إن من جملة ما ميّز المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين (رضوان الله عليه) براعته في نظم الكلام ونثره، ليخرج بحيثية تحرج الخصم وتلجم عصبيته في الآن نفسه. ومن هنا فإنه (رحمه الله) لجأ إلى هذا الأسلوب الذي ترى فيه أنه مع تسديده كل تلك الضربات الموجعة لشخصيات أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فإنه ضمّن في ما سطّره جملا عرضية هي أقرب في هذا الموضع إلى التهكّم، إذ القارئ المطالع لكل تلك المساوئ والقبائح التي عرضها السيد في كتبه ووثّقها من مصادر القوم يفهم بداهةً أنه حينما يُلحقها بعبارة من قبيل (رضي الله عنهم) أنه لا يقصد إلا إحراج الخصم ولجم عصبيته بمثل هذا الأدب التهكّمي.
وليس قصد السيد (رحمه الله) من إيراد أمثال تلك العبائر في مصنّفاته أنه يعتقد حقا باحترام هؤلاء الظلمة الكفرة (لعنة الله عليهم) وإلا فأي احترام في أن آتيك وأقول لك مثلا: "إن أباك كان قد قتل فلانا وزنى بفلانة وشرب الخمر يوم كذا وسرق ليلة كذا.. رحمة الله عليه وأدخله فسيح جناته"؟!وتنبّه إلى أن لهذا الأسلوب الأدبي نظائر في كتاب الله تعالى وفي أحاديث تراجمته صلوات الله وسلامه عليهم، فتمعّن مثلا في قوله عز من قائل: "إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ"! (الدخان: 43 – 49).
ولاحظ هنا أن الله تبارك وتعالى بعدما وصف الكافر أولا بالأثيم وأنبأ عما سيقع له من تفاصيل العذاب الشديد في الجحيم؛ إذا به يصفه أخيرا بأنه.. عزيز كريم!
وقد مضى نبينا (صلى الله عليه وآله) وكذلك أوصياؤه (صلوات الله عليهم) على هذا المنوال فاستخدموا هذا الضرب من الكلام أحيانا حسبما يقتضيه المقام. فقد رُوي عن خالد بن نجيح قال: "قلت أبي عبد الله عليه السلام: جُعلك فداك، سمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر الصدّيق؟ قال: نعم! قلت: فكيف؟! قال: حين كان معه في الغار قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب تضطرب في البحر ضالّة. قال أبو بكر: يا رسول الله.. وإنك لتراها؟ قال: نعم. قال: فتقدر أن ترينيها؟ فقال: ادنُ مني. فدنا منه فمسح على عينيه ثم قال: انظر! فنظر أبو بكر فرأى السفينة وهي تضطرب في البحر! ثم نظر إلى قصور أهل المدينة، فقال في نفسه: الآن صدّقت أنك ساحر! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصدّيق أنت"!! (البحار ج8 ص109).
كما قد رُوي أن الصادق (عليه السلام) سُئل عن أبي بكر وعمر فقال: "كانا إمامين! قاسطيْن! عادليْن! كانا على الحق وماتا عليه! فرحمة الله عليهما يوم القيامة!فلما خلا المجلس قال له بعض أصحابه: كيف قلت يابن رسول الله؟! فقال عليه السلام: نعم.. أما قولي: كانا إمامين؛ فهو مأخوذ من قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار)! وأما قولي: قاسطيْن؛ فهو من قوله تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنّم حطبا)! وأما قولي: عادليْن؛ فهو مأخوذ من قوله تعالى: (الذين كفروا بربّهم يعدلون)! وأما قولي: كانا على الحق؛ فالحق علي عليه السلام، وقولي: ماتا عليه؛ المراد أنهما لم يتوبا عن تظاهرهما عليه، بل ماتا على ظلمهما إياه. وأما قولي: فرحمة الله عليهما يوم القيامة؛ فالمراد به أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينتصف له منهما، آخذا من قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". (البحار ج30 ص287).
وهكذا استعمل السيد شرف الدين (قدس سره) هذا التعبير في تلك النصوص التي نقلتموها، وقد اجتهد في ذلك بما رآه يوافق مصلحة الدين ويساعد على نشره، دون أن يكون معنى ما ذكره أنه معتقد بظاهره، بل إن له في نفسه تأويلا غير ما يُظهره لخصمه، فيكون مثلا وصفه لأبي بكر بالصديق من باب أنه صدّق زعم المشركين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ساحر والعياذ بالله، كما يكون وصفه لعمر بالفاروق أنه هو الذي قد فرّق ومزّق الدين وزرع الفتنة في الأمة.. وهكذا.
وإن توجّه إشكال إلى أسلوب السيد فينبغي توجيهه أيضا إلى الأسلوب القرآني والنبوي والمعصومي أيضا، إلا أن يُقال أنه قد جنح في تعبيراته لأكثر من اللازم، وفي هذا مناقشة يمكن أن تتسع، إلا أنه إجمالا لا يكون السيد قد ارتكب محذورا شرعيا سيما مع ما عُرف عنه من سلامة عقيدته وعمق ولائه لأهل البيت الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، وتفانيه وإخلاصه في خدمتهم ونشر ولايتهم ودحض أباطيل مخالفيهم.
ويحضرني هنا ذكر أحد علمائنا أيضا، وهو المرحوم المدرّس الأفغاني (قدس سره) الذي كان كبير النحاة وأساتذة العربية في قم المقدسة، وقد توفّي قبل سنوات قليلة، فقد كان (رحمه الله) في كثير من الأحيان يأتي على ذكر عمر (لعنه الله) في مجلس الدرس، ذاكرا مخازيه ومثالبه، ولكنه في كل مرة كان يأتي فيها على ذكره كان يقول: "عمر بن الخطاب عليه الصلاة والسلام" ليضج مجلس الدرس بالضحك!! وإني عندما استمعت إليه يقولها – عبر أشرطة التسجيل – قلت: لعلّه يعني بقوله: "عليه الصلاة" أي عليه ما يصلاه في الجحيم، أما قوله: "والسلام" فمبدأ جملة جديدة أي والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.. مثلا.
وختاما فإن كل العبارات التي نقلتموها من كلام السيد شرف الدين (رحمه الله) إذا دقّقتم النظر فيها فستجدونها إما تهكمية كما أوضحنا، أو إلزامية للخصم بما يعتقد ويرى. لذا ينبغي الالتفات دائما إلى ما يقصده القائل في الواقع، لا إلى ما يعبّر عنه في الظاهر. مع أننا شخصيا – كما تعلمون – لا نفضّل إلا أن يكون أسلوب التبيلغ في هذا العصر مباشرا صريحا، فإن لكل مقام مقال، ولهذا المقام لابد من هذا المقال.
وأما عن التقية؛ فإنه لا يبعد أيضا أن السيد (رحمه الله) قد التزم بها في بعض هذه الموارد، واستدلالكم ببعض مواقفه الجريئة لنفي تقيته ليس في محلّه، فإن إثبات مورد لا ينفي ما عداه، وأنت أعرف بأن التصدّي لأهل ملّة باطلة أشد وأعظم من التصدّي لأهل استعمار مهما بلغوا من قوّة، فإن الاستعمار جاء بسبب سياسي متحوّل، أما الملة فلم تتكوّن إلا لسبب ديني عقيدي ثابت، وإخلاص الفرد للثاني دون الأول. فانتبه.
بقلم ياسر الحبيب
تعليق