يوقظ شهر رمضان المبارك لدى الفلسطينيين المواجع التي لم تنم أصلاً... فهذه والدة تتذكر ابنها الشهيد أو الجريح، وتلك زوجة تنتظر رفيق العمر أو تأسى عليه، وكم من الأيتام والأخوات والأقارب ينعون راحلاً لهم لن يعود.
فواحد منهم يتذكر أهله أنه استغل نوم والده ساعة، فنام إلى الأبد، وثاني قالوا عنه أصدقاؤه إنه حلم بالشهادة فنالها، وثالث روي أنه لم يشفع له زيّه وحقيبته المدرسية أمام قناصة الاحتلال، ورابعة، قتلت وبأي ذنب قتلت؟ قتلت تماماً مثلما يفعل محترفو الاغتيالات. وائل في قبر يوسف
فهذا الشهيد وائل قطاوي من نابلس، استغل نوم والده ـ الذي أحس الأب بأن مكروهاً سيحدث لابنه البكر في ذلك اليوم الساخن بفعل رصاص رشاشي إل 500 وإل 800 الذي يتساقط من على قمة جبل جرزيم على رؤوس المواطنين العزّل في محيط قبر يوسف في نابلس ـ فحاول الأب تيسير قطاوي أبو وائل (43 عاماً) ويعمل في مجال البناء داخل فلسطين المحتلة العام 1948, حاول في نهار يوم الاثنين منع نجله البكر وائل من الخروج من البيت خلال انشغاله بأعمال في محيط منزله، خشية ذهابه إلى "قبر يوسف" حتى لا يناله رصاص القنّاصة الذين لا يحلو لهم سوى إصابة الأطفال والفتيان.
يتذكر أبو وائل بأن نجله الشهيد وائل ـ والذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ـ إذ قال له صباح يوم استشهاده: "إن الشهيد يشفع لسبعين من أهله فلماذا تخشون الشهادة؟"... ويضيف أبو وائل أن نجله كان يكرر دائماً لوالدته عبارة "اللي كاتبه الله بصير"، وبعد أن نجح الأب بإشغال نجله في أعمال بمحيط منزله اضطر إلى الاستراحة قليلاً فنام حوالي ساعة وما أن استيقظ ليجد أن وائلاً غير موجود وجن جنونه وبدأ بالبحث عنه.
ويتابع أبو وائل: " قلت لنفسي: ضاع الولد" وجرى كالطفل الصغير وقد أحس أن قلبه سينفطر خوفاً على ابنه الذي سيحمل اسمه من بعده، ليأتيه خبر إصابة نجله، ويقول له الناس إن وائلاً مصاب إصابة بسيطة... توجه إلى مستشفى الاتحاد ليجد أن نجله البكر قد فارق الحياة.
وكان أبو وائل يرغب في مستقبل زاهر لنجله أثناء دراسته في المدرسة الصناعية الثانوية، إذ دخلها ليتعلم الكهرباء، ولكن قناصة جبل الطور لم يرحموا صغره وأحلامه وأحلام والديه فقتلوه وهو أعزل تماماً، علماً بأنه كان قبل يومين من استشهاده حمل شهيداً وعاد إلى منزله في المخيم وثيابه ملطخة بالدماء، ودخل البيت خلسة حتى لا يُغضِب أباه، كما خرج خلسة فيما بعد ليلقى ربه شهيداً، ويترك خلفه والدين حزينين وأشقاءه خالد (13 سنة) ومحمد (11 سنة) وعبير (12 سنة) والذين اعتادوا على مداعبته لهم.
يواري بكره الثرى ويعود مبتسماً
ولا يختلف ما حدث في نابلس، عما جرى في المغازي وسط قطاع غزة، فهذا الوالد عاد من مقبرة المخيم إلى بيت العزاء يحيط به الآلاف من أبناء المخيم... عالي الهامة تطفو الابتسامة على وجهه ويطل الفرح من عينيه على رغم أنه وارى ابنه البكر وفلذة كبده التراب، إذ قضى شهيداً في المواجهات التي شهدها "مفرق الشهداء" جنوب غزة.
