المحاور : لقد قطعت هذا الطريق الطويل إليك لأجل أن أحاورك بالأمر الذي لا زالت الأمة مختلفةٌ فيه ألا وهو موضوع الإمامة . فقد أُخبرت أن لك فيها آراءً غريبةً لها أدلةٌ دامغةٌ وإن كنت أحتمل أن ذلك من المبالغات .
المؤلف : أشكرك على ما تخبرني به عن حقيقة ما شعرت به .
المحاور : إذن فاخبرني عن تلك الأدلة التي تثبت أن الإمامة لا تكون إلاّ بالتعيين وعلى فرد مخصوص من قبل الله تعالى ورسوله الأمين ولا يجوز أن تكون باختيار المؤمنين إن كنت تعتقد بصحة التعيين .
المؤلف : نعم إني أعتقد صحة التعيين وأرى أن اختيار الناس لخليفة النبي هو أمرٌ باطلٌ ؟ .
المحاور : فاذكر لي الأدلة إذن .
المؤلف : ولِمَ العجلة ؟ ألا تريد التعرّف على من تحاوره ؟ .
المحاور : لا يهمني الذي أحاوره ، بل يهمني ما يقوله لأني تعبت من اختلاف الأقوال وتشعّب الأحاديث وتباعد الآراء . فإن كان في القول خيرٌ أخذت به وإن كان كسلفه من الأقوال تركته .
المؤلف : إن الاهتداء إلى الحق والحقيقة في أيّ شأن هو بيد الله تعالى ، فإذا شاء أن يهدي أحداً إلى الحق هداه ولو كان وحيداً على ( جبلٍ ) لا يحاور أحداً ما .
المحاور : هذا صحيحٌ .. ولا أدري لماذا تقول ذلك ، تواضعاً معي أم تهكّماً عليّ ؟
المؤلف : تواضعاً وتذكيراً بأن تطلب الهدى من الله تعالى لأنه بيده لا بيد أحدٍ من خلقه .
المحاور : هذا الكلام ليس دقيقاً .. لأن النبي يهدي ! .
المؤلف : بالمعنى الذي نحن فيه ، النبيّ لا يهدي . قال تعالى : ( إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى ) ، وقال : ( ليس عليك هداهم ) وقال : ( إنك لا تهدي من أحببت ) . فالذي يقرّر سلوك طريقٍ ما هو العبد ثمّ يأتي الدليل ليوصله إلى الهدف ، لذلك اقترنت هداية النبي ( ص ) في القرآن بالطريق وهو الصراط أيضاً ( وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم ).
المحاور : لكنك تتحدّث وكأنك على يقين من أنّك مهتد ! .
المؤلف : المهتدي يعلم أنه مهتدي وغير المهتدي لا يعلم إن كان مهتدياً أم لا ، وأسمائهما تحتّم ذلك .
المحاور : تخريجٌ حسنٌ ، فلنفرض أني لا زلت أتخبّط فما هي أدلّتك على موضوعنا ؟.
المؤلف : الأدلّة كثيرةٌ لا أظنّها فاتتك ، ولكلّ قارئ طريقٌ في القراءة ولكلّ سامعٍ طريقٌ في فهم ما يسمع ! .
المحاور : تريد أن تقول أن ما يذكر من أدلّةٍ عقليةٍ ونقليةٍ كافيةٌ ولكني فهمتها بصورةٍ خاطئةٍ أو سيئة ؟ .
المؤلف : ربّما ! .
المحاور : هنا أخطأتَ ، فالمنقول من آياتٍ وأحاديثٍ هناك ما يعارضها ، والمنقول من مناقبٍ لصاحب الوصية هناك مناقب مثلها لغيره والكلام يطول والجدال ما يزال ولن يزول .
المؤلف : هذا طبيعي !! لأن الحق والباطل في صراعٍ ، فللحقِّ دلائله وللباطل مكائده ، وواجب العاقل هو الفرز بين الدلائل والمكائد ، فإذا حسبها جميعاً دلائل ضيّع الحق في الباطل ، وإذا حسبها جميعاً مكائد ركب الباطل ولم يجد الحق .
المحاور : أتقول أن هناك دلائلَ اختلطت مع مكائد وإن هناك مناقباً هي في حقيقتها مثالب وأني لا أحسن الفرز ؟! .
