل عن الخطب والعلوم التي ضاعت ولم تلتقطها الأدمغة ولم تسجلها مسجلات التاريخ، فقد روي أن علياً (عليه السلام) خطب في الناس ـ يوماً ـ من بعد صلاة الصبح إلى قبيل الظهر، فكان الإمام يفيض على الخلائق العلوم بشتى أنواعها طيلة ست ساعات تقريباً.
      والآن نذكر لكم ما تيسر من الأحاديث الواردة حول علوم الإمام ومدى سعة معلوماته الجمة: (في البحار) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل القرآن حتى يزهر إلى الله ولحكمت بين أهل التوراة بالتوراة حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور حتى يزهر إلى الله، ولولا آية في كتاب الله لأنبأتكم بما يكون حتى تقوم الساعة.
      وقال علي (عليه السلام): لأنا أعلم بالتوراة من أهل التوراة وأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل.
      عن الأصــبغ بن نـــباتة قال: لما قدم علي (عليه السلام) الكوفة صلى بــهم أربعين صباحاً فقرأ بهم: (سبح اسم ربك الأعلى)(19) فقال المنافقون: والله ما يحسن أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن، ولو أحسن أن يقرأ لقرأ بنا غير هذه السورة، قال: فبلغه ذلك، فقال ويلهم! إني لأعرف ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، والله ما حرف نزل على محمد (صلّى الله عليه وآله) إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل، ويلهم أما يقرءون (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)(20) والله عندي، ورثتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وورثها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من إبراهيم وموسى، ويلهم! والله إني أنا الذي أنزل الله في: (وتعيها أذن واعية)(21) فإنا كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟.

      عن عبابة بن ربعي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟
      عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلى المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينهى كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك.
      والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعِ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
      ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرنكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكييها من مدنيها والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة.
      قال ابن عباس: علي علم علماً علمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) علمه الله، فعلم النبي ـ صلوات الله عليه وآله ـ من علم الله، وعلم علي من علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلمي من علم علي (عليه السلام)، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر.
      عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له: يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سئلت عنه! قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال عجلت: أبا حفص؟ قال: لم يخف علي، فقال علي (عليه السلام): وأنا أسرع فيما لا يخفى علي.
      قال الصادق (عليه السلام) لابن أبي ليلى: أتقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، قال: بأي شيء تقضي؟ قال: بكتاب الله.
      قال: فما لم تجد، في كتاب الله؟ قال من سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما لم أجده فيهما أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه، قال: فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟ قال: بقول من أردت وأخالف الباقين، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: أي رب إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟ قال: وأين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟ قال: فبلغك أن رسول الله قال: أقضاكم علي (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فاصفر وجه ابن أبي ليلى وسكت.
      عن الأصبغ بن نباتة وجماعة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال بحضرة المهاجرين والأنصار ـ وأشار إلى صدره ـ كيف ملئ علماً لو وجدت له طالباً؟ سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا ما زقني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زقاً، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله لو ثنيت لي الوسادة..الخ.
      وفي نهج البلاغة: (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً).
      وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأكبر، ودولة الدول فسلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي وإلى أن يعبد الله.
      علي (عليه السلام) والخطابة
      ألا ترى إلى خطبه (عليه السلام) مثل: التوحيد والشقشقية والهداية والملاحم واللؤلؤة والغراء والقاصعة والافتخار والأشباح والدرة اليتيمة والأقاليم والوسيلة والطالوتية والقصبية والسلمانية والناطقة والدامغة والفاضحة، بل إلى نهج البلاغة عن الشريف الرضي، وكتاب خطب أمير المؤمنين عن إسماعيل بن مهران السكوني عن زيد بن وهب أيضاً، قال الرضي: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.
      الجاحظ في كتاب الغرة: كتب علي (عليه السلام) إلى معاوية: غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك تهدا بهدا.
      وقال (عليه السلام): (من آمن أمن).
      قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة:
      وأما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيد البلغاء وعن كلامه قيل: هو (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق) ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة.
      قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت.
      وقال نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
      ولما قال محفن بن أبي محفن ـ لمعاوية ـ : (جئتك من عند أعيى الناس) قال له: ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره.
      ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه.
      ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
      منها: ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي.
      وكيف عشيت أعينها، عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكانها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها.
      فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوان ريش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاماً، لها جناحان لم يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا.
      تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت.
      لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه.
      فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلا من غيره.
      من خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
      ابتدعهم خلقاً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات.
      فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به..
      ومسلمة له.
      ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته وما ذرأ من مختلف طيور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها.
      من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.
      كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة.
      ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً.
      ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته.
      فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه.
      ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً: الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلاً على رأسه كأنه قلع داري عنجه نوتيه.
      يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كأفضاء الديكة، ويؤر بملاحقةِ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب.
      أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده.
      ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان وفلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جني جني من زهرة كل ربيع.
      وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو كمونق عصب اليمن.
      وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.
      ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق.
      فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق.
      وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ.
      وقد يتحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فبسقط تترى، وينبت تباعاً...
      فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه.
      لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه.
      وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه.
      فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً ملوناً.
      وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.
      وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة.
      ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته.
      ومنها خطبتان له (ع) الأولى خالية من الألف والثانية خالية من النقط
      إحداهما بلا ألف والأخرى بلا نقطة (الأولى) في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه قدس سره بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أنه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أن الألف أكثر دخولاً في الكلام فارتجل (عليه السلام) الخطبة المونقة وهي:
      حمدت من عظمت منته وسبغت نعمته وسبقت رحمته غضبه، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، متفرد بتوحده، مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته وبنيه، ونستعينه ونسترشده ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه وشهدت له شهود مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون ومعين ونصير ونظير علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل، لم يزل ولن يزول ليس كمثله شيء وهو بعد كل شيء، رب معتزز بعزته، متمكن بقوته، متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قوي منيع، بصير سميع، رؤوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه، قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي، ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة، وشهدت ببعث محمد رسوله وعبده وصفيه ونبيه ونجيه وحبيبه وخليله، بعثه في خير عصر، وحين فترة، وكفر، رحمة لعبيده ومنه لمزيده، ختم به نبوته، وشيد به حجته، فوعظ، ونصح وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن رحيم، رضي ولي زكي، عليه رحمة وتسليم وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم قريب مجيب، وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم وذكرتكم بسنة نبيكم، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يبليكم ويذهلكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة ونزع، وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل تكبر وتهرم وتسقم، يمله طبيبه ويعرض عنه حبيبه، ويقطع عمره ويتغير عقله، ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص بصره وطمح نظره، ورشح جبينه وعطف عرينه، وسكن حنينه، وحزنته نفسه، وبكته عرسه، وحفر رمسه، ويتم منه ولده، وتفرق منه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، ومدد وجرد وعري وغسل، ونشف وسجي، وبسط له وهيئ، ونشر عليه كفنه، وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصُلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، وجعل في ضريح ملحود وضيق مرصود، بملبن منضود، مسقف بجلمود، وهيل عليه حفره، وحثي عليه قدره وتحقق حضره، ونسي خيره، ورجع عنه وليه، وصفيه ونديمه ونسيبه، وتبدل به قرينه وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر، يسعى بجسمه دود قبره ويسيل صديده من منخره، يسحق برمته لحمه، وينشف دمه ويرم عظمه، حتى يوم حشره.
      فنشر من قبره حين ينفخ في صور، ويدعى بحشر ونشور فثم بعثرت قبور، وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد، وتوحد للفصل قدير، بعبده خبير بصير، فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تنضيه، في موقف مهول، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم وبكل صغير وكبير عليم، فحينئذ يلجمه عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة وحجته غير مقبولة، زاول جريدته، ونشر صحيفته، نظر في سوء عمله، وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده بمسه، فسلسل جيده، وغلت يده، وسيق فسحب وحده، فورد جهنم بكرب وشدة فظل يعذب في جحيم، ويسقى شربة من حميم، تشوي وجهه وتسلخ جلده، وتضربه زبنيته بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم، نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة من قبله، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بعزته وخلد في قصور مشيدة، وملك بحور عين وحفدة، وطيف عليه بكؤوس وسكن حظيرة قدس، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ومزج له بزنجبيل، مختم بمسك وعبير، مستديم للملك، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه، وليس ينزف، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد مشيئته، وسولت له نفسه معصيته، فهو قول فصل، وحكم عدل، وخبر قصص قص، ووعظ نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس مبين، على قلب نبي مهتد رشيد، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم، فليتضرع متضرعكم وليبتهل مبتهلكم ويستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده.
      ثم ارتجل الإمام (عليه السلام)
      خطبة أخرى خالية من النقط وهي على نسختين (الأولى):
      الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود مصور كل مولود، ومآل كل مطرود، ساطح المهاد وموطد الأطواد، ومرسل الأمطار ومسهل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمر الأملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، عم سماحه وكمل ركامه، وهمل، وطاوع السؤال والأمل، وأوسع الرمل وأرمل، أحمده حمداً ممدوداً، وأوحده كما وحد الأواه، وهو الله لا إله للأمم سواه ولا صادع لما عدله وسواه أرسل محمداً علماً للإسلام وإماماً للحكام مسدداً للرعاع ومعطل أحكام ودٍّ وسواع، أعلم وعلم، وحكم وأحكم، وأصل الأصول، ومهد وأكد الموعود، وأوعد أوصل الله له الإكرام، وأودع روحه السلام، ورحم آله وأهله الكرام، ما لمع رائل وملع دال، وطلع هلال، وسمع إهلال، اعملوا رعاكم الله أصلح الأعمال واسلكوا مسالك الحلال، واطرحوا الحرام، ودعوه، واسمعوا أمر الله وعوه، وصلوا الأرحام وراعوها وعاصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا أهل الصلاح والورع وصارموا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهرالأحرار مولداً وأسراهم سؤدداً، وأحلاهم مورداً، وها هو أمكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرمه وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه، وهو أكرم صهر أودع الأولاد وملك ما أراد وما سها مملكه ولا وهم ولا وكس ملاحمه ولا وصم، اسأل الله حكم أحماد وصاله، ودوام إسعاده، وألهم كلاً إصلاح حاله والأعداد لمآله ومعاده وله الحمد السرمد والمدح لرسوله أحمد.
      (الثانية): في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ارتجل خطبة أخرى من غير النقط التي أولها:
      الحمد لله أهل الحمد ومأواه وأوكد الحمد وأحلاه وأسرع الحمد وأسراه وأطهر الحمد وأسماه وأكرم الحمد وأولاه ـ إلى آخرها.
      ومنهم الشعراء وهو (عليه السلام) أشعرهم وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن علياً أشعر الصحابة وأفصحهم وأكتبهم.
      في تاريخ البلاذري: كان أبو بكر يقول الشعر، وعمر يقول الشعر وعثمان يقول الشعر، وكان علي (عليه السلام) أشعر الثلاثة.
      ومنهم الوعاظ وليس لأحد من الأمثال والعبر والمواعظ والزواجر ما له نحو قوله (عليه السلام): (من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنية نسي الأمنية، من قعد به العقل قام به الجهل، يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرها عتيد، ونعيمها مسلوب، وعزيزها منكوب، ومسالمها محروب، ومالكها مملوك وتراثها متروك؟).
      ومنهم الفلاسفة وهو (عليه السلام) أرجحهم، قال (عليه السلام): أنا النقطة أنا الخط، أنا الخط أنا النقطة، أنا النقطة والخط، فقال جماعة: إن القدرة هي الأصل، والجسم حجابه، والصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل، والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسد الناسوتي.
      وسئل (عليه السلام) عن العالم العلوي فقال: صور عارية من المواد، عالية عن القوة و الاستعداد، تحلى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة.
      إن زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.
      قال ابن سينا: لم يكن شجاعاً فيلسوفاً قط إلا علي (عليه السلام).
      قال الشريف الرضي: من سمع كلامه (عليه السلام) لا يشك أنه كلام من قبع في كسر بيت أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع ذلك زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه التي جمع بها بين الأضداد.
      ومنهم المنجمون وهو (عليه السلام) أكيسهم، قال سعيد بن جبير استقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) دهقان فقال له: يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس فإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب قد اقترن كوكبان، وانفكأ فيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الدهقان، المنبئ بالآثار، المخوف من الأقدار ما كان البارحة صاحب الميزان؟ وفي أي برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات في الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟ قال: سأنظر في الإسطرلاب فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: ويلك يا دهقان أنت مسير الثابتات؟ أم كيف تقضي على الجاريات؟ وأين الأسد من المطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحركات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟ فقال: لا علم لي بذلك يا أمير المؤمنين، فقال له: يا دهقان هل نتج علمك أن انتقل بيت ملك الصين، واحترقت دور بالزنج، وخمد بيت نار فارس وانهدمت منارة الهند، وغرقت سرانديب، وانقض حصن الأندلس، ونتج بترك الروم بالرومية؟؟ فخر الدهقان ساجداً فلما أفاق قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ألم أروك من عين التوفيق؟ فقال: بلى، فقال: أنا وصاحبي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك، أما قولك (انقدح من برجك النيران وظهر منه السرطان) فكان الواجب أن تحكم به لي لا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذهب عني وهذا مسألة عقيمة احسبها إن كنت حاسباً.
      فقال الدهقان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك علي ولي الله.
      هذا وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) آراء ونظريات في التوحيد حول الإلهيات، كالصفات الثبوتية والسلبية، وما يتعلق بذلك وله كلام وبحث دقيق حول العلوم الكونية والطبيعية كالفلك والنجوم والسحاب والرعد والبرق وتكوُّن الأمطار وما شابه من المواضيع المتعلقة بالعالم الأعلى.
      وله تحليل جليل حول الإنسان نطفة وجنيناً ورضيعاً ووليداً وشاباً وكهلاً وما يدور في هذا الفلك من علم النفس والفلسفة البشرية، وغير ذلك.
      يظهر كل هذا من مطاوي كلماته وخطبه الموجودة في نهج البلاغة وغيره من كتب الحديث.
      وتتميماً لهذا البحث نذكر كلام ابن الحديد في هذا الموضوع، قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى ومنه ابتدأ.
      فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطا تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام).
      وأما الأشعرية فإنهم يضمون إلى أبي الحسن بن أبي بشير الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
      وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.
      ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.
      أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة.
      وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (عليه السلام)، وجعفر قرأ على أبيه، وينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).
      وأما مالك فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب (عليه السلام).
      وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان ذلك لك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
      أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي (عليه السلام).
      أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر.
      فقد عرف بهذا الوجه انتهاء الفقه إليه.
      وقد روت العامة والخاصة قوله (صلّى الله عليه وآله) أقضاكم علي والقضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم.
      وروى الكل أيضاً أنه (صلّى الله عليه وآله) قال له ـ وقد بعثه إلى اليمن قاضياً ـ : اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه.
      قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.
      وهو (عليه السلام) الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى به في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعاً.
      وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر ـ هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً؟ ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع، وإذا راجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه، وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط...
      ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله ومن جملتها: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف.
      ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.

      (1) سورة الزمر، الآية: 9.
      (2) سورة طه، الآية: 114.
      (3) سورة الكهف، الآية: 65.
      (4) سورة البقرة، الآية: 247.
      (5) سورة الأنبياء، الآية: 79.
      (6) سورة الأنبياء، الآية: 74.
      (7) سورة النمل، الآية: 15.
      (8) سورة القصص، الآية: 14.
      (9) سورة الأعراف، الآية: 144.
      (10) سورة المائدة، الآية: 110.
      (11) سورة البقرة، الآية: 31.
      (12) سورة مريم، الآية: 43.
      (13) سورة الأنبياء، الآية:79.
      (14) سورة يوسف، الآية: 37.
      (15) سورة النساء، الآية: 113.
      (16) سورة البقرة، الآية: 251.
      (17) سورة يوسف، الآية: 68.
      (18) سورة النساء، الآية: 105.
      (19) سورة الأعلى، الآية: 1.
      (20) سورة الأعلى، الآيتان: 18 و19
      (21) سورة الحاقة، الآية: 12.

      تعليق


      • #4
        من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..3

        الليلة التاسعة
        بسم الله الرحمن الرحيم
        الحمد لله على نعمائه وصلى الله على سيدنا محمد سيد أنبيائه وآله سادات أوليائه.
        قال الله تعالى في القرآن العظيم: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته)(1).

        قال علماء النفس والفلاسفة: إن أعمال الإنسان وأفعاله التي تظهر إلى الوجود إنما هي آثار نفسيته التي تطبع عليها، وانطباعاته التي خامرت روحه عن الوراثة والتربية، فالفضائل بكافة أنواعها وأقسامها، والرذائل بجميع أشكالها وأجناسها ما هي إلا ولائد التربية أو رواسب الوراثة.
        وقد ذكرنا في بعض الليالي الماضية بعض جوانب التربية ونتائجها، ولو أردنا الخوض في هذا البحث فاتنا الكلام الأصلي المقصود بيانه في هذه الليلة.
        حديثنا ـ الليلة ـ حول الفضائل النفسية التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) وإنما وصفنا الفضائل بالنفسية لأن هناك فضائل لا ترتبط بالنفس كالنسب الشريف والجمال والقوة فإنها أمور لا اختيارية، والفضائل النفسية تظهر إلى الوجود بالطوع والاختيار كالجود والعفو والزهد والعبادة وما شاكل ذلك فإنها منبعثة من نفس طاهرة شريفة فاضلة وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته)(2) أي قل يا محمد كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها أو على طريقته وسنته التي اعتادها، وقال الشاعر:

        ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
        فحسبكم هــذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح
        وقد مر عليكم الشيء الكثير ـ القليل مما يتعلق بهذا الإمام العظيم من عوامل التشريف والتأثير في نفسيته الطاهرة (عليه السلام) من حيث الميلاد والمواهب والمزايا والخصائص والتربية، فأنتجت تلك العوامل الإلهية والنبوية أحسن إنتاج، وجعلت نفس علي مركزاً لانطلاق كل فضيلة وخير فلا عجب إذا كان الإمام (عليه السلام) صوتاً للعدالة الإسلامية ورمزاً للفتوة والمروة ومثالاً للعطف والحنان الأبوي.
        وأصحاب النفوس الشريفة تختلف هواياتهم عن غيرهم، فهم دائماً وأبداً يلبون نداء ضميرهم الإنساني، ويستلذون بإسعاف الفقير والمسكين.
        ويبتهجون بإشباع البطون الجائعة وإكساء الأجساد العارية وإنقاذ البؤساء من براثن الفاقة، وحيث أنهم أشربوا معرفة الله تعالى وخالط حب الله لحومهم ودماءهم فإن أسعد أوقاتهم وألذها عندهم هي الساعات التي يشتغلون فيها بمناجاة ربهم والخضوع والخشوع أمام عظمة الله تعالى، فلا يملون من العبادة كما لا يمل الحبيب من مكالمة حبيبه.
        وجملة أخرى لا بأس بالإشارة إليها وهي: أن الإنسان حينما يحس بالنقص في نفسه من حيث العلم أو الفن أو الفضيلة أو القوة أو الجمال أو ما شابه ذلك فإنه يحاول إخفاء ذلك النقص وجبران ذلك العيب عن طريق التزيين والتجميل في الملبس والمسكن وسائر لوازم الحياة ومظاهر الترف، كل ذلك إرضاء لوجدانه وضميره الذي يؤنبه بالنقص، أما أولياء الله فإنهم يحسون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن ستر النقص عن طريق التجميل والتفنن في الملبس والمأكل والمسكن وما جرى مجرى ذلك لأنه لا نقص فيهم.
        وعلى هذا الأساس كانوا يختارون لأنفسهم البساطة في المعيشة، ويتجلى الزهد في جميع مظاهر حياتهم بدون أي تكلف وتعسف، فلا يشتاقون إلى اختلاف الأطعمة ولا تميل نفوسهم إلى زخارف الحياة وزبرجدها، فإن الإحساس بالكمال يحول بينهم وبين الشعور بالحاجة إلى ما تتهافت عليه نفوس الآخرين من حطام الدنيا.
        فإذا قرأنا أو سمعنا عن نبي أو إمام شيئاً من الزهد وعدم الإقبال على مباهج الحياة فلعله معلول هذه العلة التي تقدمت.
        وسنذكر ما تيسر من الأخبار والأحاديث التي اشتهرت بين أعلام الحديث وحفاظه حول الفضائل النفسية التي أنعم الله بها على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
        قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح نهج البلاغة:
        وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولى بني أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتى حضروا (منعوا) أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.
        وما أقول في رجل تعزى (تنسب) إليه كل فضيلة؟ وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها.
        وكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى...
        وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسية والدينية وجدته ابن جلاها، وطلاع ثناياها.
        علي (عليه السلام) واليقين
        في البحار ـ ج9 ـ قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان لعلي غلام اسمه قنبر وكان يحب علياً (عليه السلام) حباً شديداً فإذا خرج علي خرج على أثره بالسيف فرآه ذات ليلة فقال يا قنبر: ما لك؟ قال: جئت لأمشي خلفك فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.
        فقال ويحك! أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: بل من أهل الأرض.
        قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا أن يأذن الله عز وجل من السماء، فارجع فرجع.
        وقيل له (عليه السلام) يوم صفين احترس يا أمير المؤمنين فإنا نخشى أن يقتلك هذا اللعين.
        فقال (عليه السلام): كفى بالأجل حارساً، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر، أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه، فكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه بهذه ـ وأشار إلى لحيته وهامته ـ عهداً معهوداً ووعداً غير مكذوب.
        علي (عليه السلام) والحفظ
        في البحار ـ ج9 ـ عن سليم بن قيس قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول ما نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبنها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله عز وجل أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله عز وجل ولا علماً أملاه علي فكتبته، وما ترك شيئاً علمه الله عز وجل من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي وما كان وما يكون من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، ولم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله تبارك وتعالى بأن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً، ولم أنس من ذلك شيئاً، ولم يفتني من ذلك شيء لم أكتبه جهلاً وقد أخبرني أن ربي عز وجل قد استجاب لي فيك...
        إلى آخره.
        علي (عليه السلام) والتعطف
        (في البحار ج ـ 9) عن الإمام الباقر (عليه السلام): رجع علي (عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قاتمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني.
        فقال: يا أمة الله حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إنشاء الله.
        فقالت: يشتد غضبه وحرده علي.
        فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه فوقف فقال: السلام عليكم.
        فخرج شاب، فقال علي: يا عبد الله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك والله لأحرقنها لكلامك.
        فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وتستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف، قال: فأقبل الناس من الطرق يقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين فسقط الرجل في يديه وقال: يا أمير المؤمنين: أقلني عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني.
        فأغمد سيفه فقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه.
        قال أبو الطفيل: رأيت علياً (عليه السلام) يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه: لوددت أني كنت يتيماً.
        علي (عليه السلام) والحق
        قال الله الحكيم في كتابه الكريم: (وقل جاء الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(3) وقال تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع)(4).
        سئل أبو ذر عن اختلاف الناس فقال: عليك بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه، يدور حيث ما دار علي).
        وسلم محمد بن أبي بكر يوم الجمل على عائشة فلم تكلمه فقال: أسألك بالله الذي لا إله إلا هو ألا سمعتك تقولين: ألزم علي بن أبي طالب فإني سمعت رسول الله يقول: (الحق مع علي وعلي مع الحق لا يفترقان حتى يردا علي الحوض)؟ قالت: بلى قد سمعت ذلك منه.
        عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ويل لمن جهل معرفتي ولم يعرف حقي، ألا إن حقي هو حق الله، ألا إن حق الله هو حقي.
        علي (عليه السلام) والغنى
        (في الكافي) عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، إن الناس يرون أن لك مالاً كثيراً.
        فقال: ما يسوءني ذاك إن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مر ذات يوم على ناس شتى من قريش وعليه قميص مخرق، فقالوا: أصبح علي لا مال له، فسمعها أمير المؤمنين، فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع ثمره ولا يبعث إلى إنسان شيئاً، وأن يوفره، ثم قال: بعه الأول فالأول، واجعلها دراهم ثم اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث ترى، وقال للذي يقوم عليه: إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها.
        ثم بعث إلى رجل منهم يدعوه، ثم دعى بالتمر فلما صعد ينزل التمر ضرب برجله فانتثرت الدراهم، فقالوا: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: هذا مال من لا مال له، ثم أمر بذلك المال فقال انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم فانظروا ماله وابعثوا إليه.
        وذكر ابن أبي الحديد: أن غلة أرضه في ينبع كانت في السنة أربعين ألف دينار فكان يتصدق بها في سبيل الله.
        علي (عليه السلام) والعفو
        بعث أمير المؤمنين إلى لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه، فمر به إلى أمير المؤمنين في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته، فبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتوه به وأمر به أن يضرب فقال له نعيم: إن المقام معك لذل، وإن فراقك لكفر فلما سمع ذلك منه قال: قد عفونا عنك إن الله عز وجل يقول: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)(5) أما قولك: إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، وأما قولك: إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها، فهذه بذه.
        علي (عليه السلام) والحكمة
        قال الله تعالى: (من يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً)(6).
        وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها).
        قد ذكر المفسرون للحكمة معاني متعددة وقد فاز الإمام بالحكمة بجميع معانيها وبكافة نواحيها فقد ذكر الطبرسي في تفسير الآية وجوهاً.
        1 ـ علم القرآن: ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره حلاله وحرامه.
        2 ـ الإصابة في القول والعقل.
        3 ـ علم الدين.
        4 ـ العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته.
        5 ـ القرآن والفقه.
        6 ـ ما أتى الله أنبياءه وأممهم في كتابه وآياته ودلالاته التي يدلهم بها على معرفتهم به وبدينه.
        (عن أمالي الطوسي): قال جابر بن عبد الله الأنصاري: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله.
        ثم رفع صوته: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب.
        وذكر البغوي في الصحاح: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
        (في حلية الأولياء): سئل النبي (صلّى الله عليه وآله) عن علي بن أبي طالب فقال: قُسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي (عليه السلام) تسعة أجزاء والناس جزء واحد.
        وذكر الغزالي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: أنا ميزان الحكمة وعلي لسانها.
        علي (عليه السلام) والزهد
        قال عمر بن عبد العزيز: ما علمنا أحداً كان في هذه الأمة أزهد من علي بن أبي طالب بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).
        قال (عليه السلام): لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها.
        وفي البحار عن السيد ابن طاووس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: تزوجت فاطمة (عليها السلام) وما كان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قسمت على بني هاشم لوسعتهم.
        وقال فيه أنه (عليه السلام): وقف أمواله وكانت غلتها أربعين ألف دينار وباع سيفه وقال: من يشتري سيفي؟ ولو كان عندي عشاء ما بعته! وقال مرة: من يشتري سيفي الفلاني، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته! قال: قال: وكان يفعل هذا وغلته أربعون ألف دينار من صدقته.
        وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في زهد علي (عليه السلام) أنه ولي (أيام خلافته) خمس سنين، وما وضع آجرة ولا لبنة على لبنة ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء.
        عن الزمخشري: إن علياً (عليه السلام) اشترى قميصاً، فقطع ما فضل عن أصابعه ثم قال للرجل: حصه (أي خط كفافه).
        عن الأصبغ بن نباته قال علي (عليه السلام) لأهل البصرة: دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين.
        وفي رواية: يا أهل البصرة ما تنقمون مني إن هذا لمن غزل أهلي؟ وأشار إلى قميصه.
        وترصد غداءه عمرو بن حريث، فأتت فضة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيراً خشناً، فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيّبْتيه قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه، ثم إن أمير المؤمنين (عليه السلام) فته في قصعة وصب عليه الماء ثم ذر عليه الملح وحسر عن ذراعه، فلما فرغ قال (عليه السلام): يا عمرو لقد حانت هذه ـ ومد يده إلى محاسنه ـ وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يجزيني.
        ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال: إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك، فقال (عليه السلام):
        علل النفس بالقنوع وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها
        ونظر علي (عليه السلام) إلى فقير انخرق كُمّ ثوبه فخرق علي (عليه السلام) كُمّ قميصه وألقاه إليه.
        وقال الإمام الباقر (عليه السلام): إن علياً أتى البزازين فقال لرجل: بعني ثوبين.
        فقال الرجل: يا أمير المؤمنين عندي حاجتك فلما عرفه مضى عنه، فوقف على غلام، فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة فقال: أنت أولى به، تصعد المنبر، وتخطب الناس فقال: وأنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أتفضل عليك! سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون.
        فلما لبس علي القميص مدّ كُمّ القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أكفه (أي أخيطه)، قال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك، فجاء (أبو الغلام) أي (بائع الثوب) وقال: إن ابني لم يعرفك وهذان درهمان ربحهما، فقال: ما كنت لأفعل، قد ماكست وماكسني، واتفقنا على رضى.
        روى ابن عبد البر المالكي في الاستيعاب بسنده وغيره أن معاوية قال لضرار بن ضمرة: صف لي علياً، قال: اعفني.
        قال: لتصفنه.
        قال: أما: إذا كان لا بد من وصفه، فإنه: كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس (ويستأنس) بالليل ووحشته وكان غزير الدمعة (العبرة) طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، (من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن) وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، (وينبئنا إذا استنبأناه) ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا غُري غيري، أبي نعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات! قد بنتك (باينتك) ثلاثة، لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير (حقير) وعيشك حقير، آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
        فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.
        وفي المناقب: ثم قام وخرج باكياً فقال معاوية: أما إنكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يثني علي هذا الثناء.
        فقال بعض من حضر: الصاحب على قدر صاحبه.
        قال ابن أبي الحديد: (وأما الزاهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً).
        قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل فقلت: يا أمير المؤمنين فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين (الحسنين) أن يلتاه بسمن أو زيت!! وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وليف أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتى يبقى سدي لا لحمة له!! وكان يأتدم إذا ائتدم (أي يجعل إداماً) بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فببعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات.
        علي (عليه السلام) والعفة
        في التاسع من البحار نقلاً عن كتاب مناقب ابن شهر آشوب وكتاب الاحتجاج وغيرهما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:....
        وسافرت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وليس له خادم غيري، وكان له لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينام بيني وبين عائشة ليس علينا لحاف غيره، فإذا قام: إلى صلاة الليل يحط بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتى يمس اللحاف الفراش الذي تحتنا.. الخ.
        هذا الحديث كما تراه يدل على شدة ثقة النبي بعلي، وكثرة اختصاصه به واطمئنانه منه، وكثيراً ما تحدث أمثال هذه القضايا في العوائل المحافظة على الحجاب والغيرة نظراً لنزاهة الأفراد وطهارة القلوب فكيف بالمعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
        (في البحار) عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من بيت زينب بنت جحش حتى أتى بيت أم سلمة، وجاء داق ودق الباب، فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي له.
        قالت: فقلت: ومن هذا يا رسول الله الذي من خطره أن أفتح له الباب؟ وأتلقاه بمعاصمي؟ وقد نزلت في بالأمس آيات من كتاب الله: (يا نساء النبي...).
        فقال: يا أم سلمة إن طاعة الرسول طاعة الله وإن معصية الرسول معصية الله، وإن بالباب لرجلاً ليس بنزق ولا خرق، وما كان ليدخل منزلاً حتى لا يسمع حساً، وهو يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
        فقلت: ففتحت الباب، فأخذ بعضادتي الباب ثم جئت حتى دخلت الخدر، فلما أن لم يسمع وطئ قدمي دخل ثم سلم على رسول الله ثم قال: يا أم سلمة ـ وأنا من وراء الخدر ـ أتعرفين هذا؟ قلت: نعم هذا علي بن أبي طالب قال: هو أخي، سجيته سجيتي ولحمه من لحمي، ودمه من دمي... الخ.
        علي (عليه السلام) والتواضع
        قال سعد بن معاذ لعلي (عليه السلام)، ـ وكان نازلاً عليه ـ : ما منعك أن تخطب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ابنته؟ فقال (عليه السلام) أنا أجترئ أن أخطب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ والله لو كانت أمة ما اجترأت عليه.
        فحكى سعد مقالته لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال له رسول الله: قل له: يفعل.
        فإني سأفعل.
        قال: فبكى علي حيث قال له سعد، ثم قال (عليه السلام): لقد سعدت إذ أن جمع الله لي صهره مع قرابته.
        وشرف أبي طالب ما قد علمه الناس وهو ابن عم رسول الله لأبيه وأمه.
        (في البحار): بالإسناد إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أنه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقاً.
        ولقد ورد على أمير المؤمنين أخوان له مؤمنان: (أب وابن)، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر المجلس، وجلس بين أيديهما: ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لليبس، وجاء ليصب على يد الرجل فوثب أمير المؤمنين وأخذ الإبريق: ليصب على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب، وقال: يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟ قال: اقعد واغسل، فإن الله عز وجل يراك، وأخوك الذي لا يتميز منك ولا ينفصل عنك يخدمك يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها.
        فقعد الرجل فقال له علي: أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته ونحلته وتواضعك لله حتى جازاك عنه بأن تدنيني لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت مطمئناً، كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبراً.
        ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده ولكن الله عز وجل يأبى أن يسوى بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صب الأب على الأب فليصب الابن على الابن، فصب محمد بن الحنفية على الابن.
        ثم قال الإمام الحسن بن علي العسكري: فمن اتبع علياً على ذلك فهو الشيعي حقاً.
        عن الإمام الصادق (عليه السلام) كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحتطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام الله عليها تطحن وتعجن وتخبز.
        وإن علياً اشترى تمراً بالكوفة فحمله في طرف ردائه فتبادر الناس إلى حمله، وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال (عليه السلام): رب العيال أحق بحمله.
        وكان علي (عليه السلام) يحمل التمر والمالح (الملح) بيده ويقول:
        لا ينقص الكامل من كماله ما جر من نفع إلى عياله
        وعن زيد بن علي إن علياً كان يمشي في خمسة (مواضع) حافياً، ويعلق نعله بيده اليسرى: يوم الفطر، والنحر، والجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة، ويقول: إنها مواضع الله وأحب أن أكون فيها حافياً.
        وكان (عليه السلام) يمشي في الأسواق وحده وهو إذ ذاك يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ.
        علي (عليه السلام) والحلم
        (في البحار) مرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أو فليمس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه!! فوثب القوم ليقتلوه فقال (عليه السلام): رويداً إنما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفو عن ذنب.
        قال قنبر: دخلت مع أمير المؤمنين على عثمان فأحب الخلوة فأومى إليه (إلي) بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتبه وهو مطرق برأسه، وأقبل إليه وقال عثمان: ما لك لا تقول؟ فقال: ليس جوابك إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب ثم خرج قائلاً:
        ولــــو أننـــــي جاوبتـــه لأمضـــه نوافذ قولي واحتضار جوابي
        ولكنني أغضي على مضض الحشا ولو شـئت إقداماً لأنشب نابي
        في البحار إن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي فقال: يا جارية ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله.
        قال (عليه السلام): يا عبد الله: إنها خادم وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر.
        فقام إليه الرجل فلكزه فقال الناس: هذا أمير المؤمنين.
        فربا الرجل واصفر وأخذ التمر ورد إليها درهمها ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني.
        فقال: ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك، وفي رواية: (إذا وفيت الناس حقوقهم).
        ودعى (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت فقال: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك وأمنت عقوبتك، فقال: الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه، امض، فأنت حر لوجه الله.
        وكان (عليه السلام) في صلاة الصبح فقرأ ابن الكواء: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)(7) فأنصت علي (عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية ثم عاد في قراءته ثم أعاد ابن الكواء الآية فأنصت أيضاً.