يحدثنا أبو رشاد عن مشاعر الفرح والسرور باستشهاد ابنه الأقرب إلى قلبه، كيف لا وهو البكر الذي سمع منه لأول مرة في حياته كلمة "بابا"، ويقول اليوم: "إن رشاداً كان هادئ الطباع مطيعاً لوالديه محبوباً من الجميع واجتماعياً لا يتأخر أبداً عن المشاركة في الأفراح والأحزان ومختلف المناسبات"، كان رشاد يعمل في مصنع "العودة" للبسكويت في "دير البلح" بعد أن عجز عن العثور على فرصة عمل توافق شهادة الدبلوم (الإمام الشافعي المهنية).
استشهد رشاد أسوة بالكثير من شباب شعبه الذين هبّوا للدفاع عن المسجد الأقصى، ويؤكد والده أن ما يبعث الفرح في نفسه هو أن ابنه لبّى الواجب وطالب الدول العربية والاسلاميه بالكف عن عبارات التنديد والاستنكار التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وعدم الاكتفاء بإرسال الأدوية بل العمل على علاج الداء المتمثل في الغطرسة الإسرائيلية التي يراها العالم أجمع بأم عينيه ولا يحرك ساكناً، وكان الشهيد أصيب برصاصة في رأسه أثناء المواجهات التي شهدها "مفرق الشهداء".
طولكرم تحقق لسامي ما أراد
وفي قصة اخرى ـ ولكن هذه من طولكرم في الضفة الغربية ـ تحقق أخيراً للشاب سامي حسن (17 عاماً) حلمه الكبير بنيل الشهادة، ولم يكن قد تحقق للشهيد أي من أحلامه الصغيرة التي طالما حلم بتحقيقها بعدما ترك مقاعد الدراسة مبكراً ليعيل والديه المريضين وجدّته وسبعة أشقاء وشقيقات هو أكبرهم... فقد سبق قناصو الاحتلال الأحلام الصغيرة ونالوا من الفارس الذي طالما طاردوه خلال المواجهات التي دارت عند مدخل طولكرم الجنوبي، وعلى محاور الجبهة المفتوحة في منطقتي الارتباط ومصانع الموت الإسرائيلية.
كان الشهيد راشقاً بارعاً للحجارة، وصانعاً محترفاً للمقاليع، وهذه المرة كان منفرداً مع بعض أقرانه ومقلاعه مربوط بيده حتى لا تضيع فرصة النيل من جنود الاحتلال في أي وقت، عندما انطلقت رصاصات حاقدة لا يتعدى عددها أصابع اليد باتجاهه لتخترق إحداها قلبه وتوقف معه أحلامه الصغيرة ولكن لن تتمكن من إغلاق الطريق أمام تحقيق أحلامه الكبيرة في الشهادة على طريق عودة عائلته إلى أرضها.
ترك سامي المدرسة حتى لا يضطر شقيقه علي ـ الذي يليه ـ إلى تركها وحتى لا يضطر والده المريض إلى ممارسة عمل لا طاقة له به وذلك لتأمين قوت أشقائه وشقيقاته الصغار والدواء لوالدته، وكي تظل جدّته تحدثه عن أم خالد و"وادي الحوارث" اللذين كبرا بداخله فاندفع شهيداً.
واليوم يقولون عنه إنه فعل ذلك تاركاً الجميع في ساحة منطقة "البلاونه" في مخيم "طولكرم" يتحدثون عنه وهو الحاضر الأبرز بينهم على رغم جسده المسجى في التراب.
