بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد واله
كيف تعبد سيد الساجدين ؟ كيف تعبد من لقب بزين العابدين ؟ كيف تعبد وارث المصائب الامام علي بن الحسين السجاد عليهما السلام
وأجمع المسلمون على أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان من أعبد الناس، وأكثرهم طاعة لله تعالى، ولم ير الناس مثله في عظيم إنابته وعبادته، وقد بر المتقون والصالحون، وحسبه أنه وحده في تاريخ الإسلام قد لقب بزين العابدين وسيد الساجدين.
أما عبادته (عليه السلام) فلم تكن تقليدية،
وإنما كانت ناشئة عن إيمانه العميق بالله تعالى، وكمال معرفته به، فقد عبده لا طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره وإنما وجده أهلاً للعبادة فعبده، شأنه في ذلك شأن جده الإمام أمير المؤمنين وسيد العارفين وإمام المتقين، الذي عبد الله عبادة الأحرار، وقد اقتدى به حفيده العظيم زين العابدين (عليه السلام) وقد أعرب عن عظيم إخلاصه في عبادته، فقال: (إني أكره أن أعبد الله، ولا غرض لي إلا ثوابه، فأكون كالعبد الطامع، إن طمع عمل، وإلا لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عذابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل..).
فانبرى إليه بعض الجالسين فقال له"
(فبم تعبده؟).
فأجابه عن خالص إيمانه.
وأعبده لما هو أهله بأياديه إنعامه..)(1).
لقد كانت عبادته عن معرفة لا يشوبها شك أو وهم، كما لم تك وليدة طمع أو خوف، وإنما كانت وليدة إيمان عميق، وقد تحدث (عليه السلام) عن أنواع العبادة بقوله: (إن قوماً عبدوا الله عز وجل رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار..)(2) هذه أنواع العبادة والطاعة، وأثقلها في الميزان، وأحبها لله هي عبادة الأحرار التي لا تكون إلا شكراً للمنعم العظيم لا طمعاً في ثوابه، ولا خوفاً من عقابه، وقد أكد الإمام (عليه السلام) ذلك في حديث آخر له قال: (عبادة الأحرار لا تكون إلا شكراً لا خوفاً ولا رغبة)(3).
لقد امتزج حب الله في قلب الإمام، وعواطفه فكان من ذاتياته وعناصره، ويقول الرواة: أنه كان مشغولا بعبادة الله وطاعته في جميع أوقاته وقد سئلت جارية له عن عبادته فقالت:
(أطنب، أو أختصر..).
(بل اختصري..).
ما أتيته بطعام نهاراً قط، وما فرشت له فراشاً بليل قط..)(4).
لقد قضى الإمام (عليه السلام) معظم حياته صائما نهارا، قائما ليله، مشغولاً تارة في الصلاة، وأخرى في صدقة السر.. ومن المؤكد أنه ليس في تاريخ زهاد المسلمين وعبادهم مثل الإمام علي بن الحسين في عظيم إخلاصه وطاعته لله، ونعرض لبعض شؤون عباداته.
وضوءه:
أما الوضوء فهو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأولى للصلاة، وكان الإمام (عليه السلام) دوماً على طهارة، وقد حدث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالوا: إنه أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله:
(ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟..).
فأجابهم عن خوفه، وخشيته من الله قائلاً:
(أتدرون بين يدي من أقوم؟..)(5).
وبلغ من اهتمامه أنه كان لا يعينه أحد عليه، وكان بنفسه يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم شرع وضوءه وبعد الفراغ منه يقبل على صلاته(6).
صلاته:
أما الصلاة فمعراج المؤمن، وقربان كل تقي - كما في الحديث - وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام (عليه السلام) فقد اتخذها معراجا ترفعه إلى الله، وتسمو به إلى الاتصال بخالق الكون وواهب الحياة، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟(7).
تطيبه للصلاة:
وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته(
فكانت روائح المسك تعبق منه.
لباسه في صلاته:
وكان الإمام (عليه السلام) إذا أراد الصلاة لبس الصوف، وأغلظ الثياب(9) مبالغة في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم.
خشوعه في صلاته:
أما صلاة الإمام (عليه السلام) فكانت تمثل الانقطاع التام إلى الله تعالى، والتجرد من عالم الماديات، فكان لا يحس بشيء من حوله، بل لا يحس بنفسه، فقد تعلق قلبه بالله، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلى الصلاة غشى لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً، وتحدث الإمام الباقر عن خشوع أبيه في صلاته فقال: كان علي بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه(10) ونقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق (عليه السلام) صلاة جده الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقال له:
(إني رأيت علي بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه لوناً آخر..) وبهر الإمام الصادق (عليه السلام) فقال:
(والله إن علي بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه..)(11) أجل والله أنه كان على معرفة تامة بعظمة الخالق الحكيم، فكانت عبادته له عن معرفة وطاعته له عن إيمان.
وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنه إذا سجد لا يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً(12) أو كأنه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه(13) ونقل الرواة عن أبي حمزة الثمالي أنه رأى الإمام قد صلى فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليها منها بقلبه(14).
وبلغ من شدة تعلقه بالله في حال صلاته أن ابنا له سقط في بئر ففزع أهل المدينة فأنقذوه، وكان الإمام قائماً يصلي في محرابه، ولم يشعر بذلك، ولما انتهى من صلاته قيل له في ذلك فقال: ما شعرت، إني كنت أناجي رباً عظيماً(15) .
ووقع حريق في بيته، وكان مشغولاً في صلاته فلم يعن به، ولما فرغ من صلاته، قيل له في ذلك فقال: ألهتني عنها النار الكبرى(16) وفسر عبد الكريم القشيري هذه الظاهرة المذهلة التي كانت ملازمة للإمام حال صلاته بأنها من باب غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه.. إنه قد يغيب القلب عن إحساسه بنفسه وغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب(17).
صلاة ألف ركعة:
وأجمع المترجمون للإمام (عليه السلام) أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة(1
وأنه كانت له خمسمائة نخلة فكان يصلي عند كل نخلة ركعتين(19) ونظراً لكثرة صلاته فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده كثفنات البعير وكان يسقط منها في كل سنة فكان يجمعها في كيس، ولما توفي دفنت معه(20).
قضاؤه للنوافل:
ولم تفته نافلة من النوافل طيلة حياته، وكان يقضي ما فاته من صلاة النهار بالليل، وكان يوصي أبناءه بذلك، ويقول لهم: يا بني ليس هذا عليكم بواجب ولكن أحب لمن عود نفسه منكم عادة من الخير أن يدوم عليها(21).
