بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الأدلة وغيرها مما لم نذكره – وهي كثيرة – هي التي اعتمد عليها الشيعة للاعتقاد بإمامة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام والقول بالنص من الله ورسوله عليهم، وأن أولهم هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فلم يكن اعتقادهم وقولهم ناشئاً من هوى وإنما مستنده الحجة القاطعة والبرهان الساطع الذي لا يردّه إلاّ مكابر، ولا يجحده إلاّ معاند .. فالروايات التي أوردناها مما اتفق الفريقان سنة وشيعة على روايتها وهي مصححة عند علماء الفريقين، فكيف يزعم الشيخ الجنادي أن الشيعة اعتمدوا في عقيدتهم هذه على الروايات الموضوعة؟
أليس قوله هذا محض كذب على الناس وافتراء على الشيعة ورميهم بوضع الروايات بدون دليل؟!
بل إن الدليل خلاف مزعمه ودعواه !
ولا أعلم كيف يستحل هؤلاء القوم الكذب والإفتراء؟
أليس الكذب حرام في الشريعة الإسلامية؟
أليس البهتان والافتراء ورمي الآخرين وتلفيق التهم عليهم من كبائر الذنوب؟
ثانياً: أمّا قوله أن الشيعة يعتقدون بأن أئمتهم يعلمون الغيب فهو أيضاً من الكذب المبين، فعقيدة الشيعة أن لا عالم بالغيب إلاّ الله عزّ وجل، فمن يزعم أن الشيعة يعتقدون بأن أئمتهم يعلمون الغيب بالذات كعلم الله به فإنه يحاول أن يصلق بهم ما هم منه براء .
فالأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السلام قد أخبروا ببعض المغيبات وادّعوا أنهم يعلمون الكثير من الحقائق والأمور التي لا سبيل إلى العلم بها إلاّ طريق الغيب، وعلمهم بكل ذلك ليس علماً ذاتياً وإنّما بتعليم وإطلاع لهم ممن يعلم الغيب بالذات وهو الله سبحانه من خلال منابع علمهم التي أشرنا إليها سابقاً .
وهذه جملة من أقوال علماء الشيعة نضعها بين يدي القارئ المحترم لدحض افتراء من زعم أن الشيعة ينسبون إلى أئمتهم علم الغيب الذاتي كعلم الله عز وجل به .
يقول الشيخ المفيد قدس سرّه: ( إن الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ويعرفون ما يكون قبل كونه، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطاً في إمامتهم، وإنما أكرمهم الله تعالى به وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع .
فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد وهذا لا يكون إلاّ الله - عز وجل - ، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة ) (أوائل المقالات صفحة 67).
وقال العلامة الطبرسي رحمه الله ردّاً على من اتهم الشيعة الإمامية الإثني عشرية بأنهم يدّعون علم الغيب لأئمتهم : ( إن هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم – يعني الشيعة – ولا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من الناس بعلم الغيب، ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين، والشيعة الإمامية براء من هذا القول، فمن نسبهم إلى ذلك فا الله فيما بينه وبينهم ) (تفسير مجمع البيان 3/447) .
وقال أيضاً : ( ولا نعلم أحداً منهم – يعني الشيعة – استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المخلوقات وهذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين، ومن اعتقد أنّ غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج على ملة الإسلام ) (تفسير مجمع البيان 5/353) .
وقال العلامة الشيخ المجلسي رحمه الله : ( اعلم أن الغلو في النبي والأئمة عليهم السلام إنما يكون بالقول بإلوهيتهم أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق أو أن الله تعالى حل فيهم أو اتحد بهم ، أو أنهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى أو بالقول في الأئمة عليهم السلام أنهم كانوا أنبياء أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي .
والقول بكل منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين كما دلت عليه الأدلة العقلية والآيات والأخبار ... ) (بحار الأنوار 25/346).
وقال العلامة عبد الحسين الأميني رحمه الله : ( فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلهم يعلمون الغيب بنص من الكتاب العزيز، ولكل منهم جزء مقسوم، غير أن علم هؤلاء كلهم بلغ ما بلغ محدود لا محالة كمّاً وكيفاً، وعارض ليس بذاتي ومسبوق بعدمه ليس بأزلي، وله بدء ونهاية وليس بسرمدي ، ومأخوذ من الله سبحانه وعنده مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلاّ هو ) (الغدير 5/53- 54).