        ثم قرأ فأعاد ابن الكواء فأنصت علي، ثم قرأ: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(8) ثم أتم السورة وركع.
        (في البحار) عن الأصبغ بن نباتة قال: أمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمسير إلى المدائن من الكوفة فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر فخرجوا إلى مكان بالحيرة يسمى (الخورنق) فقالوا: نتنزه فإذا كان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا علياً قبل أن يجتمع (أن يصلي الجمعة) فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضب، فصادوه، فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه وقال: بايعوا، هذا أمير المؤمنين!! فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم، فارتحلوا ليلة الأربعاء فقدموا المدائن يوم الجمعة وأمير المؤمنين يخطب، ولم يفارق بعضهم بعضاً، فكانوا جميعاً حتى نزلوا على باب المسجد فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أيها الناس إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أسر إلي ألف حديث لكل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح، وإني سمعت الله جل جلاله يقول: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(9) وإني أقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب، ولو شئت أن أسميهم لفعلت! قال: فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط كما سقط السعف حياء ولوماً وجبناً.
        قال ابن أبي الحديد في شرحه: (وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسيء وقد ظهرت صحة ما قلنا يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم، وكان أعدى الناس له وأشدهم بغضاً، فصفح عنه.
        وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد...
        وكان علي يقول: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى شب عبد الله.
        فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك.
        لم يزده على ذلك.
        وظفر بسعيد بن العاصي بعد وقعة الجمل بمكة، وكان عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.
        وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس، عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت، وقالت: هتك ستري ورجاله الذين وكلهم بي!! فلما وصلت إلى المدينة ألقت النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.
        وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه، ووجوه أولاده بالسيوف وسبوه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه ـ في أقطار العسكر ـ : ألا: لا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو.
        علي (عليه السلام) والمواساة
        عن أمالي المفيد عن أبي هريرة قال: جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فشكى إليه الجوع، فبعث رسول الله إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من لهذا الرجل الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا له يا رسول الله.
        وأتى علي فاطمة (عليها السلام) فقال لها: ما عندك يا بنت رسول الله؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية نؤثر ضيفنا.
        فقال علي (عليه السلام): يا بنت محمد: نومي الصبية وأطفئ المصباح فلما أصبح عدا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخبره الخبر فلم يبرح حتى أنزل الله عز وجل: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)(10).

        وفي رواية: فقال علي: يا بنت محمد: نومي الصبية وأطفئ المصباح.
        وجعلا يمضغان بألسنتهما فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجدت الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلّى الله عليه وآله) فلما سلم النبي من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين وبكى بكاء شديداً وقال يا أمير المؤمنين لقد عجب الرب من فعلكم البارحة وقرأ: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...)(11) الخ.

        (عن محمد بن الصمة عن أبيه عن عمه): قال: رأيت في المدينة رجلاً على ظهره قربة، وفي يده صحفة يقول: اللهم ولي المؤمنين إله المؤمنين وجار المؤمنين، اقبل قرباني الليلة، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي، وغير ما يواريني، فإنك تعلم أني منعته نفسي مع شدة سغبي أطلب القربة إليك غنماً، اللهم فلا تخلق وجهي ولا ترد دعوتي، فأتيته حتى عرفته فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأتى رجلاً فأطعمه.
        علي (عليه السلام) والكرم
        (في البحار): جاء أعرابي إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين إني مأخوذ بثلاث علل: علة النفس وعلة الفقر وعلة الجهل.
        فأجاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا أخا العرب: علة النفس تعرض على الطبيب وعلة الجهل تعرض على العالم وعلة الفقر تعرض على الكريم.
        فقال الأعرابي أنت الكريم، وأنت العالم، وأنت الطبيب، فأمر أمير المؤمنين بأن يعطى له من بيت المال ثلاثة آلاف درهم وقال: تنفق ألفاً بعلة النفس، وألفاً بعلة الجهل، وألفاً بعلة الفقر.
        وسأله أعرابي شيئاً فأمر له بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال (عليه السلام) كلاهما عندي حجران، فأعط الأعرابي أنفعهما له.
        وقال له ابن الزبير: إني وجدت في حساب أبي: أن له على أبيك ثمانين ألف درهم، فقال له: إن أباك صادق، فقضى ذلك، ثم جاءه فقال: غلطت فيما قلت، إنما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك فقال: والدك في حل والذي قبضته مني هو لك!! قال الصادق (عليه السلام): إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعتق ألف نسمة من كد يده، جماعة لا يحصون كثرة.
        وقال له رجل ـ ورأى عنده وسق نوى ـ : ما هذا يا أبا الحسن؟ قال: مائة ألف نخل إن شاء الله، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة، فهو من أوقافه ووقف مالاً بخيبر وبوادي القرى، ووقف مال أبي نيرز والبغيبغة وأرباحاً وأرينة ورغد ورزيناً ورياحاً على المؤمنين وأخرج مائة عن بينبع وجعلها للحجيج، وهو باق إلى يومنا هذا وحفر آباراً في طريق مكة والكوفة، وهي مسجد الفتح في المدينة، وعند مقابل قبر حمزة (عليه السلام)، وفي الميقات وفي الكوفة وجامع البصرة وفي عبادان وغير ذلك.
        عن أحمد بن أبي المقدام العجلي قال: يروى أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة، فقال: اكتبها في الأرض فإني أرى الضر فيك بيناً، فكتب في الأرض أنا فقير محتاج، فقال علي (عليه السلام): يا قنبر اكسه حلتين، فأنشأ الرجل يقول:
        كسوتنـــي حلــة تبلــى محاسنها فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
        إن نلت حسن ثنائي نلت مكــرمة ولست تبغـــي بما قـــد نلتـــه بدلا
        إن الثناء ليحيــي ذكــــر صاحبه كالغــيث يحيي نداه السهل والجبلا
        لا تزهد الدهر في عرف بدأت به فكـــــل عـبـــد سيجزى بالذي فعلا
        فقال (عليه السلام): أعطوه مائة دينار، فقيل له: يا أمير المؤمنين لقد أغنيته.
        فقال: إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: أنزل الناس منازلهم، ثم قال علي (عليه السلام): إني لأعجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم ولا يشترون الأحرار بمعروفهم.
        عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله)(12) قال: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام).

        عن أيوب بن عطية الحذاء قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قسم نبي الله الفيء فأصاب علياً أرض، فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسماها ينبع، فجاء البشير يبشر فقال (عليه السلام) بشر الوارث هي صدقة بتة بتلاء في حجيج بيت الله وعابر سبيل لا تباع ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
        قال ابن أبي الحديد في شرحه، وأما السخاء والجود: فحاله فيه ظاهرة كان يصوم ويطوي، ويؤثر بزاده، وفيه أنزل (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً)(13) وروى المفسرون: أنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل فيه: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)(14).

        وروي أنه كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة حتى مجلت يداه، ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه حجراً.
        قال الشعبي ـ وقد ذكره (عليه السلام): كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال: لا، لسائل قط.
        وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه: معاوية بن أبي سفيان ـ لمحفن بن أبي محفن الضبي ـ (لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس): قال ويحك! كيف تقول: إنه أبخل الناس وهو الذي لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه؟!!
        علي (عليه السلام) والعدل
        العدل: ما أحلى هذا الاسم عند النفوس المظلومة، وما أحبه إلى المضطهدين وما أبغضه عند الظالمين الذين يزاحم العدل منافعهم، وأرباحهم.
        هذه الكلمة التي تتلهف إليها النفوس وعليها أساس الملك وبها نظام الاجتماع واعتداله، وإنني أعتقد أن أصعب قانون يمكن تطبيقه وتنفيذه في المجتمع هو قانون العدالة!! لاصطدام هذا القانون بنزعات الأقوياء الذين لو كانت العدالة موجودة لما كانوا أقوياء، وهؤلاء في طليعة المكافحين لهذه الفضيلة، والتاريخ والحس والوجدان شواهد على هذا، ولا أراني بحاجة إلى دليل.
        ومن لوازم تطبيق العدالة وتنفيذها قوة الإيمان بالله تعالى والتقوى أولاً، وحزم وعزم فوق كل عاطفة واتجاه ومصانعة ثانياً وعدم الخوف من المشاكل المتوقعة، المحتمل وقوعها ثالثاً.
        وقد توفرت هذه المؤهلات كلها في نفسية علي (عليه السلام) فهو الإيمان كله والتقوى المتجسدة، وهو أقوى رجل يستطيع السيطرة على أعصابه وعواطفه وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو الحق المحض الذي لا يشوبه شيء، ونستطيع أن نقول: إن تطبع نفسية الإمام (عليه السلام) على العدالة والتزامه بها بالغاً ما بلغ هو السبب الوحيد الذي فرق عنه ذوي الأطماع والأغراض، وأخاف ذوي المناصب والكنوز التي كانت عصارة دماء المسلمين، وهدد الفسقة الفجرة الذين استوجبوا إقامة الحدود الإلهية وقطع آمال المستغلين وآماني حواشي السلاطين، وغير ذلك من الأمور التي تدرك ولا توصف، فاجتمعت هذه العوامل، وأججت نيران الحروب الداخلية ضد الإمام (عليه السلام).
        إذ لولا عدالة علي (عليه السلام) لما ذهب أخوه عقيل إلى معاوية ولولا عدل أبي الحسن (عليه السلام) لما انضم طلحة والزبير إلى عائشة للمساهمة في تكوين حرب الجمل.
        لو كان علي (عليه السلام) ظالماً لأمهل معاوية يتصرف في مقدرات المسلمين وما كانت حرب صفين.
        وهكذا وهلم جراً، فإن كانت العدالة نغصت على علي (عليه السلام) عيشته وسلبته الراحة والاطمئنان، وجرت عليه النوائب فإن التاريخ الصحيح عرف لعلي (عليه السلام) هذه الفضيلة وشكره عليها، وإن كان بعض الشواذ يعتبرون العدالة منافية للسياسة، ويرون الأرجح تقديم السياسة على الدين عند التعارض، فإن علياً (عليه السلام) يضرب بالسياسة ـ التي تزاحم دين علي (عليه السلام) ـ عرض الجدار ويتبرأ منها.
        وهو التلميذ الأول للرسول (صلّى الله عليه وآله) والمعلم الثاني للأمم عبر التاريخ، ولو كان علي (عليه السلام) يمشي وراء السياسة لعرفه التاريخ رجلاً سياسياً فحسب، وما كانت الملوك والعظماء يطأطئون هاماتهم أمام عظمته وينظرون إليه بكل تقدير وتقديس.
        نذكر نماذج من تلك العدالة، ولا يسعنا الإسهاب في الكلام لضيق المجال، ولعلنا نستطيع التحدث عن هذه الفضيلة بصورة أوسع في مناسبة أخرى إن شاء الله.
        دخل عمرو بن العاص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة وهو في بيت المال وكان الإمام ينظر في أموال المسلمين وحسابهم ودواوين العطاء وعنده سراج يضيء بنوره الضئيل، وقد اشترى زيت السراج من بيت المال، لأن السراج عائد لمصالح بيت مال المسلمين.
        فلما دخل ابن العاص وأراد أن يتحدث مع الإمام في بعض الشؤون أطفأ الإمام السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل أن يجلس في الضوء بغير استحقاق!! وبنى (عليه السلام) موضعاً تحبس فيه الإبل والغنم الضالة يقال له: (المربد) فكان يعلفها علفاً لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال.
        فلمن أقام عليها بينة أخذها، وإلا أقرها على حالها.
        وتظهر الحكمة في تحديد كمية علف الحيوانات، وهي رعاية الحيوان والمحافظة عليه ورعاية بيت المال والاهتمام به.
        في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) مصدقاً من الكوفة (المصدق: عامل الزكاة التي يستوفيها) إلى باديتها وقال: يا عبد الله: انطلق، وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنك عليه، مراعياً لحق الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقدم بينهم وتسلم عليهم ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل لك: لا .
        فلا تراجعه، وإن أنعم لك منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإن أكثره له، فقل: يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن لك فلا تدخله دخول متسلط عليه فيه، ولا عنف به، فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله تبارك وتعالى في ماله، فإذا قبض يقرأ ذلك فاقبض حق الله منه وإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق الله في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلا ناصحاً أميناً حفيظاً غير معنف بشيء منها، ثم احدر كلما اجتمع عندك من كل ناد إلينا فصيره حيث أمر الله عز وجل، فإذا انحدر فيها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وفصيلها ولا يفرق بينهما، ولا يمصرن لبنها فيضر ذلك بفصيلها ولا يجهد بها ركوباً، وليعدل بينهن في ذلك وليوردهن كل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن ليت الأرض إلى جواد الطريق في الساعة التي فيها تريح وتغبق، وليرفق بهن جهده حتى يأتينا بإذن الله سحاحاً سماناً غير متعبات ولا مجهدات، فنقسمهن بإذن الله على كتاب الله وسنة نبيه (صلّى الله عليه وآله) على أولياء الله فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، ينظر الله إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ما ينظر الله إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولإمامه إلا كان معنا في الرفيق الأعلى.
        قال: ثن بكى أبو عبد الله (عليه السلام) ثم قال: لا والله ما بقيت لله حرمة إلا انتهكت، ولا عمل بكتاب الله وسنة نبيه في هذا العالم، ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا عمل بشيء من الحق إلى يوم الناس هذا، ثم قال: أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي الله الموتى ويميت الأحياء ويرد الله الحق إلى أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه (صلّى الله عليه وآله)، فابشروا ثم ابشروا ثم ابشروا فوالله ما الحق إلا في أيديكم.
        في البحار: روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي (عليه السلام)، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بقوة سلطاتك فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطأة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عزة ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه، فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:
        صلى الإله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفــونا
        قد حالف الحق لا يبغي به بدلا فصار بالحق والإيمان مقرونا
        فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم.
        قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم إن كنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام).
        ثم دفع الرقعة إلي، فو الله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً، فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية.
        علي (عليه السلام) والعبادة
        في الأمالي عن عروة بن الزبير قال: كنا جلوساً في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاً وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا: من؟ قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه وجهه، ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) بشويحطات (أشجار) النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعُد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: (إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك) فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به الله ناجاه أن قال: (إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي) ثم قال: (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه.
        فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء) ثم قال: (آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى).
        قال: ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو) فقلت: (إنا لله وإنا إليه راجعون) مات والله علي بن أبي طالب.
        قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرها الخبر، فقالت هي والله ـ يا أبا الدرداء ـ الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: ما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمني الأحياء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
        قال ابن أبي الحديد: وأما العبادة: فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، وملازمة للأوراد، وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده: أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه، وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته؟؟ وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده؟ وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته، والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت، وعلى أي لسان جرت؟؟!! وقيل لعلي بن الحسين (عليه السلام) ـ وكان الغاية في العبادة ـ : أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
        علي (عليه السلام) وطلاقة الوجه مع المهابة
        قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح النهج: وأما سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا والتبسم فهو مضروب به المثل فيه، حتى عابه بذلك أعداؤه، قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة، وقال علي (عليه السلام) في ذلك: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن في دعابة وإني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس.
        وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر لقوله ـ لما عزم على استخلافه ـ : لله أبوك! لولا دعابة فيك.
        إلا أن عمر اقتصر عليها وعمرو زاد فيها ونسجها.
        قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد.
        وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه.
        وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن فلقد كان هشاً بشاً، ذا فكاهة، قال قيس: نعم كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك حسواً في ارتغاء وتعيبه، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى ليس كما يهابك أهل الشام!!

        (1) سورة الإسراء، الآية: 84.
        (2) سورة الإسراء، الآية: 84.
        (3) سورة الكهف، الآية: 29.
        (4) سورة يونس، الآية: 35.
        (5) سورة المؤمنون، الآية: 96.
        (6) سورة البقرة، الآية: 269.
        (7) سورة الزمر، الآية: 65.
        (8) سورة الروم، الآية: 60،
        (9) سورة الإسراء، الآية: 71.
        (10) سورة الحشر، الآية: 9.
        (11) سورة الحشر، الآية: 9.
        (12) سورة البقرة، الآية: 265.
        (13) سورة الإنسان، الآيتان: 8 و9.
        (14) سورة البقرة، الآية: 274.


        التعديل الأخير تم بواسطة عقيل آل بنيان; الساعة 16-09-2008, 06:27 PM.

        تعليق


        • #5
          من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..3

          الليلة الثامنه
          بسم الله الرحمن الرحيم
          الحمد لله فوق حمد الحامدين وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
          قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1) لا شك أن العلم فضيلة وكمال، ويعترف البشر بشرفه، ويفضل العالم على الجاهل بالفطرة لا بالتقليد، وعلى هذا الأساس لم يسكت الإسلام عن فضيلة العلم والعالم فقد قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم.

          والقرآن الكريم يشير إلى مزية العلم وقيمته وكرامته في كثير من الآيات، ويثني على كل من أوتي العلم نصيباً.
          ومن أهم الأسس للوظائف الراقية والمناصب السامية (كالحكم والقضاء) هو العلم بالأحكام الشرعية وتعاليم آداب القضاء والفتوى، ودرجات الإيمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.
          ونحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدى إيمانه بالله تعالى، لأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال ـ في حديث صحيح ـ : يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا.
          ولا نستطيع أن نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالى، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالى عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم: أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شيء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، وإليكم بعض تلك الآيات: (وقل: رب زدني علماً)(2).

          (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً)(3).
          (وزاده بسطة في العلم والجسم)(4).
          (وكلاً آتيناه حكماً وعلماً)(5).
          (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)(6).
          (ولقد آتينا داود وسليمان علماً)(7).
          (فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً)(8).
          (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(9).
          (إذ قال الله يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب والحكمة)(10).
          (وعلم آدم الأسماء كلها)(11).
          (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك)(12).
          (ففهمناه سليمان)(13).
          (ذلكما مما علمني ربي)(14).
          (وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)(15).
          (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)(16).
          (وإنه لذو علم لما علمناه)(17).
          (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)(18).
          إذا عرفتم ذلك فكيف نستطيع أن نعرف مقياس علوم الإمام ومستوى معارفه وثقافته الإلهية؟ وكيف نتمكن من الإحاطة بعلم باب مدينة علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتلميذ الأول للرسول الأعظم الذي فرغ رسول الله علومه في صدر الإمام، وعلمه في وجبة واحدة ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب؟.
          وما يدري هل آسف على الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلى العلم؟ فقد مضى خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جليس بيته مسلوب الإمكانيات مكبوتاً عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟ قد نسمع أن بعض الغربيين يبدي أسفه على مكتبة الإسكندرية التي حكم عليها بالإحراق، وما ضاعت هناك من علوم وكنوز وأسرار وفنون وصارت طعمة للحريق، فلو كانت تلك العلوم في متناول البشر اليوم وقبل اليوم لكانوا في أرقى درجات الحضارة وأوج العظمة يتصرفون في تلك الكنوز ويعيشون في أوسع فضاء يستنشقون شتى العلوم ويتنعمون بتلك الثروة الفكرية التي كانت تساعدهم في التقدم بصورة مدهشة.
          وسبب تأخر المسلمين خاصة والبشر عامة في خلال هذه القرون إنما هو من بركات ذلك العمل اللالإنساني!.
          إن كان احتراق مكتبة تضم الكتب المتنوعة يوجب التأثر والتألم في نفوس هواة العلم ورواد الفضيلة مع العلم أن الكتب كانت صامتة لا ينتفع بها الأميون والذين لا يحسنون لغة تلك الكتب، فإن تجميد شخصية قد تمثلت وتجمعت فيها دوائر المعارف بكافة أنواعها وجميع أقسامها يؤسف له أكثر وأكثر، أليس من المؤسف أن تعيش أمة من الناس في الظلمات، وعندهم الضياء اللامع والسراج المنير الذي يضيء لهم الدروب والطرق وهم بأمس الحاجة إليه؟؟ وإذا بجماعة يحاولون إخفاء ذلك الضياء والحيلولة بينه وبين الإضاءة والإشراق، ويعجبهم أن يشاهدوا الناس محرومين عن الاستضاءة بأنوار ذلك القمر، وفعلاً وصلوا إلى ما أرادوا، وحكموا على المجتمع الإسلامي بالخيبة والحرمان من العلوم الإلهية وكنوز المعارف الربانية، وذلك حينما حكموا على علي (عليه السلام) بالاعتزال وسلبوه كل نشاط علمي، وضيقوا عليه المجال غاية التضييق خلال خمس وعشرين سنة ـ كما تقدم الكلام ـ .
          وبعد أن وجد المجال وعادت إليه الإمكانيات واسترد ما سلب منه، وإذا بالحروب الداخلية والاضطرابات تحط من نشاطه العلمي وتبلبل فكره وتشغل قلبه، وتسلب القرار والاطمئنان من ذلك المجتمع، فينقلب النشاط العلمي إلى طاقة حربية، وتنقلب المعاهد الثقافية إلى معارك دامية ومجازر مشجية وما هنالك من نتائج وخيمة.
          بالرغم من هذا كله فقد استطاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يرفع أضوأ مشعل للعلم في سماء الثقافة والمعرفة، فهذا كتاب نهج البلاغة وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً من خطب الإمام وكلماته الحكمية ورسائله القيمة، وهذه الكمية هي التي حفظها التاريخ ولا تسأل عن الخطب والعلوم التي ضاعت ولم تلتقطها الأدمغة ولم تسجلها مسجلات التاريخ، فقد روي أن علياً (عليه السلام) خطب في الناس ـ يوماً ـ من بعد صلاة الصبح إلى قبيل الظهر، فكان الإمام يفيض على الخلائق العلوم بشتى أنواعها طيلة ست ساعات تقريباً.
          والآن نذكر لكم ما تيسر من الأحاديث الواردة حول علوم الإمام ومدى سعة معلوماته الجمة: (في البحار) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل القرآن حتى يزهر إلى الله ولحكمت بين أهل التوراة بالتوراة حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور حتى يزهر إلى الله، ولولا آية في كتاب الله لأنبأتكم بما يكون حتى تقوم الساعة.
          وقال علي (عليه السلام): لأنا أعلم بالتوراة من أهل التوراة وأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل.
          عن الأصــبغ بن نـــباتة قال: لما قدم علي (عليه السلام) الكوفة صلى بــهم أربعين صباحاً فقرأ بهم: (سبح اسم ربك الأعلى)(19) فقال المنافقون: والله ما يحسن أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن، ولو أحسن أن يقرأ لقرأ بنا غير هذه السورة، قال: فبلغه ذلك، فقال ويلهم! إني لأعرف ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، والله ما حرف نزل على محمد (صلّى الله عليه وآله) إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل، ويلهم أما يقرءون (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)(20) والله عندي، ورثتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وورثها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من إبراهيم وموسى، ويلهم! والله إني أنا الذي أنزل الله في: (وتعيها أذن واعية)(21) فإنا كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟.

          عن عبابة بن ربعي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟
          عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلى المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينهى كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك.
          والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعِ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
          ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرنكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكييها من مدنيها والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة.
          قال ابن عباس: علي علم علماً علمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) علمه الله، فعلم النبي ـ صلوات الله عليه وآله ـ من علم الله، وعلم علي من علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلمي من علم علي (عليه السلام)، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر.
          عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له: يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سئلت عنه! قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال عجلت: أبا حفص؟ قال: لم يخف علي، فقال علي (عليه السلام): وأنا أسرع فيما لا يخفى علي.
          قال الصادق (عليه السلام) لابن أبي ليلى: أتقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، قال: بأي شيء تقضي؟ قال: بكتاب الله.
          قال: فما لم تجد، في كتاب الله؟ قال من سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما لم أجده فيهما أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه، قال: فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟ قال: بقول من أردت وأخالف الباقين، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: أي رب إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟ قال: وأين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟ قال: فبلغك أن رسول الله قال: أقضاكم علي (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فاصفر وجه ابن أبي ليلى وسكت.
          عن الأصبغ بن نباتة وجماعة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال بحضرة المهاجرين والأنصار ـ وأشار إلى صدره ـ كيف ملئ علماً لو وجدت له طالباً؟ سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا ما زقني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زقاً، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله لو ثنيت لي الوسادة..الخ.
          وفي نهج البلاغة: (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً).
          وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأكبر، ودولة الدول فسلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي وإلى أن يعبد الله.
          علي (عليه السلام) والخطابة
          ألا ترى إلى خطبه (عليه السلام) مثل: التوحيد والشقشقية والهداية والملاحم واللؤلؤة والغراء والقاصعة والافتخار والأشباح والدرة اليتيمة والأقاليم والوسيلة والطالوتية والقصبية والسلمانية والناطقة والدامغة والفاضحة، بل إلى نهج البلاغة عن الشريف الرضي، وكتاب خطب أمير المؤمنين عن إسماعيل بن مهران السكوني عن زيد بن وهب أيضاً، قال الرضي: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.
          الجاحظ في كتاب الغرة: كتب علي (عليه السلام) إلى معاوية: غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك تهدا بهدا.
          وقال (عليه السلام): (من آمن أمن).
          قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة:
          وأما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيد البلغاء وعن كلامه قيل: هو (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق) ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة.
          قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت.
          وقال نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
          ولما قال محفن بن أبي محفن ـ لمعاوية ـ : (جئتك من عند أعيى الناس) قال له: ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره.
          ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه.
          ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
          منها: ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي.
          وكيف عشيت أعينها، عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكانها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها.
          فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوان ريش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاماً، لها جناحان لم يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا.
          تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت.
          لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه.
          فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلا من غيره.
          من خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
          ابتدعهم خلقاً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات.
          فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به..
          ومسلمة له.
          ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته وما ذرأ من مختلف طيور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها.
          من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.
          كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة.
          ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً.
          ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته.
          فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه.
          ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً: الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلاً على رأسه كأنه قلع داري عنجه نوتيه.
          يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كأفضاء الديكة، ويؤر بملاحقةِ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب.
          أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده.
          ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان وفلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جني جني من زهرة كل ربيع.
          وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو كمونق عصب اليمن.
          وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.
          ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق.
          فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق.
          وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ.
          وقد يتحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فبسقط تترى، وينبت تباعاً...
          فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه.
          لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه.
          وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه.
          فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً ملوناً.
          وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.
          وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة.
          ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته.
          ومنها خطبتان له (ع) الأولى خالية من الألف والثانية خالية من النقط
          إحداهما بلا ألف والأخرى بلا نقطة (الأولى) في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه قدس سره بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أنه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أن الألف أكثر دخولاً في الكلام فارتجل (عليه السلام) الخطبة المونقة وهي:
          حمدت من عظمت منته وسبغت نعمته وسبقت رحمته غضبه، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، متفرد بتوحده، مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته وبنيه، ونستعينه ونسترشده ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه وشهدت له شهود مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون ومعين ونصير ونظير علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل، لم يزل ولن يزول ليس كمثله شيء وهو بعد كل شيء، رب معتزز بعزته، متمكن بقوته، متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قوي منيع، بصير سميع، رؤوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه، قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي، ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة، وشهدت ببعث محمد رسوله وعبده وصفيه ونبيه ونجيه وحبيبه وخليله، بعثه في خير عصر، وحين فترة، وكفر، رحمة لعبيده ومنه لمزيده، ختم به نبوته، وشيد به حجته، فوعظ، ونصح وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن رحيم، رضي ولي زكي، عليه رحمة وتسليم وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم قريب مجيب، وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم وذكرتكم بسنة نبيكم، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يبليكم ويذهلكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة ونزع، وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل تكبر وتهرم وتسقم، يمله طبيبه ويعرض عنه حبيبه، ويقطع عمره ويتغير عقله، ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص بصره وطمح نظره، ورشح جبينه وعطف عرينه، وسكن حنينه، وحزنته نفسه، وبكته عرسه، وحفر رمسه، ويتم منه ولده، وتفرق منه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، ومدد وجرد وعري وغسل، ونشف وسجي، وبسط له وهيئ، ونشر عليه كفنه، وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصُلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، وجعل في ضريح ملحود وضيق مرصود، بملبن منضود، مسقف بجلمود، وهيل عليه حفره، وحثي عليه قدره وتحقق حضره، ونسي خيره، ورجع عنه وليه، وصفيه ونديمه ونسيبه، وتبدل به قرينه وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر، يسعى بجسمه دود قبره ويسيل صديده من منخره، يسحق برمته لحمه، وينشف دمه ويرم عظمه، حتى يوم حشره.
          فنشر من قبره حين ينفخ في صور، ويدعى بحشر ونشور فثم بعثرت قبور، وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد، وتوحد للفصل قدير، بعبده خبير بصير، فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تنضيه، في موقف مهول، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم وبكل صغير وكبير عليم، فحينئذ يلجمه عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة وحجته غير مقبولة، زاول جريدته، ونشر صحيفته، نظر في سوء عمله، وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده بمسه، فسلسل جيده، وغلت يده، وسيق فسحب وحده، فورد جهنم بكرب وشدة فظل يعذب في جحيم، ويسقى شربة من حميم، تشوي وجهه وتسلخ جلده، وتضربه زبنيته بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم، نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة من قبله، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بعزته وخلد في قصور مشيدة، وملك بحور عين وحفدة، وطيف عليه بكؤوس وسكن حظيرة قدس، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ومزج له بزنجبيل، مختم بمسك وعبير، مستديم للملك، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه، وليس ينزف، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد مشيئته، وسولت له نفسه معصيته، فهو قول فصل، وحكم عدل، وخبر قصص قص، ووعظ نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس مبين، على قلب نبي مهتد رشيد، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم، فليتضرع متضرعكم وليبتهل مبتهلكم ويستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده.
          ثم ارتجل الإمام (عليه السلام)
          خطبة أخرى خالية من النقط وهي على نسختين (الأولى):
          الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود مصور كل مولود، ومآل كل مطرود، ساطح المهاد وموطد الأطواد، ومرسل الأمطار ومسهل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمر الأملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، عم سماحه وكمل ركامه، وهمل، وطاوع السؤال والأمل، وأوسع الرمل وأرمل، أحمده حمداً ممدوداً، وأوحده كما وحد الأواه، وهو الله لا إله للأمم سواه ولا صادع لما عدله وسواه أرسل محمداً علماً للإسلام وإماماً للحكام مسدداً للرعاع ومعطل أحكام ودٍّ وسواع، أعلم وعلم، وحكم وأحكم، وأصل الأصول، ومهد وأكد الموعود، وأوعد أوصل الله له الإكرام، وأودع روحه السلام، ورحم آله وأهله الكرام، ما لمع رائل وملع دال، وطلع هلال، وسمع إهلال، اعملوا رعاكم الله أصلح الأعمال واسلكوا مسالك الحلال، واطرحوا الحرام، ودعوه، واسمعوا أمر الله وعوه، وصلوا الأرحام وراعوها وعاصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا أهل الصلاح والورع وصارموا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهرالأحرار مولداً وأسراهم سؤدداً، وأحلاهم مورداً، وها هو أمكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرمه وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه، وهو أكرم صهر أودع الأولاد وملك ما أراد وما سها مملكه ولا وهم ولا وكس ملاحمه ولا وصم، اسأل الله حكم أحماد وصاله، ودوام إسعاده، وألهم كلاً إصلاح حاله والأعداد لمآله ومعاده وله الحمد السرمد والمدح لرسوله أحمد.
          (الثانية): في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ارتجل خطبة أخرى من غير النقط التي أولها:
          الحمد لله أهل الحمد ومأواه وأوكد الحمد وأحلاه وأسرع الحمد وأسراه وأطهر الحمد وأسماه وأكرم الحمد وأولاه ـ إلى آخرها.
          ومنهم الشعراء وهو (عليه السلام) أشعرهم وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن علياً أشعر الصحابة وأفصحهم وأكتبهم.
          في تاريخ البلاذري: كان أبو بكر يقول الشعر، وعمر يقول الشعر وعثمان يقول الشعر، وكان علي (عليه السلام) أشعر الثلاثة.
          ومنهم الوعاظ وليس لأحد من الأمثال والعبر والمواعظ والزواجر ما له نحو قوله (عليه السلام): (من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنية نسي الأمنية، من قعد به العقل قام به الجهل، يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرها عتيد، ونعيمها مسلوب، وعزيزها منكوب، ومسالمها محروب، ومالكها مملوك وتراثها متروك؟).
          ومنهم الفلاسفة وهو (عليه السلام) أرجحهم، قال (عليه السلام): أنا النقطة أنا الخط، أنا الخط أنا النقطة، أنا النقطة والخط، فقال جماعة: إن القدرة هي الأصل، والجسم حجابه، والصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل، والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسد الناسوتي.
          وسئل (عليه السلام) عن العالم العلوي فقال: صور عارية من المواد، عالية عن القوة و الاستعداد، تحلى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة.
          إن زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.
          قال ابن سينا: لم يكن شجاعاً فيلسوفاً قط إلا علي (عليه السلام).
          قال الشريف الرضي: من سمع كلامه (عليه السلام) لا يشك أنه كلام من قبع في كسر بيت أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع ذلك زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه التي جمع بها بين الأضداد.
          ومنهم المنجمون وهو (عليه السلام) أكيسهم، قال سعيد بن جبير استقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) دهقان فقال له: يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس فإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب قد اقترن كوكبان، وانفكأ فيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الدهقان، المنبئ بالآثار، المخوف من الأقدار ما كان البارحة صاحب الميزان؟ وفي أي برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات في الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟ قال: سأنظر في الإسطرلاب فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: ويلك يا دهقان أنت مسير الثابتات؟ أم كيف تقضي على الجاريات؟ وأين الأسد من المطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحركات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟ فقال: لا علم لي بذلك يا أمير المؤمنين، فقال له: يا دهقان هل نتج علمك أن انتقل بيت ملك الصين، واحترقت دور بالزنج، وخمد بيت نار فارس وانهدمت منارة الهند، وغرقت سرانديب، وانقض حصن الأندلس، ونتج بترك الروم بالرومية؟؟ فخر الدهقان ساجداً فلما أفاق قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ألم أروك من عين التوفيق؟ فقال: بلى، فقال: أنا وصاحبي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك، أما قولك (انقدح من برجك النيران وظهر منه السرطان) فكان الواجب أن تحكم به لي لا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذهب عني وهذا مسألة عقيمة احسبها إن كنت حاسباً.
          فقال الدهقان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك علي ولي الله.
          هذا وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) آراء ونظريات في التوحيد حول الإلهيات، كالصفات الثبوتية والسلبية، وما يتعلق بذلك وله كلام وبحث دقيق حول العلوم الكونية والطبيعية كالفلك والنجوم والسحاب والرعد والبرق وتكوُّن الأمطار وما شابه من المواضيع المتعلقة بالعالم الأعلى.
          وله تحليل جليل حول الإنسان نطفة وجنيناً ورضيعاً ووليداً وشاباً وكهلاً وما يدور في هذا الفلك من علم النفس والفلسفة البشرية، وغير ذلك.
          يظهر كل هذا من مطاوي كلماته وخطبه الموجودة في نهج البلاغة وغيره من كتب الحديث.
          وتتميماً لهذا البحث نذكر كلام ابن الحديد في هذا الموضوع، قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى ومنه ابتدأ.
          فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطا تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام).
          وأما الأشعرية فإنهم يضمون إلى أبي الحسن بن أبي بشير الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
          وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.
          ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.
          أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة.
          وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (عليه السلام)، وجعفر قرأ على أبيه، وينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).
          وأما مالك فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب (عليه السلام).
          وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان ذلك لك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
          أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي (عليه السلام).
          أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر.
          فقد عرف بهذا الوجه انتهاء الفقه إليه.
          وقد روت العامة والخاصة قوله (صلّى الله عليه وآله) أقضاكم علي والقضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم.
          وروى الكل أيضاً أنه (صلّى الله عليه وآله) قال له ـ وقد بعثه إلى اليمن قاضياً ـ : اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه.
          قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.
          وهو (عليه السلام) الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى به في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعاً.
          وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر ـ هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً؟ ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع، وإذا راجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه، وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط...
          ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله ومن جملتها: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف.
          ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.

          (1) سورة الزمر، الآية: 9.
          (2) سورة طه، الآية: 114.
          (3) سورة الكهف، الآية: 65.
          (4) سورة البقرة، الآية: 247.
          (5) سورة الأنبياء، الآية: 79.
          (6) سورة الأنبياء، الآية: 74.
          (7) سورة النمل، الآية: 15.
          (8) سورة القصص، الآية: 14.
          (9) سورة الأعراف، الآية: 144.
          (10) سورة المائدة، الآية: 110.
          (11) سورة البقرة، الآية: 31.
          (12) سورة مريم، الآية: 43.
          (13) سورة الأنبياء، الآية:79.
          (14) سورة يوسف، الآية: 37.
          (15) سورة النساء، الآية: 113.
          (16) سورة البقرة، الآية: 251.
          (17) سورة يوسف، الآية: 68.
          (18) سورة النساء، الآية: 105.
          (19) سورة الأعلى، الآية: 1.
          (20) سورة الأعلى، الآيتان: 18 و19
          (21) سورة الحاقة، الآية: 12.