كثرة سجوده:
إن أقرب ما يكون العبد من ربه هو في حال سجوده - كما في الحديث - وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير السجود لله خضوعاً له، وتذليلاً أمامه، ويقول الرواة: إنه خرج مرة إلى الصحراء فتبعه مولى له فوجده ساجداً على حجارة خشنة فأحصى عليه ألف مرة يقول: لا إله إلا الله حقاً حقاً، لا إله إلا الله تعبدا ورقاً، لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً(22). وكان سجد سجدة الشكر، ويقول فيها: مائة مرة (الحمد لله شكراً) وبعدها يقول: (يا ذا المن الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا المعروف الذي لا ينفذ أبداً، يا كريم، يا كريم، ويتضرع بعد ذلك ويذكر حاجته(23).
كثرة تسبيحه:
وكان دوماً مشغولاً بذكر الله وتسبيحه وحمده، وكان يسبح الله بهذه الكلمات المشرقة (سبحان من أشرق نوره كل ظلمة، سبحان من قدر بقدرته كل قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم، فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده)(24).
ملازمته صلاة الليل:
من النوافل التي كان لا يدعها الإمام (عليه السلام) صلاة الليل فكان مواظباً عليها في السفر والحضر(25) إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
دعاؤه بعد صلاة الليل:
وكان (عليه السلام) إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهذا نصه:
(اللهم يا ذا الملك المستأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعز الباقي على مر الدهور وخوالي الأعوام(26) ومواضي الأزمان والأيام، عز سلطانك عزاً لا حد له بأولية، ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علواً، سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، ولا يبلغ ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين، ضلت فيك الصفات، وتفسخت فيك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله في أوليتك، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً، الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الموصلات إلا ما وصلته رحمتك، وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك، قل عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر علي ما أبوء به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفو عن عبدك، وإن أساء فاعف عني..).
واحتوى هذا المقطع من دعائه على تعظيمه وتوحيده، وذكر بعض صفاته الرفيعة من الخلود الذي لا حد لأوله ولا لآخره، ومن السلطان القاهر القوي الذي لا يحتاج في تدعيم ملكه إلى الجنود والأعوان، وقد تفسخت النعوت وعجزت الصفات في أن تحكي أي صفة من صفاته أو أي ذاتية من ذاتياته فتعالى الله علواً كبيراً.
ويمضي الإمام في إظهار التذلل والخضوع والعبودية المطلقة لله تعالى الإمام (عليه السلام) من الله الحماية من هذا العدو الماكر الخبيث، ولنستمع إلى قطعة أخرى من هذا الدعاء:
(اللهم إنك أمرتني فتركت، ونهيتني فركبت، وسوّل لي الخطأ خاطر السوء ففرطت، ولا استشهد على صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجدي ليلاً ولا تثنى علي بإحيائها سنة، حاشا فروضك التي من ضيعها هلك، ولست أتوسل إليك بفضل نافلة، مع كثير ما أغفلت من وظائف فروضك، وتعديت عن مقامات حدودك إلى حرمات انتهكتها، وكبائر ذنوب اجترحتها(27) كانت عافيتك لي من فضائحها ستراً، وهذا مقام من استحيا لنفسه منك وسخط عليها، ورضي عنك فتلقاك بنفس خاشعة، ورقبة خاضعة، وظهر مثقل من الخطايا، واقفاً بين الرغبة إليك، والرهبة منك، وأنت أولى من رجاه، وأحق من خشيه واتقاه، فاعطني يا رب ما رجوت، وآمني ما حذرت، وعد علي بعائدة رحمتك، إنك أكرم المسؤولين..) ويعرض الإمام راهب أهل البيت (عليهم السلام) تذلله وخضوعه أمام الله، ويرى أن ما عمله من الحسنات العظام من إحياء ليلة في العبادة، والصيام في النهار وأدائه لجميع النوافل والمستحبات، وإحيائه لسنن الإسلام، وغير ذلك من ضروب المبرات التي لا تحصى، إنما هو قليل في جنب الله، فأي إنابة إلى الله مثل هذه الإنابة؟ وأي انقطاع إليه مثل هذا الانقطاع؟ حقاً لقد كان هذا الإمام انموذجاً فريداً في دنيا المتقين والصالحين.. ولنستمع إلى قطعة أخرى من هذا الدعاء:
(اللهم وإذ سترتني بعفوك، وتغمدتني(2
بفضلك في دار الفناء، بحضرة الأكفاء، فاجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقربين، والرسل المكرمين، والشهداء الصالحين، من جار كنت أكاتمه سيئآتي(29) ومن ذي رحم كنت احتشم منه(30) في سريراتي(31) لم أثق وقد تعلقت جميع آماله وأمانيه به تعالى، فقد اعتصم به، وانقطع إليه، ولنستمع إلى لوحة أخرى من هذا الدعاء الجليل:
(اللهم: وقد أشرف على خفايا الأعمال علمك، واكشف كل مستور دون خبرك، ولا تنطوي عنك دقائق الأمور، ولا تعزب عنك غيبات السرائر، وقد استحوذ عليّ عدوك الذي استنظرك(32) لغوايتي واستمهلك إلى يوم الدين لإضلالي فأمهلته، فأوقعني، وقد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة، وكبائر أعمال مردية، حتى إذا فارقت معصيتك، واستوجبت بسوء سعيي سخطتك، فتل(33) عني عذار(34) غدره، وتلقاني بكلمة كفره(35) وتولى البراءة مني وأدبر مولياً فأصحرني(36) لغضبك فريداً، وأخرجني إلى فناء نقمتك طريداً لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير(37) يؤمنني عليكن ولا حصن يحجبني عنك ولا ملاذا ألجأ إليه منك، فهذا مقام العائذ بك، ومحل المعترف لك فلا يضيقن عني فضلك، ولا يقصرن دوني عفوك، ولا أكن أخيب عبادك التائبين، ولا أقنط وفودك الآملين، واغفر لي إنك خير الغافرين..).
وتحدث الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرات عن ضعف النفس البشرية أمام الشهوات وعدم استطاعتها لمقاومة الشيطان الرجيم الذي استخدم النزعات الشريرة الكائنة في نفس الإنسان من الطمع والحرص والكبرياء وغيرها، وقد ملك زمامه واستولى على مشاعره وعواطفه، فأخذ يسخره ي ميادين الآثام والموبقات، ويبعده عن كل طريق يقربه من الله زلفى، ويطلب بهم رب في الستر علي(3
ووثقت ربك رب في المغفرة لي، وأنت أولى من وثق به، وأعطى من رغب إليه، وأرأف من استرحم فارحمني..).
