إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

منشورات أبو النور السرية

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31


    اشكر الزملاء الشيعة على ردودهم الراقية......والتي تدل على عقول مثقفة وواعية.


    ...اما حبيب الالمة وصاحبه الذكي والفطين.....فلا ارد عليهم...واتركهم يعرضون افلاسهم

    تعليق


    • #32
      التعديل الأخير تم بواسطة نوتردام; الساعة 19-10-2009, 09:06 PM.

      تعليق


      • #33



        السادة رواد هذا الموقع ؛
        تحية طيبة , و بعد

        اليكم تكملة المقال ( المنشور الثاني عشر ...كهنة الاله ممون )

        سنة 632م , توفى السول محمد(ص), تاركا للعرب القرن السابع , أكفأ التشريعات الأدارية في التاريخ , و أكثرها قدرة على تحقيق آمال الناس , في ضرب الأقطاع و المؤسسات الدينية , و أنهاء عصر الفقر و البطالة , و أطلاق الطاقة الكامنة في مجتمع ديموقراطي حر . و لو أتيح للعرب , زمنا كافيا , لكي يعيشوا تجربة الشرع الجماعي في الأسلام , لتغير مجرى التاريخ الحديث من قبل أن يبدأ , و كتبت قصة الحضارة من اليمين الى الشمال . لكن العرب لم يكسبوا زمنا كافيا .

        أن جمهورية الأسلام الأولى - و الأخيرة - تصبح أقطاعية قريشية , قبل مرور ربع قرن على وفاة الرسول . فيستولي الأمويون على بيت المال , و يؤممون ( مال الله ) لحساب أسرة واحدة . وخلال عشر سنوات فقط , كان أقتصاد العرب - و أخلاقهم - قد ربطا مرة أخرى الى عجلة الأقطاع , و كان كرسي عمر بن الخطاب , يشغله طاغية دموي , أسمه يزيد بن معاوية , أكبر منجزاته التاريخية أنه أباد أسرة الرسول , و ثأر لمقتل أجداده في بدر من سكان المدينة الأنصار. و رغم أن العرب لم يختفوا من مسرح التاريخ , الا بعد ثمانية قرون أخرى , فان مصيرهم قد تقرر منذ منتصف القرن السابع , و كانوا قد خسروا المعركة كلها من دون أن يدروا , و خسروا نظامهم الجمهوري - و من ورائه المصرف الحر - و بات عليهم أن يدفعوا ثمن الفشل من خبزهم و خبز عيالهم , في عالم رأسمالي لا يرحم الفاشلين .

        خلال الفترة الواقعة بين الأنقلاب الأموي سنة 656 م , و بين بداية الحروب الصليبية سنة 1050 م , كان العالم القديم , لا يزال قديما على حاله كما تركه فرعون . و كان سكان الشرق الأوسط لا يزالون يحتلون بوابة الطريق على خط التجارة الدولية , و ينعمون بأعلى مستوى للدخل في العالم . و في ظروف هذا الأزدهار التجاري النسبي , نجح العرب في تطوير السفينة البحرية , لنقل المتاجر عبر المحيط , و أرتادوا بسفنهم مناطق نائية مثل اليابان و أوستراليا , ملقين مراسيهم على بعد مرمى حجر من كنوز لا تفنى في القارات العذراء الغائبة وراء المحيط الأطلسي . لكن هذا الأنجاز المثير كان مجرد جهد فردي , يموله صغار التجار في مغامرات مثيرة , مثل قصص السندباد. و لم يكن بوسعه أن يلبي حاجات الصراع البحري القادم , لأستيطان قارات العالم الجديد .

        أن تطوير السفينة المحيطية على يد العرب , خلال القرن الثاني عشر , يصبح أنجازا تقنيا , لا يقل أهمية - أو أثارة للمشاعر - عن تطوير سفن الفضاء في القرن العشرين . فقد فتحت ثغرة في جدار المحيط , و أكتشفت أرضا جديدة , تزيد مرتين على مساحة القمر , فضاعفت بذلك حجم السوق التجاري , و أضافت اليه عشرات السلع الجديدة من الذرة و البطاطس و ديوك الحبش , الى التبغ و الكوكايين . لكن العرب - أصحاب الأختراع - لا يملكون رأس المال القادر على تمويل حملات الأستيطان , و لا ينالهم من وراء تطوير السفينة المحيطية , سوى حبسهم في القمقم شرقي مضيق جبل طارق , بينما كان كولومبس ينطلق غربا سنة 1492م قاصدا أمريكا في سفن عربية , و بأجهزة ملاحية عربية . و في هذه المرة , نزل الستار مثل المقصلة , و خسر العرب خطوط التجارة الدولية الى الأبد . ان الشرق الأوسط الذي أبتكر التجارة و المصارف و النقود, يعلن أفلاسه بعد أربعة آلاف سنة من حكم الأقطاع و رجال الدين .