          تعليق


          • #6
            من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..2

            الليلة العاشرة


            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله كما يجب ويرضى والصلاة على محمد المصطفى وأخيه المرتضى وآله الأصفياء.
            قال الله تبارك وتعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)(1) كلامنا ـ الليلة ـ حول شيء يسير من خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) وفضائله المختصة به، ولا شك أن في الناس من تشمله العناية الإلهية ويساعده التوفيق أو الحظ فتتوفر فيه النعم والمواهب والفضائل فيمتاز عن غيره وتتكون له شخصية بارزة في النفوس يذكر ويشكر عليها.

            وفي الوقت نفسه نجد أفراداً حرموا من تلك المواهب لعدم استعدادهم أو عدم توفر الظروف المساعدة لهم، فلا تكون لهم في المجتمع أي وزن وقيمة وكرامة، وهذه الطبقة المسكينة تتكون عندهم عقدة الحقارة النفسية فيحسبون أنفسهم منبوذين لفقدانها المزايا والفضائل، ويشتد شعورهم بالحقارة النفسية فتهون عليهم أنفسهم، وإرضاء لغرائزهم المتكونة من تلك العقدة، يحاولون سلب الخصائص الموجودة عن المنعمين بها، أو انتقاصهم والمس بكرامتهم والتشنيع عليهم إجابة للحسد الذي يحز في صدورهم ولا شك أن عدد الفاقدين للفضائل أكثر من الواجدين لها، وعلى هذا نرى أصحاب النعم والمواهب محسودين وكلما ازدادوا فضيلة ازداد عدد حسادهم!! ولا يقف أمام الحسد شيء إلا الإيمان بالله والرضى بالتقدير أو السعي والاهتمام في تحصيل تلك المزايا والفضائل الموجودة في المحسود فتحصل المشاركة معه ويزول الاختصاص عنه.
            وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بينه (عليهم السلام) هم المحسودون في كل زمان ومكان للسبب المتقدم ذكره، وقد وردت أحاديث في تفسير الآية التي افتتحنا بها الكلام أن المقصود من (الناس) في قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)(2) هم عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

            ونذكر في هذه الليلة بعض خصائص الإمام (عليه السلام) وقد مر عليكم ـ فيما سبق ـ شيء من ذلك، ويمكن لنا أن نقول: أن فضائل الإمام (عليه السلام) كلها خصائص منحصرة به لا يشاركه فيها أحد من الناس.
            ومن جملة ذلك: حديث رد الشمس لعلي (عليه السلام).
            أما الشيعة فلا يشكون في قدرة الله تعالى، ويعتقدون أن الله تعالى هو خالق الشمس، وخالق الشمس قادر على ردها بعد الغروب، وليس ذلك محالاً عقلاً ولا قدرة وليس من قبيل اجتماع الضدين أو النقيضين، وكذلك لا يشكون في استجابة دعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) ومسألته من الله تعالى أن يرد الشمس لعلي (عليه السلام) ليصلي صلاة العصر.
            والشيعة يعتقدون أن علياً (عليه السلام) مستجاب الدعوة بالإضافة إلى منزلته الرفيعة ودرجاته العالية عند الله تعالى، وبناء على هذا يعتقدون صحة هذا الخبر.
            أما لفظ الحديث فعن أسماء بنت عميس: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صلى الظهر بالصهباء من أرض خيبر، ثم أرسل علياً في حاجة، فجاء وقد صلى رسول الله العصر، فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غربت الشمس فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): اللهم إن عبدك علياً احتبس نفسه على نبيه فرد عليها شرقها.
            قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى رفعت على الجبال فقام فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس.
            أما المحدثون من الشيعة فكلهم متفقون على هذه الفضيلة وذكروها في كتبهم وموسوعاتهم، ولقد ذكروا أن هذه الفضيلة وقعت مرتين: مرة على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومرة أخرى أيام خلافة الإمام (عليه السلام) ومروره على أرض بابل بالقرب من مدينة الحلة، كما روى ذلك نصر بن مزاحم بإسناده عن عمر قال: حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه عن عبد خير قال: كنت مع علي أسير في أرض بابل وحضرت الصلاة صلاة العصر، قال: فجعلنا لا نأتي مكاناً إلا رأيناه أقبح من الآخر حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا، وقد كادت الشمس أن تغيب فنزل علي ونزلت معه، فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر، فصلينا العصر ثم غابت الشمس... الخ.
            وفي علل الشرائع: عن جويرية بن مسهر قال: قطعنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) جسر الصلاة في وقت العصر، فقال: إن هذه أرض معذبة، لا ينبغي لنبي ولا وصي نبي أن يصلي فيها، فمن أراد منكم أن يصلي فيها فليصل.
            فتفرق الناس يمنة ويسرة يصلون، فقلت أنا: والله لأقلدن هذا الرجل صلاتي اليوم، ولا أصلي حتى يصلي.
            فسرنا وجعلت الشمس تسفل وجعل يدخلني من ذلك أمر عظيم حتى وجبت (غابت) الشمس، وقطعنا الأرض، فقال: يا جويرية أذّن.
            فقلت: تقول أذّن وقد غابت الشمس، فقال: يا جويرية أذّن.
            فأذنت ثم قال لي: أقم.
            فأقمت فلما قلت: (قد قامت الصلاة) رأيت شفتيه يتحركان، وسمعت كلاماً كأنه كلام العبرانية، فارتفعت الشمس حتى صارت في مثل وقتها في العصر فصلى، فلما انصرف هوت إلى مكانها واشتبكت النجوم، فقلت: أنا أشهد أنك وصي رسول الله.
            فقال يا جويرية أما سمعت الله عز وجل يقول: (فسبح باسم ربك العظيم)(3).

            فقلت: بلى.
            قال: فإني سألت الله باسمه العظيم فردها علي.
            وهنا حديث يجمع بين المرتين اللتين ردت الشمس لعلي (عليه السلام) فيها.
            في البحار ج9 عن إرشاد المفيد: (مما أظهره الله تعالى من الأعلام الباهرة على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما استفاضت به الأخبار ورواه علماء السير والآثار ونظمت فيه الشعراء الأشعار، رجوع الشمس له (عليه السلام) مرتين: في حياة النبي (صلّى الله عليه وآله) مرة وبعد وفاته (صلّى الله عليه وآله) أخرى، وكان من حديث رجوعها عليه في المرة الأولى ما روته أسماء بنت عميس وأم سلمة زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله) وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري في جماعة من الصحابة أن النبي (صلّى الله عليه وآله) كان ذات يوم في منزله وعلي (عليه السلام) بين يديه إذ جاءه جبرائيل (عليه السلام) يناجيه عن الله سبحانه، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يرفع رأسه عنه حتى غربت العصر، فصلى أمير المؤمنين (عليه السلام) جالساً يومئ بركوعه وسجوده إيماء، فلما أفاق من غشيته (صلّى الله عليه وآله) قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): أفاتتك صلاة العصر؟ قال: لم أستطع أن أصليها قائماً لمكانك يا رسول الله والحال التي كنت عليها في استماع الوحي، فقال له ادع الله حتى يرد عليك الشمس لتصليها قائماً في وقتها كما فاتتك فإن الله تعالى يجيبك بطاعتك لله ورسوله، فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) الله في رد الشمس، فردت حتى صارت في موضعها من السماء وقت صلاة العصر، فصلى أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة العصر في وقتها ثم غربت.
            وكان رجوعها بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه لما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم ورحالهم، فصلى (عليه السلام) بنفسه في طائفة معه العصر فلم يفرغ الناس من عبورهم حتى غربت الشمس وفاتت الصلاة كثيراً منهم، وفات الجمهور فضل الاجتماع معه، فتكلموا في ذلك، فلما سمع كلامهم فيه سأل الله تعالى أن يرد الشمس عليه ليجتمع كافة أصحابه على صلاة العصر في وقتها، فأجابه الله تعالى في ردها عليه وكانت في الأفق على الحال التي تكون عليه وقت العصر، فلما سلم القوم غابت الشمس فأكثروا من التسبيح والتهليل والاستغفار والحمد لله على النعمة التي ظهرت فيهم، وسار خبر ذلك في الآفاق وانتشر ذكره في الناس.
            رواة حديث رد الشمس لعلي (عليه السلام) من علماء العامة هم:
            1 ـ أبو بكر الوراق، له كتاب: (من روى رد الشمس).
            2 ـ أبو الحسن شاذان الفضيلي، له رسالة.
            3 ـ الحافظ أبو الفتح محمد بن حسين الأزدي الموصلي، له كتاب مفرد فيه.
            4 ـ أبو القاسم الحاكم ابن الحداد الحسكاني النيسابوري الحنفي له رسالة (مسألة في تصحيح رد الشمس).
            5 ـ أبو عبد الله الجعل الحسين بن علي البصري ثم البغدادي له كتاب: (جواز رد الشمس).
            6 ـ أخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد له كتاب: (رد الشمس لأمير المؤمنين).
            7 ـ أبو علي الشريف محمد بن أسعد بن المعمر الحسني النقيب النسابة له جزء في جمع (طرق حديث رد الشمس) لعلي (عليه السلام).
            8 ـ أبو عبد الله محمد بن يوسف الدمشقي الصالحي له جزء (مزيل اللبس عن حديث رد الشمس).
            9 ـ الحافظ جلال الدين السيوطي له رسالة في الحديث أسماها (كشف اللبس عن حديث رد الشمس).
            10 ـ الحافظ أبو الحسن عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي رواه في سننه.
            11 ـ الحافظ أبو جعفر أحمد بن صالح المصري.
            12 ـ محمد بن الحسين الأزدي ذكره في كتابه في (مناقب علي).
            13 ـ الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد الدولابي أخرجه في كتابه الذرية الطاهرة
            14 ـ الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي في (مشكل الآثار).
            15 ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي.
            16 ـ الحافظ أبو القاسم الطبراني رواه في (معجمه الكبير).
            17 ـ الحاكم أبو حفص عمر بن أحمد الشهير بابن شاهين ذكره في (مسنده الكبير).
            18 ـ الحاكم أبو عبد الله النيسابوري رواه في تاريخ (نيسابور).
            19 ـ الحافظ ابن مردويه الأصبهاني أخرجه في (المناقب).
            20 ـ أبو إسحاق الثعلبي رواه في (تفسيره).
            21 ـ الفقيه أبو الحسن علي بن حبيب البصري البغدادي الشافعي عده من أعلام النبوة في كتابه (أعلام النبوة).
            22 ـ الحافظ أبو بكر البيهقي رواه في (الدلائل).
            23 ـ الحافظ الخطيب البغدادي ذكره في (تلخيص المتشابه)
            24 ـ الحافظ أبو زكريا الأصبهاني الشهير بابن مندة أخرجه في كتابه (المعرفة).
            25 ـ الحافظ القاضي عياض أبو الفضل المالكي الأندلسي رواه في كتابه (الشفاء).
            26 ـ أخطب الخطباء الخوارزمي رواه (في المناقب).
            27 ـ الحافظ أبو الفتح النطنزي رواه في (الخصائص العلوية).
            28 ـ أبو المظفر يوسف قزأوغلي الحنفي رواه في (التذكرة).
            29 ـ الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، جعل في كتابه (كفاية الطالب) فصلاً في حديث رد الشمس لعلي (عليه السلام).
            30 ـ أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي ذكره في كتابه (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة).
            31 ـ شيخ الإسلام الحمويني رواه في (فرائد السمطين).
            32 ـ الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي أخرجه في (طرح التثريب).
            33 ـ الإمام أبو الربيع سليمان السبتي الشهير بابن سبع ذكره في كتابه (شفاء الصدور).
            34 ـ الحافظ ابن حجر العسقلاني ذكره في (فتح الباري).
            35 ـ الإمام العيني الحنفي ذكره في (عمدة القاري).
            36 ـ الحافظ السيوطي رواه في (جمع الجوامع).
            37 ـ نور الدين السمهودي الشافعي ذكره في (وفاء الوفاء).
            38 ـ الحافظ أبو العباس القسطلاني ذكره في (المواهب اللدنية).
            39 ـ الحافظ ابن ربيع رواه في (تمييز الطيب من الخبيث).
            40 ـ السيد عبد الرحيم بن عبد الرحمن العباسي ذكره في (معاهد التنصيص).
            41 ـ الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي عده في (الصواعق).
            42 ـ الملا علي القارئ ذكره في (المرقاة).
            43 ـ نور الدين الحلبي الشافعي رواه في (السيرة النبوية).
            44 ـ شهاب الدين الخفاجي الحنفي ذكره في (شرح الشفا).
            45 ـ أبو العرفان الشيخ برهان الدين إبراهيم بن حسن شهاب الدين الكردي الكوراني ذكره في كتابه (الأمم لإيقاظ الهمم).
            46 ـ أبو عبد الله الزرقاني المالكي صححه في (شرح المواهب).
            47 ـ شمس الدين الحنفي الشافعي ذكره في تعليقه على (الجامع الصغير) للسيوطي.
            48 ـ ميرزا محمد البدخشي ذكره في (نزل الأبرار).
            49 ـ الشيخ محمد الصبان عده في (إسعاف الراغبين).
            50 ـ الشيخ محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين الدمشقي إمام الحنفية في عصره ذكره في (حاشيته).
            51 ـ السيد أحمد زيني دحلان الشافعي ذكره في (السيرة النبوية) هامش (السيرة الحلبية).
            52 ـ السيد محمد مؤمن الشبلنجي عده (في نور الأبصار).
            اقتطفنا هذه المصادر من كتاب (الغدير ج3) لشيخنا الأميني رحمه الله.
            هذا وللشعراء دور هام في الإشادة بهذه الفضيلة أعرضنا عن سرد قصائدهم رعاية للاختصار.

            خبر الطائر المشوي

            في احتجاج الطبرسي: عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: كنت أنا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المسجد بعد أن صلى الفجر، ثم نهض ونهضت معه، وكان إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك فكان إذا أبطأ في الموضع صرت إليه لأعرف خبره، لأنه لا يتقار (لا يسكن) قلبي على فراقه ساعة واحدة، فقال لي: إنه متجه إلى بيت عائشة.
            فمضى ومضيت إلى بيت فاطمة (عليها السلام) فلم أزل مع الحسن والحسين، وهي وأنا مسروران بهما، ثم إني نهضت وصرت إلى باب عائشة فطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي، فقالت: إن النبي راقد، فانصرفت، ثم قلت: النبي راقد وعائشة في الدار؟! فرجعت وطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت أنا علي.
            فقالت: إن النبي على حاجة، فانثنيت (انصرفت) مستحيياً من دقي الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبراً، فرجعت مسرعاً فدققت الباب دقاً عنيفاً فقالت لي عائشة: من هذا؟ قلت: أنا علي، فسمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لها: يا عائشة افتحي له الباب، ففتحت فدخلت فقال لي: اقعد يا أبا الحسن، أحدثك بما أنا فيه أو تحدثني بإبطائك عني، فقلت: يا رسول الله حدثني، فإن حديثك أحسن.
            فقال: يا أبا الحسن كنت في أمر كتمته من ألم الجوع، فلما دخلت بيت عائشة وأطلت القعود ليس عندها شيء تأتي به مددت يدي وسألت الله القريب المجيب، فهبط علي حبيبي جبرائيل ومعه هذا الطير ـ ووضع إصبعه على طائر بين يديه ـ فقال جبرائيل: إن الله عز وجل أوحى إلي أن آخذ هذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد.
            فحمدت الله كثيراً، وعرج جبرائيل فرفعت يدي إلى السماء فقلت: اللهم يسر عبداً يحبك ويحبني يأكل معي من هذا الطائر، فمكثت ملياً فلم أر أحداً يطرق الباب، فرفعت يدي، ثم قلت: اللهم يسر عبداً يحبك ويحبني وتحبه وأحبه يأكل معي من الطائر، فسمعت طرقك للباب، وارتفاع صوتك فقلت لعائشة: أدخلي علياً، فدخلت، فلم أزل حامداً لله حتى بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني، ويحبك الله وأحبك فكل يا علي.
            فلما أكلت أنا والنبي الطائر قال لي: يا علي حدثني، فقلت: يا رسول الله لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعاً، ثم نهضت أريدك، فجئت فطرقت الباب، فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي.
            فقالت: إن النبي راقد.
            فانصرفت، فلما أن صرت إلى الطريق الذي سلكته رجعت فقلت: إن النبي راقد وعائشة في الدار؟ لا يكون هذا!! فجئت فطرقت الباب فقالت لي: من هذا؟ فقلت: أنا علي.
            فقالت: النبي على حاجة فانصرفت مستحيياً.
            فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة وجدت في قلبي ما لا أستطيع عليه صبراً، وقلت: النبي على حاجة وعائشة في الدار؟ فرجعت فدققت الباب الذي سمعته يا رسول الله، فسمعتك يا رسول الله تقول لها: أدخلي علياً.
            فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أبى الله إلا أن يكون الأمر هكذا، يا حميراء ما حملك على هذا؟ فقالت: يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير...الخ.
            في مناقب ابن شهر آشوب: روى حديث الطير جماعة منهم: الترمذي في جامعه، وأبو نعيم في حلية الأولياء، والبلاذري في تاريخه، والخركوشي في شرف المصطفى، والسمعاني في فضائل الصحابة، والطبري في الولاية، وابن البيع في الصحيح، وأبو يعلى في المسند، وأحمد في الفضائل والنطنزي في الاختصاص.
            وقد رواه محمد بن يحيى الأزدي، وسعيد والمازني وابن شاهين والسدي، وأبو بكر البيهقي، ومالك وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وعبد الملك بن عمير، ومسعر بن كدام، وداوود بن علي بن عبد الله بن عباس وأبو حاتم الرازي بأسانيدهم عن أنس وابن عباس وأم أيمن.
            ورواه ابن بطة في الإبانة من طريقين، والخطيب وأبو بكر في تاريخ بغداد من سبعة طرق.
            وقد صنف أحمد بن محمد بن سعيد كتاب الطير، وقال القاضي أحمد: قد صح عندي حديث الطير.
            وقال أبو عبد الله البصري، إن طريقة أبي عبد الله الجبائي في تصحيح الأخبار تقتضي القول بصحة هذا الخبر لإيراده يوم الشورى فلم ينكر.
            قال الشيخ: قد استدل به أمير المؤمنين (عليه السلام) على فضله في قصة الشورى بمحضر من أهلها، فما كان فيهم إلا من عرفه وأقر به، والعلم بذلك كالعلم بالشورى نفسها، فصار متواتراً، وليس في الأمة ـ على اختلافها ـ من دفع هذا الخبر.
            وحدثني أبو العزيز كادش العكبري عن أبي طالب الحربي العشاري عن ابن شاهين الواعظ في كتابه: (ما قرب سنده) قال: حدثني نصر بن أبي القاسم الفرائضي، قال: قال محمد بن عيسى الجوهري قال: قال نعيم بن سالم بن قنبر، قال: قال أنس بن مالك...
            الخبر.
            وقد أخرجه علي بن إبراهيم في كتابه قرب الإسناد، وقد رواه خمسة وثلاثون رجلاً من الصحابة عن أنس، وعشرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد صح أن الله تعالى والنبي يحبانه، وما صح ذلك لغيره، فيجب الاقتداء به.
            ومن نسب خبر الطائر إليه قصر الإمامة عليه.

            حديث الطائر بصورة أخرى

            مجمع الحديث: إن أنس بن مالك تعصب بعصابة، فسئل عنها فقال: هذه دعوة علي، قيل: وكيف ذلك؟ قال: أهدي إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طائر مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فقلت له: رسول الله عنك مشغول، وأحببت أن يكون رجلاً من قومي.
            فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثانياً، فجاء علي فقلت: رسول الله عنك مشغول، فرفع علي صوته وقال: وما يشغل رسول الله عني؟ وسمعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا أنس من هذا؟ قلت: علي بن أبي طالب.
            قال: ائذن له، فلما دخل قال له: يا علي إني قد دعوت الله ثلاث مرات أن يأتيني بأحب خلقه إليه وإلي يأكل معي هذا الطير، ولو لم تجئني في الثالثة لدعوت الله باسمك أن يأتيني بك.
            فقال: يا رسول الله إني قد جئت ثلاث مرات، كل ذلك يردني أنس ويقول: رسول الله عنك مشغول، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما حملك على هذا؟ قلت: أحببت أن يكون رجلاً من قومي، وفي رواية: قال: رجوت أن يكون رجلاً من الأنصار، فقال لي: أو في الأنصار خير من علي؟ أو في الأنصار أفضل من علي؟؟ قال أنس: فلما كان يوم الدار استشهدني علي فكتمته، فقلت إني نسيته، فرفع علي يده إلى السماء فقال: اللهم ارم أنساً بوضح لا يستره من الناس.
            وفي رواية: لا تواريه العمامة.
            ثم كشف العمامة عن رأسه فقال: هذه دعوة علي!!.

            حديث المنزلة

            كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخرج معه المسلمون الوضيع منهم والشريف، ولم يبق في المدينة إلا النساء والصبيان وعدد من المتخلفين، فأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يبقى علي في المدينة يحرس المدينة ومن فيها من عوائل المسلمين، وإليكم التفصيل كما رواه المفيد في الإرشاد قال: لما أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الخروج استخلف أمير المؤمنين (عليه السلام) في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له: يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وذلك أنه (صلّى الله عليه وآله) علم من خبث نيات الأعراب وكثير من أهل مكة ومن حولها ممن غزاهم وسفك دماءهم، وأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه (ابتعاده) عنها، وحصوله ببلاد الروم أو نحوها فمتى لم يكن في المدينة من يقوم مقامه لم يؤمن معرتهم، وإيقاع الفساد في دار هجرته والتخطي إلى ما يشين أهله ومخلفيه، وعلم (صلّى الله عليه وآله) أنه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظاهرت به الرواة: أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً على المدينة لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنها تتحرس به وتتحصن، ولا يكون فيها للعدو مطمع، فساءهم ذلك وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي رسول الله عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها وغبطوه على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر، فأرجفوا (خاضوا في الأخبار السيئة قصد أن يهيج الناس) به، وقالوا: لم يستخلفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إكراماً له وإجلالاً ومودة، وإنما خلفه استثقالاً له، فبهتوا بهذا الإرجاف، كبهت قريش للنبي (صلّى الله عليه وآله) بالجنة (الجنون) تارة وبالشعر أخرى وبالسحر مرة وبالكهانة أخرى، وهم يعلمون ضد ذلك ونقيضه، كما علم المنافقون ضد ما أرجفوا به على أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافه، وأن النبي كان أخص الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) وكان هو أحب الناس إليه وأسعدهم عنده وأفضلهم لديه، فلما بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً.
            فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): ارجع يا أخي إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
            فتضمن هذا القول من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصه عليه بالإمامة وإبانته من الكافة بالخلافة، ودل به على فضل لم يشركه فيه أحد سواه، وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى إلا ما خصه العرف من الأخوة (في النسب) واستثناه هو من النبوة.
            ألا ترى أنه (صلّى الله عليه وآله) جعل له كافة منازل هارون من موسى إلا المستثنى منه لفظاً وعقلاً.
            وقد علم كل من تأمل معاني القرآن وتصفح الروايات والأخبار: أن هارون كان أخا موسى (عليه السلام) لأبيه وأمه، وشريكه في أمره، ووزيره على نبوته وتبليغه رسالات ربه، وأن الله شد به أزره، وأنه كان خليفته على قومه، وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته.
            وأنه كان أحب قومه إليه، وأفضلهم لديه، قال الله عز وجل ـ حاكياً عن موسى (عليه السلام) ـ : (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري)(4) فأجاب الله تعالى مسألته، وأعطاه أمنيته، حيث يقول: (قد أوتيت سؤلك يا موسى)(5).

            وقال تعالى ـ حاكياً عن موسى ـ : (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)(6).
            فلما جعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) منه بمنزلة هارون من موسى أوجب له بذلك جميع ما عددناه إلا ما خصه العرف من الأخوة في النسب واستثناه من النبوة لفظاً، وهذه فضيلة لم يشركه فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين ولا ساواه في معناها، ولا قاربه فيها على حال...الخ.
            لا زال ولا يزال بعض المتجاهلين من المسلمين يزعمون أن هذا الحديث غير ثابت في الصحاح ولا معترف به عند الحفاظ وأئمة الحديث.
            أو يدعون اختصاص الحديث بيوم تبوك، فيسلبون منه الدلالة على الخلافة والإمامة العامة المطلقة، ونحن نجيب عن الموضوع الأول: بأن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة المتواترة عند المسلمين لا يشك فيه ذو دراية بالأحاديث، وإلمام بالروايات، ومعرفة وبصيرة بالأخبار، ولا مجال للمناقشة ـ عند ذي الألباب ـ حول صحة هذا الحديث.
            وأما الرواة لهذا الحديث فكثيرون جداً يصعب استيعاب أسمائهم، ونذكر جملة من مشاهير علماء السنة وحفاظهم ورواتهم:
            1 ـ الذهبي في تلخيص المستدرك.
            2 ـ ابن حجر الهيثمي في الصواعق.
            3 ـ صاحب الجمع بين الصحاح الستة.
            4 ـ صاحب الجمع بين الصحيحين.
            5 ـ البخاري في صحيحه.
            6 ـ مسلم في صحيحه.
            7 ـ ابن ماجه في سننه.
            8 ـ أحمد بن حنبل في مسنده.
            9 ـ البزاز في مسنده.
            10 ـ الترمذي في صحيحه.
            11 ـ ابن عبد البر في الاستيعاب.
            وغيرهم ممن كتب أو ألف كتاباً في فضائل علي (عليه السلام).
            وأما محدثو الشيعة وحفاظهم فلا يشكون في صحة هذا الحديث وشهرته، وهذه كتبهم مشحونة بذكر هذا الحديث بجميع الطرق والأسانيد والمصادر والمدارك.
            أما الجواب عن الموضوع الثاني فنقول: إن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) قد كرر كلمته الذهبية (حديث المنزلة) في مواقف عديدة ومواطن كثيرة، ذكرها أعلام المسلمين متفقين على صحتها، وثبوتها واستقامة دلالتها تلك الموارد ـ كما في بشارة المصطفى ـ عن ابن عباس، قال: رأيت حسان بن ثابت واقفاً بمنى، والنبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه مجتمعين، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): هذا علي بن أبي طالب سيد العرب والوصي الأكبر، منزلته مني منزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي لا تقبل التوبة من تائب إلا بحبه.
            يا حسان قل فيه شيئاً، فأنشأ حسان بن ثابت يقول:

            لا تـقـبـل التـــوبة مـــــن تائب إلا بحب ابــــــن أبــي طالب


            أخـــي رســول الله بل صـهره والصهر لا يعــدل بالصاحب


            ومـــن يكن مثل عـلـــي وقـــد ردت له الشمس من المغرب


            رُدت عليه الشمس في ضوئها بيضاً كأن الشمــس لم تغرب

            ومن تلك الموارد: حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مع أم سليم (أم أنس بن مالك) وكان النبي يزورها ويحدثها في بيتها: يا أم سليم إن علياً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى...الخ.
            روي ذلك في كنز العمال ومسند أحمد.
            ومنها: يوم كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح عند النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو متكئ على علي (عليه السلام) فضرب بيده على منكبيه ثم قال: يا علي أنت أول المؤمنين إيماناً، وأولهم إسلاماً، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى...الخ.
            ومنها: يوم الدار وقد سبق في أول ترجمة حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنها: يوم المؤاخاة الثانية وقد مضى ذكره، وكذلك يوم سد الأبواب وقد مر كل ذلك فيما سبق.
            ولولا خوف الملل لذكرنا المصادر لهذه الأحاديث ويمكن لكم مراجعة كتاب (المراجعات) و(الغدير) وغيرهما من الكتب التي كتبت حول هذا الموضوع.


            يتبع

            تعليق


            • #7
              تابع..


              المؤاخاة بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)
              كل شيئين إذا جمعهما جامع يطلق على أحدهما: أنه أخو الآخر مثلاً: العربي تجمع العروبة بينه وبين العرب، فيقال للعربي: يا أخا العرب.
              والفارسي يشارك الفرس في العنصر فيقال له: يا أخا الفرس.
              واليهودية تجمع بين اليهود فيقال لليهودي: يا أخا اليهود، وأفراد القبيلة يجمعهم كونهم من تلك القبيلة فيقال لهم: يا أخا كندة أو يا أخا تميم وهكذا بقية الأديان أو القبائل أو الأشياء التي تجمع بين الأفراد كالمماثلة والمشابهة...
              والأخوان الشقيقان أو الأخوان من قبل الأب وحده أو الأم وحدها يقال لهما: أخوان لأن الأب أو الأم أو كلاهما يجمعان الإنسانين وعلى هذا الأساس يقول الله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة)(7) أي أن مبدأ الإيمان يجمعهما.

              هذه نظرة خاطفة ولمحة موجزة عن الأخوة والإخاء في العرف والقرآن وقد تجتمع هذه العلل كأخوة النسب وأخوة الدين، وأخوة المماثلة في إنسانين فتتقوى أواصر الأخوة فيما بينهما.
              روى البلاذري عن ابن عباس وغيره: لما نزل قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة)(8) آخى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين الأشكال والأمثال، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وبين سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، وبين طلحة والزبير، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، وبين أبي ذر وأبي مسعود، وبين سلمان وحذيفة، وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين أبي الدرداء والبلال، وبين جعفر الطيار ومعاذ بن جبل، وبين المقداد وعمار وبين عائشة وحفصة، وبين زينب بنت جحش وميمونة، وبين أم سلمة وصفية حتى آخى بين أصحابه بأجمعهم على قدر منازلهم ثم قال: (أنت أخي، وأنا أخوك يا علي): وفي لفظ: قال علي (عليه السلام): يا رسول الله آخيت بين أصحابك وتركتني، فقال: أنت أخي، أما ترضى أن تدعى إذا دعيت، وتكسى إذا كسيت، وتدخل الجنة إذا دخلت؟ قال: بلى يا رسول الله.

              وفي رواية مناقب آل أبي طالب: فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): إنما أخرتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة.
              فبكى علي عند ذلك وقال:
              أقـيك بنفـســي أيها المصطفــــــــى الذي هــــــــــدانا به الرحمن من عـمـه الجهل
              وأفـديك حوبائي وما قــــــدر مهــــجتي؟ لمن أنتمي منه إلى الفرع والأصــــل(9)
              ومــن ضمني مــذ كنت طــــفلاً ويــــافعاً وأنعـشـــــــــنـــي بالبـــر والعل والنهـــل
              ومن جـده جــدي ومــن عـــــمه عـــمي ومـــن أهــــــــــله أمــي ومـن بنته أهلي
              ومن حين آخى بين من كان حــــاضـــراً دعانــي وآخـــــــــــاني وبين مـــن فضلي
              لك الفـضل إنــــي ما حــــييت لشاكــــــر لإتمــام ما أوليت يا خـــــــــــــاتم الـــرسل
              وقال:
              أنا أخو المصطفــى لا شك في نسبي معــــه ربيت وسبطاه هـما ولــدي
              وقال:
              محمـــد النبــــي أخـــــي وصنـــــوي وحمـــزة سيـــد الشهــداء عـمـــي
              ولا شك أن هذه الأخوة ليست نسبية، إذ لم يكونا أخوين من النسب تحقيقاً وإنما قال ذلك فيه إبانة لمنزلته وفضله وإمامته على سائر المسلمين، لئلا يتقدمه أحد منهم، ولا يتآمر عليه بعد ما آخى بينهم أجمعين: الأشكال، وجعله شكلاً لنفسه، ولهذا كان علي (عليه السلام) يفتخر بهذه المنقبة والفضيلة لما فيه من علو الرتبة وسمو المنزلة، وشدة الاختصاص بالنبي، وكان علي (عليه السلام) يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، لا يقوله غيري إلا كذاب.
              إن كثرة النصوص الواردة حول هذه الفضيلة وتواترها لا تبقي مجالاً للشك والريب، وقد ذكرها طائفة كبيرة من علماء السنة وحفاظهم، وتطرق إلى ذلك الشعراء في نظمهم وقريضهم لم نذكرها رعاية للاختصار.
              مصادر حديث المؤاخاة بين رسول الله وعلي (عليهما السلام)
              وهي خمسون مصدراً:
              1 ـ جامع الترمذي 2 ص213.
              2 ـ مصابيح البغوي 2 ص199.
              3 ـ مستدرك الحاكم 3 ص14.
              4 ـ الاستيعاب2 ص460.
              5 ـ تيسير الوصول 3 ص271.
              6 ـ مشكاة المصابيح هامش المرقاة 5 ص569.
              7 ـ الرياض النضرة 2 ص167 وفي ص212.
              8 ـ الفصول المهمة ص22، 29.
              9 ـ تذكرة السبط ص13، 15.
              10 ـ كفاية الكنجي ص82.
              11 ـ السيرة النبوية لابن سيد الناس 1 ص200 ـ 203.
              12 ـ تاريخ ابن كثير 7 ص335.
              13 ـ أسنى المطالب للجزري ص9.
              14 ـ مطالب السؤول ص18.
              15 ـ الصواعق ص73، 75.
              16 ـ تاريخ الخلفاء ص114.
              17 ـ الإصابة 2 ص507.
              18 ـ المواقف 3 ص276.
              19 ـ شرح المواهب 1 ص373.
              20 ـ طبقات الشعراني2 ص55.
              21 ـ تاريخ القرماني هامش الكامل 1 ص216.
              22 ـ السيرة الحلبية 1 ص23، 101.
              23 ـ السيرة النبوية لزيني دحلان 1 ص325.
              24 ـ كفاية الشنقيطي ص34.
              25 ـ الإمام علي بن أبي طالب للأستاذ محمد رضا ص21.
              26 ـ الإمام علي بن أبي طالب للأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود قاله في ص73.
              27 ـ الرياض النضرة 2 ص209.
              28 ـ تاريخ ابن عساكر 6 ص201.
              29 ـ كنز العمال 6 ص390.
              30 ـ تاريخ ابن هشام 2 ص123.
              31 ـ الفتاوى الحديثية ص42.
              32 ـ تاريخ الخطيب 12 ص268.
              33 ـ مسند أحمد 1 ص230.
              34 ـ الإمتاع للمقريزي ص340.
              35 ـ المحاسن والمساوئ 1 ص31.
              36 ـ مجمع الزوائد 9 ص111.
              37 ـ مناقب الخوارزمي ص87.
              38 ـ شمس الأخيار ص35.
              39 ـ فيض القدير 4 ص355.
              40 ـ مصباح الظلام 2 ص56.
              41 ـ حلية الأولياء 1 ص67.
              42 ـ شرح ابن أبي الحديد 2 ص449.
              43 ـ فرائد السمطين في الباب 30 و50.
              44 ـ نزهة المجالس 2 ص241.
              45 ـ ذخائر العقبى ص91.
              46 ـ تاريخ بغداد 11 ص112.
              47 ـ خصائص النسائي ص32.
              48 ـ سنن ابن ماجه 1 ص57.
              49 ـ العقد الفريد ص275.
              50 ـ تاريخ الطبري 312.
              سورة براءة
              لما نزلت هذه السورة على النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) أمر رسول الله أبا بكر أن يذهب إلى مكة ويقرأها على الناس، وفي رواية: يقرأ عشر آيات من أول هذه السورة، وأن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده، فلما وصل أبو بكر إلى ذي الحلفية نزل جبرائيل على النبي وقال: لا يبلغ عنك إلا علي.
              فدعا رسول الله علياً وأمره أن يركب ناقته العضباء، وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه سورة براءة ويقرأها على الناس بمكة، فأدرك علي أبا بكر فلما رآه أبو بكر فزع من لحوقه به واستقبله فقال: فيم جئت يا أبا الحسن؟ أسائر أنت معي أم لغير ذلك؟ فقال علي: إن رسول الله أمرني أن ألحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه، فقال: بل أرجع إليه وعاد إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فلما دخل عليه قال: يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق إلي فيه، فلما توجهت إليه رددتني عنه، ما لي أنزل في قرآن؟ فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): لا، ولكن الأمين جبرائيل (عليه السلام) هبط إلي عن الله عز وجل بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي مني، ولا يؤدي عني إلا علي.
              قال المقريزي في الإمتاع: بأن العرب كان إذا تحالف سيدهم أو رئيسهم لم ينقض ذلك إلا الذي يحالف أو أقرب الناس قرابة منه، وكان علي رضي الله عنه هو الذي عاهد المشركين فلذلك بعثه (صلّى الله عليه وآله) ببراءة.
              وذكر أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن زيد بن نقيع قال: سألنا علياً بأي شيء بعثت في ذي الحجة؟ قال بعثت بأربعة: لا تدخل الكعبة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر.
              وروي أنه (عليه السلام) قام عند جمرة العقبة وقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم بأن لا يدخل البيت كافر، ولا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فله عهده إلى أربعة أشهر، ومن لا عهد له فله مدة بقية الأشهر الحرم، وقرأ عليهم سورة براءة، وقيل: قرأ عليهم ثلاث عشرة آية من أول براءة، وروي أنه (عليه السلام) لما نادى فيهم: (إن الله بريء من المشركين)(10).