وأعرب الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرات عن عظيم ثقته ورجائه بعفو الله وألطافه وطلب منه المغفرة والرضوان في دار الجزاء، وعرض (عليه السلام) لستر الله المرخي على عصاة عباده، كما طلب منه أن يجيره من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقربين، والرسل المكرمين، والشهداء والصالحين، وأعطى (عليه السلام) بذلك درساً إلى عصاة المسلمين في أن يتوبوا إلى الله توبة نصوحة، ويعملوا صالحاً ليظفروا برضوان الله ورحمته التي وسعت كل شيء.. ونعود إلى النظر في لوحة أخرى من هذا الدعاء الشريف:
(اللهم: وأنت حدرتني(39) ماء مهيناً من صلب متضائق العظام(40) حرج المسالك(41) إلى رحم ضيقة سترتها بالحجب، تصرفني حالاً عن حال، حتى انتهيت بي أي تمام الصورة، واثبت فيّ الجوارح كما نعت في كتابك(42) نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسوت العظام لحماً، ثم أنشأتني خلقاً آخر كما شئت، حتى إذا احتجت إلى رزقك، ولم استغن عن غياث فضلك، جعلت لي قوتاً من فضل طعام، وشراباً أجريته لأمتك(43) التي أسكنتني جوفها، وأودعتني قرار رحمها، ولو تكلني يا رب في تلك الحالات إلى حولي، أو تضطرني إلى قوتي لكان الحول عني معتزلاً(44) ولكانت القوة مني بعيدة، فغذوتني بفضلك غذاء البر اللطيف، تفعل ذلك بي تطولاً علي إلى غايتي هذه، لا أعدم برك، ولا يبطئ بي حسن صنيعك، ولا تتأكد مع ذلك ثقتي فاتفرغ لما هو أحظى لي عندك، قد ملك الشيطان عناني في سوء الظن وضعف اليقين، فأنا أشكو سوء مجاورته(45) لي، وطاعة نفسي له، وأستعصمك من ملكته، أتضرع إليك في صرف كيده عني وأسألك في أن تسهل إلى رزقي سبيلاً، فلك الحمد على ابتدائك بالنعم الجسام، وإلهامك الشكر على الإحسان والإنعام، فصل على محمد وآله وسهل علي رزقي، وإن تقنعني بتقديرك لي، وأن ترضيني بحصتي فيما قسمت لي، وأن تجعل ما ذهب من جسمي وعمري في سبيل طاعتك، إنك خير الرازقين..).
وحفلت هذه الفقرات بأوثق الأدلة على وجود الخالق العظيم، وهو خلقه تعالى للإنسان من ماء مهين وضع في رحم ضيق، وأخذه بعد ذلك بالتطور والانتقال من حال إلى حال حتى ينتهي إلى التكامل، وهو من أعظم مخلوقات الله لما فيه من الأجهزة العجيبة كأجهزة الفكر والبصر والسمع وغيرها مما تدلل على وجود الخالق الحكيم، وقد كان حديث الإمام (عليه السلام) مستقى من القرآن الكريم الذي فصل تطور خلق الإنسان، ومن الجدير بالذكر أن القرآن قد اكتشف كيفية تكوين الجنين على وجه الدقة، وأفاد الإنسانية بهذه الحقيقة المذهلة، يقول السيد قطب: (يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً بعد تقدم علم الأجنة التشريحي ذلك أن خلايا العظم غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً، في الجنين، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي سجلها النص القرآني..)(46).
وعلى أي حال فإن الإمام (عليه السلام) بعدما ذكر نعمة الله الكبرى عليه، فزع إليه متضرعاً في أن ينجيه من كيد الشيطان وغروره فإنه العدو الأول للإنسان.. ولنستمع إلى القطعة الأخيرة من هذا الدعاء:
اللهم إني أعوذ بك من نار تغلظت بها على من عصاك، وتوعدت بها من صدف عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهينها أليم(47) وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعض، ويصول(4
بعضها على بعض، ومن نار تذر العظام رميماً، وتسقي أهلها حميما(49) ومن نار لا تبقي على من تضرع إليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر على التخفيف عمن خشع لها، واستسلم إليها، تلقي سكانها بأحر ما لديها من أليم النكال، وشديد الوبال، وأعوذ بك من عقاربها الفاغرة أفواهها(50) وحياتها الصالقة(51) بأنيابها، وشرابها الذي يقطع أمعاء وأفئدة سكانها، وينزع قلوبهم وأستهديك لما باعد منها، وأخر عنها..
اللهم صل على محمد وآله، وأجرني منها بفضل رحمتك، وأقلني عثراتي بحسن إقالتك، ولا تخذلني يا خير المجيرين، اللهم إنك تقي الكريهة، وتعطي الحسنة، وتفعل ما تريد، وأنت على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وآله إذا ذكر الأبرار(52) وصل على محمد وآله ما اختلف الليل والنهار صلاة لا ينقطع مددها، ولا يحصى عددها صلاة تشحن(53) الهواء وتملأ الأرض والسماء، صلى الله عليه حتى يرضى، وصلى الله عليه وآله بعد الرضا، صلاة لا حد لها، ولا منتهى، يا أرحم الراحمين(54) واحتوت هذه الفقرات على وصف مفزع ومذهل لنار جهنم التي أعدها الله للفجرة والمستبدين والطغاة من عباد الله من الذين أشاعوا الجور والفساد في الأرض فإنهم يعانون في نار جهنم من صنوف التعذيب مالا يوصف لهوله وفظاعته أعاذنا الله منها.
وبهذا ينتهي هذا الدعاء الشريف الذي كان يدعو به الإمام بعد صلاة الليل وهو من غرر أدعية أهل البيت (عليهم السلام).
ضعفه وذبوله:
وذبل الإمام زين العابدين (عليه السلام) من كثرة الصلاة، فقد أجهدته العبادة أي إجهاد، وقد بلغ به الضعف أن الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة(55) التي تميلها الريح إذ لم تكن عنده قوة يستطيع بها الوقوف، وروى ابنه عبد الله قال: كان أبي يصلي بالليل فإذا فرغ يزحف إلى فراشه(56) وذلك لأنه لا طاقة له على القيام لشدة التعب والضعف والإعياء.
وأشفق عليه أهله ومحبوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة صلاته وعبادته، وخافوا عليه من الموت، فكلموه في ذلك فأبى أن يجيبهم، أصر على ملازمته لنوافله وعبادته حتى يلحق بآبائه،
وفيما يلي بعض من كلموه:
1- بعض أبنائه:
وخاف عليه بعض أبنائه، فانبرى إليه بلهفة ووجل قائلاً:
(يا أبت كم هذا الدؤوب - يعني على الصلاة-؟..).
فأجابه الإمام برفق وحنان:
(أتحبب إلى ربي..)(57).