شهيد بالزي المدرسي
وبعيداً عن طولكرم، وتحديداً في أقصى جنوب قطاع غزة، في رفح، لم يشفع للطفل سامي أبو جزر زيّه وحقيبته المدرسية أمام قناصة الاحتلال، فقد أشار بيده وقال: "من البرج يطلق اليهود الرصاص على الناس"، ولم يكد سامي ينهي عبارته حتى اخترقت رصاصة غادرة جبهته الطاهرة طارحة إيّاه أرضاً مخضبة وجهه وزيه المدرسي الأزرق بالأحمر القاني الغالي.
أراد سامي (12 عاماً) أن يرشد ثلاثة أطفال من أقرانه إلى الموقع العسكري الإسرائيلي الذي يعتلي بوابة صلاح الدين، مشيراً بإصبعه تجاه ذاك البرج، فيما شخصت أعين الأطفال صوبه من دون أن تعي عقولهم معنى الموت وهم عائدون من مدرستهم مرتدين زيهم المدرسي وحقائبهم معلقة على اكتافهم إذ دفعهم فضول الأطفال إلى الاقتراب من موقع الأحداث عند بوابة صلاح الدين الواقعة على الشريط الحدودي الفاصل بين فلسطين ومصر. واليوم في رمضان، يتذكر محمد (24 عاماً) ـ الذي حمل الطفل سامي بين ذراعيه حتى عربة الإسعاف ورافقه إلى المستشفى ـ أنه كان على مقربة من عدد من الأطفال الذين كانوا على بعد نحو مئة متر من بوابة صلاح الدين التي يعتليها برج مراقبة محكم التحصين، ولم يكن هناك أي نوع من المواجهات حيث كانوا يتصدون للبرج الإسرائيلي الذي سقط برصاص جنوده العشرات من الجرحى.
ومضى قائلاً: "وفجأة خرّ الطفل سامي أرضاً من دون أن نسمع صرخة واحدة منه، وتبع ذلك إطلاق جنود الاحتلال قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع... فتوجهت مباشرة صوب الطفل وحملته بين ذراعي حتى وصلت سيارة الإسعاف التي نقلته فوراً إلى مستشفى "ناصر" في "خان يونس"، والدماء كانت تتدفق من جبهته كالنافورة لدرجة اختفت معها ملامح وجهه وأغرقت زيه المدرسي الأزرق وحقيبته باللون الأحمر القاني، مشيراً إلى أن وجهه وملابسه ترطبت كذلك بدماء الطفل الطاهرة. ويؤكد سائق سيارة الإسعاف التابعة لجمعية الهلال الأحمر ـ والتي نقلت الطفل إلى المستشفى ـ أن دماءه تدفقت بغزارة لدرجة أصابت سقف سيارة الإسعاف مشيراً إلى قيامه ورفيق له بتقديم الإسعاف الأولي للطفل وسط مشاعر الغضب والاستفزاز.
وأوضح المصور الذي موجوداً في موقع الحادث وقام بالتقاط الصور للطفل فور إصابته أن جنود الاحتلال أطلقوا عدداً من قنابل الغاز المسيل للدموع والصوت وخلال ذلك سقط الطفل سامي، مؤكداً أنه أصيب بعيار ناري مكتوم الصوت.
ابنة العامين...
بأي ذنب قُتلت؟
وهنا قصة محزنة إذ افترس المستوطنون طفلة ابنة العامين، فبأي ذنب قتلت؟ تماماً مثلما يفعل محترفو الاغتيالات الذين يكونون في العادة من فئتين لا ثالث لهما، إما مأجورين أنذالاً أو ظلاميين يملأ قلوبهم الحقد الأعمى، إذ كمنت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين على مقربة من الشارع الاستيطاني المسمى شارع "حاييم" الذي يربط الخط الأخضر بوادي الأردن بعد حلول الظلام منتظرين فريستهم التي كانت هذه المرة طفلة صغيرة لم تتجاوز العامين من عمرها هي سارة عبد الحق من قرية "قصرة" في محافظة نابلس.