              قال المشركون: نحن نتبرأ من عهدك وعهد ابن عمك.
              وهذه صور أخرى:
              في البحار عن الإمام الباقر (عليه السلام): لما سرح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبا بكر بأول سورة براءة إلى أهل مكة أتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن لا تبعث هذا وأن تبعث علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإنه لا يؤديها عنك غيره، فأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب فلحقه وأخذ منه الصحيفة وقال: ارجع إلى النبي، فقال أبو بكر: هل حدث في شيء؟ فقال: سيخبرك رسول الله، فرجع أبو بكر إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله ما كنت ترى أني مؤد عنك هذه الرسالة؟ فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): أبى الله أن يؤديها إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأكثر أبو بكر عليه من الكلام فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار.
              قال: فانطلق علي (عليه السلام) حتى قدم مكة ثم وافى عرفات، ثم رجع إلى جمع، ثم إلى منى ثم ذبح وحلق، وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب فأذن ثلاث مرات: ألا تسمعون أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم؟ ثم قال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله)(11) إلى قوله: (إن الله غفور رحيم)(12) تسع آيات من أولها، ثم لمع بسيفه (أي أشار) فأسمع الناس وكررها فقال الناس: من هذا الذي ينادي في الناس؟ فقالوا: علي بن أبي طالب، وقال من عرفه من الناس: هذا ابن عم محمد، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد (صلّى الله عليه وآله)، فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ويقرأ على الناس غدوة وعشية، فناداه الناس من المشركين: أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف وطعناً بالرماح.

              ثم انصرف علي (عليه السلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) يقصد في السير، وأبطأ الوحي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أمر علي وما كان منه، فاغتم النبي لذلك غماً شديداً حتى رؤي في وجهه، وكف عن النساء من الهم والغم، فقال بعضهم لبعض: لعله قد نعيت إليه نفسه أو عرض له مرض، فقالوا لأبي ذر: قد نعلم منزلتك من رسول الله، وقد ترى ما به، فنحن نحب أن تعلم لنا أمره، فسأل أبو ذر النبي (صلّى الله عليه وآله) عن ذلك، فقال النبي: ما نعيت إلي نفسي وإني لميت، وما وجدت في أمتي إلا خيراً، وما بي من مرض، ولكن من شدة وجدي بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وإبطاء الوحي عني في أمره، فإن الله عز وجل قد أعطاني في علي (عليه السلام) تسع خصال: ثلاثة لدنياي، واثنتان لآخرتي واثنتان أنا منهما آمن، واثنتان أنا منهما خائف، وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا صلى الغداة استقبل القبلة بوجهه إلى طلوع الشمس يذكر الله عز وجل، وتقدم علي بن أبي طالب خلف النبي (صلّى الله عليه وآله) ويستقبل الناس بوجهه فيستأذنون في حوائجهم، وبذلك أمرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما توجه علي (عليه السلام) إلى ذلك الوجه لم يجعل رسول الله مكان علي لأحد، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا صلى وسلم استقبل الناس بوجهه فأذن للناس.
              فقام أبو ذر فقال: يا رسول الله لي حاجة، قال: انطلق في حاجتك.
              فخرج أبو ذر من المدينة يستقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلما كان ببعض الطريق إذا هو براكب مقبل على ناقته، فإذا هو علي فاستقبله والتزمه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي اقصد في مسيرك حتى أكون أنا الذي أبشر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإن رسول الله من أمرك في غم شديد وهم، فقال له علي (عليه السلام): نعم، فانطلق أبو ذر مسرعاً حتى أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: البشرى، قال: وما بشراك يا أبا ذر؟ قال: قدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: لك بذلك الجنة، ثم ركب النبي (صلّى الله عليه وآله) وركب معه الناس فلما رآه أناخ ناقته، ونزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فتلقاه والتزمه وعانقه ووضع خده على منكب علي وبكى النبي فرحاً بقدومه وبكى علي معه، ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما صنعت بأبي أنت وأمي؟ فإن الوحي أبطأ علي في أمرك، فأخبره بما صنع، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان الله عز وجل أعلم بك مني حين أمرني بإرسالك.
              عن الصادق (عليه السلام) قال: خطب علي فاخترط سيفه وقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن البيت مشرك، ومن كان له مدة فهو إلى مدته، ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر ـ زيادة في مسند الموصلي ـ : ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وهذا هو الذي أمر الله تعالى به إبراهيم (عليه السلام) حين قال: (وطهر بيتي للطـــائفين والقائمين والركع الــسجود)(13) فكان الله تعالى أمر إبراهيم الخليل بالنداء أولاً قوله: (وأذن في الناس بالحج)(14) وأمر الولي بالنداء آخراً قوله: (وأذان من الله ورسوله)(15) قال السدي وأبو مالك وابن عباس وزين العابدين (عليه السلام): الأذان علي بن أبي طالب الذي نادى به.

              علي (عليه السلام) يكسر الأصنام
              روى أبو بكر الشيرازي...
              عن أبي هريرة قال: قال لي جابر بن عبد الله: دخلنا مع النبي مكة، وفي البيت وحوله ثلاث مائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فألقيت كلها لوجوهها، وكان على البيت صنم طويل يقال له (هبل) فنظر النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) وقال له: يا علي تركب (تصعد) أو أركب عليك لألقي هبل عن ظهر الكعبة؟ قلت: يا رسول الله بل تركبني فلما جلس على ظهري لم أستطع حمله لثقل الرسالة، قلت: يا رسول الله بل أركبك، فضحك ونزل وطأطأ لي ظهره واستويت عليه، فو الذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لمسكتها بيدي!! فألقيت هبل عن ظهر الكعبة، فأنزل الله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل)(16).

              وروى أحمد بن حنبل وأبو بكر الخطيب بإسناده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: انطلق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الأصنام فقال: اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول الله على منكبي ثم قال لي: انهض بي إلى الصنم، فنهضت به، فلما رأى ضعفي عنه قال: اجلس فجلست وأنزلته عني، وجلس لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم قال لي: اصعد يا علي، فصعدت على منكبه ثم نهض بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما نهض بي خيّل لي أني لو شئت نلت السماء وصعدت على الكعبة، وتنحى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فألقيت صنمهم الأكبر صنم قريش، وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلى الأرض.
              الحديث بصورة أخرى:
              روى إسماعيل بن محمد الكوفي في خبر طويل عن ابن عباس أنه كان صنم لخزاعة من فوق الكعبة، فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): يا أبا الحسن انطلق بنا نلقي هذا الصنم عن البيت، فانطلقا ليلاً فقال له: يا أبا الحسن ارق على ظهري، وكان طول الكعبة أربعين ذراعاً، فحمله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: انتهيت يا علي؟ قال: والذي بعثك بالحق لو هممت أن أمس السماء بيدي لمسستها.
              واحتمل الصنم وجلد به الأرض فتقطع قطعاً، ثم تعلق بالميزاب وتخلى بنفسه إلى الأرض، فلما سقط ضحك، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): ما يضحكك يا علي أضحك الله سنك؟ قال: ضحكت يا رسول الله تعجباً من أني رميت بنفسي من فوق البيت إلى الأرض فما ألمت ولا أصابني وجع! فقال: كيف تألم يا علي أو يصيبك وجع إنما رفعك محمد وأنزلك جبرائيل..
              وفي علل الشرائع وجامع الأخبار عن محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة قال: سألت جعفر بن محمد (الصادق) (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها.
              فقال: إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني وإن شئت فاسأل قال قلت له: يا ابن رسول الله وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي؟ فقال بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول الله عز وجل: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)(17) وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)؟ قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فأخبرني بمسألتي قال: أردت أن تسألني عن رسول الله لم لم يطق حمله علي (عليه السلام) عند حط الأصنام من سطح الكعبة مع قوته وشدته ومع ما ظهر منه في قلع باب القوم بخيبر والرمي به إلى ورائه أربعين ذراعاً؟ وكان لا يطيق حمله أربعون رجلاً؟ وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يركب الناقة والفرس والحمار وركب البراق ليلة المعراج وكل ذلك دون علي في القوة والشدة؟ قال: فقلت له: عن هذا والله أردت أن أسألك يا ابن رسول الله فأخبرني.
              فقال (عليه السلام): إن علياً برسول الله تشرف، وبه ارتفع وبه وصل إلى أن أطفأ نار الشرك وأبطل كل معبود من دون الله عز وجل ولو علاه النبي (صلّى الله عليه وآله) لحط الأصنام لكان بعلي مرتفعاً وشريفاً واصلاً إلى حط الأصنام، ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه، ألا ترى أن علياً (عليه السلام) قال: (لما علوت ظهر رسول الله شرفت وارتفعت حتى لو شئت أن أنال السماء لنلتها)؟ أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدى به في الظلمة وانبعاث فرعه من أصله وقد قال علي (عليه السلام): (أنا من أحمد كالضوء من الضوء!).
              حديث سد الأبواب
              في البحار ج9 عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لما بنى مسجده بالمدينة وأشرع بابه وأشرع المهاجرون والأنصار أبوابهم أراد الله عز وجل إبانة محمد وآله الأفضلين بالفضيلة، فنزل جبرائيل (عليه السلام) عن الله: بأن سدوا الأبواب عن مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل أن ينزل بكم العذاب، فأول من بعث إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان العباس، وكان الرسول معاذ بن جبل، ثم مر العباس بفاطمة (عليها السلام) فرآها قاعدة على بابها وقد أقعدت الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال لها: ما بالك قاعدة؟ انظروا إليها كأنها لبوءة بين يديها شبلاها! تظن أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخرج عمه ويدخل ابن عمه! فمر بهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لها: ما بالك قاعدة؟ فقالت: أنتظر أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بسد الأبواب، فقال (صلّى الله عليه وآله): إن الله تعالى أمرهم بسد الأبواب واستثنى منهم رسوله وأنتم نفس رسول الله، ثم إن عمر بن الخطاب جاء فقال: إني أحب النظر إليك يا رسول الله إذا مررت إلى مصلاك، فأذن لي في خوخة (فرجة) أنظر إليك منها! فقال: قد أبى الله ذلك، فقال: فمقدار ما أضع عليه وجهي، قال قد أبى الله ذلك، قال: فمقدار ما أضع عليه عيني، فقال: قد أبى الله ذلك ولو قلت: قدر طرف إبرة لم آذن لك، والذي نفسي بيده ما أنا أخرجتكم ولا أدخلتكم ولكن الله أدخلكم وأخرجكم.
              ثم قال: لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت في هذا المسجد جنباً إلا محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم..
              الحديث بلفظ آخر:
              حذيفة بن أسيد الغفاري قال: لما قدم أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) المدينة لم تكن لهم بيوت فكانوا يبيتون في المسجد، فقال لهم النبي (صلّى الله عليه وآله): لا تبيتوا في المسجد فتحتلموا، ثم إن القوم بنوا بيوتاً حول المسجد وجعلوا أبوابها إلى المسجد، وإن النبي (صلّى الله عليه وآله) بعث إليهم معاذ بن جبل فنادى أبا بكر فقال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يأمرك أن تخرج من المسجد وتسد بابك، فقال: سمعاً وطاعة.
              فسد بابه وخرج من المسجد، ثم أرسل إلى عمر فقال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يأمرك أن تسد بابك الذي في المسجد وتخرج منه، فقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله غير أني أرغب إلى الله تعالى في خوخة (فرجة) في المسجد.
              فأبلغه معاذ ما قاله عمر، ثم أرسل إلى عثمان وعنده رقية فقال: سمعاً وطاعة.
              فسد بابه وخرج من المسجد، ثم أرسل إلى حمزة رضي الله عنه فسد بابه وقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله وعلي (عليه السلام) على ذلك متردد لا يدري أهو فيمن يقيم أو فيمن يخرج؟ وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) قد بنى له في المسجد بيتاً بين أبياته، فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): اسكن طاهراً مطهراً، فبلغ حمزة قول النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) فقال: يا محمد تخرجنا وتمسك غلمان بني عبد المطلب فقال له نبي الله: لو كان الأمر إلي ما جعلت دونكم من أحد، والله ما أعطاه إياه إلا الله وإنك لعلى خير من الله ورسوله، أبشر، فبشره النبي (صلّى الله عليه وآله) فقتل يوم أحد شهيداً، ونفس ذلك رجال على علي فوجدوا في أنفسهم، وتبين فضله عليهم وعلى غيرهم من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فبلغ ذلك النبي (صلّى الله عليه وآله) فقام خطيباً فقال إن رجالاً يجدون في أنفسهم في أن أسكن علياً في المسجد وأخرجهم والله ما أخرجهم ولا أسكنته، إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وأخيه (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة)(18) وأمر موسى أن لا يسكن مسجداً ولا ينكح فيه ولا يدخله إلا هارون وذريته، وإن علياً بمنزله هارون من موسى وهو أخي دون أهلي ولا يحل مسجدي لأحد ينكح فيه النساء إلا علي وذريته، فمن شاء فها هنا ـ وأومأ بيده نحو الشام.

              ولإبن أبي الحديد كلام جامع يشير إلى بعض الفضائل بصورة موجزة يقول: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ذا أخلاق متضادة، فمنها أن الغالب على أهل الإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية وفتك وتنمر وجبرية، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد وتذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة ولين.
              وضعف قلب وخور طبع، وهاتان حالتان متضادتان وقد اجتمعتا له (عليه السلام).
              ومنها: أن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعيه وطباع وحشية، وكذلك الغالب على أهل الزهاد وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق وعبوس في الوجوه ونفار من الناس واستيحاش.
              وعلي (عليه السلام) كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظاً وتذكيراً بأيام الله ومثلاته وأشدهم اجتهادا في العبادة، وآداباً لنفسه في المعاملة.
              وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقاً، وأسفرهم وجهاً، وأكثرهم بشراَ وأوفاهم هشاشة وبشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر، أو تجهم مباعد، أو غلظة وفظاظة ينفر معها نفس، أو يتكدر معها قلب، حتى عيب بالدعابة.
              ولما لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً تعلقوا بها (الدعابة) ، واعتمدوا في التنفير عليها، وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة.
              ومنها: أن الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل السيادة والرئاسة أن يكون ذا كبرٍ وتيهٍ وتعظم، وخصوصاً إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى.
              وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في مصاص الشرف ومعدنه، لا شك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمه (صلوات الله عليه) وقد حصل له الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة، وقد ذكرنا بعضها ومع ذلك كان أشد الناس تواضعاًَ لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بحق.
              وكانت حاله هذه حالة في كل زمانيه: زمان خلافته، والزمان الذي قبله، ما غيرت سجيته الإمرة، ولا أحالت خلقه الرئاسة وكيف تحيل الرئاسة خلقه وما زال رئيساً؟ وكيف تغير الإمرة سجيته وما برح أميراً؟ لم يستفد بالخلافة شرفاً، ولا اكتسب بها زينة، بل هو كما قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي في تاريخه المعروف (بالمنتظم) قال: تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر وعلي وقالوا، وأكثروا فرفع رأسه إليهم وقال: قد أكثرتم، إن علياً لم تزنه الخلافة لكنه زانها، وهذا الكلام بفحواه ومفهومه على أن غيره ازداد بالخلافة وتمت نقيصه، وأن علياً لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتم بالخلافة وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتم نقصها بولايته إياها.
              ومنها: إن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء لأن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو، لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كثرة إراقة الدماء وما عنده من الحلم والصفح ومغالبته هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل.
              ومنها ما رأيناه شجاعاً جواداً قط...
              وقد علمت حال أمير المؤمنين في الشجاعة والسخاء كيف هي؟ وهي من أعاجيبه (عليه السلام)...
              إلى آخر كلامه.

              (1) سورة النساء، الآية: 54.
              (2) سورة النساء، الآية: 54.
              (3) سورة الأعلى، الآية: 1.
              (4) سورة طه، الآيات: 25ـ32.
              (5) سورة طه، الآية: 36.
              (6) سورة الأعراف، الآية: 142.
              (7) سورة الحجرات، الآية: 10.
              (8) سورة الحجرات، الآية: 10.
              (9) الحوباء: روح القلب أو النفس.
              (10) سورة التوبة، الآية: 3.
              (11) سورة التوبة، الآيات: 1ـ3.
              (12) سورة التوبة، الآية: 5.
              (13) سورة البقرة، الآية: 125.
              (14) سورة الحج، الآية: 27.
              (15) سورة التوبة، الآية: 3.
              (16) سورة الإسراء، الآية: 81.
              (17) سورة الحجر، الآية: 75.
              (18) سورة يونس، الآية: 87.


              تعليق


              • #8
                الليلة الحادية عشرة
                علي (عليه السلام) يوم الغدير
                بسم الله الرحمن الرحيم
                الحمد لله كما يرضى وسلام على النبي المصطفى وأخيه المرتضى وآله.
                قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الرســـول بلغ ما أنـــزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)(1).

                أيها الأخوة كلامنا ـ الليلة ـ حول واقعة الغدير، تلك الواقعة التي أكمل الله فيها الدين وأتم فيها النعمة، يوم تتويج الإمام المرتضى (عليه السلام) بتاج الخلافة العظمى والإمامة الكبرى.
                وهذا البحث من أهم البحوث الإسلامية، وهنا مفترق الطرق بين المذاهب الإسلامية، ويمكن لنا أن نقول: إن الكتب والمؤلفات التي كتبت حول هذا الموضوع بالذات وحول الإمامة والخلافة بصورة عامة ـ قد جاوزت العد والضبط والإحصاء، من إثبات أو رد أو مناقشة وما يدور في هذا الفلك.
                ولا تسألوا عن الأرواح التي زهقت في سبيل هذه الواقعة ومضاعفاتها في خلال أربعة عشر قرناً، وما هناك من مآسي وكوارث ومصائب ومجازر وفتن تتعب القارئ وتجهد السامع.
                وحيث إن الإمامة ـ عندنا ـ تالية للنبوة من حيث كونها وظيفة إلهية ومنصب رباني ليس لأحد حق الانتخاب أو الرد فيها، كما قال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة)(2) ولهذا لا بأس بذكر هذه الواقعة وما يتعلق بها من أقوال الصحابة وأهل البيت والتابعين وتابعيهم من المحدثين والمفسرين والمؤرخين والشعراء والأئمة والأعلام والحفاظ.

                ومن العجب أن عدداً من النصارى ذكروا هذه الحادثة نظماً ونثراً ولعلنا نشير إلى بعض أقوال هؤلاء بصورة موجزة رعاية للاختصار.
                ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين بعد إقامة الأدلة الكافية والبراهين الشافية والحجج القاطعة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد المناقشة في سند الحديث ودلالة متنه ومفهومه قال: إن عليا هو الأفضل ولكن غيره أصلح!! سبحان الله هذه كلمة تضحك الثكلى! لأن معناها، إن الله ورسوله ما كانا يعرفان الأصلح؟ أو كانا يعرفانه ولكنهما قدما غير الأصلح، نعوذ بالله من الباطل.
                والأفضل أن نذكر الواقعة بصورة موجزة ثم ننظر أين ينتهي بنا الكلام؟ وأقوال المفسرين والمحدثين تختلف من حيث الإيجاز والتفصيل، ولكن المفاد واحد، وهذه صورة الواقعة: لما قضى رسول الله مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع الغفيرة ووصل إلى غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله بقوله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)(3) الآية.

                وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد، حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقم (كنس) ما تحتهن حتى إذا نؤدي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلى بالناس تحتهن، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء، وظلل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف الرسول (صلّى الله عليه وآله) من صلاته قام خطيباً وسط القوم على اقتاب الإبل وأسمع الجميع رافعاً عقيرته فقال: الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضل لمن هدى وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله ـ أما بعد ـ : أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإني مسؤول وانتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.
                قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم أشهد ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا نعم قال: فإني فرط علي الحوض، وانتم واردون علي الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
                فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ـ ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رئي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ـ ، فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.
                وقد ذكروا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) خطبة مفصلة جداً رواها الطبرسي في الاحتجاج، ورواها غيره في كتبهم بغير تفصيل، وكيف كان لما فرغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من خطبته نزل وأمر المسلمين أن يبايعوا علياً بالخلافة ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين.
                فتهافت عليه الناس يبايعونه، وجاء الشيخان: أبو بكر وعمر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقالا: هذا أمر منك أم من الله؟ فقال النبي: وهل يكون هذا عن غير أمر الله؟ نعم أمر من الله ورسوله فقاما وبايعا، فقال عمر: السلام عليك يا أمير المؤمنين بخ بخ لك لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنه!! هذه الواقعة من أشهر الحوادث بين المفسرين والمحدثين والمؤرخين، وتعتبر عندهم من أصح الأحاديث لتواتر الروايات الواردة حول الحديث.
                أما الصحابة الذين شهدوا بالغدير فالمشهور منهم مائة ونيف وإليك أسماؤهم حسب الحروف:
                1 ـ أبو هريرة.
                2 ـ أبو ليلى الأنصاري.
                3 ـ أبو زينب بن عوف الأنصاري.
                4 ـ أبو فضالة الأنصاري.
                5 ـ أبو قدامه الأنصاري.
                6 ـ أبو عمرة بن عمر بن محضر الأنصاري.
                7 ـ أبو الهيثم بن التيهان.
                8 ـ أبو رافع القبطي.
                9 ـ أبو ذويب بن خويلد.
                10 ـ أبو بكر بن أبي قحافة.
                11 ـ أسامة بن زيد.
                12 ـ أسعد بن زراره الأنصاري.
                13 ـ أبي بن كعب الأنصاري.
                14 ـ أسماء بنت عميس.
                15 ـ أم كلثوم زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله).
                16 ـ أم هاني بنت أبي طالب.
                17 ـ براء بن عازب الأنصاري.
                18 ـ أبو حمزة أنس بن مالك.
                19 ـ بريرة بن الخصيب.
                20 ـ أبو سعيد ثابت بن وديعة الأنصاري.
                21 ـ جاب بن ثمرة.
                22 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.
                23 ـ جبلة بن عمرو الأنصاري.
                24 ـ جبير بن مطعم.
                25 ـ جرير بن عبد الله.
                26 ـ أبو ذر جندب بن جنادة.
                27 ـ أبو جنيدة جندع بن عمرو.
                28 ـ حبة بن جرير العرني.
                29 ـ حبشي بن جنادة.
                30 ـ حبيب بن بديل..
                31 ـ حذيفة بن أسيد.
                32 ـ حذيفة بن اليمان.
                33 ـ حسان بن ثابت.
                34 ـ الإمام الحسن بن علي (عليه السلام).
                35 ـ الإمام الحسين بن علي (عليه السلام).
                36 ـ أبو أيوب الأنصاري.
                37 ـ خالد بن الوليد.
                38 ـ خزيمة بن ثابت.
                39 ـ خويلد بن عمر الخزامي.
                40 ـ رفاعة بن عبد المنذر الأنصاري.
                41 ـ زبير بن العوام.
                42 ـ زيد بن ثابت.
                44 ـ زيد بن عبد الله الأنصاري.
                45 ـ زيد بن يزيد بن شراحيل الأنصاري.
                46 ـ سعد بن أبي وقاص.
                47 ـ سعد بن جنادة.
                48 ـ سعد بن عبادة.
                49 ـ أبو سعيد الخدري.
                51 ـ سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري.
                52 ـ سلمان الفارسي.
                53 ـ سمرة بن جندب.
                54 ـ سلمة بن عمرو.
                55 ـ سهل بن ساعد الأنصاري.
                57 ـ أبو أمامة الصدي بن عجلان.
                58 ـ ضميرة الأسدي.
                59 ـ طلحة بن عبيد الله.
                60 ـ عامر بن عمير.
                61 ـ عامر بن ليلى.
                62 ـ عامر بن وائلة.
                63 ـ عامر بن ليلى العقاري.
                64 ـ عائشة بنت أبي بكر.
                65 ـ عباس بن عبد المطلب عم النبي (صلّى الله عليه وآله).
                66 ـ عبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري.
                67 ـ عبد الرحمن بن عوف.
                68 ـ عبد الرحمن بن يعمر.
                69 ـ عبد الله بن أبي عبد الأسد المخزومي.
                70 ـ عبد الله بن بديل.
                71 ـ عبد الله بن بشير.
                72 ـ عبد الله بن ثابت الأنصاري.
                73 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
                74 ـ عبد الله بن حنطب.
                75 ـ عبد الله بن ربيعة.
                76 ـ عبد الله بن عباس.
                77 ـ عبد الله بن أبي أوفى.
                78 ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب.
                79 ـ عبد الله ياميل.
                80 ـ عثمان بن عفان.
                81 ـ عدي بن حاتم.
                82 ـ عبيد بن عازب الأنصاري.
                83 ـ عطية بن يسر.
                84 ـ عقبة بن عامر.
                85 ـ علي بن أبي طالب (عليه السلام).
                86 ـ عمار بن ياسر.
                87 ـ عمارة الخزرجي.
                88 ـ عمر بن أبي سلمة.
                89 ـ عمر بن الخطاب.
                90 ـ عمران بن حصين.
                91 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي.
                92 ـ عمرو بن شراحيل.
                93 ـ عمرو بن العاص.
                94 ـ عمرو بن مرة.
                95 ـ فاطمة الزهراء بنت النبي (عليها السلام).
                96 ـ فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.
                97 ـ قيس بن ثابت.
                98 ـ قيس بن سعد بن عبادة.
                99 ـ كعب بن عجرة.
                100 ـ مالك بن الحويرث.
                101 ـ المقداد بن عمرو الكندي.
                102 ـ ناجية بن عمرو الخزاعي.
                103 ـ أبو برزة فضلة بن عتبة.
                104 ـ نعمان بن عجلان.
                105 ـ هاشم المرقال.
                106 ـ وهب بن حمزة.
                107 ـ وهب بن عبد الله.
                108 ـ وحشي بن حرب.
                109 ـ يعلى بن مرة
                إكمال الدين
                ولما انتهت البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) هبط جبرائيل على النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(4).
                أما المفسرون والمحدثون الشيعة فقد اتفقت كلمتهم على نزول هذه الآية يوم الغدير بعد انتهاء البيعة لعلي (عليه السلام) وأما من حفاظ أهل السنة ومحدثيهم فقد روى:
                1 ـ محمد بن جرير الطبري في كتاب: (الولاية).
                2 ـ الحافظ ابن مردويه روي عنه في تفسير ابن كثير.
                3 ـ الحافظ أبو نعيم الأصبهاني روى في كتابه: (ما نزل من القرآن في علي).
                4 ـ أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخه ج8.
                5 ـ أبو سعيد السجستاني في كتابه (الولاية).
                6 ـ الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني في كتابه (دعاة الهداة إلى أداء حق الموالاة)
                7 ـ الحافظ أبو القاسم بن عساكر.
                8 ـ أبو الحسن بن المغازل روى في مناقبه.
                9 ـ أخطب الخطباء الخوارزمي روى في المناقب.
                10 ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصائص العلوية.
                11 ـ أبو حامد سعد الدين الصالحي روى عنه شهاب الدين أحمد في توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل.
                12 ـ سبط ابن الجوزي ذكر في تذكرته.
                13 ـ شيخ الإسلام الحمويني روى في فرائد السمطين.
                14 ـ عماد الدين ابن كثير القرشي روى في تفسيره.
                15 ـ جلال الدين السيوطي الشافعي في الدر المنثور وفي الإتقان.
                16 ـ منير محمد البدخشي روى في كتاب مفتاح النجاة.
                نزول العذاب
                انتشر خبر واقعة الغدير، وشاع وطار في البلاد فبلغ ذلك الحارث ابن النعمان الفهري، فأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها، فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وانك رسول الله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبع ابن عمك، ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله عز وجل؟ فقال: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.
                فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
                فما وصل إليها ـ راحلته ـ حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله عز وجل: (سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج)(5).

                الذين رووا نزول هذه الآية في شأن الحارث بن النعمان هم:
                1 ـ الحافظ أبو عبيد الهروي في تفسيره غريب القرآن.
                2 ـ أبو بكر النقاش الموصلي في تفسيره شفاء الصدور.
                3 ـ أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري في تفسيره الكشف والبيان.
                4 ـ الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتابه (دعاة الهداة).
                5 ـ أبو بكر يحيى القرطبي في تفسيره.
                6 ـ سبط ابن الجوزي الحنفي رواه في تذكرته.
                7 ـ إبراهيم بن عبد الله اليمني الشافعي روى في كتابه الاكتفاء.
                8 ـ الحمويني في فرائد السمطين.
                9 ـ الشيخ محمد الزرندي الحنفي روى في كتابيه معارج الوصول ودرر السمطين.
                10 ـ شهاب الدين أحمد في كتابه هداية السعداء.
                11 ـ ابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة.
                12 ـ نور الدين السمهودي الشافعي رواه في جواهر العقدين.
                13 ـ أبو السعود العمادي في تفسيره.
                14 ـ شمس الدين الشربيني الشافعي في تفسيره السراج المنير.
                15 ـ جمال الدين الشيرازي في كتابه الأربعين.
                16 ـ شيخ زيد الدين المناوي الشافعي في كتابه فيض القدير.
                17 ـ السيد ابن العبدروس الحسيني اليمني في كتابه العقد النبوي والسير المصطفوي.
                18 ـ الشيخ أحمد ابن باكثير الشافعي ذكره في وسيلة المآل في عد مناقب الآل.
                19 ـ الشيخ عبد الرحمن الصفوي روى في نزهته.
                20 ـ الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي في السيرة الحلبية.
                21 ـ السيد محمود بن محمد القادري المدني قال في تأليفه الصراط السوي في مناقب النبي.
                22 ـ شمس الدين الحنفي الشافعي في شرح الجامع الصغير للسيوطي.
                23 ـ الشيخ محمد صدر العالم سبط الشيخ أبي الرضا قال في كتابه معارج العلى في مناقب المرتضى.
                24 ـ الشيخ محمد محبوب العالم رواه في تفسيره المعروف بتفسير شاهي.
                25 ـ أبو عبد الله الزرقاني المالكي حكاه في شرح المواهب اللدنية.
                26 ـ أحمد بن عبد القادر الشافعي ذكره في كتابه ذخيرة المآل.
                27 ـ السيد أحمد بن إسماعيل اليماني ذكره في كتابه الروضة الندية.
                28 ـ السيد مؤمن الشبلنجي الشافعي ذكره في كتابه نور الأبصار.
                29 ـ الأستاذ الشيخ محمد عبده المصري في تفسير المنار.
                أما المحدثون والمفسرون من الشيعة فلا يشك منهم أحد في نزول هذه الآية في شأن الحرث أو الحارث.
                معاني المولى
                ذكر اللغويون لكلمة (المولى) عشرين معنى، وهذا هو سبب المناقشة في مفهوم الحديث، فيقول أصحاب القلوب المريضة: لم يظهر لنا المقصود من كلمة (مولاه)، ونجيب عن هذه المناقشة أو التشكيك بهذه الرواية المفسرة لمعنى المولى، فقد روي أن عماراً سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن معنى قوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الله مولاي: أولى بي من نفسي لا أمر لي معه، وأنا مولى المؤمنين: أولى بهم من أنفسهم، ولا أمر لهم معي، ومن كنت مولاه: أولى به من نفسه لا أمر له معي، فعلي مولاه: أولى به من نفسه لا أمر له معه.
                سبحان الله! ما يصنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعد هذا التفصيل والتشريح والبيان الكافي الموضح لكلامه والمبين لمقصوده؟ وهل أبقى لأحد شكا؟ وهل بقيت لأحد حجة على الله؟ بل أتم الحجة على الجميع، وأدى رسالة ربه على أحسن ما يرام، وأفضل ما يمكن.
                ولسيدنا الحجة المغفور له عبد الحسين شرف الدين (عليه الرحمة) بحث لطيف وتحقيق ظريف حول كلمة المولى نذكره تتميما للفائدة:
                (فلو سألكم فلاسفة الأغيار عما كان منه يوم غدير خم فقال لماذا منع تلك الألوف المؤلفة يومئذ عن المسير؟ وعلى م حبسهم في تلك الرمضاء بهجير؟ وفيم اهتم بإرجاع من تقدم منهم وإلحاق من تأخر؟ ولم أنزلهم جميعا في ذلك العراء على غير كلاء ولا ماء؟
                ثم خطبهم عن الله عز وجل في ذلك المكان الذي منه يتفرقون ليبلغ الشاهد منهم الغائب، وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهل خطابه؟ إذ قال: (يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول وإنكم مسؤولون) وأي أمر يسأل النبي (صلّى الله عليه وآله)، عن تبليغه؟ وتسأل الأمة عن طاعتها فيه؟ ولماذا سألهم فقال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك ولماذا أخذ حينئذ على سبيل الفور بيد علي فرفعها حتى بان بياض إبطيه؟ فقال: يا أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، ولماذا فسر كلمته ـ وأنا مولى المؤمنين ـ بقوله: وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ ولماذا قال بعد هذا التفسير: فمن كنت مولاه فهذا مولاه، أو من كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، ولِمَ خصّه بهذه الدعوات التي لا يليق لها إلا أئمة الحق وخلفاء الصدق؟؟ ولماذا أشهدهم من قبل، فقال ألست أولى بكم من أنفسكم؟
                فقالوا: بلى.
                فقال: من كنت مولاه، فعلي مولاه، أو من كنت وليه، فعلي وليه؟ ولماذا قرن العترة بالكتاب؟ وجعلها قدوة لأولي الألباب إلى يوم الحساب؟ وفيم هذا الاهتمام العظيم من هذا النبي الحكيم؟ وما المهمة التي احتاجت إلى هذه المقدمات كلها؟ وما الغاية التي توخاها في هذا الموقف المشهور؟ وما الشيء الذي أمره الله تعالى بتبليغه إذ قال عز من قائل: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)(6) وأي مهمة استوجبت من الله هذا التأكيد؟ واقتضت الحض على تبليغها بما يشبه التهديد؟ وأي أمر يخشى النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلى عصمة الله من أذى المنافقين ببيانه؟ أكنتم ـ بجدك لو سألكم عن هذا كله ـ تجيبونه بأن الله عز وجل ورسوله (صلّى الله عليه وآله) إنما أراد بيان نصرة علي للمسلمين وصداقته لهم، ليس إلا؟ ما أراكم ترضون هذا الجواب، ولا أتوهم أنكم ترون مضمونه جائزا على رب الأرباب، ولا على سيد الحكماء، وخاتم الرسل والأنبياء وأنتم أجل من أن يصرف هممه كلها، وعزائمه بأسرها إلى تبيين شيء بين لا يحتاج إلى بيان، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجدان والعيان، ولا شك أنكم تنزهون أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء، أو ينتقدها الفلاسفة والحكماء بل لا ريب في أنكم تعرفون مكانة قوله وفعله من الحكمة والعصمة، وقد قال الله تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثـــم أمين وما صاحبــــكم بمجنون)(7) فيهتم بتوضيح الواضحات وتبيين ما هو بحكم البديهيات، ويقدم لتوضيح هذا الواضح مقدمات أجنبية ولا ربط له بها ولا دخل لها فيه، تعالى الله عن ذلك ورسوله علواً كبيراً وأنت ـ نصر الله بك الحق ـ تعلم أن الذي يناسب مقامه في ذلك الهجير ويليق بأفعاله وأقواله يوم الغدير، إنما تبليغ عهده، وتعيين القائم من بعده، والقرائن اللفظية، والأدلة العقلية، توجب القطع الثابت الجازم بأنه (صلّى الله عليه وآله) ما أراد يومئذ إلا تعيين علي وليا لعهده، وقائما من بعده، فالحديث مع ما قد حفّ به من القرائن نص جلي في خلافة علي لا يقبل التأويل، وليس إلى صرفه عن هذا المعنى من سبيل، وهذا واضح (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)(8).