لقد تحبب إلى ربه، وتقرب إليه بجميع الطرق والوسائل، وليس في دنيا المتقين والصالحين من يضارعه في إنابته وشدة تعلقه بالله.
2- جابر الأنصاري:
وكان الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الأنصاري قد أشفق على الإمام (عليه السلام) وطلب منه أن يخفف من عبادته، ولا يجهد نفسه وقد روى حديثه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: لما رأت فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة أقبلت إلى جابر بن عبد الله الأنصاري فقالت له:
(يا صاحب رسول الله إن لنا عليكم حقوقاً، ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله، وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه، ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه مما دأب على نفسه في العبادة..).
وانطلق جابر إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) فوجده في محرابه قد أضنته العبادة، وأجهدته الطاعةن ولما رآه الإمام استقبله، وأجلسه إلى جنبه وسأله سؤالاً حفياً عن حاله، فالتفت إليه جابر قائلاً:
(يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالى إنما خلق الجنة لكم، ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم، وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟).
فأجابه الإمام برفق ولطف:
(يا صاحب رسول الله، أما علمت أن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد له، وتعبد - بأبي وأمي - حتى انتفخ ساقه، وورم قدمه وقد قيل له: أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال:
(أفلا أكون عبداً شكوراً..).
ولما نظر جابر إلى الإمام لا يغني معه قول يميل به من الجهد والتعب طفق يقول له:
(يا ابن رسول الله، البُقيا على نفسك، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء وبهم يستكشف الأدواء، وبهم تستمطر السماء..).
فأجابه الإمام بصوت خافت:
(لا أزال على منهاج أبوي متأسياً بهما حتى ألقاهما..).
وبهر جابر، وأقبل على من حوله قائلا:
ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب، والله لذرية الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب!! إن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا..)(5
.
أجل والله إنه ليس في أولاد الأنيباء مثل علي بن الحسين في ورعه وتقواه، وسائر مثله العليا إلى رفعته إلى القمة التي انتهى إليها العظماء من آبائه، وأعلن جابر أن ذرية الإمام الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب، لأن فيهم المصلح العظيم قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذي بشر به النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا وذلك في أيام حكومته وسلطانه.
3- عبد الملك:
وممن أشفق على الإمام من كثرة عبادته عبد الملك بن مروان، وذلك حينما وفد عليه الإمام ليشفعه في جماعة من المسلمين كانت السلطة قد ألقت القبض عليهم فلما رآه عبد الملك استعظم ما رآه عليه من أثر السجود بين عينيه فقال له:
(لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قريب النسب، وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك، وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك، ولا قبلك إلا من مضى من سلفك..).
وأقبل على الإمام يطريه، ويذكر فضله ومآثره، فلما انتهى من كلامه، قال له الإمام:
(كل ما ذكرته من فضل الله سبحانه، وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم؟ ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقف للصلاة حتى تتورم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه(59) فقيل له يا رسول اله الم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فيقول (صلى الله عليه وآله): أفلا أكون عبداً شكوراً.
الحمد لله على ما أولى، وأبلى، وله الحمد في الآخرة والأولى، والله لو تقطعت أعضائي، وسالت مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلالة بشكر عشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولا يبلغ أحد نعمة منها، على جميع حمد الحامدين، لا والله أو يراني الله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار، ولا سر ولا علانية، ولولا أن لأهلي علي حقاً، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم علي حقوقاً لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم لرميت بطرفي إلى السماء، وبقلبي إلى الله، ثم لم أردهما حتى يفضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين..).
وبكى الإمام بكاءً شديداً، وأثر كلامه ومنظره الذي تعنوا له الجباه، وتذل له القراب في نفس الطاغية عبد الملك، فراح يقول بتأثر وإعجاب:
(شتان بين عبد طلب الآخرة، وسعى لها سعيها، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته، ما له في الآخرة من خلاق..).
وخضع عبد الملك فشفعه فيمن جاء فيهم، وأطلق سراحهم(60).
هؤلاء بعض الذين أشفقوا على الإمام من كثرة صلاته وعبادته فقد طلبوا منه بإلحاح أن يخفف منها، ويميل من التعب إلى الراحة إلا أن الإمام لم يجبهم إلى ذلك، فقد وجد في الصلاة راحة نفسية لا يعد لها أي شيء.
صومه:
وقضى الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينا سئلت عن عبادته: ما قدمت له طعاماً في نهار قط، وقد أحب الصوم، وحث عليه فقد قال: (إن الله تعالى وكل ملائكة بالصائمين)(61) وكان (عليه السلام) لا يفطر إلا في يوم العيدين، وغيرهما ما كان له عذر.
حجه:
أما الحج إلى بيت الله الحرام فكان الإمام (عليه السلام) ملازماً له لأنه يجد في مواقفه الكريمة انتعاشاً لنفسه التي أذابها كوارث كربلاء، وكان (عليه السلام) بحث على الحج والعمرة وذلك لما يترتب عليهما من الفوائد فقد قال: (حجوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم وتكفوا مؤونة الناس، ومؤونة عيالكم(62) وقال (عليه السلام) الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله(63) وقال (عليه السلام): (الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة(64) كما كان يدعو إلى تكريم الحجاج إذا قدموا من بيت الله الحرام وتبجيلهم، فقد قال: استبشروا بالحجاج إذا قدموا وصافحوهم، وعظموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب(65) ونعرض - بإيجاز - لبعض شؤونه في حجه.
حجه ماشياً:
وحج الإمام (عليه السلام) غير مرة ماشياً على قدميه كما حج أبوه، وعمه الحسن (عليهما السلام) وقد استغرق الوقت في إحدى سفراته إلى البيت عشرين يوماً(66).
حجه راكباً:
وحج (عليه السلام) على ناقته عشرين حجة، وكان يرفق بها كثيراً، ويقول المؤرخون: أنه ما قرعها بسوط(67) وقال إبراهيم بن علي: حججت مع علي بن الحسين فتلكأت ناقته فأشار إليها بقضيب، ثم رد يده، وقال: آه من القصاص، وتلكأت عليه مرة أخرى بين جبال رضوى، فأراها القضيب، وقال: لتنطلقن أو لأفعلن، ثم ركبها فانطلقت(6
لقد سمت نفسه إلى هذا المستوى من الرحمة والرأفة والرفق بالحيوان فلم يقرع ناقته بسوط ولم يفزعها، ويرى أن الاعتداء على الحيوان يتبعه قصاص ومسؤولية في دار الآخرة.