        في هذا الوقت , كان نظام المصرف اليهودي - الذي مات في الشرق الأوسط - قد بعث الى الحياة في بلدان غرب أوربا , و كانت حركة البروتستانت قد هيأت في هذه المنطقة , جوا من التسامح الديني , ما لبث أن شجع اليهود على الهجرة في موجات متلاحقة , الى أمستردام سنة 1593 , و هامبورغ سنة 1612 , و نيو يورك سنة 1654 . و عندما كتب شيكسبير مسرحية (( تاجر البندقية )) حوالي سنة 1595 ,معلنا سخطه على شايلوخ المرابي الذي ينوي أن يسلخ جلد تاجر مسيحي , كان اليهود هم أصحاب المصارف التي تجمع الضرائب من البريطانيين لحساب الملكة اليزابيث , و كانت النقمة الشعبية تتصاعد ضدهم , كما حدث لهم دائما منذ عصر الهكسوس .

        ان اليهود لم يظفروا أبدا بأعجاب البروتستانت , لكن نظامهم المصرفي الناجح أثار أنتباه الحكومات البروتستانتية الثائرة على سلطة البابا , التي رأت أن تحريم سعر الفائدة , غلطة أقتصادية مميتة , تضاف الى أغلاط الكنيسة الكاثوليكية , فشرعت تستعد لأحياء نظام المصرف الحر , في عصر تميز بأستيطان أمريكا, و تطوير السفينة المحيطية , من مركب مسلح بمنجنيق , الى قلعة عائمة , ذات طاقة نارية , تزيد على مئة مدفع . و منذ بداية هذا السباق , كانت بريطانيا قد ضمنت لنفسها فوزا مبكرا لسببين :

        الأول : ان بريطانيا أستعادت صيغة الملكية الدستورية التي أبتكرها اليهود . و هي صيغة تقوم على سلطة المصارف و تسخير جهاز الدولة لخدمة رأس المال . و رغم أن بقية دول غرب أوربا , عادت فاكتشفت هذه الصيغة في وقت لاحق , فان بريطانيا كانت قد سبقتها جميعا الى موضع الكنز بمئة و ثلاث و عشرين سنة على الأقل .

        السبب الثاني ,أن موقع بريطانيا الجغرافي , قد أعفاها من عبء الحرب البرية , و أتاح لها تركيز الأنفاق العسكري في بناء الأسطول , و تطوير ماسورة المدفع , و زيادة سرعة الطوربيد , خلال عصر تميز بنقل مسرح الصراع الدولي الى أعالي البحار , و جعل بريطانيا قرش البحر القاتل, الذي لا ينازعه أحد على سيادة المحيط .

        في هذه المرة أيضا , أكتشف البريطانيون علاقة التمويل المنتظم بالتفوق العسكري . فعندما تأسس ( بنك لندن) سنة 1648 , كانت ميزانية بريطانيا العسكرية , لا تزيد على خمسين مليون أسترليني , منها 32 مليون , يغطيها دخل الدولة , و الباقي قروض من المصارف . لكن هذا الرقم , ما لبث أن تضاعف أربعين مرة , خلال قرن قصير واحد , فبلغ مليارين تقريبا سنة 1812 , منها 440 مليونا مقدمة من المصارف . و قبل أن تولد كلمة ( الدول العظمى ) , كان نظام المصرف الحر قد أحال دول أوربا , الى قلاع عسكرية ضخمة , يزداد حجمها باضطراد . فتضاعف حجم الجيش البروسي , بمعدل مرة كل عشر سنوات،من30 ألف جندي سنة 1700 الى 270 ألف جندي سنة 1812 , بينما زادت أمبراطورية آل هابسبورغ في فيينا , حجم قواتها في الفترة نفسها من 50 ألف جندي الى ربع مليون . و تضاعف الجيش الروسي من 170 ألف جندي الى نصف مليون , و حشدت فرنسا تحت راية نابليون , 600 ألف مقاتل . و هو أكبر حشد عسكري عرفه التاريخ حتى ذلك الوقت . أما بريطانيا التي افتتحت مسيرة المصرف الحر , فقد تضاعف حجم قواتها البرية أربع مرات , و ارتفع عدد سفن الأسطول من مئة بارجة الى 214 بارجة , أي ضعف ما تملكه جميع دول العالم مجتمعة . ان الفرعون بيبي الأول الذي سخر السلاح المصرفي لضرب أعدائه بحشود عسكرية ضخمة , كان قد فتح القمقم المسحور من دون أن يدري .