المؤلف : ربّما ! لأن هذا جزءٌ من طبيعة أي صراع .. فالقائل أن ما وصلنا هو كلّه حقّ فهو أحمق .
المحاور : حسناً .. أريد أن آتي معك . ذلك لأنه إذا كان مثلي وينخدع فتلك إذن مؤامرة هي أكبر ممّا نتصوّر ولا تحسب أني لا أفكّر بهذا الاحتمال ، وحينما أتخيل فريقين بالفعل فإن عقلي لا يدلّني على ذلك الحقّ ولا يوضّح لي الباطل .. لأن الآيات والدلائل والأحاديث في الجميع ورواتها من الجميع .
المؤلف : أنت تراها قد اختلطت ، أما الحقّ والباطل فلا يختلطان في الخارج أبداً ، فليست العلّة في تلك النصوص وإنما هي في القلب الذي يجعلها تختلط على العقل . ولو اختلط الحق والباطل في الخارج لما كان لله تعالى حجّةً على الخلق ولبطل العقاب والثواب .
المحاور : كأنك لا زلت تتهمني ! .
المؤلف : أعترف بأني لا زلت أتهمك .. لأن هناك أمرٌ لا بدّ أن تتفق معي بشأنه لأنه قانونٌ إلهيٌّ هو : أن الله تعالى لا بدّ أن يهدي من أناب إليه ..
المحاور : وما أدراك أني غير مهتد ؟
المؤلف : إذا كنت مهتدياً فأنت تعلم أنّك مهتد .
المحاور : لعلك تظنّ أني جئتك لتهديني ! أنا ما قلت ذلك وأعرف نفسي أني بحمد الله مؤمنٌ بالله ورسوله وكتابه إيماناً راسخاً .
المؤلف : وما علاقة الإيمان بالهدى ؟ فقد يكون المرء مؤمناً وليس مهتدياً في آنٍ واحدٍ لقوله تعالى : ( وإني لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى ) .
المحاور : حسناً .. لأكن ضالاً أو كافراً فهل لك أن تأتيني بجديدٍ تناقشني فيه فإن القرآن قد ناقش الكفّار وحاورهم .
المؤلف : استغفر الله .. استغفر الله .. فلو ظننت أنك من الكفار لما حاورتك فإن القرآن لم يناقشهم قط .
المحاور : فما تلك المناقشات القرآنية وضرب الأمثال ولمن كانت إذن؟
المؤلف : إن الله تعالى يقول : ( إن الذين كفروا سواءٌُ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) . فلا فائدة من التحاور معهم . والقرآن هدىً للذين آمنوا وعملوا الصالحات ( وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً . فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجسٌ إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) .
المحاور : هذا صحيح ولكنك لم تجبني عمّن حاوره القرآن وضرب له الأمثال ؟
المؤلف : هؤلاء جماعات من المشركين لا الكفار .
المحاور : لم أكن أفرّق بين المشركين والكفّار . أفـأنت ترى فرقاً ؟
المؤلف : نعم .. كل كافر فهو مشرك بالله وليس كل مشرك بطاعة الله مشركٌ بالله أو كافرٌ . فالمشرك بطاعة الله هو كعابد الأصنام فهو يعبد الله من خلال عبادة الأصنام ظناً منه أن في ذلك طاعةً لله فإذا بلّغه النذير ( ص ) فربّما آمن وإذا أصرّ فقد كفر فهؤلاء الضالون الحيارى هم الذين يناقشهم القرآن ويضرب لهم الأمثال .
المحاور : ألأجل ذلك لم تعلن البراءة من المشركين إلاّ في أواخر دعوة النبي ( ص ) وبعد فتح مكة ؟ .
المؤلف : نعم وأحسنت .. لأن الحجج قد قامت والبراهين اكتملت ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا شاهدين على أنفسهم بالكفر ) .
المحاور : لقد عرفتُ المشرك فمن هو الكافر ؟ أهو الذي ينكر وجود الله تعالى ؟
المؤلف : لا أحد ينكر وجود الله على وجه الحقيقة والصدق مع نفسه والذين ادّعوا ذلك كاذبون .
المحاور : كيف ؟! أليس الذي ينكر وجود الله قد شعر حقاً بعدم وجوده ؟ .
المؤلف : كلاّ .. أنّه كذّاب .. إنّه يحاول نقل الحوار من الشركاء إلى الإله الواحد نفسه أي أنه يهاجم الواحد ليتخلّص من التوحيد مدّعياً الشكّ في الواحد .