كان والد الطفلة، عبدالعظيم عبدالحق (34 عاماً)، عائداً بها في حوالي السابعة و النصف من 1/10/2000 من نابلس بعد أن عالجها من التهابات مصحوبة بارتفاع درجة الحرارة في عيادة بالمدينة، وعندما وصل على مقربة من مفترق الطريق الموصل إلى قريته سمع صوت صلية رصاص أعقبها صوت تأوه من ابنة شقيقه ريما ربيع (21 عاماً) التي كانت تحمل الطفلة بين يديها وتجلس في المقعد الخلفي في السيارة فأدرك أنها أصيبت فأخذ في الضغط على دواسة البنزين منطلقاً بسرعة كبيرة فيما الرصاص يلاحقه غزيراً مخترقاً السيارة ومحطماً زجاجها.
بحسب روايته يقول الأب: "قطعت حوالي كيلومترين سائقاً السيارة بأقصى سرعة حتى وصلت إلى القرية حيث شعرت بالأمان ونظرت إلى الخلف لأجد سارة ملقاة بجانب ابنة أخي على المقعد وقد شُجّ رأسها، فيما ريما مغمى عليها".
وعند هذا المشهد المفجع نزل والد الطفلة المغدورة من سيارته وأخذ يصرخ على أشقائه الذين تولوا نقلها إلى طبيب في القرية فوجدها قد فاضت روحها إلى بارئها، وروى طبيب القرية أنه وجد سارة وقد شُجَّ رأسُها برصاصة اخترقته من الخلف وحطمت أربعة من عظمات الجمجمة فيما تدفق دماغها إلى الخارج.
رصاصة في القلب
كذلك نتذكر الشهيد إياد والموت حين يختار أجمل الأبناء، فلم يكن الطفل فادي الخششي البالغ من العمر عشر سنوات يريد من أمه أن تصمت حين طالبها بذلك بصوت عال وهو يلقي بنفسه على صدرها باكياً أخاه إياد الذي أعلن عنه شهيداً سادساً في نابلس، بل كان يبحث عمّن يخفف عنه مصابه ويقاسمه ألم النبأ الذي صعقه.
وقال فادي مفجوعاً ـ والدموع تغرق وجنتيه ـ وسط ذهول مئات المواطنين الذين تجمهروا على صراخ أمه و بكائها: "لم أنم الليلة الماضية لغياب إياد الذي بحثنا عنه طوال النهار والليل أنا وأصدقائي من دون إن نتمكن من العثور عليه".
و اكتشف في وقت لاحق جثمان الشهيد إياد الخششي (17 عاماً) في بناية قيد الإنشاء بجوار شارع القدس الذي كان مسرحاً لصدامات دامية، حصد رصاص المحتلين خلالها أرواح خمسة شبان وأصاب ـ وقتها ـ ما يزيد عن 100 آخرين بجروح.
وأوضح مواطنون يقطنون بجوار البناية أن أحد أطفال الحي دخلها للعب ليفاجئهم بخروجه مذعوراً وهو يصرخ معلناً اكتشاف جثة شخص مقتول داخل المبنى. وسرعان ما تبيّن انه جثمان الشهيد الخششي الذي قضى أفراد أسرته وأصدقاؤه الليل وهم يبحثون عنه بين الجرحى من دون جدوى، بينما أصم صوت رصاص المحتلين ـ الذي لم يتوقف ذلك النهار ـ آذان المتظاهرين عن سماع أنين الخششي بعد إصابته بعيار مزق قلبه.
هكذا سقط الفتى إياد من دون أن يشاهده أحد لإسعافه أو لمجرد محاولة إنقاذه. ولم يعثر عليه إلا في الصباح التالي وحيداً وغارقاً في دمائه، واتضح من المكان الذي استشهد فيه أن أحد قناصة الاحتلال شاهده داخل المبنى ـ الذي لا يمكن لحجارة المتظاهرين أن تهدد منه حياة المحتلين بالخطر ـ وأطلق عليه النار بصورة لا يمكن بأي حال تبريرها.