وقال الشيخ محمد تقي فلسفي رحمه الله : ( إن علم الغيب في هذا العالم بأسره يختص به وحده ، وإنّ أي موجود آخر أرضياً كان أو سماوياً بشراً كان أو من غير البشر لا علم له بالغيب ولا يمكنه الدخول في هذا المجال المقدس بصورة مستقلة من تلقاء ذاته ).
وقال : ( ولكن هناك بعض الأشخاص يحظون – إلى حدٍ ما – بمعرفة بعض الأمور الغيبية وذلك وفقاً لما تسمح به مشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته ، وهذا ما نصّت عليه بعض آيات القرآن الكريم : [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ] [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ].
إذن فالطريقة الأولى للإطلاع على غيب العالم هي أن يأذن الله سبحانه بذلك .
فهناك أشخاص مقربون من الله وأوليائه المنتجبين الكرام تحدّثوا خلال فترة وجودهم في هذه الدنيا عن الأمور الغيبية ، وهذا كان بإذن الله سبحانه وتعالى واستناداً إلى الإلهام الرباني ) (المعاد بين الرّوح والجسد 1/273 – 274) .
وقال الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله : ( إنّ كلمة الغيب لا تدل على معناها فحسب بل تدل أيضاً على أنّ الغيب لله وحده وبالإضافة إلى هذه الدلالة فإنّ أقرب الناس إلى ربّه يعلن للأجيال بأنّه أمام الغيب بشر لا فرق بينه وبين غيره من الناس ، ثم لا يكتفي بهذا الإعلان بل يستدل على ذلك بالحس والوجدان وهو أنّه لو علم الغيب لعرف عواقب الأمور ) (الكاشف 3/431- 432).
وقال : ( فلا يكون إخبار الرسول به – بالأمور الغيبية – علماً بالغيب بل نقلاً عمّن يعلم الغيب ، والفرق بعيد بين مصدر العلم وبين النقل عن مصدره ، لأنّ الأول أصل والثاني فرع ) (الكاشف 3/433).
وقال السيد أبو القاسم الديباجي : ( إنّ هذه الطائفة - أي الشيعة- تقطع بأجمعها ولا شأن لنا هنا بالغلاة وغيرهم ممن يخرج عن إجماعنا بأن علم الغيب المطلق دون واسطة هو من مختصات الله تبارك وتعالى دون غيره، إلاّ أن ذلك لا يلغي ما نؤمن به وما يؤكده القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من إطلاع الله تبارك وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله على المغيبات بواسطة الوحي أو بغيره ) (الإمامة دراسة معاصرة صفحة 263).
وقال السيد كمال الحيدري : ( من جملة مقالات الغلاة في أهل البيت عليهم السلام دعوى علمهم بالغيب بنحو الاستقلال من دون إلهام أو تعليم إلهي.
إلاّ أنّ بطلان هذه الدعوى أصبح من الواضحات كما تقدم في الأبحاث السابقة، حيث تبيّن أن الاستقلال بعلم الغيب يختص بالله تعالى، ولا يمكن لأي مخلوق مهما بلغت درجته وقربه من الله تعالى، أن يعلم الغيب مستقلّاً وبنفسه، وتبيّن أيضاً أن كل ما عند الأنبياء والأئمة من العلوم والمعارف إنما هو بتعليم وبإذن الله تعالى، ومن المحال أن يعلموا شيئاً من دون إفاضة منه تعالى ) ( علم الإمام صفحة 492) .
وقال الشيخ غلام رضا كاردان : ( تعتقد الشيعة الإمامية بأن الله عزّ وجل وحده يعلم الغيب والشهادة ، ولا أحد غيره يعلم ذاتاً بشيء ، وإنّما علم كل عالم وجميع الكمالات الأخرى وأصحابها مملوكة لله عزّ وجل ولكن قد يُعلم الله عزّ وجل بعض الأشخاص من علمه بحسب المصلحة كما يقول القرآن المجيد : [ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ] أو كما في قوله : [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ] فالمستفاد من الآيتين أنّ الله عزّ وجل قد يصطفي أحداً من أنبيائه فيطلعه على الغيب) (الرّد على شبهات الوهابية صفحة 15-16).
وقال العلامة السيد علي عاشور : ( علم الغيب الذاتي الشخصي وبلا توسط من الغير هذا العلم الثابت لواجب الوجود والذي هو عين الذات وهذا مختص بالله ولغيره كفر .
أما العلم بالغيب الذي هو بتوسط الله تعالى وليس هو عين الذات فهذا الذي علمته الأئمة ورسول الله صلى الله عليه وآله ) (آل محمد بين قوسي النزول والصعود صفحة 139) .
يتبع ... يتبع ... يتبع
تعليق