        في الفترة الواقعة بين تحطيم الأسطول الأسباني على يد البريطانيين سنة 1558 , و بين هزيمة نابوليون في واترلو سنة 1815 , كان نظام المصرف الحر , قد أحال دول أوربا الى مصارف رأسمالية عملاقة, تتصارع على حيازة الأسواق و مصادر المواد الخام , في جبهة أمتدت من كندا الى مصر . و كان جهاز الدولة قد تغير جذريا في موقعين :

        في الموقع الأول , لم تعد الدولة سلطة حاكمة , بل أصبحت ( أدارة ) , تتولى الأشراف على مصالح رأس المال , تحت سلطة المصارف . و هي صيغة منقولة حرفيا من كتاب التوراه, بعثت نظام الجمهورية اليهودية تحت أسماء مختلفة في قارات مختلفة , و جعلت اسرائيل القديمة , نموذج الدولة الحديثة في العصر الرأسمالي .

        في الموقع الثاني , لم تعد الكنيسة هي مصدر التشريع , و لم يعد بوسعها أن تفسر موقفها البدائي من سعر الفائدة , بعد أن أثبتت الثورة الصناعية , أن رأس المال قابل للنمو بزيادة حجم العمل , و أن فكرة المصرف الحر - التي كانت فكرة ضارة في المجتمع الزراعي اليدوي - أصبحت فكرة نافعة في عصر الآلة القادرة على زيادة الأنتاج الى ما لا نهاية . فقد صار بوسع النول الميكانيكي أن ينتج من الجوارب في يوم واحد , ما لا ينتجه عمال الهند . و صار بوسع قطار من مئة عربة أن ينقل حمولة جميع القوافل التي تعبر قارة أفريقيا في سنة . و أثبتت ثورة العلم أن راس المال , لا ينمو على حساب الناس , بل ينمو بقوته الكامنة في تطوير الموارد عن طريق الأستثمار , و أن المصرف الحر , طريق لا بد منه لتأمين هذا الأستثمار بالحجم المطلوب .

        تحت رعاية هذه الدولة المصرفية , استعاد اليهود حق المواطنة على الكرة الأرضية , لأول مرة منذ نبوخذنصر . فمنحتهم الثورة الفرنسية حق الحصول على الجنسية , و بادرت بريطانيا الى منحهم الحق نفسه , لقطع الطريق على نابوليون في أستمالة مصارف اليهود . و خلال وقت قصير كان الأوربيون - و منهم الأتراك - يتنافسون في أضفاء جنسياتهم على اليهود , و كانت أوربا بأسرها قد تحولت الى ( أرض الميعاد ) . لكن اليهود أنفسهم , كانوا ينظرون بعيدا عن أوربا , عبر المحيط .

        ففي أراضي القارة الأمريكية العذراء و في مناجمها التي تحوي نصف احتياطي العالم من الذهب , كان حلم التوراه بأرض الميعاد في بلد صغير مثل فلسطين , مجرد مشروع بائس لا يثير شهية رأس المال اليهودي , و كان اليهود قد وضعوا فكرة أرض الميعاد جانبا , و انطلقوا الى نيويورك , حيث أنشأوا مصارفهم النشطة التي نجحت في أحتواء الأحتياطي الأمريكي الضخم , و تولت تسخيره لزيادة الأنتاج على نطاق لم يسبق له مثيل . و في الفترة الواقعة بين نهاية الحرب الأمريكية سنة 1865 , و بين نهاية الحرب الأسبانية سنة 1898 - و هي فترة عشرين سنة فقط - كان نظام المصرف الحر , قد ضاعف الأنتاج الأمريكي بأرقام فلكية ؛ فزاد أنتاج الدقيق بنسبة 460 في المئة , و القمح بنسبة 800 في المئة , و السكر بنسبة 460 في المئة و الصلب بنسبة 523 في المئة , بينما تضاعف انتاج النفط من 300 ألف برميل الى 55 مليون برميل , و تضاعفت ميزانية الدولة , بمعدل مرة كل ثلآث سنوات , من 334 مليون الى مليارين و نصف تقريبا . و في هذه الأرض التي تفيض - فعلا - باللبن و العسل , كان مشروع التوراه القديم , يبدو قديما أكثر مما يجب , و كان على اليهود أن يعيدوا صياغة ( الشريعة ) بلغة العصر .

        في هذه النسخة الجديدة , تحرر نظام الدولة الرأسمالية من قاموس التوراه , و استعاد لغته الأصلية في قاموس المصرف الحر . فلم تعد الدولة اليهودية , هي دولة اليهود , بل أصبحت هي دولة المصارف (( الليبرالية )) التي لا تتعامل مع الزبون على أساس لونه أو دينه , و لا تضع شروطا مسبقة لهذا التعامل , سوى شرط الربح المادي , و لا تحتاج الى سياسة أخرى سوى سياسة (( الباب المفتوح )) التي تتيح لرأس المال أن يستقبل زبائنه - أو يذهب اليهم - في الليل و النهار . ان كلمة ( أفتح يا سمسم ) تفتح كنزا حقيقيا لأول مرة .