مرافقة القراء له:
كان الإمام (عليه لسلام) إذا أراد السفر إلى بيت الله الحرام احتف به القراء والعلماء لأنهم كانوا يكتسبون منه العلوم، والمعارف، والحكم، والآداب، يقول سعيد بن المسيب أن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب(69) وكانوا يتعلمون منه مسائل الحج، وأحكام الدين، وسائر شؤون الشريعة الإسلامية، إذ لم يكن في عصره - بإجماع المؤرخين والرواة - من هو أعلم منه بأحكام الكتاب والسنة.
زاده إلى الحج:
وكان الإمام (عليه السلام) يستعد أحسن استعداد وأكمله في سفره إلى الحج أو العمرة فكان يتزود من أطيب الزاد وأثمره من اللوز والسكر، والسويق المحمض، والمحلى(70) وقد صنعت له في إحدى سفراته أخته السيدة الزكية سكينة زاداً نفيساً أنفقت عليه ألف درهم إلا أنه لما كان بظهر الحرة أمر بتوزيعه على الفقراء والمساكين فوزع عليهم(71).
يتبع تحت
اللهم صل على محمد واله
كيف تعبد سيد الساجدين ؟ كيف تعبد من لقب بزين العابدين ؟ كيف تعبد وارث المصائب الامام علي بن الحسين السجاد عليهما السلام
وأجمع المسلمون على أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان من أعبد الناس، وأكثرهم طاعة لله تعالى، ولم ير الناس مثله في عظيم إنابته وعبادته، وقد بر المتقون والصالحون، وحسبه أنه وحده في تاريخ الإسلام قد لقب بزين العابدين وسيد الساجدين.
أما عبادته (عليه السلام) فلم تكن تقليدية،
وإنما كانت ناشئة عن إيمانه العميق بالله تعالى، وكمال معرفته به، فقد عبده لا طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره وإنما وجده أهلاً للعبادة فعبده، شأنه في ذلك شأن جده الإمام أمير المؤمنين وسيد العارفين وإمام المتقين، الذي عبد الله عبادة الأحرار، وقد اقتدى به حفيده العظيم زين العابدين (عليه السلام) وقد أعرب عن عظيم إخلاصه في عبادته، فقال: (إني أكره أن أعبد الله، ولا غرض لي إلا ثوابه، فأكون كالعبد الطامع، إن طمع عمل، وإلا لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عذابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل..).
فانبرى إليه بعض الجالسين فقال له"
(فبم تعبده؟).
فأجابه عن خالص إيمانه.
وأعبده لما هو أهله بأياديه إنعامه..)(1).
لقد كانت عبادته عن معرفة لا يشوبها شك أو وهم، كما لم تك وليدة طمع أو خوف، وإنما كانت وليدة إيمان عميق، وقد تحدث (عليه السلام) عن أنواع العبادة بقوله: (إن قوماً عبدوا الله عز وجل رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار..)(2) هذه أنواع العبادة والطاعة، وأثقلها في الميزان، وأحبها لله هي عبادة الأحرار التي لا تكون إلا شكراً للمنعم العظيم لا طمعاً في ثوابه، ولا خوفاً من عقابه، وقد أكد الإمام (عليه السلام) ذلك في حديث آخر له قال: (عبادة الأحرار لا تكون إلا شكراً لا خوفاً ولا رغبة)(3).
لقد امتزج حب الله في قلب الإمام، وعواطفه فكان من ذاتياته وعناصره، ويقول الرواة: أنه كان مشغولا بعبادة الله وطاعته في جميع أوقاته وقد سئلت جارية له عن عبادته فقالت:
(أطنب، أو أختصر..).
(بل اختصري..).
ما أتيته بطعام نهاراً قط، وما فرشت له فراشاً بليل قط..)(4).
لقد قضى الإمام (عليه السلام) معظم حياته صائما نهارا، قائما ليله، مشغولاً تارة في الصلاة، وأخرى في صدقة السر.. ومن المؤكد أنه ليس في تاريخ زهاد المسلمين وعبادهم مثل الإمام علي بن الحسين في عظيم إخلاصه وطاعته لله، ونعرض لبعض شؤون عباداته.
وضوءه:
أما الوضوء فهو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأولى للصلاة، وكان الإمام (عليه السلام) دوماً على طهارة، وقد حدث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالوا: إنه أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله:
(ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟..).
فأجابهم عن خوفه، وخشيته من الله قائلاً:
(أتدرون بين يدي من أقوم؟..)(5).
وبلغ من اهتمامه أنه كان لا يعينه أحد عليه، وكان بنفسه يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم شرع وضوءه وبعد الفراغ منه يقبل على صلاته(6).
صلاته:
أما الصلاة فمعراج المؤمن، وقربان كل تقي - كما في الحديث - وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام (عليه السلام) فقد اتخذها معراجا ترفعه إلى الله، وتسمو به إلى الاتصال بخالق الكون وواهب الحياة، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟(7).
تطيبه للصلاة:
وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته(

لباسه في صلاته:
وكان الإمام (عليه السلام) إذا أراد الصلاة لبس الصوف، وأغلظ الثياب(9) مبالغة في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم.
خشوعه في صلاته:
أما صلاة الإمام (عليه السلام) فكانت تمثل الانقطاع التام إلى الله تعالى، والتجرد من عالم الماديات، فكان لا يحس بشيء من حوله، بل لا يحس بنفسه، فقد تعلق قلبه بالله، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلى الصلاة غشى لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً، وتحدث الإمام الباقر عن خشوع أبيه في صلاته فقال: كان علي بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه(10) ونقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق (عليه السلام) صلاة جده الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقال له:
(إني رأيت علي بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه لوناً آخر..) وبهر الإمام الصادق (عليه السلام) فقال:
(والله إن علي بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه..)(11) أجل والله أنه كان على معرفة تامة بعظمة الخالق الحكيم، فكانت عبادته له عن معرفة وطاعته له عن إيمان.
وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنه إذا سجد لا يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً(12) أو كأنه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه(13) ونقل الرواة عن أبي حمزة الثمالي أنه رأى الإمام قد صلى فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليها منها بقلبه(14).
وبلغ من شدة تعلقه بالله في حال صلاته أن ابنا له سقط في بئر ففزع أهل المدينة فأنقذوه، وكان الإمام قائماً يصلي في محرابه، ولم يشعر بذلك، ولما انتهى من صلاته قيل له في ذلك فقال: ما شعرت، إني كنت أناجي رباً عظيماً(15) .
ووقع حريق في بيته، وكان مشغولاً في صلاته فلم يعن به، ولما فرغ من صلاته، قيل له في ذلك فقال: ألهتني عنها النار الكبرى(16) وفسر عبد الكريم القشيري هذه الظاهرة المذهلة التي كانت ملازمة للإمام حال صلاته بأنها من باب غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه.. إنه قد يغيب القلب عن إحساسه بنفسه وغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب(17).