المحاور : إني أسمع الآن بمفهومٍ جديدٍ للكفر . فهل ما إن عمله الفلاسفة من الردود على الملاحدة كان عبثاً ؟ .
المؤلف : ربّما نفع في تثبيت إيمان مؤمن وتمكينه من سلاحٍ بوجه الكافر .. لكنه لم ينفع كافراً وما غيّر من الأمر شيئاً ـ لأن هذا النقاش لم يكن له موضوعٌ من الأصل وموضوعه الصحيح هو الشركاء .
المحاور : ولكن الآيات القرآنية سردت الأدلة على وجود الله .
المؤلف : العبارة تكون صحيحةً لو قلت : ( سردت الأدلة على وحدانية الله ) لأن الله تعالى نفسه ليس فيه شكّ ( قالت لهم رسلهم أفي الله شكٌّ فاطر السموات والأرض ) .
المحاور : لنفرض أني قلت هذه الآية نفسها للدلالة على وجود الله . فماذا تقول ؟ .
المؤلف : هذه الآية ليست للدلالة على وجود الله ، بل للدلالة على أن هذا الوجود ( ليس فيه شك ) وبالتالي لا وجود لمنكرٍ لحقيقة وجود الله . فكلُّ منكرٍ لوجود الله كذّاب .
المحاور : هل تعرف أحداً كافراً ومع ذلك يؤمن بوجود الله ؟
المؤلف : سبحان الله .. كلانا يعرف أحداً على هذا النحو !! .
المحاور : من هو ؟ .
المؤلف : هو رجلٌ من الجِنّة .. شيخ الكفّار وأولهم كان يخاطب الله تعالى قائلاً ( فبعزّتك لأغوينهم أجمعين ) وقد كان كافراً لقوله تعالى : ( إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) .
المحاور : أعتذر ! فلنعد إلى الآية وسأوجّه الكلام بطريق آخر : قوله تعالى ( أفي الله شك ) ألا يدلّ على وجود من يشكّ في الله ؟.
المؤلف : الآية لا تتحدّث عن ( من يشكّ ) لتقول ذلك . إنها تتحدّث عن الشك نفسه والاستفهام الإنكاري يدلّ على ( انعدام ) الشك وبالتالي لا وجود لحامل ذلك الشكّ . إنّما يقع الشك والتلبيس بوجود شركاء وحسب ، فهي في معرض نفي الشركاء بطريق وجود الله باعتبار هذا الوجود ليس فيه شكّ مطلقاً لأنه العلّة الأولى للخلق ( فاطر السموات والأرض ) وكلّ شريك واقع حتماً ضمن السموات والأرض فهو مخلوق ، فيتمّ البرهان على عدم وجود شريك بإعلان كونه نفسه ليس مشكوكاً فيه . ولما كان هو فاطرها أي مبتدعها فهو إذن واحد لا شريك له . وحتى لو كانت تتحدّث عن الشاك لا الشك فهي في معرض النفي لهذا الشاك ، لأن موضوعها هو التوحيد ( نفي الشركاء ) لا إثبات وجود الواحد ، وهذا ما فهمه أيضاً جميع أمم العالم عندما قيلت لهم تلك العبارة كما يتّضح من نص تمام الآية ( قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمىً قالوا إن أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا تريدونا أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطانٍ مبين ) . فلم يكن لهم شك في الله ، بل شكٌّ في دعوة الرسل . وهذا ما قالوه قبل هذه الآية بالآية السابقة بلا فصل ( قالوا أنا كفرنا بما أرسلتم به وإنّا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه مريب ) . فلأجل إزالة الشك في كونه إله واحدٌ قالت لهم رسلهم : أفي الله شك فاطر السموات والأرض ؟ والجواب : لا شك فيه . ولو كان الشك فيه فلا حوار ولا مناقشة . فلمّا جاءتهم رسلهم بهذا البرهان قالوا : تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا ، فطلبوا الدليل وقالوا : فأتونا بسلطانٍ مبين ـ دليل مادي ومثلٍ واضحٍ غير هذا الدليل العقلي . فقالت لهم رسلهم بالآية اللاحقة : ( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلاّ بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . فمن آمن ابتداءً على هذا الدليل العقلي فليتوكل على الله فإنه يهديه بصورةٍ أو بأخرى . ولو كان الشك في الله فلا حوار ولا تعقيب كهذا التعقيب
المؤلف عالم سبيط النيلي
المؤلف : أشكرك على ما تخبرني به عن حقيقة ما شعرت به .