فواحد منهم يتذكر أهله أنه استغل نوم والده ساعة، فنام إلى الأبد، وثاني قالوا عنه أصدقاؤه إنه حلم بالشهادة فنالها، وثالث روي أنه لم يشفع له زيّه وحقيبته المدرسية أمام قناصة الاحتلال، ورابعة، قتلت وبأي ذنب قتلت؟ قتلت تماماً مثلما يفعل محترفو الاغتيالات. وائل في قبر يوسف
فهذا الشهيد وائل قطاوي من نابلس، استغل نوم والده ـ الذي أحس الأب بأن مكروهاً سيحدث لابنه البكر في ذلك اليوم الساخن بفعل رصاص رشاشي إل 500 وإل 800 الذي يتساقط من على قمة جبل جرزيم على رؤوس المواطنين العزّل في محيط قبر يوسف في نابلس ـ فحاول الأب تيسير قطاوي أبو وائل (43 عاماً) ويعمل في مجال البناء داخل فلسطين المحتلة العام 1948, حاول في نهار يوم الاثنين منع نجله البكر وائل من الخروج من البيت خلال انشغاله بأعمال في محيط منزله، خشية ذهابه إلى "قبر يوسف" حتى لا يناله رصاص القنّاصة الذين لا يحلو لهم سوى إصابة الأطفال والفتيان.
يتذكر أبو وائل بأن نجله الشهيد وائل ـ والذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ـ إذ قال له صباح يوم استشهاده: "إن الشهيد يشفع لسبعين من أهله فلماذا تخشون الشهادة؟"... ويضيف أبو وائل أن نجله كان يكرر دائماً لوالدته عبارة "اللي كاتبه الله بصير"، وبعد أن نجح الأب بإشغال نجله في أعمال بمحيط منزله اضطر إلى الاستراحة قليلاً فنام حوالي ساعة وما أن استيقظ ليجد أن وائلاً غير موجود وجن جنونه وبدأ بالبحث عنه.
ويتابع أبو وائل: " قلت لنفسي: ضاع الولد" وجرى كالطفل الصغير وقد أحس أن قلبه سينفطر خوفاً على ابنه الذي سيحمل اسمه من بعده، ليأتيه خبر إصابة نجله، ويقول له الناس إن وائلاً مصاب إصابة بسيطة... توجه إلى مستشفى الاتحاد ليجد أن نجله البكر قد فارق الحياة.
وكان أبو وائل يرغب في مستقبل زاهر لنجله أثناء دراسته في المدرسة الصناعية الثانوية، إذ دخلها ليتعلم الكهرباء، ولكن قناصة جبل الطور لم يرحموا صغره وأحلامه وأحلام والديه فقتلوه وهو أعزل تماماً، علماً بأنه كان قبل يومين من استشهاده حمل شهيداً وعاد إلى منزله في المخيم وثيابه ملطخة بالدماء، ودخل البيت خلسة حتى لا يُغضِب أباه، كما خرج خلسة فيما بعد ليلقى ربه شهيداً، ويترك خلفه والدين حزينين وأشقاءه خالد (13 سنة) ومحمد (11 سنة) وعبير (12 سنة) والذين اعتادوا على مداعبته لهم.
يواري بكره الثرى ويعود مبتسماً
ولا يختلف ما حدث في نابلس، عما جرى في المغازي وسط قطاع غزة، فهذا الوالد عاد من مقبرة المخيم إلى بيت العزاء يحيط به الآلاف من أبناء المخيم... عالي الهامة تطفو الابتسامة على وجهه ويطل الفرح من عينيه على رغم أنه وارى ابنه البكر وفلذة كبده التراب، إذ قضى شهيداً في المواجهات التي شهدها "مفرق الشهداء" جنوب غزة.