صلاة ألف ركعة:
وأجمع المترجمون للإمام (عليه السلام) أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة(1

قضاؤه للنوافل:
ولم تفته نافلة من النوافل طيلة حياته، وكان يقضي ما فاته من صلاة النهار بالليل، وكان يوصي أبناءه بذلك، ويقول لهم: يا بني ليس هذا عليكم بواجب ولكن أحب لمن عود نفسه منكم عادة من الخير أن يدوم عليها(21).
كثرة سجوده:
إن أقرب ما يكون العبد من ربه هو في حال سجوده - كما في الحديث - وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير السجود لله خضوعاً له، وتذليلاً أمامه، ويقول الرواة: إنه خرج مرة إلى الصحراء فتبعه مولى له فوجده ساجداً على حجارة خشنة فأحصى عليه ألف مرة يقول: لا إله إلا الله حقاً حقاً، لا إله إلا الله تعبدا ورقاً، لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً(22). وكان سجد سجدة الشكر، ويقول فيها: مائة مرة (الحمد لله شكراً) وبعدها يقول: (يا ذا المن الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا المعروف الذي لا ينفذ أبداً، يا كريم، يا كريم، ويتضرع بعد ذلك ويذكر حاجته(23).
كثرة تسبيحه:
وكان دوماً مشغولاً بذكر الله وتسبيحه وحمده، وكان يسبح الله بهذه الكلمات المشرقة (سبحان من أشرق نوره كل ظلمة، سبحان من قدر بقدرته كل قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم، فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده)(24).
ملازمته صلاة الليل:
من النوافل التي كان لا يدعها الإمام (عليه السلام) صلاة الليل فكان مواظباً عليها في السفر والحضر(25) إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
دعاؤه بعد صلاة الليل:
وكان (عليه السلام) إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهذا نصه:
(اللهم يا ذا الملك المستأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعز الباقي على مر الدهور وخوالي الأعوام(26) ومواضي الأزمان والأيام، عز سلطانك عزاً لا حد له بأولية، ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علواً، سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، ولا يبلغ ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين، ضلت فيك الصفات، وتفسخت فيك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله في أوليتك، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً، الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الموصلات إلا ما وصلته رحمتك، وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك، قل عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر علي ما أبوء به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفو عن عبدك، وإن أساء فاعف عني..).
واحتوى هذا المقطع من دعائه على تعظيمه وتوحيده، وذكر بعض صفاته الرفيعة من الخلود الذي لا حد لأوله ولا لآخره، ومن السلطان القاهر القوي الذي لا يحتاج في تدعيم ملكه إلى الجنود والأعوان، وقد تفسخت النعوت وعجزت الصفات في أن تحكي أي صفة من صفاته أو أي ذاتية من ذاتياته فتعالى الله علواً كبيراً.
ويمضي الإمام في إظهار التذلل والخضوع والعبودية المطلقة لله تعالى الإمام (عليه السلام) من الله الحماية من هذا العدو الماكر الخبيث، ولنستمع إلى قطعة أخرى من هذا الدعاء:
(اللهم إنك أمرتني فتركت، ونهيتني فركبت، وسوّل لي الخطأ خاطر السوء ففرطت، ولا استشهد على صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجدي ليلاً ولا تثنى علي بإحيائها سنة، حاشا فروضك التي من ضيعها هلك، ولست أتوسل إليك بفضل نافلة، مع كثير ما أغفلت من وظائف فروضك، وتعديت عن مقامات حدودك إلى حرمات انتهكتها، وكبائر ذنوب اجترحتها(27) كانت عافيتك لي من فضائحها ستراً، وهذا مقام من استحيا لنفسه منك وسخط عليها، ورضي عنك فتلقاك بنفس خاشعة، ورقبة خاضعة، وظهر مثقل من الخطايا، واقفاً بين الرغبة إليك، والرهبة منك، وأنت أولى من رجاه، وأحق من خشيه واتقاه، فاعطني يا رب ما رجوت، وآمني ما حذرت، وعد علي بعائدة رحمتك، إنك أكرم المسؤولين..) ويعرض الإمام راهب أهل البيت (عليهم السلام) تذلله وخضوعه أمام الله، ويرى أن ما عمله من الحسنات العظام من إحياء ليلة في العبادة، والصيام في النهار وأدائه لجميع النوافل والمستحبات، وإحيائه لسنن الإسلام، وغير ذلك من ضروب المبرات التي لا تحصى، إنما هو قليل في جنب الله، فأي إنابة إلى الله مثل هذه الإنابة؟ وأي انقطاع إليه مثل هذا الانقطاع؟ حقاً لقد كان هذا الإمام انموذجاً فريداً في دنيا المتقين والصالحين.. ولنستمع إلى قطعة أخرى من هذا الدعاء:
(اللهم وإذ سترتني بعفوك، وتغمدتني(2

(اللهم: وقد أشرف على خفايا الأعمال علمك، واكشف كل مستور دون خبرك، ولا تنطوي عنك دقائق الأمور، ولا تعزب عنك غيبات السرائر، وقد استحوذ عليّ عدوك الذي استنظرك(32) لغوايتي واستمهلك إلى يوم الدين لإضلالي فأمهلته، فأوقعني، وقد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة، وكبائر أعمال مردية، حتى إذا فارقت معصيتك، واستوجبت بسوء سعيي سخطتك، فتل(33) عني عذار(34) غدره، وتلقاني بكلمة كفره(35) وتولى البراءة مني وأدبر مولياً فأصحرني(36) لغضبك فريداً، وأخرجني إلى فناء نقمتك طريداً لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير(37) يؤمنني عليكن ولا حصن يحجبني عنك ولا ملاذا ألجأ إليه منك، فهذا مقام العائذ بك، ومحل المعترف لك فلا يضيقن عني فضلك، ولا يقصرن دوني عفوك، ولا أكن أخيب عبادك التائبين، ولا أقنط وفودك الآملين، واغفر لي إنك خير الغافرين..).