                أما القرينة التي زعموها فجزاف وتضليل، ولباقة في التخليط والتهويل، لأن النبي (صلّى الله عليه وآله) بعث عليا إلى اليمن مرتين، والأولى كانت سنة ثمان وفيها أرجف المرجفون به وشكوه إلى النبي بعد رجوعهم إلى المدينة، فأنكر عليهم ذلك حتى أبصروا الغضب في وجهه، فلم يعودوا لمثلها، والثانية كانت سنة عشر وفيها عقد النبي له اللواء وعممه (صلّى الله عليه وآله) بيده، وقال له: امض ولا تلتفت.
                فمضى لوجهه راشداً مهدياً، حتى أنفذ أمر النبي، ووافاه (صلّى الله عليه وآله) في حجة الوداع، وقد أهلّ بما أهلّ به رسول الله فأشركه (صلّى الله عليه وآله) بهديه، وفي تلك المرة لم يرجف به مرجف، ولا تحامل عليه مجحف، فكيف يمكن أن يكون الحديث مسبباً عما قاله المعترضون؟ أو مسوقاً للرد على أحد كما يزعمون.
                على أن مجرد التحامل على علي، لا يمكن أن يكون سبباً لثناء النبي عليه، بالشكل الذي أشاد به (صلّى الله عليه وآله) على منبر الحدائج يوم خم، إلا أن يكون ـ والعياذ بالله ـ مجازفاً في أقواله وأفعاله، وهممه وعزائمه، وحاشا قدسي حكمته البالغة، فإن الله سبحانه يقول: (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين)(9) ولو أراد مجرد بيان فضله، والرد على المتحاملين عليه، لقال: هذا ابن عمي، وصهري وأبو ولدي، وسيد أهل بيتي، فلا تؤذوني فيه، أو نحو ذلك من الأقوال الدالة على مجرد الفضل وجلالة القدر.

                على أن لفظ الحديث لا يتبادر إلى الأذهان منه إلا ما قلناه، فليكن سببه مهما كان، فإن الألفاظ إنما تحمل على ما يتبادر إلى الإفهام منها، ولا يلتفت إلى أسبابها كما لا يخفى.
                وأما ذكر أهل بيته في حديث الغدير، فإنه من مؤيدات المعنى الذي قلناه، حيث قرنهم بمحكم الكتاب وجعلهم قدوة لأولي الألباب، فقال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.
                وإنما فعل ذلك لتعلم الأمة أن لا مرجع بعد نبيها إلا إليهما، ولا معول لها من بعده إلا عليها وحسبك في وجوب إتباع الأئمة من العترة الطاهرة اقترانهم بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكما لا يجوز الرجوع إلى كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالى، لا يجوز الرجوع إلى إمام يخالف في حكمه أئمة العترة، وقوله (صلّى الله عليه وآله): إنهما لن ينقضيا أو لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، دليل على أن الأرض لن تخلو بعده من إمام منهم، وهو عدل الكتاب، ومن تدبر الحديث وجده يرمي إلى حصر الخلافة في أئمة العترة الطاهرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الخ...
                وهذا نص في خلافة أئمة العترة (عليهم السلام).
                وأنت تعلم أن النص على وجوب إتباع العترة نص على وجوب إتباع علي، وهو سيد العترة لا يدافع، وإمامها لا ينازع، فحديث الغدير وأمثاله، يشتمل على النص على علي تارة، من حيث أنه إمام العترة، المنزلة من الله ورسوله منزلة الكتاب، وأخرى من حيث شخصه العظيم وأنه ولي كل من كان رسول الله وليه، انتهى كلام السيد (ره).
                أقول: وقد نظم الشعراء من المسلمين وغيرهم على اختلاف لغاتهم قصائد متينة فاخرة اشتهرت على مر القرون، تعطر بها المحافل والنوادي، وينشدها الغادي والبادي، ويترنم بها الموالي والمغالي، وقد ألف علماؤنا موسوعات كبيرة تتضمن الكثير من أشعارهم وقصائدهم وتراجمهم، ومن تلك الموسوعات موسوعة الغدير لشيخنا المفضال الحجة المرحوم الشيخ عبد الحسين الأميني (قدس سره)، فلقد كانت موسوعته إحدى مصادر حديثنا في هذه الليالي.
                ومن جملة الذين نظموا واقعة الغدير هو سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد قال:
                محمـد النبــي أخـي وصنوي وحمـزة ســـيد الشـــهداء عمي
                وجعفر الذي يضحي ويمسي يطير مـع الملائكة ابـــن أمــــي
                وبنـت محمد سكني وعرسي منــوط لحمـــها بدمــي ولحمـي
                وسبطـا أحمـد ولــداي منــها فأيكـم لـــه ســــــهم كسـهـمــي
                سبقتـكم إلـى الإسـلام طــــراً على ما كان من فـهمي وعلمــي
                فأوجــب لـي ولايتـه عليكـــم رسول الله يـــوم غديـــر خـــــم
                (الأبيات بصورة أخرى).
                أخرج الإمام علي بن أحمد الواحدي عن أبي هريرة قال: اجتمع عدة من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، والفضل بن العباس، وعمار، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فجلسوا وأخذوا في مناقبهم، فدخل عليهم علي (عليه السلام) فسألهم فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر مناقبنا مما سمعناه من رسول
                الله.
                فقال علي (عليه السلام) اسمعوا مني ثم أنشأ يقول:
                لقد علم الأنـاس بأن سهمــي من الإسلام يفضل كل سهـــــم
                وأحمد النبــي أخي وصهري عليه الله صلى وابــن عمـــــي
                وإني قــــــائد لـلــــناس طراً إلى الإسـلام من عـرب وعجــم
                وقاتل كـــــل صنديد رئـيـس وجبــــار من الكفــــار ضخــــم
                وفي القرآن ألزمــهم ولائــي وأوجــب طاعتـي فرضــاً بعـزم
                كما هارون من موسى أخوه كذاك أنا أخــوه وذاك اسمـــــي
                لذاك أقامنـــي لــهم إمــامـــاً وأخبرهـــم بــه بـغـــدير خــــــم
                فمن منكم يعادلني بسهمـــي وإسـلامي وسابقتي ورحمــــــي
                فويـــل ثــم ويـــل ثــم ويـــل لمن يلقـــى الإله غـداً بظلمـــــي
                وويــل ثــم ويـــل ثــم ويـــل لجاحد طاعــتي ومريد هضمــي
                وويـــل للــذي يشقى سفـاهـاً يريــد عــداوتي مـن غير جــرم
                ومنهم حسان بن ثابت شاعر النبي (صلّى الله عليه وآله).
                ذكر طائفة كبيرة من أعلام الإمامية والسنة أنه نصب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً يوم غدير خم بالخلافة قال حسان بن ثابت: يا رسول الله أقول في علي شعراً؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): افعل، فقال:
                يناديهـــم يوم الغدير نبيهـــــــم بخمٍ وأسمع بالنبــــي مناديــــــا
                وقد جاءه جبريل عن أمر ربــه بأنك معصوم فلا تــــك وانيــــــا
                وبلغهم ما أنـــــزل الله ربهــــم إليك ولا تخشى هنـــاك الأعاديــا
                فقام به إذ ذاك رافــــــع كفــــه بكف عــلي معلن الصوت عاليــا
                فقال: فمن مولاكم ووليكــــــم؟ فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميـــــا
                إلهـــك مولانـــا وأنت ولينـــــا ولن تجدن فينا لك اليوم عاصـيـا
                فـقــال لـــه: قم يا علي فإننــي رضيتك من بعدي إماماً وهاديـــا
                فمـن كنـت مـولاه فهذا وليــــه فكونوا له أنصار صدق مواليـــا
                هـناك دعا: اللهــم وال وليــــه وكــن للذي عادى عـلياً معـاديـــا
                فيا رب أنصر ناصريه لنصرهم إمام هدى كالبدر يجلو الديـــاجيا
                فلما فرغ حسان مؤيداً من هذا القول قال له النبي (صلّى الله عليه وآله): لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.
                كانت واقعة الغدير من أشهر الأمور الثابتة عند الصحابة والتابعين، ولهذا روي عنهم ذلك نظماً ونثراً، ويمكن لنا أن نقول: إن ثبوت الخلافة والولاية لعلي (عليه السلام) عند الصحابة كان كثبوت نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله) عند المسلمين.
                ومنهم: قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج، قام بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين وقال:
                قلت لما بغى الــعدو علينـــا حسبنا ربنا ونعــم الوكيــــل
                حسبنا ربنا الذي فتح البصـ ـرة بالأمس والحديث طويل
                ويقول فيها:
                وعلي إمامـــــــنا وإمــــــــام لسوانا أتــــى به التنزيـــــل
                يوم قال النبي: من كنت مولا ه فهذا مولاه خطب جليــــل
                إن ما قاله النبي على الأمـــة حتم ما فيه قـــال وقـيــــــل
                ومنهم عمرو بن العاص العدو اللدود للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فلقد أشار في قصيدته الجلجلية إلى واقعة الغدير، ومهما حاول العدو كتمان فضائل خصمه فإن الحق قد يطفح من لسانه، قال في خطابه لمعاوية:
                معاوية الحال لا تجهـل وعن سبل الحـــق لا تعدل
                نسيت احتيالي في جلّقٍ على أهلها يوم لبس الحلي
                إلى أن يقول:
                نصرناك من جهلنا يا بن هـند على النبأ الأعظم الأفضـــل
                وحيث رفعناك فـوق الرؤوس نزلنا إلى أسفل الأسفــــــــل
                وكم قد سمعنا من المــصطفى وصــايا مخصصة في علـي
                وفـي يوم خــــم رقــــى منبراً يبلغ والركب لم يرحــــــــل
                وفـــــي كـــفه كـــفه معلــــــناً ينادي بأمر العزيز العلــــي
                ألست بكم منكم في النفـــــوس بأولى؟ فقالوا: بلى فافعــــل
                فأنحلـــــــه إمرة المؤمنيــــــن من الله مستخلف المنحـــــل
                وقال: فمـــــن كنـــت مولى له فهذا له اليوم نعم الولـــــــي
                فوالِ مواليـــــه يا ذا الـــــجلا ل، وعاد معـادي أخ المرسل
                ولا تنقضوا الـعهد من عترتي فقاطعهم بـي لم يوصــــــــل
                فبخبَخَ شيخـــــك لــــــما رأى عُرى عـقـد حيدر لم تحــــلل
                فقال: وليكـــــــم فاحــــــفظوه فـمدخله فـيكــــم مدخلــــــي
                إلى آخر القصيدة وهي ستة وستون بيتا.
                ومن شعراء القرن الثاني الذين تطرقوا إلى واقعة الغدير هو أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي قال في عينيته:
                نفى عن عينك الأرق الهجوعا وهمٌّ يمتري مــنها الدموعــا
                إلى أن يقول:
                لدى الرحمن يصدع بالمثانـي وكان له أبو حسن قريـــــــعا
                وأصفاه النبي على اختيـــــار بما أعيى الرفوض له المذيعا
                ويوم الدوح دوح غدير خُـــمٍّ أبان له الولاية لو أطيــــــــعا
                ولكن الرجـــال تبايعوهـــــــا فلم أر مثلــها خطراً مبيـــــــعا
                فلم أبلغ بها لـــــعنا ولكــــــن أساء بذاك أولهم صنيـــــــــعا
                فصار بذاك أقربهم لـــــــعدل إلى جور وأحــفظهم مضيــــعا
                أضاعوا أمر قائدهم فضلّـــوا وأقومهم لدى الحدثان ريــــعا
                تناسوا حقه وبغوا عليــــــــه بلا ترة وكان لهم قريــــــــــعا
                إلى آخر القصيدة.
                ومنهم السيد إسماعيل بن محمد الحميري فقد ذكر قصة الغدير في كثير من قصائده فمنها قوله:
                يا بايع الدين بدنـــــــــــــــياه لــــــــــــيس بهذا أمــــر الله
                من أين أبغضت علي الوصي وأحمد قد كان يرضـــــــــــاه
                من الذي أحمـــــد في بينهــم يوم غدير الخم نـــــــــــــاداه
                أقامـــه من بين أصحابـــــــه وهم حواليه فسمــــــــــــــاه:
                هذا علي بن أبـــــي طـــــالب مولى لمن قد كنت مـــــــولاه
                فوال من والاه يا ذا العـــــــلا وعاد من قد كان عـــــــــاداه
                ومن قصائده:
                هلا وقفت على المكان المعشب بين الطويلع فاللوى من كبكــــب
                ويقول فيها:
                وبخُم إذ قال الإله بعزمــــــــه: قم يا محمــــد في البرية فاخـطـب
                وانصب أبا حسن لقومك إنــــه هاد، ومـــــا بلّغت إن لم تنصــــب
                فدعاه ثم دعاهـــم فأقامـــــــــه لهم، فـــبين مصدّق ومكـــــــــذب
                جعـــل الولاية بعده لــــــمهذب ما كـــان يـجعلها لغير مهــــــــذب
                وله مـــناقـب لا ترام متــى يرد ساع تنــاول بعضـــها يتذبـــــــذب
                إنا ندين بحـــب آل محمـــــــــد ديناً ومن يحببهــــم يستوجـــــــب
                منا المودة والولاء ومــــن يرد بدلاً بآل محمـــــــــد لا يحبــــــــب
                ومتى يمت يرد الجحيــم ولا يــــرد حوض الرسول وإن يرده يضرب
                إلى آخر القصيدة.
                ومن فرائده القصيدة العينية المعروفة:
                لأم عـمــرو باللوى مــــــربــع طـــامسة أعلامــــــــــــها بلقـــــع
                إلى أن يقول:
                عجبت من قوم أتوا أحمــــدا بخطبـــــة ليس لــــــها موضــع
                قالوا له: لو شئت أعلمـــــتنا إلى من الغــــــــاية والمفــــزع؟
                إذا تــوفيـــــت وفارقــــــــتنا وفيهم في الــــــملك من يطمـع؟
                فقـــال: لو أعلمتكـم مفزعـــاً كنتم عسيتم فيه أن تصنــــــعوا
                صنيع أهل العجـل إذ فارقوا هارون فالتـــــــــرك له أوســـع
                وفي الذي قال بيـــان لمــــن كــان إذا يعقـــــــــل أو يسمـــع
                ثم أتتـــه بعد ذا عـــزمــــــة مـــــن ربـــــه ليس لها مدفــــع:
                بلّـــــغ وإلا لم تــكن مبلغـــاً والله منهـــــــم عـــاصم يمنـــــع
                فعندها قام النبـــي الــــــذي كــــــان بما يأمـــــــر به يصـدع
                يخطب مأموراً وفــي كفـــه كف علــــــي ظـــــــاهر تلمـــــع
                رافعها، أكرم بكــف الـــذي يرفــــــــع والكف الذي تُرفــــــع
                يقول والأملاك مــن حولــه والله فيهم شــــــاهد يسمـــــــــع:
                من كنت مـــولاه فهذا لــــه مولى فلم يرضوا ولم يقنــــــــعوا
                فاتهموه وحنـــت فيهـــــــم على خلاف الصدق الأصلــــــــع
                وضلّ قوم غاظهـــم فعلـــه كأنمــــــا آنافهـــــــــم تجــــــــدع
                حتى إذا واروه في لحــــده وانصــــرفوا عن دفنــــه ضيــعوا
                ما قال بالأمس وأوصى به واشتروا الضـــــر بمـــــا ينفـــــع
                إلى آخر القصيدة وهي أربعة وخمسون بيتا.
                عيد الغدير
                الأعياد الدينية والوطنية لها أهمية عند الأمم، وتهتم لها بمقدار تلك المناسبة من طقوس دينية وعادات وتقاليد محلية وشعبية، وأصول وقواعد تنسجم مع ذلك العيد.
                ومناسبة عيد الغدير كانت ولا تزال ذات أهمية عظيمة عند الله تعالى وعند رسوله وأهل البيت (عليهم السلام) وبقية المسلمين.
                أما الأهمية عند الله تعالى، فهو يوم توّج الله فيه عليا بالخلافة والولاية، ونزل جبرائيل من عند الله مهنئا الرسول الأعظم بالتتويج بقوله عز من قائل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(10).

                حتى روى الحافظ أبو سعيد في كتابه (شرف المصطفى) عن أحمد بن حنبل وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال ـيوم الغديرـ هنئوني، إن الله تعالى خصني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة.
                وعلى هذا كان كل من الشيخين: أبي بكر وعمر يهنّئ علياً بقوله: (طوبى لك.
                أو: بخ بخ.
                أو: هنيئاً لك، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) كما ذكره زيني دحلان في الفتوحات الإسلامية والدارقطني كما في شرح المواهب.
                وقد روى فرات بن إبراهيم الكوفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني الله (تعالى ذكره) بنصب أخي علي بن أبي طالب علما لأمتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا.
                واقتفى الأئمة الطاهرون نهج جدهم الرسول الأعظم في تعظيم هذا اليوم وكثرة الاهتمام به، كما روي عن فرات بن أحنف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك، للمسلمين عيد أفضل من عيد الفطر والأضحى ويوم الجمعة ويوم عرفة؟ فقال لي: نعم، أفضلها وأعظمها وأشرفها عند الله منزلة هو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأنزل على نبيه محمد: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) قال: قلت: وأي يوم هو؟ قال: إن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا أراد أحدهم أن يعقد الوصية والإمامة من بعده ففعل ذلك جعلوا ذلك اليوم عيداً، وإنه اليوم علماً، وأنزل فيه ما أنزل.
                وكمل فيه الدين، وتمت فيه النعمة على المؤمنين.
                قال: قلت: وأي يوم هو في السنة؟ فقال لي: إن الأيام تتقدم وتتأخر، وربما كان يوم السبت والأحد والاثنين إلى آخر الأيام السبعة قال قلت: فما ينبغي لنا أن نعمل في ذلك اليوم؟ قال: هو يوم عبادة وصلاة وشكر لله وحمد له، وسرور لما من الله به عليكم من ولايتنا، فإني أحب لكم أن تصوموا.
                والروايات في هذا الباب كثيرة جداً، وكانت ولا تزال الشيعة تجعل هذا اليوم عيداً في العراق وإيران والهند وباكستان وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد التي يقطن فيها عدد من الشيعة.
                وكانت البلاد المغربية في عهد الأدارسة والفاطميين وغيرهم تحتفل في هذا اليوم سروراً وبهجة وتشترك الحكومة والشعب في ذلك.
                ولكن بمرور الزمن وتطور الأحوال أصبح هذا العيد نسياً منسياً في بعض البلاد العربية الأفريقية.
                وإنني أعتقد أن الاهتمام بهذا العيد أولى من بقية الأعياد، وإقامة الحفلات في هذه المناسبة السعيدة أحرى من أية مناسبة أخرى.
                لأن المناسبة مهمة جداً، تسترعي الانتباه والعناية والرعاية أكثر وأكثر.

                (1) سورة المائدة، الآية: 67.
                (2) سورة الأحزاب، الآية: 36.
                (3) سورة المائدة، الآية: 67.
                (4) سورة المائدة، الآية: 3.
                (5) سورة المعارج، الآيات: 1ـ3.
                (6) سورة المائدة، الآية: 67.
                (7) سورة التكوير، الآيات: 19ـ22.
                (8) سورة ق، الآية: 37.
                (9) سورة الحاقة، الآيات: 40ـ43.
                (10) سورة المائدة، الآية: 3.

                تعليق


                • #9
                  الليلة الثانية عشرة
                  علي (عليه السلام) عند وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)
                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.
                  قال الله تبارك وتعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)(1).

                  لقد ذكرنا من أول الشهر إلى الليلة الماضية شيئاً من اختصاص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) برسول الله من حيث الانضمام والتربية والتأديب والتوجيه والأخوة والنفس وسائر الخصائص التي اختص بها كحديث الطائر المشوي وسد الأبواب وغير ذلك.
                  والليلة حديثنا حول وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وموقف الإمام من تلك الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى التي لم يشهد التاريخ مثلها، فقد مرض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد أن بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وكان النبي ينعى نفسه إلى أصحابه وأهل بيته وزوجاته، ويخبرهم أن تلك السنة آخر سنوات حياته الشريفة المباركة، وأن شمس وجوده قد اقتربت من الغروب، ولهذا قام بتعيين الخليفة والإمام القائم مقامه، وقد تقدم الكلام في الليلة الماضية حول واقعة الغدير.
                  من جملة الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية هو الوصية عند الإحساس بخطر الوفاة، قال الله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية)(2).

                  فهل من المعقول أن يموت صاحب الشريعة الإسلامية والمقتدى لقوافل المسلمين على مر القرون والأجيال ـ بلا وصية؟؟ هل يمكن أن يأمر النبي أمته بالوصية ويتركها هو؟ وعمله حجة وسنة يأخذ بها المسلمون؟ وهو القائل: (من مات بلا وصية مات ميتة جاهلية).
                  إن الأخبار والأحاديث والنصوص الواردة حول وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) مستفيضة متواترة، وقد زعم بعض الناس أن رسول الله مات بلا وصية وهم يبتغون من وراء هذا الافتراء تبرير مواقف بعض الأفراد، ولا يهمهم تشويه سمعة النبي والمس بكرامته والحط من مقامه.
                  وللمرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين كلام قيّم حول هذا الموضوع تقتطف منه محل الحاجة، قال ـ تغمده الله برحمته ـ : ونصوص الوصية متواترة، عن أئمة العترة الطاهرة، وحسبك مما جاء من طريق غيرهم في قول النبي (صلّى الله عليه وآله) وقد أخذ برقبة علي: (هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا).
                  رواه محمد بن حميد الرازي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب (عليه السلام)(3).

                  وروى الطبراني في الكبير بالإسناد إلى سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن وصيي وموضع سري، وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا نص في كونه الوصي، وصريح في أنه أفضل الناس بعد النبي، وفيه من الدلالة الإلتزامية على خلافته، ووجوب طاعته، ما لا يخفى على أولي الألباب.
                  وأخرج أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء عن أنس، قال: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا أنس أول من يدخل عليك هذا الباب: إمام المتقين، وسيد المسلمين.
                  قال أنس: فجاء علي فقام إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، مستبشراً فاعتنقه وقال له: أنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي.
                  وأخرج الطبراني في الكبير بالإسناد إلى أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: يا فاطمة، أما علمت أن الله عز وجل اطلع على أهل الأرض، فاختار منهم أباك فبعثه نبيا، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك، فأوحي إلي فأنكحته واتخذته وصيا.
                  أنظر كيف اختار الله عليا من أهل الأرض كافة بعد أن اختار منهم خاتم أنبيائه، ونظر إلى اختيار الوصي وكونه على نسق اختيار النبي، وانظر كيف أوحى الله إلى نبيه أن يزوجه ويتخذه وصياً، وانظر هل كانت خلفاء الأنبياء من قبل إلا أوصياؤهم، وهل يجوز تأخير خيرة الله من عباده، ووصي سيد أنبيائه، وتقديم غيره عليه، وهل يمكن عقلاً أن يكون طاعة ذلك المتولي الحكم عليه، فيجعله من سوقته ورعاياه؟ وهل يمكن عقلاً أن تكون طاعة ذلك المتولي واجبة على هذا الذي اختاره الله كما اختار نبيه؟ وكيف يختاره الله ورسوله ثم نحن نختار غيره (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)(4).

                  وقد تضافرت الروايات أن أهل النفاق والحسد والتنافس لما علموا أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيزوج علياً من بضعته الزهراء ـ وهي عديلة مريم وسيدة نساء أهل الجنة ـ حسدوه لذلك وعظم عليهم الأمر.
                  ولا سيما بعد أن خطبها من خطبها فلم يفلح، وقالوا: أن هذه ميزة يظهر بها فضل علي، فلا يلحقه بعدها لاحق ولا يطمع في إدارته طامع، فأجلبوا بما لديهم من إرجاف وعملوا لذلك أعمالا، فبعثوا نساءهم إلى سيدة نساء العالمين ينفرنها، فكان مما قلن لها: إنه فقير ليس له شيء، لكنها (عليها السلام) لم يخف عليها مكرهن، وسوء مقاصد رجالهن، ومع ذلك لم تبد لهن شيئاً يكرهنه، ثم ما أراده الله عز وجل ورسوله لها، وحينئذ أرادت أن تظهر من فضل أمير المؤمنين ما يخزي الله به أعداءه، فقالت: يا رسول الله زوجتني من فقير لا مال له؟ فأجابها (صلّى الله عليه وآله) بما سمعت.
                  وإذا أراد الله نشر فضيلـــة طويت أتاح لها لسان حسود
                  وأخرج الخطيب في المتفق بسنده المعتبر إلى ابن عباس، قال: لما زوج النبي (صلّى الله عليه وآله) فاطمة من علي، قالت فاطمة: يا رسول الله زوجتني من رجل فقير ليس له شيء، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أما ترضين أن الله اختار من أهل الأرض رجلين، أحدهما أبوك والآخر بعلك.
                  وأخرج الحاكم في مناقب علي (صلّى الله عليه وآله)129 الجزء الثالث من المستدرك عن طريق سريج بن يونس، عن أبي حفص الأبار، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قالت فاطمة: يا رسول الله زوجتني من علي وهو فقير لا مال له؟ قال (صلّى الله عليه وآله): يا فاطمة أما ترضين أن الله عز وجل اطلع إلى أهل الأرض فاختار رجلين، أحدهما أبوك والآخر بعلك، وعن ابن العباس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أما ترضين أني زوجتك أول المسلمين إسلاما، وأعلمهم علماً، وأنك سيدة نساء أمتي، كما سادت مريم نساء قومها، أما ترضين يا فاطمة أن الله اطلع على أهل الأرض فاختار منها رجلين، فجعل أحدهما أباك، والآخر بعلك.
                  وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد هذا إذا ألمّ بسيدة النساء من الدهر لمم يذكرها بنعمة الله ورسوله عليها، إذ زوجها أفضل أمته، ليكون ذلك عزاءً لها، وسلوة عما يصيبها من طوارق الدهر، وحسبك شاهداً لهذا ما أخرجه الإمام أحمد في ص26 من الجزء الخامس من مسنده من حديث معقل بن يسار، أن النبي (صلّى الله عليه وآله) عاد فاطمة في مرض أصابها على عهده فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت: والله لقد اشتد حزني واشتدت فاقتي وطال سقمي، قال (صلّى الله عليه وآله) أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً.
                  الوصية بصورة أخرى:
                  وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى علي لا يمكن جحودها، إذ لا ريب في أنه عهد إليه ـ بعد أن أورثه العلم والحكمة ـ بأن يغسله، ويجهزه ويدفنه، ويفي دينه، وينجز وعده، ويؤدي دينه ويواريه في حفرته، أخرجه الديلمي وهو الحديث 2583 ج 6 من الكنز، وعن عمر من حديث قال فيه رسول الله لعلي: وأنت غاسلي ودافني الحديث، في ص393 ج 6 في الكنز، وفي هامش ص45 ج 5 من مسند أحمد، وعن علي: سمعت رسول الله، يقول: أعطيت في علي خمساً لم يعطها نبي في أحد قبلي، أما الأولى فإنه يقضي ديني، ويواريني...
                  الحديث في أول ص 403 ج 6 من الكنز، ولما وضع على السرير وأرادوا الصلاة عليه (صلّى الله عليه وآله) قال علي: لا يؤم على رسول الله أحد، هو إمامكم حياً وميتاً، فكان الناس يدخلون رسلاً رسلاً، فيصلون صفاً صفاً، ليس لهم إمام ويكبرون، وعلي قائم حيال رسول الله يقول: سلام الله عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزلت إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله عز وجل دينه، وتمت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل الله إليه، وثبتنا بعده وأجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين آمين، حتى صلى عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان، روى هذا كله باللفظ الذي أوردناه ابن سعد عند ذكره غسل النبي من طبقاته، وأول من دخل على رسول الله يومئذ بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار ثم الناس، وأول من صلى عليه علي والعباس وقفا صفاً وكبرا عليه خمساً.
                  إلى هنا انتهى كلام سيدنا شرف الدين رحمه الله.
                  هذه بعض النصوص الواردة حول الوصية
                  وأما ما ذكره الشعراء في القرن الأول من المهاجرين والأنصار والتابعين حول وصاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فلا مجال لبيان تلك الأبيات الشعرية والأراجيز التي تتضمن هذا الأمر.
                  والآن ننتقل إلى حديث وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقيام الإمام بإنجاز وصاياه، وقد ذكرنا فيما سبق أن علياً كان أول الناس عهداً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيظهر اليوم أنه كان آخر الناس عهدا به.
                  وفي كتاب أبي إسحاق قال: دخل أبو بكر على النبي (صلّى الله عليه وآله) وقد ثقل (اشتد مرضه)، فقال: يا رسول الله متى الأجل؟ قال: قد حضر، قال أبو بكر: الله المستعان على ذلك فإلى ما المنقلب؟ قال: إلى السدرة المنتهى وجنة المأوى وإلى الرفيق الأعلى والكأس الأوفى والعيش المهنى، قال أبو بكر: فمن يلي غسلك؟ قال رجال أهل بيتي، الأدنى فالأدنى قال: ففيما نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه التي علي أو حلة يمانية أو في بياض مصر قال: كيف الصلاة عليك؟ فارتجت الأرض بالبكاء فقال لهم النبي (صلّى الله عليه وآله) مهلاً، عفا الله عنكم، إذا غُسلت فكُفنت فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم أخرجوا عني فإن الله تبارك وتعالى أول من يصلي علي ثم يأذن الملائكة في الصلاة علي فأول من ينزل جبرائيل (عليه السلام) ثم إسرافيل ثم ميكائيل ثم ملك الموت (عليه السلام) في جنود كثير من الملائكة بأجمعها ثم أدخلوا علي زمرة زمرة، فصلوا علي وسلموا تسليما ولا تؤذوني وليبدأ بالصلاة علي الأدنى من أهل بيتي ثم النساء ثم الصبيان زمراً.
                  قال أبو بكر: فمن يدخل قبرك؟ قال: الأدنى فالأدنى من أهل بيتي مع ملائكة لا ترونهم، قوموا فأدوا عني إلى من ورائكم؟ فقلت للحرث بن مرة: من حدثك هذا الحديث؟ قال: عبد الله بن مسعود.
                  عن علي (عليه السلام) قال: كان جبرائيل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه كل يوم وفي كل ليلة، فيقول،: السلام عليك إن ربك يقرؤك السلام فيقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بك ولكنه أراد أن يزيدك كرامة وشرفاً إلى ما أعطاك على الخلق، وأراد أن يكون عيادة المريض سنة في أمتك، فيقول النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ إن كان وجعاً ـ : يا جبرائيل أجدني وجعاً فقال له جبرائيل: اعلم يا محمد إن الله لم يشدد عليك وما من أحد من خلقه أكرم عليه منك، ولكنه أحب أن يسمع صوتك ودعاك حتى تلقاه مستوجباً للدرجة والثواب الذي أعد لك، والكرامة والفضيلة على الخلق، وإن قال له النبي (صلّى الله عليه وآله) أجدني مريحاً في عافية.
                  قال له: فاحمد الله على ذلك فإنه يحب أن تحمد وتشكره ليزيدك إلى ما أعطاك خيراً فإنه يحب أن يحمد ويزيد من شكر.
                  قال: وإنه نزل عليه في الوقت الذي كان ينزل فيه فعرفنا حسه فقال علي (عليه السلام): فيخرج من كان في البيت غيري؟ فقال له جبرائيل: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويسألك وهو أعلم بك كيف تجدك؟ فقال له النبي: أجدني ميتاً.
                  قال له جبرائيل: يا محمد أبشر فإن الله إنما أراد أن يبلغك بما تجد ما أعد لك من الكرامة.
                  قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن ملك الموت استأذن علي فأذنت له، فدخل واستنظرته مجيئك فقال له: يا محمد إن ربك إليك مشتاق فما استأذن ملك الموت على أحد قبلك ولا يستأذن على أحد بعدك.
                  فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): لا تبرح يا جبرائيل حتى يعود، ثم أذن للنساء فدخلن فقال لأبنته: أدني مني يا فاطمة فأكبت عليه فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعاً فقال لها: أدني مني فدنت منه فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك، فتعجبنا لما رأينا فسألناها فأخبرتنا أنه نعى نفسه فبكيت فقال: يا بنية لا تجزعي فإني سألت ربي أن يجعلك أول أهل بيتي لحاقاً بي فأخبرني أنه استجاب لي فضحكت، قال: ثم دعا النبي (صلّى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فقبلهما وشمهما وجعل يترشفهما وعيناه تهملان.
                  في علل الشرائع: عن الإمام الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال لما حضرت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال للعباس: يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ فرد عليه وقال: يا رسول الله: أنا شيخ كبير كثير العيال، قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح؟ قال: فأطرق هنيئة ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث رسول الله وتنجز عداته وتؤدي دينه.
                  فقال: بأبي أنت وأمي أنا شيخ كبير كثير العيال قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أما إني سأعطيها من يأخذ بحقها.
                  ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عداة محمد وتقضي دينه وتأخذ تراثه؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي.
                  فنزع خاتمه من إصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي فوضعه علي (عليه السلام) في إصبعه اليمنى فصاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا بلال علي بالمغفر والدرع والراية وسيفي: ذي الفقار وعمامتي: السحاب والبرد والأبرقة والقضيب.
                  فقال: يا علي أن جبرائيل أتاني بها.
                  فقال: يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستوفر بها مكان المنطقة ثم دعا بزوجي نعال عربيين إحداهما مخصوفة والأخرى غير مخصوفه، والقميص الذي اسري به فيه، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد والقلانس الثلاث قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين وقلنسوة كان يلبسها.
                  ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا بلال علي بالبغلتين: الصهباء والدلدل والناقتين: العضباء والصهباء والفرسين الجناح الذي كان يوقف بباب مسجد رسول الله لحوائج الناس، يبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الرجل في حاجته فيركبه وحيزوم وهو الذي يقول أقدم حيزوم.
                  والحمار اليعفور.
                  ثم قال: يا علي إقبضها في حياتي حتى لا ينازعك فيها أحد بعدي.
                  وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة (عليها السلام) بأبي وأمي أنت!!! أرسلي إلى بعلك فادعيه لي.
                  فقالت فاطمة للحسين (عليه السلام): إنطلق إلى أبيك فقل: يدعوك جدي.
                  فانطلق إليه الحسين فدعاه فأقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى دخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) عنده وهي تقول: واكرباه لكربك يا أبتاه.
                  فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، إن النبي لا يشق عليه الجيب، ولا يخمش عليه الوجه، ولا يدعى عليه بالويل ولكن قولي كما قال أبوك على إبراهيم: تدمع العينان وقد يوجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولو عاش إبراهيم لكان نبياً.
                  ثم قال يا علي أدن مني.
                  فدنا منه فقال أدخل أذنك في في.
                  ففعل.
                  فقال: يا أخي ألم تسمع قول الله تعالى في كتابه (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)؟(5) قال: بلى يا رسول الله.