        فقد نجحت الدولة المصرفية في تطوير فكرة ( الباب المفتوح ) الى سياسة قومية , و اعتبرت فتح السوق العالمي أمام رأس المال , شرطا في تولي الأدارة , و ضمنت بذلك مستقبل المصرف الحر, رغم أنها لم تضمن مستقبل البشرية نفسها . و في الفترة الواقعة بين ظهور الولايات المتحدة , و بين ضرب اليابان بالقنابل الذرية , كان نظام المصرف الحر يجتاح الدول و القارات , و كانت أذرع رأس المال الغربي , قد أمتدت من وراء المحيط , و احتوت المنطقة الواقعة داخل نفوذ الأتراك , و اشترت امتيازات سكة حديد بغداد , و أبار النفط في البحرين , مفتتحة معركة المصرف الحر ضد الأقطاع تحت سماء الشرق الأوسط , للمرة الثانية منذ عصر فرعون .

        في هذا الوقت , كان الشرق الأوسط , لا يزال على حاله كما تركه فرعون . فمن جهة , كانت حكوماته مجرد أقطاعيات متناحرة , تدار بنظم بدائية , لا تستطيع أن تحتوي نظام المصرف الحر, و لا تضمن له الأمان المطلوب . و من جهة أخرى , كان الشرق الأوسط لا يزال في موقعه الجغرافي الممتاز, على بوابة التجارة الدولية بين قارات العالم القديم . و هو موقع تحتاج المصارف الى مراكز مستقرة فيه , بأي طريقة , و أي ثمن . ان حل هذه المعضلة كان يكمن في ايجاد ( وطن ) للمصرف الحر في الشرق الأوسط , لكن الدول الرأسمالية أختلفت بين حلين :

        الحل الأول , تبنته فرنسا . و قد تمثل في انشاء جمهورية لبنان التي قامت على وصفة أدارية مختلفة , هدفها أن توزع السلطة المحلية بين خصوم ذوي مصالح متناقضة , لا يستطيع أحد منهم أن يمتلك من القوة أو الشرعية , مايهدد به نظام المصرف الحر . و هي صيغة نجحت مؤقتا في أجتذاب رأس المال الى لبنان , تمثّل في تأسيس ( بنك انترا ) الذي سارعت المصارف الغربية الى قتله في المهد , بأعلان أفلاسه في وقت لاحق .

        الحل الثاني , تبنته الولايات المتحدة . و قد تمثل في احياء مشروع اسرائيل التي قامت - هذه المرة - على خطة مصرفية صريحة , هدفها ان تكسب رأس المال اليهودي , و تضمن للمصرف الحر وطنا آمنا بين أقطاعيات الشرق الأوسط . و هي فكرة لم تولد بين طبقات الشعب الأمريكي , و لم يوافق عليها أعضاء الكونغرس , بل ولدت سرّا في مكاتب أصحاب المصارف الأمريكية , الذين سخّروا الرئيس ترومان لتنفيذها بأسلحة مالية بحتة , منها تهديد بريطانيا بقطع المعونة عنها اذا رفضت دخول اليهود الى فلسطين سنة 1947 . و منها ألزام ألمانيا بدفع التعويضات الى أسرائيل , مقابل حصولها على معونات من مشروع مارشال . و الواقع ان الرئيس ترومان أعلن أعترافه باسرائيل , قبل أن يوافق الكونغرس على هذا الأعلان , و قبل أن تقوم أسرائيل نفسها بربع ساعة تقريبا .

        سنة 1948 , كان المصرف الحر يملك وطنين في الشرق الأوسط . الأول , في لبنان , و الثاني في اسرائيل . و كان من الواضح ان المبارزة توشك أن تبدأ بين خصمين غير متكافئين :

        فالصيغة الأدارية في لبنان , صيغة عشائرية من بقايا العصر الأقطاعي في العالم القديم , لا تملك تعريفا حقيقيا لكلمة ( الوطن الرأسمالي ) , و لم تتعرف على نظام المصرف الحر أصلا . و رغم أن السياسيين اللبنانيين , بذلوا جهدا اعلاميا صاخبا , لأحتواء النظرية الرأسمالية في تراث لبنان الفينيقي , فان هذا الجهد كان مجرد علامة أخرى , على أن لبنان لم يستوعب ما حدث في غرب أوربا , و لم يكتشف الفرق المميت بين تاجر فينيقي أعزل , و بين تاجر رأسمالي مسلح بالصواريخ . و قد تقدم اللبنانيون بصيغة مستحيلة ( لوطن رأسمالي من دون جيش ) و هي صيغة خرافية , لم يعرفها التاريخ أبدا , الا

        في بقايا الأقطاعيات التي التمست الحماية تحت مظلة الجيوش الأوربية , مثل أمارة موناكو و ليختنشتاين و لوكسومبورغ . لكن اللبنانيين لم يكتشفوا هذه الثغرة الواسعة في نظامهم الفينيقي , بل دأبوا على تسمية بلدهم باسم ( سويسرا الشرق ) , متجاهلين - من باب الجهل - أن سويسرا
        بالذات تملك أكفأ جيش دفاعي في التاريخ .