وتحدث الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرات عن ضعف النفس البشرية أمام الشهوات وعدم استطاعتها لمقاومة الشيطان الرجيم الذي استخدم النزعات الشريرة الكائنة في نفس الإنسان من الطمع والحرص والكبرياء وغيرها، وقد ملك زمامه واستولى على مشاعره وعواطفه، فأخذ يسخره ي ميادين الآثام والموبقات، ويبعده عن كل طريق يقربه من الله زلفى، ويطلب بهم رب في الستر علي(3

وأعرب الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرات عن عظيم ثقته ورجائه بعفو الله وألطافه وطلب منه المغفرة والرضوان في دار الجزاء، وعرض (عليه السلام) لستر الله المرخي على عصاة عباده، كما طلب منه أن يجيره من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقربين، والرسل المكرمين، والشهداء والصالحين، وأعطى (عليه السلام) بذلك درساً إلى عصاة المسلمين في أن يتوبوا إلى الله توبة نصوحة، ويعملوا صالحاً ليظفروا برضوان الله ورحمته التي وسعت كل شيء.. ونعود إلى النظر في لوحة أخرى من هذا الدعاء الشريف:
(اللهم: وأنت حدرتني(39) ماء مهيناً من صلب متضائق العظام(40) حرج المسالك(41) إلى رحم ضيقة سترتها بالحجب، تصرفني حالاً عن حال، حتى انتهيت بي أي تمام الصورة، واثبت فيّ الجوارح كما نعت في كتابك(42) نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسوت العظام لحماً، ثم أنشأتني خلقاً آخر كما شئت، حتى إذا احتجت إلى رزقك، ولم استغن عن غياث فضلك، جعلت لي قوتاً من فضل طعام، وشراباً أجريته لأمتك(43) التي أسكنتني جوفها، وأودعتني قرار رحمها، ولو تكلني يا رب في تلك الحالات إلى حولي، أو تضطرني إلى قوتي لكان الحول عني معتزلاً(44) ولكانت القوة مني بعيدة، فغذوتني بفضلك غذاء البر اللطيف، تفعل ذلك بي تطولاً علي إلى غايتي هذه، لا أعدم برك، ولا يبطئ بي حسن صنيعك، ولا تتأكد مع ذلك ثقتي فاتفرغ لما هو أحظى لي عندك، قد ملك الشيطان عناني في سوء الظن وضعف اليقين، فأنا أشكو سوء مجاورته(45) لي، وطاعة نفسي له، وأستعصمك من ملكته، أتضرع إليك في صرف كيده عني وأسألك في أن تسهل إلى رزقي سبيلاً، فلك الحمد على ابتدائك بالنعم الجسام، وإلهامك الشكر على الإحسان والإنعام، فصل على محمد وآله وسهل علي رزقي، وإن تقنعني بتقديرك لي، وأن ترضيني بحصتي فيما قسمت لي، وأن تجعل ما ذهب من جسمي وعمري في سبيل طاعتك، إنك خير الرازقين..).
وحفلت هذه الفقرات بأوثق الأدلة على وجود الخالق العظيم، وهو خلقه تعالى للإنسان من ماء مهين وضع في رحم ضيق، وأخذه بعد ذلك بالتطور والانتقال من حال إلى حال حتى ينتهي إلى التكامل، وهو من أعظم مخلوقات الله لما فيه من الأجهزة العجيبة كأجهزة الفكر والبصر والسمع وغيرها مما تدلل على وجود الخالق الحكيم، وقد كان حديث الإمام (عليه السلام) مستقى من القرآن الكريم الذي فصل تطور خلق الإنسان، ومن الجدير بالذكر أن القرآن قد اكتشف كيفية تكوين الجنين على وجه الدقة، وأفاد الإنسانية بهذه الحقيقة المذهلة، يقول السيد قطب: (يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً بعد تقدم علم الأجنة التشريحي ذلك أن خلايا العظم غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً، في الجنين، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي سجلها النص القرآني..)(46).
وعلى أي حال فإن الإمام (عليه السلام) بعدما ذكر نعمة الله الكبرى عليه، فزع إليه متضرعاً في أن ينجيه من كيد الشيطان وغروره فإنه العدو الأول للإنسان.. ولنستمع إلى القطعة الأخيرة من هذا الدعاء:
اللهم إني أعوذ بك من نار تغلظت بها على من عصاك، وتوعدت بها من صدف عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهينها أليم(47) وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعض، ويصول(4

اللهم صل على محمد وآله، وأجرني منها بفضل رحمتك، وأقلني عثراتي بحسن إقالتك، ولا تخذلني يا خير المجيرين، اللهم إنك تقي الكريهة، وتعطي الحسنة، وتفعل ما تريد، وأنت على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وآله إذا ذكر الأبرار(52) وصل على محمد وآله ما اختلف الليل والنهار صلاة لا ينقطع مددها، ولا يحصى عددها صلاة تشحن(53) الهواء وتملأ الأرض والسماء، صلى الله عليه حتى يرضى، وصلى الله عليه وآله بعد الرضا، صلاة لا حد لها، ولا منتهى، يا أرحم الراحمين(54) واحتوت هذه الفقرات على وصف مفزع ومذهل لنار جهنم التي أعدها الله للفجرة والمستبدين والطغاة من عباد الله من الذين أشاعوا الجور والفساد في الأرض فإنهم يعانون في نار جهنم من صنوف التعذيب مالا يوصف لهوله وفظاعته أعاذنا الله منها.
وبهذا ينتهي هذا الدعاء الشريف الذي كان يدعو به الإمام بعد صلاة الليل وهو من غرر أدعية أهل البيت (عليهم السلام).
ضعفه وذبوله:
وذبل الإمام زين العابدين (عليه السلام) من كثرة الصلاة، فقد أجهدته العبادة أي إجهاد، وقد بلغ به الضعف أن الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة(55) التي تميلها الريح إذ لم تكن عنده قوة يستطيع بها الوقوف، وروى ابنه عبد الله قال: كان أبي يصلي بالليل فإذا فرغ يزحف إلى فراشه(56) وذلك لأنه لا طاقة له على القيام لشدة التعب والضعف والإعياء.
وأشفق عليه أهله ومحبوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة صلاته وعبادته، وخافوا عليه من الموت، فكلموه في ذلك فأبى أن يجيبهم، أصر على ملازمته لنوافله وعبادته حتى يلحق بآبائه،
وفيما يلي بعض من كلموه:
1- بعض أبنائه:
وخاف عليه بعض أبنائه، فانبرى إليه بلهفة ووجل قائلاً:
(يا أبت كم هذا الدؤوب - يعني على الصلاة-؟..).
فأجابه الإمام برفق وحنان:
(أتحبب إلى ربي..)(57).
لقد تحبب إلى ربه، وتقرب إليه بجميع الطرق والوسائل، وليس في دنيا المتقين والصالحين من يضارعه في إنابته وشدة تعلقه بالله.
2- جابر الأنصاري:
وكان الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الأنصاري قد أشفق على الإمام (عليه السلام) وطلب منه أن يخفف من عبادته، ولا يجهد نفسه وقد روى حديثه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: لما رأت فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة أقبلت إلى جابر بن عبد الله الأنصاري فقالت له:
(يا صاحب رسول الله إن لنا عليكم حقوقاً، ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله، وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه، ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه مما دأب على نفسه في العبادة..).