المحاور : إذن فاخبرني عن تلك الأدلة التي تثبت أن الإمامة لا تكون إلاّ بالتعيين وعلى فرد مخصوص من قبل الله تعالى ورسوله الأمين ولا يجوز أن تكون باختيار المؤمنين إن كنت تعتقد بصحة التعيين .
المؤلف : نعم إني أعتقد صحة التعيين وأرى أن اختيار الناس لخليفة النبي هو أمرٌ باطلٌ ؟ .
المحاور : فاذكر لي الأدلة إذن .
المؤلف : ولِمَ العجلة ؟ ألا تريد التعرّف على من تحاوره ؟ .
المحاور : لا يهمني الذي أحاوره ، بل يهمني ما يقوله لأني تعبت من اختلاف الأقوال وتشعّب الأحاديث وتباعد الآراء . فإن كان في القول خيرٌ أخذت به وإن كان كسلفه من الأقوال تركته .
المؤلف : إن الاهتداء إلى الحق والحقيقة في أيّ شأن هو بيد الله تعالى ، فإذا شاء أن يهدي أحداً إلى الحق هداه ولو كان وحيداً على ( جبلٍ ) لا يحاور أحداً ما .
المحاور : هذا صحيحٌ .. ولا أدري لماذا تقول ذلك ، تواضعاً معي أم تهكّماً عليّ ؟
المؤلف : تواضعاً وتذكيراً بأن تطلب الهدى من الله تعالى لأنه بيده لا بيد أحدٍ من خلقه .
المحاور : هذا الكلام ليس دقيقاً .. لأن النبي يهدي ! .
المؤلف : بالمعنى الذي نحن فيه ، النبيّ لا يهدي . قال تعالى : ( إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى ) ، وقال : ( ليس عليك هداهم ) وقال : ( إنك لا تهدي من أحببت ) . فالذي يقرّر سلوك طريقٍ ما هو العبد ثمّ يأتي الدليل ليوصله إلى الهدف ، لذلك اقترنت هداية النبي ( ص ) في القرآن بالطريق وهو الصراط أيضاً ( وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم ).
المحاور : لكنك تتحدّث وكأنك على يقين من أنّك مهتد ! .
المؤلف : المهتدي يعلم أنه مهتدي وغير المهتدي لا يعلم إن كان مهتدياً أم لا ، وأسمائهما تحتّم ذلك .
المحاور : تخريجٌ حسنٌ ، فلنفرض أني لا زلت أتخبّط فما هي أدلّتك على موضوعنا ؟.
المؤلف : الأدلّة كثيرةٌ لا أظنّها فاتتك ، ولكلّ قارئ طريقٌ في القراءة ولكلّ سامعٍ طريقٌ في فهم ما يسمع ! .
المحاور : تريد أن تقول أن ما يذكر من أدلّةٍ عقليةٍ ونقليةٍ كافيةٌ ولكني فهمتها بصورةٍ خاطئةٍ أو سيئة ؟ .
المؤلف : ربّما ! .
المحاور : هنا أخطأتَ ، فالمنقول من آياتٍ وأحاديثٍ هناك ما يعارضها ، والمنقول من مناقبٍ لصاحب الوصية هناك مناقب مثلها لغيره والكلام يطول والجدال ما يزال ولن يزول .
المؤلف : هذا طبيعي !! لأن الحق والباطل في صراعٍ ، فللحقِّ دلائله وللباطل مكائده ، وواجب العاقل هو الفرز بين الدلائل والمكائد ، فإذا حسبها جميعاً دلائل ضيّع الحق في الباطل ، وإذا حسبها جميعاً مكائد ركب الباطل ولم يجد الحق .
المحاور : أتقول أن هناك دلائلَ اختلطت مع مكائد وإن هناك مناقباً هي في حقيقتها مثالب وأني لا أحسن الفرز ؟! .
المؤلف : ربّما ! لأن هذا جزءٌ من طبيعة أي صراع .. فالقائل أن ما وصلنا هو كلّه حقّ فهو أحمق .