        على الجبهة الأخرى , كانت المصارف الرأسمالية , قد أقامت في فلسطين جمهورية يهودية للمرة الثانية منذ عصر التوراه . و كانت النسخة القديمة قد تغيرت جذريا , فلم تقم اسرائيل العشائرية التي تتوزع فيها السلطات بين قبائل العبرانيين , بل قامت اسرائيل-المصرف , التي يديرها التجار و العمال , في أئتلافات حزبية مجهزة أصلا لخدمة رأس المال . و في هذا الوطن ((اليهودي )) , كان اليهود يموتون دفاعا عن أسهم الشركات البريطانية في قناة السويس , و يحرسون آبار النفط الأمريكية في الخليج , و يديرون المصارف التي تشرف على التجارة الدولية بين أفريقيا و آسيا , و يظفرون بالأطراء المستمر , في جميع أجهزة الأعلام الرأسمالية , على عادة الرجل الغني في الولع بكلب حراسته الناجح ى. ان العرب الذين جاءوا لتحرير فلسطين تحت راية نبوخذنصر , يتعرضون - هذه المرة - لأكثر من مفاجأة .

        سنة 1967 , وقعت المواجهة المستحيلة بين ( مئة مليون عربي ) , وبين ثلاثة ملايين اسرائيلي . و كان من المتوقع أن تنتهي المعركة خلال ساعات معدودة , كما حدث في عصر نبوخذنصر , لولا أن عصر الملوك الفاتحين , كان قد انتهى منذ 2500سنة , و كانت المصارف الرأسمالية قد غيرت سوقية الحرب رأسا على عقب . فالمئة مليون عربي , كان لديهم مئة ألف جندي فقط مقابل أربعمئة ألف جندي أسرائيلي. و لديهم سبعون طائرة مقابل خمسمائة . و لديهم ألف دبابة متوسطة مقابل ألفي دبابة ألمانية من طراز ليوبارد . بالأضافة الى ذلك , كان احتياطي العرب المحدود من العملات الصعبة , لا يسمح لهم بموصلة القتال , الا لبضعة أيام قصيرة , ريثما تنفذ ذخائرهم , بينما كانت اسرائيل تؤمن لنفسها قروضا مستمرة من المصارف الغربية, و تتمتع بقدرة كبيرة على أطالة أمد الحرب كما تشاء . ان العرب يعودون من المعركة , بدرس موجع و نافع , لكن حكوماتهم الأمية , لا تحسن قراءة الدرس .

        فقد أعلن الرئيس السادات أن (( 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد أمريكا )), و هو يقصد في يد المصارف الرأسمالية التي تبحث عن وطن في الشرق الأوسط . و كان من المتوقع , أن يؤدي هذا الأكتشاف الى تصحيح الخلل في الأدارة العربية , و البحث عن صيغة تحتوي نظام المصرف الحر , في دولة ديمقراطية قادرة على التعامل مع رأس المال . لكن الرئيس السادات اختار أن يعتمد أساليب الشطارة والفهلوة , و يضحك على ذقون المصارف , بتمثيلية صاخبة عن الأحزاب و حرية الصحافة , آملا أن يحمل أليه الغربيون مدخرات مواطنيهم , من دون حاجة الى ضمانات أخرى . و هي فكرة مميتة , ذهب وراءها بسذاجة رجل قروي , و فعل من أجلها , كل ما يفعله الرجل القروي , بما في ذلك أن يعزم روكفلر على العشاء . لكن المصارف رفضت أن تأكل .

        أننا نقف على بعد خمسة آلاف سنة من مولد المصرف الرأسمالي في الشرق الأوسط , فنجد الشرق الأوسط لا يملك مصرفا رأسماليا واحدا , و لا يملك صيغة ادارية قادرة على ضمان حرية رأس المال . و في ظروف هذا العجز الشامل, عن قراءة لغة العصر , كانت ثقافة العرب السياسية, مجرد ثقافة أمية , لا تفهم شيئا مما يدور حولها . و كان العرب المقلوبون على رؤوسهم , ينظرون الى الدنيا من زاوية المقلوبين . ان مستقبل أجيال العرب , رهن بتصحيح هذا المنظور , في أقرب وقت ممكن , بأقل كلام ممكن , في خمسة نقاط :

        الأولى : ان اسرائيل ليست ( صنيعة) الولايات المتحدة - كما يعتقد الساسة العرب - بل أن الولايات المتحدة و اسرائيل معا , صنيعتان للمصرف الرأسمالي الحر .

        الثانية : ان نظرية ( الضغط الأمريكي على اسرائيل ) , نظرية خرافية بحتة , لأن اسرائيل مشروع مالي مستقل مثل الولايات المتحدة نفسها .

        الثالثة : أن العرب لم يخسروا المعركة ضد اسرائيل , بل خسروها ضد نظام الدولة الرأسمالية منذ استيطان امريكا في القرن السابع عشر . و أن هزيمة قديمة من هذا الحجم , لا يمكن تعويضها حتى بأستعادة الأندلس و فلسطين .