وانطلق جابر إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) فوجده في محرابه قد أضنته العبادة، وأجهدته الطاعةن ولما رآه الإمام استقبله، وأجلسه إلى جنبه وسأله سؤالاً حفياً عن حاله، فالتفت إليه جابر قائلاً:
(يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالى إنما خلق الجنة لكم، ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم، وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟).
فأجابه الإمام برفق ولطف:
(يا صاحب رسول الله، أما علمت أن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد له، وتعبد - بأبي وأمي - حتى انتفخ ساقه، وورم قدمه وقد قيل له: أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال:
(أفلا أكون عبداً شكوراً..).
ولما نظر جابر إلى الإمام لا يغني معه قول يميل به من الجهد والتعب طفق يقول له:
(يا ابن رسول الله، البُقيا على نفسك، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء وبهم يستكشف الأدواء، وبهم تستمطر السماء..).
فأجابه الإمام بصوت خافت:
(لا أزال على منهاج أبوي متأسياً بهما حتى ألقاهما..).
وبهر جابر، وأقبل على من حوله قائلا:
ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب، والله لذرية الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب!! إن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا..)(5

أجل والله إنه ليس في أولاد الأنيباء مثل علي بن الحسين في ورعه وتقواه، وسائر مثله العليا إلى رفعته إلى القمة التي انتهى إليها العظماء من آبائه، وأعلن جابر أن ذرية الإمام الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب، لأن فيهم المصلح العظيم قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذي بشر به النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا وذلك في أيام حكومته وسلطانه.
3- عبد الملك:
وممن أشفق على الإمام من كثرة عبادته عبد الملك بن مروان، وذلك حينما وفد عليه الإمام ليشفعه في جماعة من المسلمين كانت السلطة قد ألقت القبض عليهم فلما رآه عبد الملك استعظم ما رآه عليه من أثر السجود بين عينيه فقال له:
(لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قريب النسب، وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك، وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك، ولا قبلك إلا من مضى من سلفك..).
وأقبل على الإمام يطريه، ويذكر فضله ومآثره، فلما انتهى من كلامه، قال له الإمام:
(كل ما ذكرته من فضل الله سبحانه، وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم؟ ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقف للصلاة حتى تتورم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه(59) فقيل له يا رسول اله الم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فيقول (صلى الله عليه وآله): أفلا أكون عبداً شكوراً.
الحمد لله على ما أولى، وأبلى، وله الحمد في الآخرة والأولى، والله لو تقطعت أعضائي، وسالت مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلالة بشكر عشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولا يبلغ أحد نعمة منها، على جميع حمد الحامدين، لا والله أو يراني الله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار، ولا سر ولا علانية، ولولا أن لأهلي علي حقاً، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم علي حقوقاً لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم لرميت بطرفي إلى السماء، وبقلبي إلى الله، ثم لم أردهما حتى يفضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين..).
وبكى الإمام بكاءً شديداً، وأثر كلامه ومنظره الذي تعنوا له الجباه، وتذل له القراب في نفس الطاغية عبد الملك، فراح يقول بتأثر وإعجاب:
(شتان بين عبد طلب الآخرة، وسعى لها سعيها، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته، ما له في الآخرة من خلاق..).
وخضع عبد الملك فشفعه فيمن جاء فيهم، وأطلق سراحهم(60).
هؤلاء بعض الذين أشفقوا على الإمام من كثرة صلاته وعبادته فقد طلبوا منه بإلحاح أن يخفف منها، ويميل من التعب إلى الراحة إلا أن الإمام لم يجبهم إلى ذلك، فقد وجد في الصلاة راحة نفسية لا يعد لها أي شيء.
صومه:
وقضى الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينا سئلت عن عبادته: ما قدمت له طعاماً في نهار قط، وقد أحب الصوم، وحث عليه فقد قال: (إن الله تعالى وكل ملائكة بالصائمين)(61) وكان (عليه السلام) لا يفطر إلا في يوم العيدين، وغيرهما ما كان له عذر.
حجه:
أما الحج إلى بيت الله الحرام فكان الإمام (عليه السلام) ملازماً له لأنه يجد في مواقفه الكريمة انتعاشاً لنفسه التي أذابها كوارث كربلاء، وكان (عليه السلام) بحث على الحج والعمرة وذلك لما يترتب عليهما من الفوائد فقد قال: (حجوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم وتكفوا مؤونة الناس، ومؤونة عيالكم(62) وقال (عليه السلام) الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله(63) وقال (عليه السلام): (الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة(64) كما كان يدعو إلى تكريم الحجاج إذا قدموا من بيت الله الحرام وتبجيلهم، فقد قال: استبشروا بالحجاج إذا قدموا وصافحوهم، وعظموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب(65) ونعرض - بإيجاز - لبعض شؤونه في حجه.
حجه ماشياً:
وحج الإمام (عليه السلام) غير مرة ماشياً على قدميه كما حج أبوه، وعمه الحسن (عليهما السلام) وقد استغرق الوقت في إحدى سفراته إلى البيت عشرين يوماً(66).
حجه راكباً:
وحج (عليه السلام) على ناقته عشرين حجة، وكان يرفق بها كثيراً، ويقول المؤرخون: أنه ما قرعها بسوط(67) وقال إبراهيم بن علي: حججت مع علي بن الحسين فتلكأت ناقته فأشار إليها بقضيب، ثم رد يده، وقال: آه من القصاص، وتلكأت عليه مرة أخرى بين جبال رضوى، فأراها القضيب، وقال: لتنطلقن أو لأفعلن، ثم ركبها فانطلقت(6

مرافقة القراء له:
كان الإمام (عليه لسلام) إذا أراد السفر إلى بيت الله الحرام احتف به القراء والعلماء لأنهم كانوا يكتسبون منه العلوم، والمعارف، والحكم، والآداب، يقول سعيد بن المسيب أن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب(69) وكانوا يتعلمون منه مسائل الحج، وأحكام الدين، وسائر شؤون الشريعة الإسلامية، إذ لم يكن في عصره - بإجماع المؤرخين والرواة - من هو أعلم منه بأحكام الكتاب والسنة.
زاده إلى الحج:
وكان الإمام (عليه السلام) يستعد أحسن استعداد وأكمله في سفره إلى الحج أو العمرة فكان يتزود من أطيب الزاد وأثمره من اللوز والسكر، والسويق المحمض، والمحلى(70) وقد صنعت له في إحدى سفراته أخته السيدة الزكية سكينة زاداً نفيساً أنفقت عليه ألف درهم إلا أنه لما كان بظهر الحرة أمر بتوزيعه على الفقراء والمساكين فوزع عليهم(71).
يتبع تحت
تعليق