المحاور : حسناً .. أريد أن آتي معك . ذلك لأنه إذا كان مثلي وينخدع فتلك إذن مؤامرة هي أكبر ممّا نتصوّر ولا تحسب أني لا أفكّر بهذا الاحتمال ، وحينما أتخيل فريقين بالفعل فإن عقلي لا يدلّني على ذلك الحقّ ولا يوضّح لي الباطل .. لأن الآيات والدلائل والأحاديث في الجميع ورواتها من الجميع .
المؤلف : أنت تراها قد اختلطت ، أما الحقّ والباطل فلا يختلطان في الخارج أبداً ، فليست العلّة في تلك النصوص وإنما هي في القلب الذي يجعلها تختلط على العقل . ولو اختلط الحق والباطل في الخارج لما كان لله تعالى حجّةً على الخلق ولبطل العقاب والثواب .
المحاور : كأنك لا زلت تتهمني ! .
المؤلف : أعترف بأني لا زلت أتهمك .. لأن هناك أمرٌ لا بدّ أن تتفق معي بشأنه لأنه قانونٌ إلهيٌّ هو : أن الله تعالى لا بدّ أن يهدي من أناب إليه ..
المحاور : وما أدراك أني غير مهتد ؟
المؤلف : إذا كنت مهتدياً فأنت تعلم أنّك مهتد .
المحاور : لعلك تظنّ أني جئتك لتهديني ! أنا ما قلت ذلك وأعرف نفسي أني بحمد الله مؤمنٌ بالله ورسوله وكتابه إيماناً راسخاً .
المؤلف : وما علاقة الإيمان بالهدى ؟ فقد يكون المرء مؤمناً وليس مهتدياً في آنٍ واحدٍ لقوله تعالى : ( وإني لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى ) .
المحاور : حسناً .. لأكن ضالاً أو كافراً فهل لك أن تأتيني بجديدٍ تناقشني فيه فإن القرآن قد ناقش الكفّار وحاورهم .
المؤلف : استغفر الله .. استغفر الله .. فلو ظننت أنك من الكفار لما حاورتك فإن القرآن لم يناقشهم قط .
المحاور : فما تلك المناقشات القرآنية وضرب الأمثال ولمن كانت إذن؟
المؤلف : إن الله تعالى يقول : ( إن الذين كفروا سواءٌُ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) . فلا فائدة من التحاور معهم . والقرآن هدىً للذين آمنوا وعملوا الصالحات ( وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً . فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجسٌ إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) .
المحاور : هذا صحيح ولكنك لم تجبني عمّن حاوره القرآن وضرب له الأمثال ؟
المؤلف : هؤلاء جماعات من المشركين لا الكفار .
المحاور : لم أكن أفرّق بين المشركين والكفّار . أفـأنت ترى فرقاً ؟
المؤلف : نعم .. كل كافر فهو مشرك بالله وليس كل مشرك بطاعة الله مشركٌ بالله أو كافرٌ . فالمشرك بطاعة الله هو كعابد الأصنام فهو يعبد الله من خلال عبادة الأصنام ظناً منه أن في ذلك طاعةً لله فإذا بلّغه النذير ( ص ) فربّما آمن وإذا أصرّ فقد كفر فهؤلاء الضالون الحيارى هم الذين يناقشهم القرآن ويضرب لهم الأمثال .
المحاور : ألأجل ذلك لم تعلن البراءة من المشركين إلاّ في أواخر دعوة النبي ( ص ) وبعد فتح مكة ؟ .
المؤلف : نعم وأحسنت .. لأن الحجج قد قامت والبراهين اكتملت ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا شاهدين على أنفسهم بالكفر ) .
المحاور : لقد عرفتُ المشرك فمن هو الكافر ؟ أهو الذي ينكر وجود الله تعالى ؟
المؤلف : لا أحد ينكر وجود الله على وجه الحقيقة والصدق مع نفسه والذين ادّعوا ذلك كاذبون .
المحاور : كيف ؟! أليس الذي ينكر وجود الله قد شعر حقاً بعدم وجوده ؟ .
المؤلف : كلاّ .. أنّه كذّاب .. إنّه يحاول نقل الحوار من الشركاء إلى الإله الواحد نفسه أي أنه يهاجم الواحد ليتخلّص من التوحيد مدّعياً الشكّ في الواحد .