                  قال: هم أنت وشيعتك يجيئون غراً محجلين، شباعاً مرويين، أولم تسمع قول الله في كتابه (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)(6)؟ قال: بلى يا رسول الله.
                  قال: هم أعداؤك وشيعتهم، يجوزون يوم القيامة ظماء مظمئين، أشقياء معذبين، كفار منافقين، ذلك لك ولشيعتك، وهذا لعدوك ولشيعتهم.
                  ولما حضره الموت كان أمير المؤمنين (عليه السلام) حاضراً عنده فلما قرب خروج نفسه (صلّى الله عليه وآله) قال له: ضع يا علي رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله تعالى فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى.
                  فأخذ علي (عليه السلام) رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فأكبت فاطمة (عليها السلام) تنظر في وحهه وتندبه وتبكي وتقول:
                  وأبيض يستقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة الأرامل
                  ففتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عينه، وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي (وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم)(7) فبكت طويلاً وأومأ إليها بالدنو منه فدنت منه فأسرّ إليها شيئاً تهلل وجهها له.
                  ثم قبض (صلّى الله عليه وآله) ويد أمير المؤمنين (عليه السلام) تحت حنكه ففاضت نفسه (صلّى الله عليه وآله) فيها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره.
                  وقال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أوصى إلى علي (عليه السلام) أن لا يغسلني غيرك فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله من يناولني الماء؟ إنك رجل ثقيل لا أستطيع أن أُقلّبك؟ فقال: جبرائيل معك يعاونك، ويناولك الفضل الماء، وقل له فليغمض عينيه، فإنه لا أحد يرى عورتي غيرك إلا انفقأت عيناه.
                  كان الفضل بن العباس يناوله الماء وجبرائيل يعاونه، وعلي يغسله، فلما أن فرغ من غسله وكفنه أتاه العباس فقال: يا علي إن الناس قد اجتمعوا على أن يدفن النبي (صلّى الله عليه وآله) في بقيع المصلى، وأن يؤمهم رجل منهم، فخرج علي إلى الناس فقال: يا أيها الناس: أما تعلمون أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إمامنا حياً وميتاً؟ وهل تعلمون أنه (صلّى الله عليه وآله) لعن من جعل القبور مصلى؟ ولعن من يجعل مع الله إلهاً؟ ولعن من كسر رباعيته وشق لثته؟ فقالوا: الأمر إليك فاصنع ما رأيت.
                  فقال: إني أدفن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في البقعة التي قبض فيها.
                  ثم قام على الباب فصلى عليه ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ثم يخرجون.
                  لما أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) غسل الرسول (صلّى الله عليه وآله) استدعى الفضل بن العباس فأمره أن يناوله الماء لغسله فغسله بعد أن عصب عينيه، ثم شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ إلى سرته وتولى (عليه السلام) غسله وتحنيطه وتكفينه والفضل يعطيه الماء ويعينه عليه فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده، ولم يشترك معه أحد في الصلاة عليه، وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم بالصلاة عليه، وأين يدفن، فخرج إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال لهم: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إمامنا حياً وميتاً فيدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلون عليه بغير إمام، وينصرفون، وإن الله تعالى لم يقبض نبياً في مكان إلا وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإني لدافنه في حجرته التي قبض فيها.
                  فسلم القوم لذلك ورضوا به، ولما صلى المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبد المطلب برجل إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح، وكان ذلك عادة أهل مكة، وأنفذ (أرسل) إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد، فاستدعاهما وقال: اللهم خر لنبيك.
                  فوجد أبو طلحه فقيل له: احفر لرسول الله.
                  فحفر له لحداً، ودخل أمير المؤمنين والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد ليتولوا دفن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فنادت الأنصار من وراء البيت: يا علي إن نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يذهب، أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال ليدخل أنس بن خولي وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف من الخزرج، فلما دخل قال له علي (عليه السلام) انزل القبر.
                  فنزل ووضع أمير المؤمنين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على يديه ودلاّه في حفرته، فلما حصل في الأرض قال له أخرج.
                  فخرج ونزل علي (عليه السلام) إلى القبر، فكشف عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب.
                  وكان (عليه السلام) يرثي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقول:
                  الموت لا والداً يبقي ولا ولـد هذا السبيل إلى أن لا ترى أحد
                  هذا النبي ولم يخلد لأمتــــــه لـــو خلّد الله خلقاً قبله خلـــــدا
                  للموت فينا سهام غير خاطئة من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
                  وكان (عليه السلام) يصلح قبر رسول الله بمسحاته، وكانت وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر في السنة العاشرة من الهجرة كما هو مشهور عند أهل بيته عليهم و(عليه السلام).
                  علي (عليه السلام) في مصيبة الزهراء
                  كانت مصيبة وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أوجع الفجائع على قلب علي (عليه السلام) ولولا إيمان علي وصبره على المصيبة لمات حزناً في تلك المأساة، إذ ما فارق الحزن قلب علي (عليه السلام) حتى فارق الحياة، فسرعان ما ابيضت لحيته الكريمة فقيل له: لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين.
                  فقال (عليه السلام): الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة.
                  يريد بها وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
                  ولم يختضب الإمام طيلة أيام حياته لهذا السبب ولأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبره بخضاب خاص، فقد روى ابن نباته قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): ما منعك من الخضاب وقد اختضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ قال: أنتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي، بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول الله.
                  ولما فارق النبي الحياة وهو بعد لم يدفن اجتمع الناس في موضع يقال له (السقيفة) وقد رشح سعد بن عبادة نفسه للإمارة وهو سيد الخزرج، وأسيد بن حصين أو بشير بن سعد قد رشح نفسه أيضاً لأنه سيد الأوس، وبين الأوس والخزرج عداء وتنافس قديم.
                  ودخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة في ذلك المجتمع واستمعوا إلى كلام المرشحين للإمارة والرئاسة، وتكلم أبو بكر ودعا الناس إلى عمر أو أبي عبيدة، وامتنع الرجلان أن يتقدما أبا بكر لأنه صاحب الغار، وجرى كلام ونزاع طويل واصطدام عنيف فيما بين المهاجرين والأنصار وبين أبي بكر وأهل السقيفة، حتى آل الأمر إلى التهديد والشتم.
                  وهنا انتهز رئيس الأوس الفرصة، وتضعيفاً لجانب سعد بن عبادة (منافسه) وافق على تأمير أبي بكر، وضم صوته إلى صوت عمر وأبي عبيدة وقال: أنا ثالثكما.
                  ولما رأى الأوس سيدهم انحاز إلى تلك الناحية اتبعوا رئيسهم، وأقبلوا إلى أبي بكر وبايعوه، وكاد سعد بن عبادة يموت تحت الأقدام، فصاح قتلمتوني.
                  فصاح عمر: اقتلوا سعداً قتله الله.
                  وهكذا وقع الانتخاب، وبويع لأبي بكر بالخلافة، وذهبت مساعي النبي (حول تعيين الخليفة) أدراج الرياح، وصارت تلك الجهود هباء منثوراً.
                  وحدثت حوادث مؤلمة مشجية لا نذكرها تحفظاً على العواطف أن تخدش، وإن كانت تلك الحوادث مذكورة في الآلاف المؤلفة من كتب الحديث والتاريخ، ومشهورة عند المسلمين.
                  ونذكر جملة عن موقف الإمام في ذلك العهد: فلقد أخذوا البيعة من الناس لأبي بكر، وجاؤا إلى علي ليخرجوه من البيت ليبايع لأبي بكبر فلم تأذن لهم فاطمة بالدخول في بيتها، فصدر الأمر بالهجوم فهجموا وأخذوا علياً بعد أن خلعوا عنه سلاحه وأخرجوه من البيت يريدون به المسجد، وخرجت فاطمة خلفهم وهي بأشد الأحوال، إذ إنها أجهضت جنينها فكأنها نسيت آلامها فجعلت تعدو وتصيح: خلوا عن ابن عمي؟ خلوا عن بعلي! والله لأكشفن عن رأسي ولأضعن قميص أبي على رأسي وأدعوا عليكم!!!
                  ووصلت إلى باب المسجد فرأت منظراً مؤلماً لا نستطيع أن نصفه إلا إنها استطاعت أن تخلص زوجها من أيدي الناس وتحول بينهم وبين أخذ البيعة منه، ورافقت زوجها إلى البيت سالماً.
                  أظلمّت الدنيا في عين علي (عليه السلام) وضاقت عليه الأرض بما رحبت، لأنه فقد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ومصيبة النبي أعظم مصيبة على قلب كل أحد، ولم تنته الكارثة، فقد خيمت الأحزان على بيت علي، وانقلب البيت إلى مجلس عزاء وحزن وبكاء، فلقد كانت الصديقة الطاهرة لا تفارق البكاء على وفاة أبيها وعلى مصائبها ونوائبها التي استولت على قلبها المجروح، ولم تجد من الناس أي تعزية وتسلية.
                  ومما زاد في حزنها إخراج أراضيها (فدك) من يدها وهناك قضايا وقضايا ساعدت على انحراف صحة فاطمة، واشتداد علتها واستيلاء الهزال عليها، فكانت تبكي ليلها ونهارها، ومنعوها عن البكاء، فكانت تخرج إلى قبر حمزة سيد الشهداء أو إلى البقيع أو إلى بيت بناه لها أمير المؤمنين خارج المدينة وسماه (بيت الأحزان) وعاشت بعد أبيها مظلومة مهضومة باكية العين محترقة القلب منهدة الركن معصبة الرأس حليفة الفراش عليلة مريضة.
                  ودخل عليها علي (عليه السلام) قبل وفاتها فوجدها تغسل ثياب أولادها وتغسل رؤوسهم فسألها عما دعاها إلى العمل المجهد؟ فقالت: يا ابن عم إنه قد نعيت إلى نفسي، وإنني لا أرى ما بي إلا أنني لاحقة بأبي، ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي.
                  قال لها علي (عليه السلام): أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله.
                  فجلس عند رأسها، وأخرج من كان في البيت، ثم قالت: يا أبن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني!!! قال علي (عليه السلام): معاذ الله! أنت أعلم بالله، وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي، وقد عز علي مفارقتك وفقدك، إلا إنه أمر لا بد منه، والله لقد جددت علي مصيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها!! هذه والله مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها.
                  ثم بكيا جميعاً، وأخذ علي رأسها وضمها إلى صدره ثم قال: أوصيني بما شئت، فإنك تجديني وفياً، أمضي كل ما أمرتني به وأختار أمرك على أمري.
                  فقالت: جزاك الله عني خير الجزاء، يا ابن عم أوصيك أولاً: أن تتزوج بعدي بإبنة أختي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لا بد لهم من النساء.
                  أوصيك يا ابن عم: أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوروا لي صورته، فقال لها: صفيه لي.
                  فوصفته، فاتخذه لها.
                  ثم قالت: أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني فإنهم عدوي وعدو رسول الله، ولا تترك أن يصلي علي أحد منهم، ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار.
                  إلى آخر وصاياها...
                  ثم فارقت روحها الحياة، وانتشر الخبر، فصاح أهل البيت صيحة واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة تتزعزع من صراخهن.
                  وازدحم الناس على باب بيت الإمام ينتظرون خروج الجنازة، فخرج أبو ذر ونادى: ‘نصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أُخّر إخراجها هذه العشية.
                  فتفرق الناس، وجن الليل، ومضى شطر منه، فقام علي (عليه السلام) وغسل أبنة رسول الله من على ثيابها وحنطها بفاضل حنوط أبيها رسول الله وكنفها في أكنافها، ثم أرسل إلى عمار والمقداد وسلمان وأبي ذر وعقيل والزبير وبريدة ونفر من بني هاشم فلما حضروا صلى عليها علي ودفنوها، ولم يعلم أحد حتى اليوم أين دفنوها؟ ولا يعرف أحد موضع قبرها، ففي البقيع قبر ينسب إليها، وبين منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقبره قول عند المحدثين، والله العالم بموضع قبرها، وسيبقى قبرها مجهولا عند الناس إلى يوم القيامة.
                  ولعل في هذا الكتمان أسرارا تستدعي انتباه المسلمين للتحري عن السبب المبرر لتلك الوصية، ولعل هذا الإخفاء رمز يرمز إلى معاني وأمور يعرفها الفطن الذكي.
                  وقد اختلف المسلمون في المدة التي عاشت فيها فاطمة (عليها السلام) بعد وفاة أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقيل: عاشت بعد أبيها أربعين يوماً، أو خمساً وسبعين يوماً، أو خمساً وتسعين يوماً، أو ستة أشهر، وفارقت الحياة وكانت أول أهل البيت لحوقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله).
                  انهد ركنا الإمام بفقد الزهراء سيدة النساء وازدادت مصيبته بأطفاله الأربعة (الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم) الذين فقدوا أمهم في عنفوان شبابها بعد أن فجعوا بجدهم البار العطوف الذي كان يمطر عليهم حنانه الأبوي ويشملهم عطفه النبوي.
                  ومما زاد في أحزان الإمام وبلغ به الاضطهاد أقصى درجة هو تنفيذ وصايا فاطمة بصورة سرية، كمباشرته تغسيلها وتحنيطها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها سراً لا جهاراً وليلاً لا نهاراً، وإخفاء موضع قبرها، وغير ذلك من الأمور التي كان من الصعب المستصعب على قلب الإمام تنفيذها وإنجازها.
                  فقد ماتت فاطمة ودفنت كأنها امرأة غريبة لا يعرفها أحد، وكأنها ليست ببضعة رسول الله وحبيبته، وأبنته الوحيدة!! وكان الإمام (عليه السلام) يتجلد في تلك المصيبة رعاية ليتامى فاطمة، إلى أن دفنها في تلك الساعة من تلك الليلة وهو يحاول أن لا يطلع عليه أحد، فيكون سبباً للحيلولة دون تطبيق وصايا فاطمة وتنفيذها، إلى أن أدى جميع الوصايا كما ينبغي، فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن فأرسل دموعه على خديه وحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، النازلة بجوارك، المختار لها الله سرعة اللحاق بك قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري وضعف عن سيدة الناس تجلدي، إلا أن لي في التأسي بسنتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزي ولقد وسدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي.
                  نعم، وفي كتاب الله أنعم القبول، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء!! يا رسول الله: أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي فيها أنت مقيم، كمدٌ مقيّح وهمٌّ مهيج، سرعان ما فرق الله بيننا، إلى الله أشكو، وستنبئك أبنتك بتظاهر أمتك علي، وعلى هضمها حقها، فاستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها، لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول، ويحكم الله وهو خير الحاكمين.
                  سلام عليك يا رسول الله، سلام مودّع لا سئيم ولا قالٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظني بما وعد الله مع الصابرين، والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، والتلبث عنده عكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سراً، ويهتضم حقها قهراً، ويمنع إرثها جهراً، ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله ـ يا رسول الله ـ المشتكى، وفيك أجمل العزاء، فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته.
                  ثم جعل يقول:
                  أرى علل الدنيا عـــلي كثيرة وصاحبها حتى الممات عليل
                  لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الفراق قليـــل
                  وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليــل
                  وينسب إليه (عليه السلام) هذان البيتان:
                  نفسي على زفراتها محبوسة يا ليتها خرجت مع الزفرات
                  لا خير بعدك في الحياة وإنما أبكي مخافة أن تطول حياتي
                  زواج علي بعد فاطمة (عليهما السلام)
                  إضطر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة سيدة نساء العالمين أن يبادر إلى إختيار زوجة تقوم بشؤون أيتام الإمام الذين فقدوا أمهم في عنفوان شبابها فقدوها وهم براعم صغار لم تتفتح بعد، إذ كان الإمام الحسن وهو أكبر أولاد الإمام عمره يومذاك سبع سنوات وشهوراً وكان الإمام الحسين أصغر منه بستة أشهر وأيام وكذلك السيدة زينب وأختها أم كلثوم هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كانت الزهراء قد أوصت يوم وفاتها أن يتزوج علي (عليه السلام) بالسيدة أمامة وهي حفيدة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أنها كا نت بنت زينب بنت رسول الله، وتنفيذاً لهذه الوصية بادر الإمام إلى الزواج بأمامة بعد تسعة أيام من وفاة الزهراء كما ذكر ذلك الشيخ المفيد وروى عنه المجلسي في التاسع من البحار.
                  كلام حول أزواج الإمام وأولاده
                  وبالمناسبة لا بأس أن نذكر شيئاً مما يتعلق بعدد زوجات الإمام وأولاده فنقول: كان له (عليه السلام) سبعة وعشرون من الأولاد ذكوراً وإناثاً:
                  1 ـ 4 الإمام الحسن والإمام الحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكناة بأم كلثوم، وأمهم فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
                  5 ـ محمد بن الحنيفة وأمه خولة بنت جعفر.
                  6 ـ 7 عمر ورقية، وكانا توأمين، وأمهما الصهباء، ويقال أم حبيب التغلبية.
                  8 ـ 12 أبو الفضل العباس وجعفر وعثمان وعبد الله، وأمهم فاطمة أم البنين بنت حزام بن خالد الكلابية، استشهدوا يوم الطف في نصرة الحسين (عليه السلام).
                  13 ـ 14 يحيى وعون وأمهما أسماء بنت عنيس الخثعمية.
                  15 ـ 16 محمد الأصغر المكنى أبا بكر، وعبيد الله وأمهما: ليلى بنت مسعود الدارمية وقتلا يوم الطف.
                  17 ـ 20 خديجة وأم هاني وميمونة وفاطمة وأمهن: أم ولد جارية.
                  21 ـ 22 أم الحسن ورملة وأمهما: أم شعيب الدارمية وقيل: أم سعيد وقيل: أم مسعود المخزومية.
                  23 ـ 27 نفيسة وزينب الصغرى وأم سلمة وأم الكرام وجمانة لأمهات شتى.
                  وأما أولاده الذين أعقبوا فهم خمسة: الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحمد بن الحنيفة والعباس وعمر، ومات عدد من الأولاد والبنات في أيام حياة الإمام (عليه السلام).
                  ولم يتزوج علي (عليه السلام) ما دامت الزهراء كانت على قيد الحياة كرامة لها، كما أن رسول الله لم يتزوج ما دامت خديجة على قيد الحياة، ولعل السبب في عدم تزويج علي في حياة فاطمة الزهراء هو قول الرسول (صلّى الله عليه وآله): من آذاها فقد آذاني.
                  هذا والمعروف: أن علياً تزوج بعد وفاة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بأربع حرائر وملك عشر إماء وقد روي في المناقب عن الشيخ المفيد (عليه الرحمة) أن أولاده خمسة وعشرون وربما يزيدون على ذلك إلى خمسة وثلاثين.

                  (1) سورة آل عمران، الآية: 144.
                  (2) سورة آل عمران، الآية: 144.
                  (3) سورة البقرة، الآية: 180.
                  (4) سورة الأحزاب، الآية: 36.
                  (5) سورة البينة، الآية: 7.
                  (6) سورة البينة، الآية: 6.
                  (7) سورة آل عمران، الآية: 144.

                  تعليق


                  • #10
                    علي (عليه السلام) جليس البيت
                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    الحمد لله وصلى على سيد أنبياء الله محمد وآله آل الله.
                    حديثنا ـ الليلة ـ حول الفترة التي انقضت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو جليس البيت، مسلوب الإمكانيات، وقد ابتدأت تلك الفترة من يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستيلاء أبي بكر على مسند الحكم، ولما انقضت أيام أبي بكر أوصى من بعده إلى عمر بن الخطاب فكانت أيام حكمه عشر سنوات وشهوراً، ولما طعن عمر وأحس بالوفاة جعل الخلافة شورى، ورشح ستة من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحد من أنفسهم وإليكم التفصيل: لما علم عمر بن الخطاب بأنه ميت استشار الناس حول تعيين الخليفة، فأشير عليه بابنه: عبد الله بن عمر، فقال عمر: لاها الله ـ لا يليها رجلان من ولد الخطاب‍‍! حسب عمر ما احتقب، لاها الله! لا أتحملها حياً وميتاً.
                    ثم قال: عن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش: علي، عثمان، طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم إماماً.
                    ثم التفت عمر إلى هؤلاء الستة وقال: أكلكم يطمع في الخلافة؟ فسكتوا، فقال لهم ثانية فقالوا: وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش، ولا في السابقة ولا في القرابة.
                    فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ قالوا: قل، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا، فالتفت عمر إلى الزبير وذكر عيوبه ثم التفت إلى طلحة وذكر سوابقه السيئة ثم التفت إلى سعد بن أبي وقاص وذكره بنقائصه، وخاطب عبد الرحمن بن عوف قائلاً: إنك رجل عاجز تحب قومك!! ثم التفت إلى علي وقال: وأما أنت يا علي فلو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي وخرج فقال عمر: والله إني لأعلم مكان الرجل، لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء.
                    قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من بينكم.
                    قالوا فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك من سبيل.
                    وفي رواية ابن أبي الحديد: ثم أقبل على علي (عليه السلام) فقال: لله أنت!! لولا دعابة فيك أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء.
                    ثم أقبل عمر على عثمان وقال: أما أنت يا عثمان ـ فو الله ـ لروثة خير منك!! هؤلاء الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!! وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا الموضوع في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.
                    التفت عمر وقال: ادعوا لي أبا طلحة الأنصاري.
                    فدعوه فقال له: أنظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي (دفني) فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر ـ الستة ـ بإمضاء هذا الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت واحد، فإن اتفق خمسة منهم وأبى واحد فاضرب عنقه! وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فأضرب أعناقهما! وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن بن عوف فارجع إلى ما اتفقت عليه!!! فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم!!! كان هذا هو القرار الصادر بحق الستة الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!!! ومات عمر، ولما دفن، جمع أبو طلحة المرشحين للخلافة في بيت عائشة، ووقف هو على باب البيت في خمسين رجلاً حاملي سيوفهم ولما استقر المجلس بهؤلاء الستة وقبل الشروع في الكلام نادى عمار بن ياسر ـ من وراء الباب ـ : إن وليتموها علياً سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها عثمان سمعنا وعصينا، فقام الوليد بن عقبة وقال: يا معشر الناس: أهل الشورى إن وليتموها عثمان سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها علي سمعنا وعصينا.
                    فانتهره عمار وقال له: متى كان مثلك يا فاسق يعترض أمور المسلمين وشتات جمعها؟؟.
                    وتسابا جميعاً وتناوشا حتى حيل بينهما.
                    فقال المقداد ـ من وراء الباب ـ: يا معشر المسلمين إن وليتموها أحد من القوم فلا تولوها من لم يحضر بدراً، وانهزم يوم أحد ولم يحضر بيعة الرضوان، وولى الدبر يوم التقى الجمعان فقال عثمان: أما والله لئن وليتها لأردنك إلى ربك الأول!!!! أما طلحة فإنه كان يعلم أن الخلافة لا تصل إليه مع وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) وعثمان، فلهذا أشهد القوم على نفسه: أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان، وإنما فعل ذلك تقوية لجانب عثمان.
                    وأما الزبير فكان ابن عم أمير المؤمنين ولما رأى ما صنعه طلحة
                    لعثمان وهب هو حقه من الشورى إلى أمير المؤمنين فقال: أنا أشهدكم أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي.
                    فتساوى الجانبان ولكل منهما صوت واحد، فبقي عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فوهب سعد حقه لعبد الرحمن بن عوف لأن سعداً كان يعلم أن الخلافة لا تتم له.
                    فقال عبد الرحمن لأمير المؤمنين وعثمان: أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما.
                    فبدأ بعلي (عليه السلام) وقال له: (أبايعك على كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر) فقال علي بل على كتاب الله وسنة النبي واجتهاد رأيي.
                    فعدل عبد الرحمن عنه، فعرض ذلك على عثمان فقال: نعم.
                    فعاد عبد الرحمن إلى علي، فأعاد علي قوله، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاث مرات فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان وقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
                    فقال علي (عليه السلام) لعبد الرحمن بن عوف: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجى صاحبكما من صاحبه.
                    ثم دعى عليه وقال: دق الله بينكما عطر منشم.
                    أشار (عليه السلام) إلى سبب تقديم عبد الرحمن عثمان على علي (عليه السلام) وذكر أن السبب في بيعة عبد الرحمن لعثمان كالسبب في بيعة عمر لأبي بكر أي كما أن عمر بايع أبا بكر يوم السقيفة ليرد أبو بكر الخلافة إليه عند موته فدعى عليهما أن يفسد ما بينهما، لأن منشم ـ بكسر الميم ـ اسم امرأة عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم حتى صار يضرب به المثل فيقال أشأم من عطر منشم.
                    واستجاب الله دعاء الإمام (عليه السلام) ففسد بعد ذلك بين عبد الرحمن وعثمان فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن.
                    لأن عثمان بنى قصره (طمار) والزوراء، وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه فكان فيهم عبد الرحمن، فلما نظر إلى البناء والطعام قال: يا أبن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان وقال: أخرجه عني يا غلام، فأخرجوه، فأمر عثمان الناس أن لا يجالسوه..
                    وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجاج مفصل في يوم الشورى مذكور في (كتاب الاحتجاج للطبرسي) يذكر فيه فضائله وفواضله ومناقبه وخصائصه وينشد الناس ذلك فيحلف له الناس على صدق كلامه وقد اشتهر بحديث المناشدة ورعاية للاختصار لم نذكره.
                    هذه خلاصة يوم الشورى وقد ذكرناها كما هي بدون أي تعليق ولما انتقلت الخلافة إلى عثمان بن عفان واشترطوا عليه العمل بكتاب الله وسنة النبي (صلّى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين فما مضت مدة وإذا به يخالف الكتاب والسنة والشيخين فكان من أعماله أنه ضرب عمار بن ياسر ضرباً شديداً، وضربه برجليه وهما في الخف على بطنه حتى أفتق عمار وأغمي عليه وما زال مغمى عليه حتى فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، وأمر بتسيير أبي ذر إلى الشام ثم أمر بإرجاعه إلى المدينة فساروا به سيراً حثيثاً بلا نزول ولا راحة ولا نوم فلما وصل إلى المدينة، تناثر لحم فخذيه ورجليه، وبعد ذلك أمر بتسفيره إلى الربذة وهي منطقة ردية الماء والهواء لا زرع فيها ولا كلاء فمات أبو ذر هناك جوعاً ولم يحضره أحد سوى ابنته الصغيرة.
                    ومنها إحراقه المصاحف (القرائين) ومنها ضربه عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل وقطعه عطاءه مدة سنتين.
                    ومنها تسليط أقاربه وأرحامه على رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم
                    وأموالهم، ويصلون بالمسلمين في حالة السكر، ويتقيئون الخمر في المحراب.
                    ومنها أنه بذل من بيت مال المسلمين أربع ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار (4.310.000) ومائة وستة وعشرين مليون وسبع مائة وسبعين ألف درهم (126.770.000) كل ذلك من بيت مال المسلمين وهبها لأبن الزرقاء الزانية مروان بن الحكم ونظرائه من أقارب عثمان وبناته، إلى غير ذلك من المآسي التي يطول الكلام بذكرها.
                    فأحدثت أعماله في قلوب المسلمين ثورة ونقمة وفي طليعة الناقمين عليه عائشة وطلحة والزبير وغيرهم من المسلمين.
                    ولهذا كانت عائشة تحرض الناس على عثمان وتخرج قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على قصبة وتقول: أيها المسلمون إن عثمان غير سنة رسول الله وهذا ثوبه لم يبل بعد!!
                    واجتمع المسلمون من مصر والبصرة والكوفة وقصدوا نحو المدينة يريدون مقابلة عثمان، فجاء إليهم مروان وقابلهم بالكلام الخشن وأجابوه بالسب والشتم، واستمر الثوار يحاصرون دار عثمان، وفي تلك الأيام خرجت عائشة إلى الحج وهي تقول: اقتلوا نعثلاً قتله الله، اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
                    لم يستطع الثوار أن يقابلوا عثمان إلا بعد أن تدخل علي (عليه السلام) في القضية وبذل ما في وسعه للإصلاح بين عثمان والثوار.
                    فذهبت المساعي أدراج الرياح وكتب عثمان إلى والي مصر يأمره بقطع الأيدي والأرجل من بعض الثائرين بعد أن وعدهم أن ينزل عند رغبتهم ويلبي طلباتهم القانونية وحقوقهم المشروعة، فرجع الثوار وتفرقوا راضين عن عثمان وفي أثناء الطريق وجدوا غلام عثمان ففتشوه فوجدوا عنده ذلك الكتاب فرجعوا وقد أخذ الغضب منهم مأخذاً عظيماً، ولما علم علي (عليه السلام) بذلك انسحب عن الفتنة، واقترب الثوار من دار عثمان ومنعوا أحداً يدخل عليه أو يخرج من
                    بيته، فصعد عثمان على السطح وقال: من يبلغ علياً ليرسل لنا الماء.
                    فوصل الخبر إلى علي فأرسل ولديه الحسن والحسين وغلامه فنبر يحمل كل واحد منهم قربة من الماء.
                    وأراد الثوار أن يمنعوهم من الدخول، ولكن كرامة لرسول الله أذنوا لهم بإيصال الماء إلى عثمان، وأمر علي (عليه السلام) ولديه أن يقفا على باب عثمان يحرسانه من هجوم الثوار عليه.
                    وأخيراً وجد المحاصرون طريقاً إلى دار عثمان من الدار المجاورة له وهجموا عليه يقدمهم محمد بن أبي بكر وقتلوا عثمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
                    كان موقف علي (عليه السلام) مقابل أعمال عثمان موقف المصلح الناصح الشفيق، وكثيراً ما كان الإمام يحول بينه وبين تصرفاته غير المرضية، وخاصة في تلك الأيام الأخيرة استطاع الإمام ـ بعد شق الأنفس ـ أن يرفع سوء التفاهم بين عثمان والثوار المصريين والبصريين والكوفيين، ويلطف الجو، ووجد لهم حلاً صحيحاً يحسم نزاعهم ويعيد المياه إلى مجاريها.
                    ورجع الثوار إلى بلادهم راضين شاكرين لعلي (عليه السلام) موقفه الإصلاحي في قضيتهم ومشكلتهم، ولما وجدوا كتاب عثمان بيد غلامه رجعوا إلى المدينة فأرسل عثمان إلى علي يطلب منه التدخل في القضية فخرج علي والتقى بالثوار وسألهم عن سبب رجوعهم فأبروزا كتاب عثمان وفيه يأمر عثمان بقطع أيدي المصريين وأرجلهم وقتل جماعة آخرين! فجاء بهم علي وأدخلهم على عثمان وأبرز له ذلك الكتاب، فلما نظر إليه عثمان قال: الخاتم خاتمي، والغلام غلامي، والخط خط كتابتي، ولا علم لي بالكتاب!! فقال له الإمام (عليه السلام): فمن تتهم؟ قال عثمان لعلي ـ (عليه السلام) ـ أتهمك وأتهم كاتبي!! فقام علي مغضباً وقال: بل هو فعلك.
                    واعتزل الإمام تلك الفتنة، ولما استسقاه عثمان أرسل علي (عليه السلام) سيدي شباب أهل الجنة ابني رسول الله الحسن والحسين يحملان الماء إلى دار عثمان ويحرسانه من تلك الفتنة.
                    وقد تقدم كل هذا، ومع هذا كله وغير هذا مما لم نذكره هنا كان أعداء علي يتهمونه بقتل عثمان ويطلبون منه الثأر، فأقاموا المجازر والمذابح التي أمطرت السماء فيها دما، وكاد العرب أن ينقرض، ولقد بلغ عدد القتلى والضحايا في هذه الحرب أكثر من مائة وستين ألف رجل ولا تسأل عن عوائل هؤلاء وأيتامهم وما هناك من ويلات ومصائب والتفصيل في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى.

                    تعليق


                    • #11
                      من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..3