يحدثنا أبو رشاد عن مشاعر الفرح والسرور باستشهاد ابنه الأقرب إلى قلبه، كيف لا وهو البكر الذي سمع منه لأول مرة في حياته كلمة "بابا"، ويقول اليوم: "إن رشاداً كان هادئ الطباع مطيعاً لوالديه محبوباً من الجميع واجتماعياً لا يتأخر أبداً عن المشاركة في الأفراح والأحزان ومختلف المناسبات"، كان رشاد يعمل في مصنع "العودة" للبسكويت في "دير البلح" بعد أن عجز عن العثور على فرصة عمل توافق شهادة الدبلوم (الإمام الشافعي المهنية).
استشهد رشاد أسوة بالكثير من شباب شعبه الذين هبّوا للدفاع عن المسجد الأقصى، ويؤكد والده أن ما يبعث الفرح في نفسه هو أن ابنه لبّى الواجب وطالب الدول العربية والاسلاميه بالكف عن عبارات التنديد والاستنكار التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وعدم الاكتفاء بإرسال الأدوية بل العمل على علاج الداء المتمثل في الغطرسة الإسرائيلية التي يراها العالم أجمع بأم عينيه ولا يحرك ساكناً، وكان الشهيد أصيب برصاصة في رأسه أثناء المواجهات التي شهدها "مفرق الشهداء".
طولكرم تحقق لسامي ما أراد
وفي قصة اخرى ـ ولكن هذه من طولكرم في الضفة الغربية ـ تحقق أخيراً للشاب سامي حسن (17 عاماً) حلمه الكبير بنيل الشهادة، ولم يكن قد تحقق للشهيد أي من أحلامه الصغيرة التي طالما حلم بتحقيقها بعدما ترك مقاعد الدراسة مبكراً ليعيل والديه المريضين وجدّته وسبعة أشقاء وشقيقات هو أكبرهم... فقد سبق قناصو الاحتلال الأحلام الصغيرة ونالوا من الفارس الذي طالما طاردوه خلال المواجهات التي دارت عند مدخل طولكرم الجنوبي، وعلى محاور الجبهة المفتوحة في منطقتي الارتباط ومصانع الموت الإسرائيلية.
كان الشهيد راشقاً بارعاً للحجارة، وصانعاً محترفاً للمقاليع، وهذه المرة كان منفرداً مع بعض أقرانه ومقلاعه مربوط بيده حتى لا تضيع فرصة النيل من جنود الاحتلال في أي وقت، عندما انطلقت رصاصات حاقدة لا يتعدى عددها أصابع اليد باتجاهه لتخترق إحداها قلبه وتوقف معه أحلامه الصغيرة ولكن لن تتمكن من إغلاق الطريق أمام تحقيق أحلامه الكبيرة في الشهادة على طريق عودة عائلته إلى أرضها.
ترك سامي المدرسة حتى لا يضطر شقيقه علي ـ الذي يليه ـ إلى تركها وحتى لا يضطر والده المريض إلى ممارسة عمل لا طاقة له به وذلك لتأمين قوت أشقائه وشقيقاته الصغار والدواء لوالدته، وكي تظل جدّته تحدثه عن أم خالد و"وادي الحوارث" اللذين كبرا بداخله فاندفع شهيداً.
واليوم يقولون عنه إنه فعل ذلك تاركاً الجميع في ساحة منطقة "البلاونه" في مخيم "طولكرم" يتحدثون عنه وهو الحاضر الأبرز بينهم على رغم جسده المسجى في التراب.
شهيد بالزي المدرسي
وبعيداً عن طولكرم، وتحديداً في أقصى جنوب قطاع غزة، في رفح، لم يشفع للطفل سامي أبو جزر زيّه وحقيبته المدرسية أمام قناصة الاحتلال، فقد أشار بيده وقال: "من البرج يطلق اليهود الرصاص على الناس"، ولم يكد سامي ينهي عبارته حتى اخترقت رصاصة غادرة جبهته الطاهرة طارحة إيّاه أرضاً مخضبة وجهه وزيه المدرسي الأزرق بالأحمر القاني الغالي.