المحاور : إني أسمع الآن بمفهومٍ جديدٍ للكفر . فهل ما إن عمله الفلاسفة من الردود على الملاحدة كان عبثاً ؟ .
المؤلف : ربّما نفع في تثبيت إيمان مؤمن وتمكينه من سلاحٍ بوجه الكافر .. لكنه لم ينفع كافراً وما غيّر من الأمر شيئاً ـ لأن هذا النقاش لم يكن له موضوعٌ من الأصل وموضوعه الصحيح هو الشركاء .
المحاور : ولكن الآيات القرآنية سردت الأدلة على وجود الله .
المؤلف : العبارة تكون صحيحةً لو قلت : ( سردت الأدلة على وحدانية الله ) لأن الله تعالى نفسه ليس فيه شكّ ( قالت لهم رسلهم أفي الله شكٌّ فاطر السموات والأرض ) .
المحاور : لنفرض أني قلت هذه الآية نفسها للدلالة على وجود الله . فماذا تقول ؟ .
المؤلف : هذه الآية ليست للدلالة على وجود الله ، بل للدلالة على أن هذا الوجود ( ليس فيه شك ) وبالتالي لا وجود لمنكرٍ لحقيقة وجود الله . فكلُّ منكرٍ لوجود الله كذّاب .
المحاور : هل تعرف أحداً كافراً ومع ذلك يؤمن بوجود الله ؟
المؤلف : سبحان الله .. كلانا يعرف أحداً على هذا النحو !! .
المحاور : من هو ؟ .
المؤلف : هو رجلٌ من الجِنّة .. شيخ الكفّار وأولهم كان يخاطب الله تعالى قائلاً ( فبعزّتك لأغوينهم أجمعين ) وقد كان كافراً لقوله تعالى : ( إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) .
المحاور : أعتذر ! فلنعد إلى الآية وسأوجّه الكلام بطريق آخر : قوله تعالى ( أفي الله شك ) ألا يدلّ على وجود من يشكّ في الله ؟.
المؤلف : الآية لا تتحدّث عن ( من يشكّ ) لتقول ذلك . إنها تتحدّث عن الشك نفسه والاستفهام الإنكاري يدلّ على ( انعدام ) الشك وبالتالي لا وجود لحامل ذلك الشكّ . إنّما يقع الشك والتلبيس بوجود شركاء وحسب ، فهي في معرض نفي الشركاء بطريق وجود الله باعتبار هذا الوجود ليس فيه شكّ مطلقاً لأنه العلّة الأولى للخلق ( فاطر السموات والأرض ) وكلّ شريك واقع حتماً ضمن السموات والأرض فهو مخلوق ، فيتمّ البرهان على عدم وجود شريك بإعلان كونه نفسه ليس مشكوكاً فيه . ولما كان هو فاطرها أي مبتدعها فهو إذن واحد لا شريك له . وحتى لو كانت تتحدّث عن الشاك لا الشك فهي في معرض النفي لهذا الشاك ، لأن موضوعها هو التوحيد ( نفي الشركاء ) لا إثبات وجود الواحد ، وهذا ما فهمه أيضاً جميع أمم العالم عندما قيلت لهم تلك العبارة كما يتّضح من نص تمام الآية ( قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمىً قالوا إن أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا تريدونا أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطانٍ مبين ) . فلم يكن لهم شك في الله ، بل شكٌّ في دعوة الرسل . وهذا ما قالوه قبل هذه الآية بالآية السابقة بلا فصل ( قالوا أنا كفرنا بما أرسلتم به وإنّا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه مريب ) . فلأجل إزالة الشك في كونه إله واحدٌ قالت لهم رسلهم : أفي الله شك فاطر السموات والأرض ؟ والجواب : لا شك فيه . ولو كان الشك فيه فلا حوار ولا مناقشة . فلمّا جاءتهم رسلهم بهذا البرهان قالوا : تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا ، فطلبوا الدليل وقالوا : فأتونا بسلطانٍ مبين ـ دليل مادي ومثلٍ واضحٍ غير هذا الدليل العقلي . فقالت لهم رسلهم بالآية اللاحقة : ( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلاّ بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . فمن آمن ابتداءً على هذا الدليل العقلي فليتوكل على الله فإنه يهديه بصورةٍ أو بأخرى . ولو كان الشك في الله فلا حوار ولا تعقيب كهذا التعقيب
المؤلف عالم سبيط النيلي
تعليق