                      الليلة الرابعة عشرة


                      علي (عليه السلام) يوم الجمل


                      بسم الله الرحمن الرحيم

                      الحمد لله على كل حال وصلى الله على محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
                      انتهى الكلام في الليلة الماضية حول وفاة عثمان، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما.
                      اجتمعت الصحابة ـ بعد مقتل عثمان ـ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتشاوروا في أمر الإمامة، فأشار بعضهم بعلي (عليه السلام) وهم: عمار بن ياسر وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان وغيرهم، فذكروا سابقة علي (عليه السلام) وفضله جهاده، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي، فمنهم من فضله على أهل عصره، ومنهم من فضله على جميع المسلمين عامة، فأتى الناس عليا ليبايعوه، فقال (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان لا تقوم له القلوب.
                      فقالوا:ننشدك الله: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟
                      وقال الشعبي: أقبل الناس إلى علي (عليه السلام) ليبايعوه، ومالوا إليه، فمدوا يده فكفها، وبسطوها فقبضها حتى بايعوه.
                      قال (عليه السلام): لا حاجة لي في أمرتكم، فمن اخترتم رضيت به.
                      فقالوا: ما نختار غيرك.
                      وترددوا إليه مراراً، وقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
                      فقال (عليه السلام): ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا في المسجد ـ وكان في بيته ـ فخرج إلى المسجد، وعليه قميص وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئاً علو قوسه، فبايعه الناس، وكان أول من بايعه من الناس: طلحة، ثم الزبير ثم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين.
                      ولما أراد طلحة والزبير أن يبايعا قال لهما أمير المؤمنين: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: بل نبايعك.
                      وجاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال له علي: بايع.
                      قال: لا حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس.
                      فقال الإمام: خلوا سبيله.
                      وجاءوا بعبد الله بن عمر فقالوا: بايع.
                      فقال: لا، حتى يبايع الناس فقال (عليه السلام): ائتني بكفيل.
                      قال: لا أرى كفيلا.
                      فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.
                      فقال الإمام: دعوه أنا كفيله!.
                      كان الازدحام على الإمام علي بصورة مدهشة، وكاد الناس أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام.
                      فبويع له بالخلافة يوم الجمعة لثمانية عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.
                      ومن ذلك اليوم نهض علي (عليه السلام) بأعباء الخلافة، وأول خطوة تقدم بها الإمام إلى العدالة هو تقسيم بيت مال المسلمين بالسوية وذلك في اليوم الثاني من بيعته، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما قال:
                      أما بعد، لما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) استخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شورى بين ستة، فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم، ثم حصر، ثم قتل، ثم جئتموني فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم..إلخ.
                      ثم التفت يمينا وشمالا فقال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل لأحد على أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب.
                      وإذا كان غد ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إذا كان مسلما حرا إلا حضر، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
                      وعن عمار وابن عباس قالا: إنه (عليه السلام) لما صعد المنبر قال لنا: قوموا فتخللوا الصفوف، ونادوا هل من كاره؟ فتصارخ الناس من كل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا وأطعنا رسولك وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم يا عمار إلى بيت المال، فأعط الناس، ثلاثة دنانير لكل إنسان وادفع لي ثلاثة دنانير!! فمضى عمار وأبو الهيثم وجماعة من المسلمين إلى بيت المال، ومضى أمير المؤمنين إلى مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار: جاء والله الحق من ربكم، والله ما علم بالمال ولا بالناس وإن هذه الآية وجبت عليكم بها طاعة الرجل.
                      أول شيء كرهه الناس من أمير المؤمنين تقسيمه العطاء بالسوية فقد قال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (عليه السلام): نعطيه كما نعطيك!! وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود.
                      تخلف من هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش، ومن هنا بدأت التفرقة ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.
                      وأقبل هؤلاء وجلسوا في ناحية من المسجد، ولم يجلسوا عند علي (عليه السلام) ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلى الإمام فقال: يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا: فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوانك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في يوم عثمان وأن تقتل قتلة عثمان، وإنا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام.
                      فقال (عليه السلام): أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أُسيّركم.
                      فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، فافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، لأن عماراً وعبد الله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مكتله ومسحاته ثم انطلق إلى بئر الملك فعمل فيها فأخذ الناس ذلك القسم حتى بلغوا الزبير وطلحة وعبد الله بن عمر فأمسكوا بأيديهم، وامتنعوا عن القبول وقالوا: هذا منكم أو من صاحبكم؟ فقالوا: هذا أمره، ولا نعمل إلا بأمره، قالوا استأذنوا لنا عليه.
                      قالوا: ما عليه إذن، هو ببئر الملك يعمل، فركبوا دوابهم حتى جاءوا إليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا: إن الشمس حارة، فارتفع معنا إلى الظل.
                      فارتفع معهم إلى الظل، فقالوا: لنا قرابة من نبي الله، وسابقة وجهاد، وإنك أعطيتنا بالسوية، ولم يكن عمر وعثمان يعطوننا بالسوية، كانوا يفضلوننا على غيرنا.
                      فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بكر، وإلا تدعوا أبا بكر وغيره، وهذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حق فخذوه.
                      قالوا: فسابقتنا.
                      قال: أنتما أسبق مني؟ قالا: لا، فقرابتنا من النبي.
                      قال: أقرب من قرابتي؟ قالا: لا، فجهادنا.
                      قال: أعظم من جهادي؟ قالا: لا، قال: فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلا بمنزلة سواء.
                      وفي اليوم الثاني جاء طلحة والزبير وجلسا في ناحية المسجد.
                      وجاء مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الله الزبير وجلسوا عندهما، وكان هؤلاء قد امتنعوا عن أخذ قسمتهم من بيت المال وجعلوا يطعنون في أمير المؤمنين (عليه السلام) والتفت عمار بن ياسر إلى أصحابه وهم جلوس عنده في ناحية أخرى من المسجد قائلا: هلموا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا ما نكره من الخلاف والطعن لإمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق (طلحة).
                      قام عمار ومن معه حتى جلسوا عندهم فتكلم أبو الهيثم وقال: إن لكم لقدماً في الإسلام، وسابقة وقرابة من أمير المؤمنين، وقد بلغنا عنكم طعن وسخط لأمير المؤمنين، فإن يكن لكما خاصة، فعاتبا ابن عمتكما، وإمامكما؟ وإن تكن النصيحة للمسلمين فلا تؤخراه عنه ونحن عون لكما فقد علمنا أن بني أمية لن تنصحكما أبداً، وقد عرفتما..فقال أحمد: قد عرفتما عداوتهم لكما، وقد شركتما في دم عثمان.
                      وملأتما.
                      فسكت الزبير، وصاح طلحة ـ بصوت عال ـ : أفزعوا جميعاً مما تقولون، فإني قد عرفت إن في كل واحد منكم خطبة.
                      فتدخل عمار وأبدى النصيحة، وتقدم إبن الزبير وتكلم بكلام خشن فأمر عمار بإخراج ابن الزبير من المسجد، فقام الزبير منزعجاً من هذا العمل وخرج من المسجد، فقال عمار: لو لم يبق أحد إلا خالف علي بن أبي طالب لما خالفته، ولا زالت يدي مع يده، وذلك أن علياً لم يزل مع الحق منذ بعث الله محمد (صلّى الله عليه وآله) فإني أشهد أن لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحداً.
                      فقام عمار وجماعة وجاءوا إلى أمير المؤمنين، وأخبروه بانشقاق القوم وأنهم كرهوا الأسوة والقسمة بالسوية إلى آخر كلامهم.
                      فخرج الإمام ودخل المسجد وصعد المنبر وقال ـ بعد الحمد والثناء على الله ـ : يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين، أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم، وأما هذا الفيء (المال) فليس لأحد أثرة.
                      فقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه! نزل الإمام عن المنبر وصلى ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر إلى طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فدعاهما، فجاء طلحة والزبير، وجلسا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال الإمام: نشدتكما الله؟ هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ فقال الرجلان: نعم.
                      فقال الإمام: غير مجبورين ولا معسورين، فأسلمتما لي ببيعتكما أعطيتماني عهدكما؟؟ فقال الرجلان: نعم.
                      فقال الإمام: فما دعاكما إلى ما أرى؟ فقال الرجلان: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي في الأمور، ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمور وتقضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا!! فقال الإمام ـ غاضباً ـ : لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما، ألا تخبراني! أدفعتمكا عن حق واجب لكما فظلمتكما إياه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
                      فقال الإمام: فهل استأثرت من هذا المال بشيء؟ فقال الرجلان: معاذ الله، فقال الإمام: أفوقع حكم أوحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
                      فقال الإمام: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ فقال الرجلان: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم، كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيها ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممن لا يرى الإسلام إلا كرها.
                      فقال الإمام: أما ما ذكرتما من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشورة لشاورتكما فيه.
                      وأما القسم والأسوة: فإن ذلك لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
                      وأما قولكما: (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلا فضلهم رسول الله بالقسم، ولا آثر بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر، رحم الله امرئً رأى حقاً فأعان عليه، ورأى جوراً فردّه، وكان عونا للحق على من خالفه).
                      قام طلحة والزبير وانصرفا من عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهما مغضبان ساخطان، وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما من رأيه وبعد يومين جاءا واستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا أمير المؤمنين: قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة، وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.
                      فقال أمير المؤمنين: قد عرفتما مالي بـ(ينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر.
                      فقالا: لا حاجة لنا في مالك بـ(ينبغ) فقال أمير المؤمنين: ما أصنع؟ فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية.
                      فقال أمير المؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولكني أبدي لكما عذراً، فقالا: ما كنا بالذي نكلفك ذلك، ولو كلفناك لما أجابك المسلمون.
                      فقال أمير المؤمنين: فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ما عندك.
                      ثم حرج الرجلان من دار أمير المؤمنين، وقد يئسا من بيت المال، فجعلا يفكران في كيفية الخروج إلى مكة، والالتحاق بعائشة، إلى أن صار رأيهما على هذا وجاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت خلوته وقالا: قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة، لأنا بعيدا العهد بها.
                      فأذن لنا فيها .
                      فنظر أمير المؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة، وإنكما تريدان البصرة.
                      فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.
                      فقال أمير المؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.
                      فحلفا بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لكما أمير المؤمنين؟ فقالا: نعم.
                      ودخل ابن عباس على الإمام فابتدأ الإمام (عليه السلام) قائلاً: يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.
                      فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً ـ وبعد هنيئة ـ قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي، فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أمير المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.
                      خرج الرجلان من المدينة متوجهين إلى مكة، فوجدا بني أمية قد أحاطوا بعائشة، ولحق بها جماعة من منافقي قريش، ولحق بها عبد الله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيد الله ومروان بن الحكم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية، وجعلوا عائشة ملجأ لهم فيما دبروه من كيد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصار كل من يبغض علياً أو يكرهه أو يحسده أو يخاف منه استيفاء الحقوق منه، يلتحق بهذه الجماعة، وعائشة تنعى عثمان وتبرأ من قاتله وتحرض الناس على عداوة أمير المؤمنين، وتظهر بأن عليا قتل عثمان ظلماً.
                      وكانت عائشة لما وصلت إلى مكة، وأدت مناسك الحج، ولما فرغت بلغها خبر قتل عثمان استبشرت وقالت للناعي: قتلته أعماله، إنه أحرق كتاب الله، وأمات سنة رسول الله فقتله الله، ومن بايع الناس؟ فقال الناعي: لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيد الله نعاجا لعثمان، وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس بايعوه.
                      فقالت عائشة ـ وهي فرحانة ـ : بعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الأصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عم! لله أبوك يا طلحة، أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع أحنوها لا بل دغدغوها! وجدوك لها محسنا ولها كافيا، شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي، لأتوجه إلى منزلي.
                      سارت عائشة حتى إذا وصلت إلى موضع يقال له: (شرفاء) لقيها رجل يقال له: عبيد بن أم كلاب، فسألته عائشة: ما الخبر؟ فقال الرجل: قتل عثمان.
                      فقالت عائشة قتل نعثل!!! أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال الرجل: لما أحاط الناس بالدار، رأيت طلحة بن عبيد الله قد غلب على الأمر، واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن، وتهيأ ليبايع له، فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر حتى إذا أتوا علياً وهو في بيت سكن فيه فقالوا له: بايعنا على الطاعة لك، وكان علي (عليه السلام) يتفكر ساعة.
                      فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.
                      وكان في الجماعة طلحة والزبير، فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي بن أبي طالب كلام قبل ذلك، فقام طلحة والزبير فبايعا، وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته.
                      ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر، فتكلم بكلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد، فكلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم.
                      فقالت عائشة: لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا!! أنظر ماذا تقول؟ فقال الرجل: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين.
                      فقالت عائشة: إنا لله، أكره والله الرجل، وغصب علي بن أبي طالب أمرهم، وقتل خليفة الله مظلوما! ردوا بغالي ردوا بغالي!! فقال الرجل: ما شأنك يا أم المؤمنين؟ والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها من علي، ولا أحق، ولا أرى له نظيراً فلماذا تكرهين؟.
                      عائشة لا ترد جواباً، وعزمت على الرجوع إلى مكة، وفي طريقها رآها قيس بن حازم فقالت عائشة تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوما.
                      فقال قيس: يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفا تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولا.
                      فقالت عائشة: لقد كان ذلك، ولكن نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.
                      فقال عبيد بن أم كلاب:

                      فمنك البداءة ومـــنك الغير ومنك الريــاح ومنك المطر


                      وأنت أمرت بقتل الإمـــــاموقلـــــــت لـــنا: إنه قد كفر


                      فهبنا أطعناك فــــــــي قتلهوقاتله عــــــــــندنا من أمر


                      ولم يسقط السقف من فوقناولم ينكسف شمسنا والقمر


                      وقد بايع الناس ذا ارتـــداءيزيل الشـــــبا ويقيم الصعر


                      وتلبس للحــــــرب أوزارهاوما من وفى مثل من قد غدر

                      وصلت عائشة إلى مكة، وجاءها رجل يقال له: يعلى بن منبه، وكان من بني أمية وشيعة عثمان وقال لها: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله.
                      فقالت عائشة: برأت إلى الله ممن قتله.
                      فقال الرجل: ألآن أظهري البراءة ثانيا من قاتله، فخرجت إلى المسجد، فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان، وهنا وصل خبر عائشة إلى طلحة والزبير وهما في المدينة، فكتبا إليها كتاباً مع ابن أختها عبد الله بن الزبير وكان مضمون الكتاب (خذ لي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان).
                      قرأت عائشة ذلك الكتاب وكشفت عما في ضميرها وجعلت تطلب بدم عثمان وجاءت ووقفت عند الحجر الأسود وقالت: أيها الناس: إن الغوغاء (السفلة) من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل فقتلوه ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال الأحداث، وقد استعمل أمثالهم من قبله، ومواضع الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزل عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام! والله، لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! والله، لو أن الذي اعتدوا عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبئه، والثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
                      فتقدم عبد الله بن عامر الحضرمي ـ وكان عامل عثمان على مكة ـ وقال: أنا أول طالب بدمه.
                      فكان أول مجيب.
                      فتبعه بنو أمية، وكانوا قد هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة فرفعوا رؤوسهم، فكان أول ما تكلموا في الحجاز.
                      ولما وصل طلحة والزبير إلى مكة أرسلا عبد الله بن الزبير إلى عائشة يطلبان منها الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان!! امتنعت عائشة من الإجابة لكنها ذهبت إلى أم سلمة تستشيرها في الخروج، ولما دخلت على أم سلمة ونعت إليها عثمان وأنه قتل مظلوما، صرخت أم سلمة صرخة وهي متعجبة من كلام عائشة وقالت: يا عائشة بالأمس كنت تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوما؟؟ ثم إن عائشة ذكرت لأم سلمة عزمها على الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان وطلبت من أم سلمة أن ترافقها وتشاركها في تلك النهضة!! فجعلت أم سلمة تعاتب عائشة على تحريضها الناس بقتل عثمان ثم الطلب بدمه مع العلم أن عثمان من بني عبد مناف وعائشة امرأة من تيم بن مرة، وليس بينهما قرابة، ثم ذكرت أم سلمة شيئا من فضائل علي وأنه لا ينبغي لأحد أن يحارب عليا، ووعظتها وذكرتها بما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) وذكرتها بحديث النبي (صلّى الله عليه وآله) يوم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب فتذكرت عائشة كل ذلك وقنعت بكلام أم سلمة ولكن التأثير كان مؤقتا، ثم عزمت على السفر إلى البصرة.
                      وأما يعلى بن منبه فقد اشترى أربعمائة بعير ونادى: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه.
                      ووصل الخبر إلى أم سلمة فقالت لعائشة: لقد وعظتك فلم تتعظي..ثم حذرتها عن تلك الفكرة وذكرت لها بأنها تهتك حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأنها زوجته وعرضه إلى آخر كلامها.
                      وخرجت عائشة بالجيش نحو البصرة وفي أثناء الطريق وصلوا إلى ماء الحوأب فنبحت الكلاب وقال قائل: ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسكت عائشة زمام بعيرها وصرخت: إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهيه!! سمعت رسول الله ـ وعنده نساؤه ـ يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة، تنجو بعد ما كادت تقتل؟؟..ردوني، ردوني.
                      فأقبل جماعة وشهدوا وحلفوا أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت عائشة لوجهها نحو البصرة.
                      فوصل الخبر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأمر المنادي فنادى: الصلاة جامعة، اجتمع الناس في مسجد رسول الله في المدينة وصعد الإمام المنبر وخطب فيهم خطبة ذكر فيها الخلافة وأطوارها وأدوارها...
                      إلى أن قال: وبايعني هذان الرجلان ـ طلحة والزبير ـ في أول من بايع، وتعلمون ذلك، وقد نكثا غدرا، ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.
                      أللهم: فخذ بما عملا واحدة رابية، ولا تنعش لهما ضرعة، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا، فإنهما يطلبان حقا تركاه، ودما سفكاه، أللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت ـ وقولك الحق ـ : (ثم بغى عليه لينصرنه الله ...) اللهم أنجز لي موعدي ولا تكلني إلى نفسي إنك على كل شيء قدير.
                      ثم استشار الإمام أصحابه، فقال عمار بن ياسر: الرأي عندي: أن تسير إلى الكوفة، فإن أهلها شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة وأشار عليه عباس أن يأمر أم سلمة لتخرج معه تقوية لجانبه فقال الإمام: أما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما أن الرجلان إخراج عائشة!! وأشار عليه جماعة أن يعتزل الفتنة ويذهب إلى ماله بـ(ينبع) فلم يقبل منه وأخيرا نادى الإمام: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير نكثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفك دماء أهل القبلة ورفع يديه للدعاء قائلا: اللهم: إن هذين الرجلين قد بغيا علي، ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقياني بغير حق سومهما ذلك، اللهم حذهما بظلمهما وأظفرني بهما، وانصرني عليهما.
                      وجعل الإمام (عليه السلام) تمام بن العباس والياً على المدينة وخرج بمن معه إلى الربذة، وإذا بطلحة والزبير قد ارتحلوا منها.
                      فأرسل الإمام محمد بن أبي بكر ومحمد بن الحنفية إلى الكوفة ليستنفرا أهل الكوفة، وكان والي الكوفة ـ يومذاك ـ أبا موسى الأشعري وكان أبو موسى عثماني الهوى، منحرفا عن علي (عليه السلام).
                      وكانت عائشة قد كتبت كتابا إلى أبي موسى تأمره أن يخذل الناس عن نصرة الإمام، وقام أبو موسى بتلبية طلبها، فخطب فيهم وأمرهم أن يجتنبوا الفتنة ويبتعدوا عن سفك دماء المسلمين.
                      لم يستطع محمد بن الحنفية ومجمد بن أبي بكر مقاومة الأشعري فرجعا إلى الإمام، وكان الإمام قد كتب ـ قبل ذلك ـ كتابا إلى الأشعري يأمره أن يخرج لمؤازرة الإمام، ولكن الأشعري استمر على رأيه وامتنع عن البيعة، وأظهر العداء الكامن في صدره، فأخبروا الإمام بذلك.
                      فكتب الإمام كتابا إلى الأشعري فيه خبر عزله عن الحكم والتهديد إن لم يعتزل، وكتاباً آخر إلى أهل الكوفة يذكر لهم فيه عما جرى على عثمان، ثم ذكر بيعة الناس له ومن جملتهم طلحة والزبير، ثم نكثهما البيعة وخروجهما ضد الإمام (عليه السلام).
                      وقبل وصول هذين الكتابين كان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد جاءوا إلى الكوفة وخطبوا في الناس الخطب المفصلة المطولة، يحثون الناس على نصرة الإمام.
                      فكان الأشعري يقوم ويخطب وينقض كلامهم ويخذل الناس ويأمرهم باعتزال الفتنة وعدم الخوض في المعركة.
                      وانقضت أيام وأيام والأمر هكذا في الكوفة وأمير المؤمنين ينتظر المدد وهو في أرض يقال لها: (ذو قار) واليوم يقال لها: (المقيرة) وهي قريب الناصرية في طريق البصرة.
                      وأخيرا خرج البطل الضرغام مالك الأشتر وأقبل إلى الكوفة ودخلها وهجم على دار الإمارة واستولى عليها، وأخرج غلمان أبي موسى منها.
                      كانت الحرب الباردة قائمة في المسجد بين الأشعري وبين أصحاب الإمام وإذا بغلمان الأشعري دخلوا المسجد، وهم ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر.
                      ودخل أصحاب الأشتر وصاحوا: أخرج من المسجد، يا ويلك أخرج الله روحك، إنك والله من المنافقين.
                      خرج أبو موسى معزولاً خائباً مخذولاً، وأراد الناس أن ينهبوا أمواله فمنعهم الأشتر.
                      وأقبل الأشتر فصعد المنبر وقال: وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا، وأعظمهم في الإسلام سهما،ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم كتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفركم، فما تنتظرون؟ أسعيداً؟ أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر؟ واستباح ما حرمه الله فيكم.
                      أي هذين الرجلين تريدون؟ قبح الله من له هذا الرأي!! فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم، ولا يختلف رجل له قوة، فو الله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه، وإني لكم ناصح شفيق عليكم إن كنتم تعقلون، أو تبصرون.


                      تعليق


                      • #12
                        أصبحوا إن شاء الله غدا غادين مستعدين، وهذا وجهي إلى ما هناك بالوفاء.
                        ثم قام ابن عباس وعزل الأشعري عن الولاية وخلعه عنها، وجعل قرضة بن كعب، فلم يبرحوا من الكوفة حتى سيروا سبعة آلاف رجل والتحقوا بأمير المؤمنين في ذي قار.
                        والتحق به قبل ذلك ألفان من قبيلة طي، وخرج الإمام (عليه السلام) نحو البصرة.
                        وكانت عائشة وطلحة والزبير ومن معهم قد وصلوا إلى البصرة قبل ذلك، وتعجب الناس من قدومهم إلى البصرة للطلب بدم عثمان المقتول في المدينة.
                        وسمع عثمان بن حنيف (والي البصرة) بوصول القوم، فأرسل إليهم أبا الأسود الدؤلي وعمران بن حصين للتحقيق، فدخلا على عائشة وقالا لها: يا أم المؤمنين ما حملك على المسير؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ وأنت حبيبة رسول الله وقد أمرك أن تقري في بيتك؟ فجرى كلام وجدال طويل بين عائشة والرجلين، وكلما خوفاها من إراقة دماء المسلمين وإفساد الأمر قابلتهم بكل صلابة وحدة.
                        ودخلا على طلحة فلم يسمعا منه إلا الكلام القبيح والطرد، ثم السب لأمير المؤمنين (عليه السلام).
                        استعدت عائشة للحرب، وخرجت بمن معها إلى محلة في البصرة يقال لها (المربد) وخطبت في أهل البصرة خطبة فنعت عثمان وتأسفت على قتله ثم ذكرت عليا وبيعته وأفرطت في كلامها ثم طلبت من أهل البصرة نقض خلافة الإمام فصدقها ناس وكذبها ناس، واضطرب الناس بأقوالهم، واشتغلوا بالسب والشتم واللعن، وتوجهت عائشة إلى دار الإمارة وطلبوا من عثمان بن حنيف أن يسلم إليهم دار الإمارة فأبى عليهم، واشتعلت نار الحرب حتى الظهر وقتل في تلك الواقعة خمسمائة شيخ من بني عبد القيس من شيعة علي وأنصار عثمان بن حنيف سوى الجرحى، واستمرت الحرب في البصرة وكثر القتلى والجرحى، ودخل بعض الناس وقرروا الهدنة، فتم القرار على: أن تكون دار الإمارة والمسجد وبيوت المال تحت اختيار عثمان بن حنيف، وتكون البصرة تحت حيازة طلحة والزبير وعائشة، وكتبوا على هذه المصالحة كتابا وشهد الناس على ذلك، ولما أمن الناس واطمئنوا وألقوا سلاحهم أقبل طلحة والزبير وأصحابهما حتى أتوا دار الإمارة على حين غفلة وكان خمسون رجلا يحرسون بيوت الأموال وهم من شيعة علي أحاط الزبير بهؤلاء وقتل منهم أربعين رجلا صبرا ثم هجموا على عثمان بن حنيف فأوثقوه رباطا، وعمدوا إلى لحيته فنتفوا لحيته حتى لم يبق منها شعرة واحدة ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وأوثقوه بالحديد.
                        وأصبح الصباح فجاء طلحة والزبير إلى المسجد الأعظم لأداء صلاة الصبح جماعة فأراد طلحة أن يتقدم ويصلي بالناس فدفعه الزبير، وأراد الزبير أن يصلي فمنعه طلحة، استمر النزاع والتدافع بين الإمامين!!! حتى كادت الشمس أن تطلع فصاح الناس: الله الله يا أصحاب رسول الله! في الصلاة نخاف فوتها!! فأمرت عائشة أن يصلي مروان بالناس وأخيرا تقدم ابن الزبير وصلى بالمسلمين.
                        انتشر خبر قتل الحرس وإلقاء القبض على عثمان، فأقبل حكيم بن جبلة إلى عشيرته فحثهم على النهوض وجاء طلحة والزبير وشبت النار مرة ثانية وقتل حكيم بن جبلة وأخوه وعدد من الناس، واستولى طلحة والزبير على بيوت الأموال ونصبا الأقفال على أبواب بيوت الأموال، فأمرت عائشة بختم بيت المال، وختم كل من طلحة والزبير وعائشة بختم على بيوت الأموال.
                        انقضت أيام وعائشة وطلحة والزبير يخطبون في الناس ويهيجونهم ويحذرونهم من علي (عليه السلام) وقد كان ينتهي كلامهم إلى ذم الإمام وسبه وأرسلت عائشة كتبا ورسائل إلى البلاد والأمصار كتبت فيها ما أرادت.
                        ووصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بجيشه الجرار إلى البصرة، ةبلغه الخبر عن المجزرة الرهيبة التي أقامها هؤلاء، فأرسل الإمام صعصعة بن صوحان للتفاهم أو لإتمام الحجة على عائشة والرجلين والتقى بهم صعصعة فلم يسمع منهم إلا التهديد والخشونة في الكلام وأرسل الإمام (عليه السلام) عبد الله بن عباس وأمره أن يلتقي بطلحة والزبير، فلم تنجح مذكرات ابن عباس معهما.
                        كان وصول الجيش العلوي إلى البصرة على أحسن هيئة وأجمل نظام وفيهم المشايخ من أهل بدر المهاجرين والأنصار، وقواد الجيش ومعهم الألوية والرايات، والمواكب يترى بعضها بعضا.
                        وفي الأخير: وصل موكب الإمام وهو موكب عظيم فيه خلق كثير عليهم السلاح والحديد، ومعهم الإمام وعليه الوقار والسكينة ينظر إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، والجنود خلفه كأن على رؤوسهم الطير، والإمام الحسن عن يمينه والإمام الحسين عن شماله، وابنه محمد بن الحنفية بين يديه ومعه الراية.
                        أمر الإمام (عليه السلام) ابن عباس أن يرجع ثانيا إلى عائشة ويذكر لها خروجها من بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويخوفها من الخلاف على الله، والتبرج الذي نهاها الله عنه...الخ.
                        دخل ابن عباس على عائشة وأدى رسالته وذكر فضل علي وسابقته ولكنها لم ترتدع ولم تقتنع ورجع ابن عباس إلى الزبير ووجده وحده وجعل يلين له الكلام ويخوفه من عواقب أعماله، ويلومه على إسراعه في الخلاف فجاء عبد الله بن الزبير، وكان شابا شرسا قليل الحياء متهورا، وقابل ابن عباس بكل صلافة وكانت المباحثات بلا جدوى ولا فائدة، واستعد الفريقان للحرب.
                        كان كعب بن سور سيد الأزد قد امتنع عن الخوض في المعركة فجاء طلحة والزبير إلى عائشة وطلبا منها أن تتوجه بنفسها إلى كعب وتطلب منه المؤازرة والتعاون معها، فأرسلت عائشة إليه تطلب منه الحضور فلم يجبها كعب، فركبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وسارت إلى كعب وسألته عن سبب امتناعه فقال: يا أماه لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة.
                        فاستعبرت عائشة باكية وطلبت منه أن ينصرها، فرق لها كعب وأجابها وعلق المصحف في عنقه وخرج معها.
                        اشتركت العشائر والقبائل من المدينة إلى الكوفة إلى طي إلى أهل البصرة في نصرة الإمام.
                        وكان خطباء الفريقين يخطبون في قومهم ويحرضونهم على الحرب.
                        ساحة القتال:
                        كانت ساحة القتال في الخريبة، وهي ـ اليوم ـ بين الزبير والبصرة ويقال لها: (الخر) وهناك قبر طلحة.
                        اصطف الفريقان للقتال، وكتب كل منهما الكتائب وخرج علي (عليه السلام) وعليه عمامة سوداء وقميص ورداء وهو راكب على بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الشهباء.
                        وجاءت عائشة وهي في هودج على بعير وعن يمينها وشمالها طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير وخلفها الذين رافقوها من مكة وانضموا إليها في البصرة.
                        كان النشاط في أصحاب علي أكثر، وكانوا يريدون الهجوم على العدو، لكن الإمام كان يمنعهم ويقول لهم: لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم، فقام إليهم وقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا.
                        قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا.
                        قال فرغبة في دنيا أصبتها لي ولأهل بيتي دونكم، فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا:لا.
                        قال: فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث؟ إني ضربت الأمر أنفه وعينه ولم أجد إلا الكفر أو السيف، ثم التفت إلى أصحابه وقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون)(1).
                        ثم قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة واصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت هذه الآية، تم التفت إلى ابن عباس وقال له: امض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلى ما فيه.
                        جاء ابن عباس فبدأ بالزبير وقال له: إن أمير المؤمنين يقول ألم تبايعني طائعا؟ فبم تستحل دمي؟ وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه؟ فقال الزبير: ارجع إلى صاحبك، فإنا بايعنا كارهين وما لي حاجة في محاكمته.
                        انصرف ابن عباس إلى طلحة، فوجد فيه الاستعداد للشر والحرب، فقال له ابن عباس: والله ما أنصفتم رسول الله إذ حبستم نساءكم وأخرجتم حبيسة رسول الله؟! ونادى طلحة: ناجزوا القوم، فإنكم لا تقومون لحجاج ابن أبي طالب.
                        رجع ابن عباس وأخبره بالنتيجة السلبية وقال للإمام: ما تنتظر؟ والله لا يعطيك القوم إلا السيف، فأحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك.
                        فقال أمير المؤمنين: نستظهر بالله عليهم، وهناك خرج أمير المؤمنين بين الصفين ونادى بأعلى صوته: أين الزبير؟ فليخرج ثم نادى ثانيا، وكان طلحة والزبير واقفين أمام صفيهما، فخرج الزبير، وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه، فصاح به أصحابه يا أمير المؤمنين: أتخرج إلى الزبير ـ الناكث بيعته ـ وأنت حاسر؟ وهو على فرس شاكي السلاح، مدجج في الحديد وأنت بلا سلاح؟ فقال أمير المؤمنين: ليس علي منه بأس، إن علي منه جنة واقية، لن يستطيع أحد فرارا من أجله، وإني لا أموت، ولا أقتل إلا بيد أشقاها، كما عقر ناقة الله أشقى ثمود.
                        فخرج إليه الزبير فقال (عليه السلام): أين طلحة؟ ليخرج.
                        فخرج طلحة.
                        وقربا منه (عليه السلام)، حتى اختلفت أعناق دابتهما، فقال أمير المؤمنين للزبير: ما حملك على ما صنعت؟ فقال الزبير: الطلب بدم عثمان.
                        فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أن تقيد من نفسك.
                        ولكن أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل الفرقان على نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله): أما تذكر يوما قال لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يا زبير: أتحب عليا؟ فقلت: وما يمنعني عن حبه وهو ابن خالي؟ فقال لك رسول الله: أما أنت فستخرج عليه يوما وأنت له ظالم؟ فقال له الزبير: اللهم بلى قد كان ذلك.
                        فقال أمير المؤمنين: فأنشدك الله الذي أنزل الفرقان على نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله) أما تذكر يوما جاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من عند ابن عوف، وأنت معه، وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلمت عليه فضحك في وجهي، فضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لايدع ابن أبي طالب زهوه أبدا.
                        فقال لك النبي (صلّى الله عليه وآله): مهلا يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجن عليه يوما وأنت ظالم له؟! فقال الزبير: الهم بلى، ولكن نسيت، فأنا إذا ذكرتني ذلك فلأنصرفن عنك ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك.
                        ثم التفت إليهما معا وقال: نشدتكما الله أتعلمان وأولوا العلم من أصحاب محمد وعائشة بنت أبي بكر: أن أصحاب الجمل، وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد (صلّى الله عليه وآله) وقد خاب من افترى؟ فقال الزبير: كيف نكون ملعونين ونحن من أهل الجنة؟ فقال أمير المؤمنين: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم.
                        فقال الزبير: أما سمعت رسول الله يقول يوم أحد: أوجب طلحة الجنة؟ ومن أراد أن ينظر إلى الشهيد يمشي على الأرض حيا فلينظر إلى طلحة؟ أوما سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ فقال أمير المؤمنين: فسمهم.
                        فجعل الزبير يعد تسعة منهم، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل.
                        فقال أمير المؤمنين: عددت تسعة منهم فمن العاشر؟ فقال الزبير: أنت.
                        فقال أمير المؤمنين: أما أنت فقد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فإني به لمن الجاحدين،والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد عهد النبي الأمي إلي أن بعض من سميت في تابوت في جب في أسفل درك من جهنم، وفي نسخة: إن في جهنم جبا، فيه ستة من الأولين وستة من الآخرين، على رأس ذلك الجب صخرة، إذا أراد الله تعالى أن يسعر جهنم على أهلها أمر بتلك الصخرة فرفعت، وإن في ذلك الجب من سميت، وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي بيدك، وإلا فأظفرني الله بك وبأصحابك.
                        فقال أمير المؤمنين: دع هذا، أفلست بايعتني طائعا؟ فقال الزبير: بلى.
                        فقال أمير المؤمنين: أفوجدت مني حدثا يوجب مفارقتي؟ فسكت الزبير ثم قال: لا جرم والله لأقاتلنك! ثم التفت (عليه السلام) إلى طلحة وقال:يا طلحة: معكما نساؤكما؟ فقال طلحة: لا.
                        فقال أمير المؤمنين: عمدتما إلى امرأة موضعها في كتاب الله القعود في بيتها، فأبرزتماها! وصنتما حلائلكما في الخيام والحجال؟ ما أنصفتما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أمر الله أن لا يكلمن إلا من وراء حجاب.
                        أخبرني عن صلاة ابن الزبير بكما، أما يرضى أحدكما بصاحبه؟ أخبرني عن دعائكما الأعراب إلى قتالي؟ ما يحملكما على ذلك؟ فقال طلحة: يا هذا، كنا في الشورى ستة، مات منا واحد، وقتل آخر، فنحن اليوم أربعة، كلنا لك كاره.
                        فقال أمير المؤمنين: ليس ذلك علي، قد كنا في الشورى والأمر في يد غيرنا، وهو اليوم في يدي أرأيت لو أردت بعد ما بايعت عثمان أن أرجُ هذا الأمر شورى أكان ذلك لي؟ فقال طلحة: لا.
                        فقال أمير المؤمنين: ولم؟ فقال طلحة: لأنك بايعت عثمان طائعا.
                        فقال أمير المؤمنين: وكيف ذلك؟ والأنصار معهم السيوف مخترطة، يقولون: لئن زغتم وبايعتم واحدا منكم، وإلا ضربنا أعناقكم أجمعين؟؟ فهل قال لك ولأصحابك أحد شيئا من هذا وقت ما بايعتماني؟ وحجتي في الاستكراه في البيعة أوضح من حجتك وقد بايعتني أنت وأصحابك طائعين غير مكرهين، وكنتما أول من فعل ذلك ولم يقل أحد: لتبايعان أو لنقتلكما؟ ثم انصرف الرجلان إلى صفهما، فأراد الزبير الخروج من الحرب، والانصراف إلى البصرة، فقال له طلحة: ما لك يا زبير؟ ما لك تنصرف عنا؟ سحرك ابن أبي طالب؟ فقال الزبير: لا، ولكن ذكرني ما كان أنسانيه الدهر، واحتج علي ببيعتي له.
                        فقال طلحة: لا، ولكن جبنت وانتفخ سحرك!! فقال الزبير: لم أجبن، ولكن أذكرت فذكرت.
                        فقالت عائشة: ما ورائك يا أبا عبد الله؟ فقال الزبير: والله ورائي؟ إني ما وقفت موقفا في شرك ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة وأنا اليوم على شك من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.
                        فقالت عائشة: لا والله، بل خفت سيوف ابن أبي طالب، أما إنها طوال حداد، تحملها سواعد أمجاد، ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلك.
                        فقال عبد الله بن الزبير: جبنا جبنا!! فقال الزبير: يا بني قد علم الناس إني لست بجبان، ولكن ذكرني علي شيئا سمعته من رسول الله، فحلفت أن لا أقاتله.
                        فقال عبد الله بن الزبير: يا أبة أجئت بهذين العسكرين العظيمين حتى إذا اصطفا للحرب، قلت: أتركهما وأنصرف فما تقول قريش غدا بالمدينة؟ الله الله يا أبة: لا تشمت بنا الأعداء، ولا تشن نفسك بالهزيمة قبل القتال.
                        فقال الزبير: ما أصنع يا بني وقد حلفت أن لا أقاتله؟ فقال عبد الله بن الزبير:كفر عن يمينك، ولا تفسد أمرنا!! فقال الزبير: عبدي مكحول حر لوجه الله، كفارة ليميني!! ثم عاد معهم للقتال.
                        فعند ذلك أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) المصحف بيده، وطلب من يقرأ عليهم هذه الآية: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)(2).
                        فقام غلام حدث السن وأخذ المصحف ووقف أمام الصفوف وقال هذا كتاب الله، وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه، فأمرت عائشة بإعدامه فقطعوا يديه ثم أحاطوا به وطعنوه بالرماح من جانب وكانت أمه واقفة تنظر فصاحت وطرحت نفسها على ولدها.
                        كان الإمام ينتظر وقت الظهر لنزول الملائكة وكان يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وكفكم عنهم حجة أخرى فإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، فإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعفاء القوى والأنفس و العقول...الخ.
                        كانت السهام تترى على الإمام وأصحابه كالمطر!! فصاح الناس: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلون رجلا رجلا والله قد أعذرت أن كنت تريد الإعذار!!! هناك دعا الإمام ابنه محمد بن الحنفية فأعطاه الراية وهي راية سوداء كبيرة وهي راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال (عليه السلام) له: يا بني هذه الراية ما ردت قط ولا ترد قط!! ثم لبس الإمام درع رسول الله، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته، ثم قال الإمام لولده محمد بن الحنفية: يا أبا القاسم قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوي! وذلك أني لم أبارز أحدا إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى ـ بظهورك عليهم! وأعطاه تعاليم حربية.
                        وزحف أصحاب الجمل نحو معسكر الإمام فصاح الإمام بابنه محمد: امض، فمضى.
                        وتبعه أصحابه واشتعل القتال.
                        وأقبل الإمام يهرول وبيده السيف يصعد وينزل فتطير الرؤوس وتطيح الأيدي ولا يتلطخ السيف بالدم لسرعة اليد وسبق السيف الدم!! وزحف الجيش خلفه.
                        وحمل عمار بن ياسر على الميسرة، ومالك الأشتر على الميمنة وحملوا حملة رجل واحد، ونادى الإمام: عليكم بالسيوف.
                        فجعلوا يضربون بالسيوف على الرؤوس ثم نادى المنادي: عليكم بالأقدام.
                        كان للفريقين أراجيز كثيرة جداً مذكورة في محلها وقد ذكرنا شيئاً منها في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.
                        وقتل طلحة في ذلك اليوم ولم يعرف قاتله، قيل: إن مروان بن الحكم رماه بسهم فقتله يطلب بذلك ثأر عثمان وكان أهل البصرة كل من أراد منهم القتال أخذ بخطام الجمل وارتجز وقاتل حتى قتل.
                        فخرج كعب بن سور فأخذ بخطام الجمل وهو يرتجز ويقول:

                        يا معشر الأزد علـــيكم أمكمفإنها صـــــــلاتكم وصومكم


                        والنعمة العظمى التي تعمكمفأحضـــروها جدكم وحزمكم


                        لا يغلبن ســــم العدو سمكمإن العـــــــدو إن علاكم رمكم


                        وخصكم بجوره وعـــــمكملا تفضحوا اليوم فداكم قومكم

                        فقاتل حتى قتل.
                        فخرج رجل آخر فأخذ بخطام الجمل وقال: يا أم يا أم خلا مني الوطن لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن من هيهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم علي فالغبن أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذن أمت بطول هم وحزن.
                        وغير ذلك من الأراجيز المذكورة في كتب التاريخ، واشتعلت النار، واستعر القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا فصاح علي (عليه السلام) ما أراه بقاتلكم غير هذا الهودج، إعقروا الجمل أو عرقبوه، فإنه شيطان، أو: اعقروه وإلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوى هذا البعير إلى الأرض.
                        فضرب عجز الجمل فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب، وسقط الهودج، فصاح الإمام إقطعوا البطان.
                        فقطع محمد بن الحنفية البطان وأخرج الهودج فقالت عائشة من أنت؟ فقال محمد: أبغض أهلك إليك.
                        فقالت عائشة: ابن الخثعمية؟ فقال محمد: نعم، ولم تكن دون أمهاتك! فقالت عائشة: لعمري بل هي شريفة، دع عنك هذا، الحمد لله الذي سلمك.
                        فقال محمد: قد كان ذلك ما تكرهين.
                        فقالت عائشة: يا أخي لو كرهته ما قلت ما قلت فقال محمد: كنت تحبين الظفر وأني قتلت؟ فقالت عائشة: قد كنت أحب ذلك ولكنه لما صرنا إلى ما صرنا إليه أحببت سلامتك لقرابتي منك فاكفف، ولا تعقب الأمور، وخذ الظاهر ولا تكن لومة ولا عذلة، فإن أباك لم يكن لومة ولا عذلة.
                        وجاء علي فقرع الهودج برمحه وقال: يا شقيراء بهذا أوصاك رسول الله؟ فقلت عائشة: يا ابن أبي طالب ملكت فاصفح وظفرت فاسجح.
                        فقال أمير المؤمنين والله ما أدري متى أشتفي غيظي؟ أحين أقدر على الانتقام فيقال لي: لو عفوت أم حين أعجز من الانتقام فيقال لي: لو صبرت!! بلى أصبر فإن لكل شيء زكاة، وزكاة القدرة والمكنة: العفو والصفح.
                        ثم التفت (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر وقال: شأنك بأختك فلا يدنو منها أحد سواك.
                        فأمر (عليه السلام) فاحتملت عائشة بهودجها إلى دار عبد الله بن خلف في البصرة، وأمر بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح وقال (عليه السلام) إشارة إلى الجمل: لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم تلى: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا)(3).
                        ركبت عائشة وهي تقول: فخرتم وغلبتم، وكان أمر الله قدرا مقدورا، ونادى أمير المؤمنين: يا محمد بن أبي بكر سلها هل وصل إليها شيء من الرماح و السهام؟ فسألها فقالت: نعم وصل إلي سهم، خدش رأسي وسلمت من غيره، الله بيني وبينكم.
                        فقال محمد: والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أمير المؤمنين حين تخرجين عليه؟ وتؤلبين الناس على قتاله؟ وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك؟ فقالت عائشة: دعنا يا محمد وقل لصاحبك يحرسني.
                        فأمر الإمام أن يحملها أخوها إلى دار ابن خلف في البصرة، فحملها وهي لا تفتر عن سب الإمام وسب أخيها محمد بن أبي بكر والترحم على أصحاب الجمل.
                        ومر الإمام على القتلى وجعل يخاطبهم ويعاتبهم، وخاطب كعبا وطلحة بعد قتلهما فقيل له: أتكلم هؤلاء بعد القتل؟ فقال: والله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله يوم بدر.
                        ثم نادى منادي الإمام: من أحب أن يواري قتيله فليواره.
                        وأمر أصحابه وقال لهم: قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها فإنهم يحشرون على الشهادة وإني لشاهد لهم بالوفاء.
                        فجاء ابن عباس يطلب الأمان لمروان بن الحكم فأمره الإمام بإحضار مروان فلما حضر قال له الإمام أتبايع؟ فقال مروان: نعم وفي النفس ما فيها!! فقال الإمام: الله أعلم بما في القلوب.
                        فلما بسط يده ليبايعه أخذ كفه من كف مروان وجذبها، وقال: لا حاجة لي فيها، إنها كف يهودية، لو بايعني بيده عشرين مرة لنكث بإسته، ثم قال: هيه يا بن الحكم: خفت على رأسك أن تقع في هذه المعمعة؟ كلا والله حتى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الأمة خسفا ويسقونهم كأسا مصبرة.
                        أما الزبير فإنه خرج من المعركة ووصل إلى منطقة في ضواحي البصرة يقال لها (وادي السباع) فقتله عمر بن جرموز وأخذ رأسه وسيفه وخاتمه وجاء بها إلى معسكر الإمام واستأذن ودخل وإذا به يرى القائد الأعلى للمسلمين جالسا وبين يديه ترس عليه أقراص من الطعام الشعير، فسلم عليه، وهنأه بالفتح عن الأحنف، لأن الحرب كانت قد وضعت أوزارها حينئذ، وقال: أنا رسول الأحنف، وقد قتلت الزبير، وهذا رأسه وسيفه، فألقاهما بين يديه، فقال (عليه السلام) كيف قتلته؟ وما كان من أمره؟ فحدثنا كيف كان صنعك به؟ فقص عليه ما جرى فقال: ناولني سيفه.
                        فناوله سيفه، فاستلّه وهزه.
                        وقال: سيف أعرفه، سيف طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
                        ثم التفت علي (عليه السلام) إلى ابن جرموز قائلاً: والله ما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولكن الحين ومصارع السوء.
                        ثم تفرس في وجه الزبير وقال: لقد كان لك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) صحبة ومنه قرابة، ولكن دخل الشيطان منخرك فأوردك هذا المورد.
                        فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين.
                        فقال (عليه السلام): أما إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار.
                        وقبض أمير المؤمنين (عليه السلام) ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع فقسمه بين أصحابه، فقال بعض أصحابه: أقسم بيننا أهل البصرة، فاجعلهم رقيقا.
                        فقال: لا.
                        فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم؟ فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام؟ وأما ما جلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شيء منه.
                        فلما أكثروا عليه قال: فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة!! فقالوا: نستغفر الله يا أمير المؤمنين ثم انصرفوا.
                        فلما دخل (عليه السلام) بيت المال في نفر من المهاجرين والأنصار، ونظر إلى كثرة ما فيه قال: غري غيري: مرارا، ثم نظر إلى المال، وصعد وصوب بصره، وقال: أقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره، وكان مقدار المال ستة ملايين، وعدد أصحابه اثني عشر ألف رجل.
                        وأخذ هو خمسمائة درهم كواحد منهم، فجاءه رجل لم يحضر الواقعة فقال: يا أمير المؤمنين: كنت شاهدا بقلبي، وإن غاب عنك جسمي فأعطني من الفيء شيئا، فدفع إليه الذي أخذه لنفسه، ولم يصب من الفيء شيئا.
                        وفي رواية أخرى: جاء رجل فقال: إن اسمي سقط من كتابك فقال (عليه السلام): ردوها عليه، ثم قال: الحمد لله الذي لم يصل إلي من هذا المال شيء.
                        ولما فرغ من تقسيم بيت المال قام خطيبا في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إني أحمد الله على نعمة، قتل طلحة والزبير وأيم الله لو كانت عائشة طلبت حقا، وهانت باطلا، لكان لها في بيتها مأوى، وما فرض الله عليها الجهاد، وأن أول خطأها في نفسها، وما كانت والله على القوم أشأم من ناقة الصخرة، وما ازداد عدوكم إلا حقدا وما زادهم الشيطان إلا طغيانا ولقد جاءوا مبطلين وأدبروا ظالمين إن إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا يرجون مغفرة الله، وإننا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل واستغفر الله لي ولكم.
                        أرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) ابن عباس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل، وقلة العرجة ـ الإقامة ـ فجاءها ابن عباس وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة، فطلب الإذن عليها فلم تأذن له، فجاء ابن عباس ودخل عليها بغير إذنها فإذا بيت قفار لم يعد له فيه مجلس، فإذا هي من وراء سترين، نظر ابن عباس إلى ما في الحجرة، فوقع بصره على طنفسة على رحل، فمد الطنفسة وجلس عليها، فقالت عائشة من وراء الستر يا بن عباس أخطأت السنة: دخلت بيتنا بغير إذننا، وجلست على متاعنا بغير إذننا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.
                        فقال ابن عباس: نحن أولى بالسنة منك، ونحن علمناك السنة وإنما بيتك الذي خلفك فيه رسول الله فخرجت منه ظالمة لنفسك، غاشة لدينك، عاتية على ربك، عاصية لرسول الله، فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلا بإذنك، ولم نجلس على متاعك إلا بأمرك، إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعث يأمرك بالرحيل إلى المدينة وقلة العرجة.
                        فقالت عائشة: رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب.
                        فقال ابن عباس: هذا والله أمير المؤمنين، وإن تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله لهو أمير المؤمنين، وأمس برسول الله رحما، وأقرب قرابة، وأقدم سبقا وأكثر علما، وأعلى منارا، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر.
                        فقالت عائشة: أبيت ذلك.
                        فقال ابن عباس: أما والله إن كان إباؤك ـ عدم قبولك ـ فيه لقصير المدة، عظيم التبعة، ظاهر الشؤم، بين النكر، وما كان إباؤك فيه إلا حلب شاة حتى صرت ما تأمرين ولا تنهين ولا تعرفين ولا تضعين، وما كان مثلك إلا كمثل ابن الحضرمي ابن يحمان أخي بني أسد حيث يقول:

                        ما ذاك ‍‍‍‍‍‍‍إهداء القصائد بينناشتم الصديق وكثرة الألقاب


                        حتى تركتهم كأن قلــــوبهمفـــي كل مجمعة طنين ذباب

                        سمعت عائشة فأراقت دمعتها، وبدا عويلها ثم قالت: أخرج والله عنكم، فما في الأرض بلد أبغض إلي من بلد تكونون فيه.
                        فقال ابن عباس: فلم؟ والله ماذا بلاؤنا عندك، ولا يضعنا إليك، إنا جعلناك للمؤمنين أماً، وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي قحافة: حامل قصاع الودك لابن جذعان إلى أضيافه.
                        فقالت عائشة: يا بن عباس تمنّون علي برسول الله؟!
                        ‍فقال ابن عباس: ولم لا نمن عليك بمن لو كان منك قلامة منه مننتنا به؟ونحن لحمه ودمه ومنه، وما أنت إلا حشية من حشايا تسع، خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا بأحسنهن وجها ولا بأرشحهن عرقا، ولا بأنضرهن ورقاً، ولا بأضهرهن أصلا،ً صرت تأمرين فتطاعين وتدعين فتجابين وما مثلك إلا كما قال أخو بني فهر:

                        مننت على قومي فابــــدوا عداوةفقــــــلت لهم: كفوا العداوة والشكرا


                        ففيه رضا من مثلـــــــكم لصديقكموأحجى بكم أن تجمعوا البغي والكفرا

                        ثم نهض ابن عباس وأتى أمير المؤمنين فأخبره بمقالتها، وما رد عليها فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أما لو كنت أعلم بك حيث بعثتك.
                        استمرت الحرب من الزوال إلى الغروب، وقيل استمرت ثلاثة أيام.
                        وعلى كل فقد بلغ عدد القتلى خمسة وعشرين ألف قتيل.
                        ستة آلاف من أصحاب الإمام والباقون من أصحاب الجمل، وأما الأيدي والأرجل التي قطعت فقد بلغ عددها أربعة عشر ألفا.
                        هكذا تروت الأرض بالدماء، وهكذا زهقت الأرواح ولا تسأل عن الجرحى ولا تسأل عن أرامل القتلى ويتاماهم.
                        هذا والكلام طويل وفي هذا المقدار كفاية.

                        (1) سورة التوبة، الآية: 12.
                        (2) سورة الحجرات، الآية: 9.
                        (3) سورة طه، الآية: 97.

                        تعليق


                        • #13
                          الليلة الخامسة عشرة
                          علي (عليه السلام) في صفين
                          بسم الله الرحمن الرحيم
                          حديثنا الليلة حول الحرب الثانية التي وقعت في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي واقعة صفين، تلك المجزرة الرهيبة، التي تقشعر الجلود من استماع الحوادث، والفجائع التي وقعت في تلك المعركة، وضياع الحق وغلبة الباطل عن طريق الخدعة والغدر والمكر والتزوير، وتتجلى صحيفة أمير المؤمنين نقية بيضاء متلألئة، وتتمثل فيها العدالة والتقوى والورع، نذكرها في صورة موجزة: لما انتهت غزوة الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة مظفرا منصورا، بعث كتابا إلى معاوية يأمره بأخذ البيعة له (عليه السلام)، وبعث الكتاب بيد رجل إلى الشام، وجمع معاوية بعض مشاهير الشام وأمرهم بإشاعة هذا الخبر وإذاعته فيما بين الناس: (أن عليا قتل عثمان، ومعاوية ولي دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه)9 وأعانه على هذه الفكرة عمرو بن العاص واشترط على معاوية أنه إذا بايعه وأعانه على حرب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخرجوا مصر من تحت سلطة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون عمرو بن العاص والياً وأميراً على مصر، فبايعه على ذلك وبايع أهل الشام معاوية أيضا.
                          فنهض معاوية بجيشه الجرار وأقبل إلى (صفين)، وهو اسم أرض كبيرة واسعة، مستعداً للقتال ونهض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعسكره إلى ذلك المكان وبعد أيام من وصوله استعرت نار الحرب فيما بين الفريقين وجرت أنهار من الدماء، وتكونت أتلال وجبال من الأجساد المضرجة من القتلى من الفريقين.
                          فقد وصل أبو الأعور السلمي وهو على مقدمة جيش معاوية إلى منطقة صفين، الكائنة بالقرب من مدينة الرقة في سوريا، ونزلا منزلا اختاروه واسعا واستولوا على شريعة الفرات.
                          فوصل مالك الأشتر ومعه أربعة آلاف رجل وهم مقدمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولى معاوية وأصحابه على شاطئ الفرات وصار الماء لديهم فوصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام الجيش أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرع بعضهم إلى ناحية معاوية واقتتلوا قتالا قليلا.
                          وتقدم طائفة من الناس إلى الفرات ليستقوا فمنعهم أهل الشام فأرسل الإمام (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلى معاوية رسولا يعاتبه على تسرعه بالاستيلاء على الماء وجرى هنا كلام طويل.
                          كان عمرو بن العاص ينصح معاوية ويأمره أن يفسح المجال لأصحاب علي ليشربوا، ولكن غرور معاوية منعه عن قبول النصيحة، وخاصة بعد أن استولى أصحابه استيلاء تاما على الفرات، حتى قال معاوية: يا أهل الشام هذا أول الظفر، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه حتى يقتلوا بأجمعهم.
                          وتباشر أهل الشام من هذه البشرى السارة وهي التغلب على العدو عن طريق حبس الماء، فقام رجل من أهل الشام همداني متعبد وقال: يا معاوية سبحان الله سبقتم القوم إلى الفرات وتمنعونهم الماء؟ أما الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟؟ هذا والله أول الجور.
                          فأغلط له معاوية في الكلام وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو وقابله بالكلام الخشن، فسار الهمذاني في سواد الليل حتى لحق بعلي (عليه السلام).
                          ومكث أصحاب علي (عليه السلام) يوما وليلة بغير ماء، واغتم الإمام (عليه السلام) من عطش أصحابه، لأنهم باتوا في البر عطاشا، قد حيل بينهم وبين الورود إلى الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا، هو وتسعون من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دعهم يشربون وتشرب.
                          فقال معاوية: لا والله أو يموتون عطشا كما مات عثما‍‍‍‍‍‍‍ن.
                          وخرج الإمام في تلك الليلة يدور في عسكره فسمع قائلا يقول:
                          أيمنـعنا القوم ماء الفرات؟ وفيــــــنا علي وفينا الهدى
                          وفينا الصلاة وفينا الصياموفينا المناجون تحت الدجى
                          ثم مر بآخر فسمعه يقول:
                          أيمنعنا القوم ماء الفرات؟وفينا الرماح وفينا الحجف
                          وفينا علي له صـــــولة..إذا خـوفوه الردى لم يخف
                          ونحن غداة لقينا الزبـــيروطلحــة خضنا غمار التلف
                          فما بالنا أمس أسد العرينوما بالنا اليوم شاء عجف
                          وألقي على الأشعث رقعة فيها شعر، فلما قرأها هاجت فيه الحمية، ودخل على الإمام.
                          فقال: يا أمير المؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت.
                          فقال الإمام: ذلك إليكم.
                          فرجع الأشعث فنادى في الناس: من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا، فإني ناهض.
                          فخرج اثنا عشر ألف رجل من قبيلة كندة وغيرهم، واضعي سيوفهم على عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله فحملوا على الفرات حملة رجل واحد وأخذت السيوف أهل الشام، فولوا مدبرين حتى غمست خيل أمير المؤمنين سنابكها في الفرات واستولوا على الماء، وأزالوا أبا الأعور عن الشريعة وغرقوا منهم بشرا وخيلا، وارتحل معاوية عن ذلك الموضع، ولما صار الماء بأيدهم قالوا: لا والله لا نسقيهم، فأرسل إليهم أمير المؤمنين: أن خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم، وخلوا بينكم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم، وقالوا له: أمنعهم الماء كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، واستأذنه معاوية في وروده المشرعة فأباح الإمام له ذلك.
                          كان الإمام (عليه السلام) يحاول المحافظة على السلم والسلام والأمان كما فعل يوم الجمل فلم يزل يرسل الأفراد إلى معاوية للتفاهم وحسم النزاع وكان معاوية مصرا على الحرب والقتال.
                          وأخيرا اشتعلت نار الحرب واصطدم العسكران، فزحف بعضهم على بعض، وتراموا بالنبال والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت ومشى بعضهم إلى بعض السيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض، وانكسفت الشمس وأمطرت السماء دما، وحملت الأفواج على الأفواج.
                          وحيث أن الحرب كانت قد طالت على الفريقين أراد كل جانب إنهاء الأمر وسئموا البقاء هناك، ولهذا تبادروا إلى القتال واستمرت الحرب ستة وثلاثين ساعة، واقترب الجيش العلوي من مقر قيادة الجيش الأموي وطلب معاوية فرسا لينهزم، وكان أهل الشام ينادون: يا معشر العرب: الله الله في الحرمات من النساء والبنات، الله الله في البقية، لقد فنيت العرب... الخ.
                          اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلى معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
                          فقال الإمام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون.
                          ومن هنا اختلف أصحاب علي، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب.
                          فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها، وكان عدي بن حاتم يرى أن الفتح والنصر قد اقترب، ويطلب من الإمام إدامة الحرب، وقام عمرو بن الحمق وطلب من الإمام أم يعمل بما يرى، فقام الأشعث بن قيس وقابل هؤلاء بالكلام الخشن وطلب كف القتال.
                          فقال الأمام: إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال!!
                          ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.
                          استمرت الحرب من يوم شروعها إلى صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيام وبلغ عدد القتلى من أهل الشام تسعين ألفا ومن أهل العراق عشرين ألفا والمجموع مائة وعشرة آلاف كما ذكره المسعودي.
                          فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد حاملي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من كثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلك خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلها إن لم تجبهم.
                          فقال الإمام (عليه السلام): ويحكم !! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب...
                          ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
                          كان مالك الأشتر في تلك الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية كان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.
                          فصاح هؤلاء: يا أمير المؤمنين ابعث إلى الأشتر ليأتيك.
                          فبعث الإمام رجلا إلى الأشتر: أن ائتني.
                          فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
                          رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر على أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولكن القوم قالوا: يا أمير المؤمنين ما نراك إلا أمرته بالقتال.
                          فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناك!! فذهب الرسول إلى الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما كان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلك الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلك فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتيك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمك إلى عدوك!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها...
                          فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.
                          قالوا: لا نمهلك.
                          جرى كلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلى السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام، فكفوا، فصاح القوم: أم أمير المؤمنين قد رضي المحاكمة بحكم القرآن.
                          كان الإمام ساكتا لا يتكلم، والقوم يتكلمون، ولما سكتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب...
                          إلا: إني أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.
                          اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتكلموا بما تكلموا من الموافقة على رأي الإمام ورفض المحاكمة، ولكن المهرجين نشروا هذه الكلمة: إن أمير المؤمنين رضي التحكيم.
                          ودخل الأشعث بن قيس ـ رأس الفساد ـ واستأذن من الإمام ليكون رسولا إلى معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل على معاوية وقال: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلى ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه.
                          فرجع الأشعث.
                          فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاكروا حول انتخاب (الحكم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أبا موسى الأشعري فرفض الإمام أبا موسى ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضى إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليكون (حكما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.
                          جادل الأشعث بكل وقاحة وصلافة، ورد على الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا على الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وكان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصى ويطاع معاوية؟!
                          أرسلوا إلى أبي موسى وكان في الشام فجاء إلى معسكر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليكون هو الحكم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحكم فوافق الإمام على ذلك، ولكن الناس رفضوا وقالوا: لا يكون إلا أبا موسى.
                          وكتبوا كتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان...
                          فلما قرأ معاوية الكتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الكتاب إلى الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو كلمة (أمير المؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلك، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم...!! فقال الإمام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو...
                          فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك، إني إذن لظالم لك...
                          ولكن أكتب: محمد بن عبد الله.
                          فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم.
                          إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله كتبه إلى آبائهم شبها ومثلا.
                          فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الكتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.
                          فكتبوا الكتاب، وكان في أعلى الكتاب خاتم أمير المؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالكتاب وقرأه على أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتكونت الخوارج وصاحوا: لا حكم إلا لله.
                          فأين قتلانا يا أشعث؟ وحمل بعضهم على الأشعث ليقتله.
                          وأقبل الناس إلى الإمام مستنكرين للحكومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلى الحرب فقال الإمام: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالى قد قال: أوفوا بالعقود؟ وقال: (أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً)(1).
                          فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم على معاوية فقال الإمام (عليه السلام): لو كان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم.
                          توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاكمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومكيدته وسوء سوابقه حتى يتخذ التدابير اللازمة ويكون على بصيرة من أمره، ولكن كان كل هذا بلا جدوى بلى كانت النتيجة معكوسة.
                          اجتمع الحكمان في المكان المعد لهما فقال عمرو: تكلم يا أبا موسى فقال الأشعري: بل أنت تكلم.
                          فقال عمرو: ما كنت لأفعل وأقدم نفسي قبلك، ولك حقوق كلها واجبة...
                          فتكلم أبو موسى فقال عمرو: إن للكلام أولاً وآخراً ومتى تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتى ننسى أوله، فاجعل ما كان من كلام بيننا في كتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبو موسى: اكتب، دعى عمرو بصحيفة وكاتب.
                          وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبد الله بن عمر بن الخطاب.
                          فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس على فعل ذلك فعل.
                          فقال عمرو: فهل لك في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.
                          فذكر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضى بهم.
                          فقال عمرو: قم واخطب.
                          فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.
                          فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته...
                          وقام عمرو وقال: أيها الناس إن أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليكم...
                          فقال الأشعري كذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولكنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل كذب عبد الله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.
                          فقال الأشعري: ما لك؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
                          فقال عمرو: بل إياك يلعن الله، كذبت وغدرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
                          فضرب عمرو أبا موسى فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فركب الأشعري راحلته وتوجه إلى مكة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.

                          (1) سورة النحل، الآية: 91.

                          تعليق


                          • #14
                            علي (عليه السلام) والخوارج
                            بسم الله الرحمن الرحيم
                            لما تقرر التحكيم غادر الإمام (عليه السلام) صفين وقصد نحو الكوفة، وبقي في الكوفة، فوقع تحكيم الحكمين، وأنتج ذلك التحكيم خلع الإمام (عليه السلام) عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تكون مذهب الخوارج وكان الإمام (عليه السلام) ينتظر انقضاء السنة...
                            وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساك قد تكتلوا كتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الكوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله!! وانضمت إليهم جماعة أخرى وهم ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الكوفة والبصرة وغيرها وساروا إلى أن نزلوا الحروراء، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
                            فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ـ ذو الثدية ـ فقالا: لا حكم إلا لله.
                            فقال علي (عليه السلام): كلمة حق يراد بها الباطل.
                            قال ذو الثدية: فتب من خطيئتك، وارجع عن قصتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
                            فقال (عليه السلام): قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(1).
                            قال ذو الثدية: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.
                            فقال (عليه السلام): ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتكم عنه.
                            فقال ابن الكوا: الآن صح عندنا أنك لست بإمام، ولو كنت إماما لما رجعت.
                            فقال (عليه السلام) ويلكم قد رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عام الحديبية عن قتال أهل مكة.
                            وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه! فقال (عليه السلام): بؤساً لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه كان ذلك.
                            بعث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبد الله بن العباس إلى القوم فلم يرتدعوا، فدعى الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب (عليه السلام) إلى حروراء حتى وصل إلى خيمة يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلى يوم القيامة، ثم كلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا أكره إلى التحكيم مني؟ قالوا: صدقت.
                            قال: فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلكم حتى أجبتكم، فأشرطت أن حكمهما: نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني؟
                            فقال ابن الكواء: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كفرنا ولكن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام.
                            فقال (عليه السلام): أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: (فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها)(2)، وفي صيد (كأرنب) يساوي نصف درهم فقال: (يحكم به ذوا عدل منكم).
                            فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسك.
                            فقال (عليه السلام): لي أسوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: هذا ما كتبه محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنك رسو ل الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.
                            فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة.
                            فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال: اكتب محمد بن عبد الله.
                            ثم تبسم إلي وقال: إنك لتسام مثلها فتعطي.
                            فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك.
                            فقال علي (عليه السلام): أستغفر الله من كل ذنب.
                            فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحكيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الكراع ويجيء المال ثم ينهض بنا إلى الشام.
                            فأتى الأشعث عليا (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنك رأيت الحكومة ـ تحكيم الحكمين ـ ضلالاً والإقامة عليها كفراً.
                            فقام علي (عليه السلام) فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحكمين فقد كذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.
                            فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلى النهروان.
                            ووقعت لهم في طريقهم إلى النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبكية ومضحكة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.
                            ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.
                            ورأى أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير.
                            وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبد الله بن خباب الأزدي، فإنه كان راكبا على حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.
                            قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستكون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عند الله المقتول ولا تكن القاتل.
                            قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا.
                            قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثنى خيرا.
                            قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة.
                            قالوا: إنك تتبع الهوى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلى امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلى النهروان وتوجه الإمام (عليه السلام) بجيشه إليهم، فقال (عليه السلام): يا ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.
                            ويحك يا ابن عباس: كفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:
                            ابن عباس: من بنى الإسلام؟
                            عتاب: الله ورسوله.
                            ابن عباس: النبي أحكم أموره وبين حدوده أم لا؟
                            عتاب: بلى.
                            ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟
                            عتاب: بل ارتحل.
                            ابن عباس: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟
                            عتاب: بل بقيت بعده.
                            ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟
                            عتاب: نعم الذرية والصحابة.
                            ابن عباس: فعمروها أو خربوها.
                            عتاب: بل عمروها.
                            ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟
                            عتاب: بل خراب.
                            ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟
                            عتاب: بل أمته.
                            ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟
                            عتاب: من الأمة.
                            ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فكيف ترجو الجنة؟
                            فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع كلامه عسى أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فركب (عليه السلام) في جماعة، ومضى إليهم فركب ابن الكوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام (عليه السلام): يا بن الكوا إن الكلام كثير، فأبرز إلي من أصحابك لأكلمك.
                            فقال: وأنا آمن من سيفك؟ قال (عليه السلام): نعم.
                            فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي (عليه السلام): ألم أقل لكم إن أهل الشام إنما يخدعونكم بها ـ الحكومة ورفع المصاحف وغير ذلك ـ فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ـ ابن عباس ـ وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أبا موسى؟ وقلتم: رضينا به حكما.
                            فأجبتكم كارها؟ ولو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم، وشرطت على الحكمين بحضوركم.
                            أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته.
                            والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ كان ذلك أو لم يكن؟ قال ابن الكواء: صدقت، كان هذا كله، فلم لا نرجع الآن إلى حرب القوم؟ قال الإمام (عليه السلام): حتى تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.
                            قال ابن الكوا: وأنت مجمع على ذلك؟ قال (عليه السلام): نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلى أصحاب علي (عليه السلام) راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله.
                            وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان، وخرج الإمام (عليه السلام) حتى بقي على فرسخين منهم، وكاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يركب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفك فلا تخف منهم.
                            فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أمير المؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو كان حاضراً لكفرناه بها!! ـ والإمام يسمع كلامهم ـ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت كلامهم وأنت أحق بالجواب.
                            فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.
                            قالوا: نقمنا عليك أولا: إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف حل لنا ما في المعسكر ولم يحل لنا النساء؟ فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.
                            قالوا: نقمنا عليك يوم صفين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال (عليه السلام): يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلك الوقت.
                            قالوا: نقمنا عليك.
                            أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.
                            فإذا كنت شاكا في نفسك فنحن فيك أشد وأعظم شكا! قال (عليه السلام): إنما أردت بذلك النصفة ـ الإنصاف ـ فإني لو قلت: أحكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لنصارى نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم.
                            فلم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال: (فنجعل لعنة الله على الكافرين)(3) فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسى.
                            قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكمت حكما في حق هو لك.
                            فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شيء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين فأعطى أمير المؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.
                            فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.
                            وصاحوا: الرواح إلى الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبد الله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال (عليه السلام): (هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)(4) فكان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام (عليه السلام) وخرج عبد الله بن وهب ومالك بن الوضاح، وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتل الوضاح وضرب ضربة على رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم على العدو.
                            عند ذلك استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبد الله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعركة حتى تأتي على أنفسنا ونأتي على نفسك، فأبرز إلي وأبرز إليك، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام كلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولكنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا كاذبا، ثم حمل عليه الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلى خراسان إلى أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلى اليمن وفيهما نسلهما (وهم الإباضية)، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تكريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.
                            وقتل من أصحاب علي (عليه السلام) بعدد من سلم من الخوارج.

                            (1) سورة النحل، الآية: 91.
                            (2) سورة النساء، الآية: 35.
                            (3) سورة آل عمران، الآية: 61.
                            (4) سورة الكهف، الآيتان: 103 و104.

                            تعليق


                            • #15
                              علي (عليه السلام) والخوارج


                              بسم الله الرحمن الرحيم

                              لما تقرر التحكيم غادر الإمام (عليه السلام) صفين وقصد نحو الكوفة، وبقي في الكوفة، فوقع تحكيم الحكمين، وأنتج ذلك التحكيم خلع الإمام (عليه السلام) عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تكون مذهب الخوارج وكان الإمام (عليه السلام) ينتظر انقضاء السنة...
                              وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساك قد تكتلوا كتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الكوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله!! وانضمت إليهم جماعة أخرى وهم ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الكوفة والبصرة وغيرها وساروا إلى أن نزلوا الحروراء، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
                              فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ـ ذو الثدية ـ فقالا: لا حكم إلا لله.
                              فقال علي (عليه السلام): كلمة حق يراد بها الباطل.
                              قال ذو الثدية: فتب من خطيئتك، وارجع عن قصتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
                              فقال (عليه السلام): قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(1).
                              قال ذو الثدية: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.
                              فقال (عليه السلام): ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتكم عنه.
                              فقال ابن الكوا: الآن صح عندنا أنك لست بإمام، ولو كنت إماما لما رجعت.
                              فقال (عليه السلام) ويلكم قد رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عام الحديبية عن قتال أهل مكة.
                              وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه! فقال (عليه السلام): بؤساً لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه كان ذلك.
                              بعث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبد الله بن العباس إلى القوم فلم يرتدعوا، فدعى الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب (عليه السلام) إلى حروراء حتى وصل إلى خيمة يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلى يوم القيامة، ثم كلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا أكره إلى التحكيم مني؟ قالوا: صدقت.
                              قال: فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلكم حتى أجبتكم، فأشرطت أن حكمهما: نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني؟
                              فقال ابن الكواء: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كفرنا ولكن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام.
                              فقال (عليه السلام): أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: (فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها)(2)، وفي صيد (كأرنب) يساوي نصف درهم فقال: (يحكم به ذوا عدل منكم).
                              فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسك.
                              فقال (عليه السلام): لي أسوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: هذا ما كتبه محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنك رسو ل الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.
                              فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة.
                              فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال: اكتب محمد بن عبد الله.
                              ثم تبسم إلي وقال: إنك لتسام مثلها فتعطي.
                              فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك.
                              فقال علي (عليه السلام): أستغفر الله من كل ذنب.
                              فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحكيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الكراع ويجيء المال ثم ينهض بنا إلى الشام.
                              فأتى الأشعث عليا (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنك رأيت الحكومة ـ تحكيم الحكمين ـ ضلالاً والإقامة عليها كفراً.
                              فقام علي (عليه السلام) فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحكمين فقد كذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.
                              فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلى النهروان.
                              ووقعت لهم في طريقهم إلى النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبكية ومضحكة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.
                              ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.
                              ورأى أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير.
                              وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبد الله بن خباب الأزدي، فإنه كان راكبا على حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.
                              قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستكون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عند الله المقتول ولا تكن القاتل.
                              قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا.
                              قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثنى خيرا.
                              قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة.
                              قالوا: إنك تتبع الهوى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلى امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلى النهروان وتوجه الإمام (عليه السلام) بجيشه إليهم، فقال (عليه السلام): يا ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.
                              ويحك يا ابن عباس: كفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:
                              ابن عباس: من بنى الإسلام؟
                              عتاب: الله ورسوله.
                              ابن عباس: النبي أحكم أموره وبين حدوده أم لا؟
                              عتاب: بلى.
                              ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟
                              عتاب: بل ارتحل.
                              ابن عباس: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟
                              عتاب: بل بقيت بعده.
                              ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟
                              عتاب: نعم الذرية والصحابة.
                              ابن عباس: فعمروها أو خربوها.
                              عتاب: بل عمروها.
                              ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟
                              عتاب: بل خراب.
                              ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟
                              عتاب: بل أمته.
                              ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟
                              عتاب: من الأمة.
                              ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فكيف ترجو الجنة؟
                              فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع كلامه عسى أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فركب (عليه السلام) في جماعة، ومضى إليهم فركب ابن الكوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام (عليه السلام): يا بن الكوا إن الكلام كثير، فأبرز إلي من أصحابك لأكلمك.
                              فقال: وأنا آمن من سيفك؟ قال (عليه السلام): نعم.
                              فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي (عليه السلام): ألم أقل لكم إن أهل الشام إنما يخدعونكم بها ـ الحكومة ورفع المصاحف وغير ذلك ـ فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ـ ابن عباس ـ وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أبا موسى؟ وقلتم: رضينا به حكما.
                              فأجبتكم كارها؟ ولو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم، وشرطت على الحكمين بحضوركم.
                              أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته.
                              والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ كان ذلك أو لم يكن؟ قال ابن الكواء: صدقت، كان هذا كله، فلم لا نرجع الآن إلى حرب القوم؟ قال الإمام (عليه السلام): حتى تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.
                              قال ابن الكوا: وأنت مجمع على ذلك؟ قال (عليه السلام): نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلى أصحاب علي (عليه السلام) راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله.
                              وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان، وخرج الإمام (عليه السلام) حتى بقي على فرسخين منهم، وكاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يركب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفك فلا تخف منهم.
                              فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أمير المؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو كان حاضراً لكفرناه بها!! ـ والإمام يسمع كلامهم ـ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت كلامهم وأنت أحق بالجواب.
                              فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.
                              قالوا: نقمنا عليك أولا: إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف حل لنا ما في المعسكر ولم يحل لنا النساء؟ فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.
                              قالوا: نقمنا عليك يوم صفين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال (عليه السلام): يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلك الوقت.
                              قالوا: نقمنا عليك.
                              أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.
                              فإذا كنت شاكا في نفسك فنحن فيك أشد وأعظم شكا! قال (عليه السلام): إنما أردت بذلك النصفة ـ الإنصاف ـ فإني لو قلت: أحكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لنصارى نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم.
                              فلم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال: (فنجعل لعنة الله على الكافرين)(3) فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسى.
                              قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكمت حكما في حق هو لك.
                              فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شيء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين فأعطى أمير المؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.
                              فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.
                              وصاحوا: الرواح إلى الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبد الله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال (عليه السلام): (هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)(4) فكان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام (عليه السلام) وخرج عبد الله بن وهب ومالك بن الوضاح، وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتل الوضاح وضرب ضربة على رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم على العدو.
                              عند ذلك استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبد الله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعركة حتى تأتي على أنفسنا ونأتي على نفسك، فأبرز إلي وأبرز إليك، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام كلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولكنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا كاذبا، ثم حمل عليه الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلى خراسان إلى أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلى اليمن وفيهما نسلهما (وهم الإباضية)، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تكريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.
                              وقتل من أصحاب علي (عليه السلام) بعدد من سلم من الخوارج.

                              (1) سورة النحل، الآية: 91.
                              (2) سورة النساء، الآية: 35.
                              (3) سورة آل عمران، الآية: 61.
                              (4) سورة الكهف، الآيتان: 103 و104.

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 07:21 AM
                              ردود 2
                              17 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                              بواسطة ibrahim aly awaly
                               
                              أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 09:44 PM
                              استجابة 1
                              12 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                              بواسطة ibrahim aly awaly
                               
                              يعمل...
                              X