أراد سامي (12 عاماً) أن يرشد ثلاثة أطفال من أقرانه إلى الموقع العسكري الإسرائيلي الذي يعتلي بوابة صلاح الدين، مشيراً بإصبعه تجاه ذاك البرج، فيما شخصت أعين الأطفال صوبه من دون أن تعي عقولهم معنى الموت وهم عائدون من مدرستهم مرتدين زيهم المدرسي وحقائبهم معلقة على اكتافهم إذ دفعهم فضول الأطفال إلى الاقتراب من موقع الأحداث عند بوابة صلاح الدين الواقعة على الشريط الحدودي الفاصل بين فلسطين ومصر. واليوم في رمضان، يتذكر محمد (24 عاماً) ـ الذي حمل الطفل سامي بين ذراعيه حتى عربة الإسعاف ورافقه إلى المستشفى ـ أنه كان على مقربة من عدد من الأطفال الذين كانوا على بعد نحو مئة متر من بوابة صلاح الدين التي يعتليها برج مراقبة محكم التحصين، ولم يكن هناك أي نوع من المواجهات حيث كانوا يتصدون للبرج الإسرائيلي الذي سقط برصاص جنوده العشرات من الجرحى.
ومضى قائلاً: "وفجأة خرّ الطفل سامي أرضاً من دون أن نسمع صرخة واحدة منه، وتبع ذلك إطلاق جنود الاحتلال قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع... فتوجهت مباشرة صوب الطفل وحملته بين ذراعي حتى وصلت سيارة الإسعاف التي نقلته فوراً إلى مستشفى "ناصر" في "خان يونس"، والدماء كانت تتدفق من جبهته كالنافورة لدرجة اختفت معها ملامح وجهه وأغرقت زيه المدرسي الأزرق وحقيبته باللون الأحمر القاني، مشيراً إلى أن وجهه وملابسه ترطبت كذلك بدماء الطفل الطاهرة. ويؤكد سائق سيارة الإسعاف التابعة لجمعية الهلال الأحمر ـ والتي نقلت الطفل إلى المستشفى ـ أن دماءه تدفقت بغزارة لدرجة أصابت سقف سيارة الإسعاف مشيراً إلى قيامه ورفيق له بتقديم الإسعاف الأولي للطفل وسط مشاعر الغضب والاستفزاز.
وأوضح المصور الذي موجوداً في موقع الحادث وقام بالتقاط الصور للطفل فور إصابته أن جنود الاحتلال أطلقوا عدداً من قنابل الغاز المسيل للدموع والصوت وخلال ذلك سقط الطفل سامي، مؤكداً أنه أصيب بعيار ناري مكتوم الصوت.
ابنة العامين...
بأي ذنب قُتلت؟
وهنا قصة محزنة إذ افترس المستوطنون طفلة ابنة العامين، فبأي ذنب قتلت؟ تماماً مثلما يفعل محترفو الاغتيالات الذين يكونون في العادة من فئتين لا ثالث لهما، إما مأجورين أنذالاً أو ظلاميين يملأ قلوبهم الحقد الأعمى، إذ كمنت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين على مقربة من الشارع الاستيطاني المسمى شارع "حاييم" الذي يربط الخط الأخضر بوادي الأردن بعد حلول الظلام منتظرين فريستهم التي كانت هذه المرة طفلة صغيرة لم تتجاوز العامين من عمرها هي سارة عبد الحق من قرية "قصرة" في محافظة نابلس.