        الرابعة : ان العرب الذين فشلوا في تطوير ادارة ديموقراطية , لا يستطيعون أن يمتلكوا نظاما مصرفيا حرا و ليس في وسعهم أن يكسبوا السباق في هذا العصر المصرفي .

        الخامسة : ان السياسة الناجحة هي ثمرة القراءة الصحيحة للتاريخ , و أن سياسة العرب المرتبكة و الفاشلة , مصدرها تورط العرب في ثقافة مزورة , تفسر الأسلام بلغة السحرة , و تتجاهل دستور الشرع الجماعي , و تعطي ( مال الله ) للأقطاع و تقرأ التاريخ بلسان فقيه , غائب عن التاريخ , منذ أن حبسه الصليبيون في زنزانة البحر المتوسط , قبل خمسمائة سنة على الأقل .

        - انتهى المقال -

        مع خالص المودة و الأحترام

        تعليق


        • #34


          المنشور الرابع عشر -------
          نظام الأحزاب ليس ضمانة للديموقراطية , إلا في بلد فاحش الثراء , عايش تجربة الثورة على سلطة الكنيسة , و شارك في الغارة على قارات المحيط , و توطدت فيه سلطة رأس المال , بمثابة بديل شرعي عن سلطة المؤسسة الدينية و الأقطاع معا .

          من دون هذه الشروط مجتمعة , تصبح الأحزاب مجرد نواد سياسية , معرضة لأغلاق أبوابها فورا , عند أول انقلاب يقوم به رجال الدين , كما حدث في ايران , أو أول انقلاب يقوم به الجيش , كما حدث في مصر مثلا , بعد قرار عبد الناصر بحل الأحزاب . إن ثقافتنا السياسية المعاصرة التي تباهي علنا بإحياء نظام الأحزاب في مصر للمرة الثانية , ثقافة تجهل تاريخ الأحزاب إلى هذا الحد . و السبب ؟

          السبب , اننا في ارض الواقع لا نملك ثقافة سياسية أصلا , و أن ما يقال في لغتنا العربية , مجرد رد فعل مستمر ,, للهزات العنيفة التي تلقاها شعب مصر بالذات , على يد الأوربيين الغربيين منذ غارة نابليون , طوال عصر تميز بسقوط كل الثقافات , و كل النظم السياسية , أمام جيوش الديموقراطيات الحديثة في غرب أوربا . لقد اصبحت كلمة (( النهضة )) نفسها , تعني - لغويا - تقليد الأوربيين .

          و قبل أن يتفق العرب على مفهوم الثقافة أو معناها , كانت مصر - بقيادة رجل اوربي الأصل يدعى محمد علي - قد فرغت من ترجمة حضارة جديدة جاهزة , مستوردة برمتها من عالم الأغنياء المنتصرين في غرب أوربا , و موجهة أساسا لخدمة مصالح رأس المال على حساب الفقراء بالذات .

          بين عصر محمد علي , و بين عصر حفيده اسماعيل , كانت مصر قد بيعت بالقطاعي لبيوت المال في اوربا , و كان مجتمع المدن المصرية يشهد ظهور طبقة طارئة من وكلاء الشركات الغربية الذين انضموا إلى الأسر الأقطاعية من المماليك و الأتراك , في حلف مميت , مسخر لخدمة مصالح الأوربيين علنا , مقابل عمولات غير مشروعة . و خلال قرن واحد من هذا الأستنزاف المنظم , كانت مصر قد خسرت كل أمل ممكن في التنمية الذاتية , و كان شعبها يواجه تجربة من أسوأ تجارب التخلف في العالم الثالث بأسره . و فيما تكفلت أرباح الشركات البريطانية العاملة في مصر بدفع نفقات التعليم و الصحة لملايين البريطانيين , كان شعب مصر يواجه انفجارا سكانيا مدمرا , بمعدل طفل كل 23 ثانية , و كانت مدخرات عشرين مليون مواطن مصري تقل مائة مرة عن مدخرات شركة بريطانية واحدة مثل (( شل )) .

          تحت هذا الضغط الواقع على القاعدة العريضة في مصر , تعاظمت النقمة الشعبية التي تولت الأحزاب تمثيلها , وسط سيل من الشعارات الوطنية عن تحقيق الرخاء و العدل , دون ان يلاحظ قادة الأحزاب , أنهم شخصيا , في أرض الواقع , مجرد رجال فقراء , في مكاتب فقيرة , لا تسندها قوة عمالية مكنظمة , و لا تملك رأس المال الكفيل بردع سلطة الأقطاع . لقد كانت ثقافتنا الحزبية , تجهل أبجدية نظام الأحزاب إلى هذا الحد .