كان والد الطفلة، عبدالعظيم عبدالحق (34 عاماً)، عائداً بها في حوالي السابعة و النصف من 1/10/2000 من نابلس بعد أن عالجها من التهابات مصحوبة بارتفاع درجة الحرارة في عيادة بالمدينة، وعندما وصل على مقربة من مفترق الطريق الموصل إلى قريته سمع صوت صلية رصاص أعقبها صوت تأوه من ابنة شقيقه ريما ربيع (21 عاماً) التي كانت تحمل الطفلة بين يديها وتجلس في المقعد الخلفي في السيارة فأدرك أنها أصيبت فأخذ في الضغط على دواسة البنزين منطلقاً بسرعة كبيرة فيما الرصاص يلاحقه غزيراً مخترقاً السيارة ومحطماً زجاجها.
بحسب روايته يقول الأب: "قطعت حوالي كيلومترين سائقاً السيارة بأقصى سرعة حتى وصلت إلى القرية حيث شعرت بالأمان ونظرت إلى الخلف لأجد سارة ملقاة بجانب ابنة أخي على المقعد وقد شُجّ رأسها، فيما ريما مغمى عليها".
وعند هذا المشهد المفجع نزل والد الطفلة المغدورة من سيارته وأخذ يصرخ على أشقائه الذين تولوا نقلها إلى طبيب في القرية فوجدها قد فاضت روحها إلى بارئها، وروى طبيب القرية أنه وجد سارة وقد شُجَّ رأسُها برصاصة اخترقته من الخلف وحطمت أربعة من عظمات الجمجمة فيما تدفق دماغها إلى الخارج.
رصاصة في القلب
كذلك نتذكر الشهيد إياد والموت حين يختار أجمل الأبناء، فلم يكن الطفل فادي الخششي البالغ من العمر عشر سنوات يريد من أمه أن تصمت حين طالبها بذلك بصوت عال وهو يلقي بنفسه على صدرها باكياً أخاه إياد الذي أعلن عنه شهيداً سادساً في نابلس، بل كان يبحث عمّن يخفف عنه مصابه ويقاسمه ألم النبأ الذي صعقه.
وقال فادي مفجوعاً ـ والدموع تغرق وجنتيه ـ وسط ذهول مئات المواطنين الذين تجمهروا على صراخ أمه و بكائها: "لم أنم الليلة الماضية لغياب إياد الذي بحثنا عنه طوال النهار والليل أنا وأصدقائي من دون إن نتمكن من العثور عليه".
و اكتشف في وقت لاحق جثمان الشهيد إياد الخششي (17 عاماً) في بناية قيد الإنشاء بجوار شارع القدس الذي كان مسرحاً لصدامات دامية، حصد رصاص المحتلين خلالها أرواح خمسة شبان وأصاب ـ وقتها ـ ما يزيد عن 100 آخرين بجروح.
وأوضح مواطنون يقطنون بجوار البناية أن أحد أطفال الحي دخلها للعب ليفاجئهم بخروجه مذعوراً وهو يصرخ معلناً اكتشاف جثة شخص مقتول داخل المبنى. وسرعان ما تبيّن انه جثمان الشهيد الخششي الذي قضى أفراد أسرته وأصدقاؤه الليل وهم يبحثون عنه بين الجرحى من دون جدوى، بينما أصم صوت رصاص المحتلين ـ الذي لم يتوقف ذلك النهار ـ آذان المتظاهرين عن سماع أنين الخششي بعد إصابته بعيار مزق قلبه.
هكذا سقط الفتى إياد من دون أن يشاهده أحد لإسعافه أو لمجرد محاولة إنقاذه. ولم يعثر عليه إلا في الصباح التالي وحيداً وغارقاً في دمائه، واتضح من المكان الذي استشهد فيه أن أحد قناصة الاحتلال شاهده داخل المبنى ـ الذي لا يمكن لحجارة المتظاهرين أن تهدد منه حياة المحتلين بالخطر ـ وأطلق عليه النار بصورة لا يمكن بأي حال تبريرها.