          و خلال تجربة مصر مع حزب الوفد , التي استمرت 33سنة , لم يتغير الحزب مرة واحدة , و لم يسقط البرلمان حكومة واحدة , و لم يوجه اللوم إاى وزير واحد , و لم يتغير الواقع الذي عرفته مصر قبل حكم الحزب , رغم أن كل شيء حدث هذه المرة بشهادة من الصحف المستقلة ((تحت رقابة حكومة وطنية , اختارها الشعب بنفسه , في انتخابات نزيهة )) .

          فالأحزاب في العالم الثالث , ليست هي الأحزاب في الديموقراطيات الرأسمالية الحديثة , بل هي الوكيل التجاري , الذي عمل الرأسماليون على تسليمه الأدارة المحلية , بعد انسحاب قواتهم المسلحة في اعقاب تصفية القواعد العسكرية , و سواء أراد هذا الوكيل أم لم يرد , فإن مهمته المرسومة سلفا , هي أن يفتح صدره - و بلده - لرجل أوربي في يده حقيبة , يشتري المواد الخام بالسعر الذي يريده , و يبيع مصنوعاته بالسعر الذي يريده , لكي يغطي نفقاته اليومية الباهظة , و في ما عدا ان تحدث معجزة , ليس ثمة وسيلة مضمونة حتى الآن لمنع هذا الأوربي الماهر من مص دم الفقراء , سوى أن يطوق الفقراء انفسهم بستار حديدي كما فعل السوفيات . إن حزب الوفد في مصر ليس هو حزب المحافظين في بريطانيا , بل هو المكتب الذي يديره وكلاء مصريون , لا يملكون رأس المال , و لا المصانع , و ليس في حوزتهم ثمة ما يساومون به , سوى اثبات حسن نيتهم في خدمة مصالح الشركات التي يملكها البريطانيون . و تحت ظروف من هذا النوع , يصبح من (( السياسة )) أن يكسب مواطن مصري عشرة قروش بعرق جبينه , فتذهب تسعة قروش منها إلى جيب رجل بريطاتني , يجلس مسترخيا بجانب المدفأة , دون أن يلاحظ أحد ما ثمة ما يدعو إلى بعض الملاحظة .

          إن ثقافتنا السياسية الزائغة العينين لا ترى الفرق الظاهر بين الحزب الرأسمالي و بين و كيل تجاري لصاحب رأس المال , و لا تعرف بالتالي مدى الخطر الكامن في تجاهل هذا الفرق , و اللعب بنظام الأحزاب بين الفقراء , في عالم تولت الأحزاب الرأسمالية إدارته لحسابها منذ ثلاثة قرون على الأقل , و نجحت - حتى الآن - في إبادة سكان ثلاث قارات , في الأمريكتين و استراليا .

          سنة 1952 , انتهى نظام الأحزاب في مصر , نهاية سريعة - و متوقعة - بثورة عسكرية مسلحة . و في هذه المرة أيضا , فشلت ثقافتنا السياسية في اكتشاف النموذج المطلوب . و تورطت في دعوة مستحيلة لتطبيق الأشتراكية اللينينية , و تأميم وسائل الأنتاج , من دون أن يلاحظ أحد , أن لينين كان يدير مصانعه عن طريق حزب العمال الحاكم , و أن مصر , التي لا يحكمها العمال , سوف تدير مصانعها عن طريق موظفين حكوميين و تحيلها إلى مكاتب حكومية عاجزة عن أداء مهمة الأنتاج . لم يلاحظ أحد , كارثة تأميم المصانع في دولة لا يملكها العمال .

          و بعد ثماني عشرة سنة من الثورة المستمرة لتحقيق الرخاء و العدل , كانت مصر , رغم امكاناتها العظيمة , و جهد عبد الناصر , دولة مرتبكة اداريا و اقتصاديا , تعايش ثقافة سياسية لينينية , مقامة برمتها على تمجيد العمال و الفلاحين , في بلد يحكمه ضباط الجيش . و في ظروف هذا التزييف الساطع , نجح رجل واحد شبه أمي في قلب ثقافتنا السياسية رأسا على عقب , و تحويل مجراها بين يوم و ليلة , من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب , في استعراض علني لمدى الخسارة التي لحقت بمفهوم الديموقراطية بالذات .

          ففي عصر الرئيس السادات , تغير الكلام مرة أخرى , و أثبتت ثقافتنا السياسية , أنها قابلة للتحويل إلى ما لا نهاية , فلا هي ثقافة رأسمالية , و لا هي ثقافة عمالية , و ليس يضيرها التغيير , و ليس ينفعها تغيير آخر , لأنها أصلا غير موجودة - و لم توجد أبدا - إلا على الورق .

          انتهى نص المنشور ..ويتبع

          تعليق


          • #35


            المنشور الخامس عشر -----

            الصفة الغالبة على الأعلام العربي , أنه أعلام مسخر علنا , لخدمة هدفين سياسيين : أولهما أن يتجاهل أخطاء الحكومة , و الثاني أن يمجد منجزاتها الأدارية , بكل و سيلة في حوزته , بما في ذلك قصائد الشعر , و أغاني الأطفال . و هما هدفان ينطلقان في الظاهر , من خطة إعلامية مشروعة , لكنهما في الواقع مجرد شاهدين صاخبين على غياب الشرعية بالذات .

            فالحكومة الوحيدة التي تملك حقا مشروعا في الدعاية لنفسها , هي - فقط - الحكومة الحزبية , القائمة على الأنتخاب الحر , و المعرضة للحساب و السقوط , التي تضطر يوميا إلى مواجهة صوت المعارضة بصوت اعلامي مضاد . و هي حكومة , صفتها الدستورية أنها لا تنفق على الدعاية من بنود الميزانية العامة , بل من بنود ميزانية الحزب . و إذا غامرت ذات مرة بتبذير نقود المواطنين على الدعاية لنفسها , فالعادة أن تفضحها معارضة غاضبة على مشهد من جمهور غاضب , أمام محاكم علنية .

            في الوطن العربي , ليس ثمة حكومة انتخابية واحدة , و ليس ثمة احزاب , و لا أحد يحتاج إلى صوت إعلامي , للرد على المعارضة , لأن المعارضة لا تملك صوتا في الأساس . لكن سوق الدعاية الحكومية نفسها رائجة جدا , بوسائل اعلامية متطورة جدا , يصل حجم انفاقها الى ملايين الدولارات سنويا في بلدان تعاني غياب الخبز .

            سبب هذه الرواج المستحيل , أن الحكومات العربية تنفق على الدعاية لنفسها من بنود الميزانية العامة . و هي مخالفة صريحة , يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة في أي نظام حزبي , لكنها ليست مخالفة , في ثقافة العرب السياسية التي نشأت في بيت سلطان مغرم بالأطراء , ينثر الدنانير على رؤوس الشعراء يوميا . و قد تم تمريرها في يسر مطلق , بمثابة تفسير عصري لما فعله السلطان دائما . و تعلمت كل حكومة عربية على حدة أن تنفق على برامجها الدعائية علنا من ميزانية مخصصة لشراء خبز المواطن و زيته .

            بعد ظهور النفط , تضاعف حجم الأنفاق فجأة بمعدل مرتين في السنة , فبلغ مجموع ما أنفقته الحكومات العربية على اعلامها الموجه خلال سنة 1980, أكثر من خمسمائة مليون دولار , بزيادة قدرها أربعمائة في المائة , عن ميزانية الأعلام العربي , قبل عشرين سنة . وقد زاد هذا الذهب اغراء , أنه كان ذهبا مكدسا على الرصيف , في خزانة مثقوبة لا تخضع للجرد القانوني , و لا تنضب و لا تغضب , و لا تحاسب .

            تحت ظروف مواتية من هذا النوع , ازدهرت وسائل الأعلام الحكومي تقنيا , و قفزت ألف سنة طويلة , في خطوة واحدة . فخرجت من عصر المتنبي إلى عصر التلفاز الملون و الجريدة ((الدولية )) حتى بدا - للوهلة الأولى - ان الحكومة العربية قد اكتشفت لتوها نظرية جديدة في الأعلام الناجح , من دون نظام حزبي . لكن ذلك , كان للوهلة الأولى فقط .

            أما في أرض الواقع , فقد كانت نظرية الأعلام الحكومي فكرة قديمة من عصر المتنبي نفسه . و كان من الظاهر للعيان أنها تقوم على مخالفة دستورية صريحة , و أن النجاح الذي يتحقق بالخروج على القانون , لا يسمى (( نجاحا )) إلا في اعلام فاشل جدا . وقد أثبت سير الأحداث ان الأنفاق على وسائل الأعلام العربي من بنود الميزانية العامة , لم يكن حلا مفيدا بالنسبة إلى الأعلام العربي , بل كان حلا مسموما بعرق المواطنين الفقراء , ما لبث أن أصابه في الموضع المميت .

            فالشرط الأساسي للأعلام الناجح هو أن يتولى الأنفاق على نفسه بنفسه , لكي يصبح مصدرا مشروعا للكسب , و يتطور إلى حرفة مشروعة ناجحة . و هو شرط , يحتم بدوره , أن يكون الأعلام سلعة ضرورية . و يكون مفيدا , و متقنا , و صاحب حق شرعي في قرش المواطن . لكن مشكلة هذه المواصفات , أنها لا تتوفر ببذل المال وحده , بل ببذل المال و الجهد ضد معارضة قوية في مجتمع مفتوح للحوار , قائم على تبادل المعلومات , و قادر على ضمان حرية الرأي . و إذا كانت الحكومات العربية , قد اختارت أن تختصر نصف الطريق , و تشتري لنفسها اعلاما ناجحا , بنقود مواطنيها , فان ذلك لم يمنحها اعلاما ناجحا , بل منحها اعلاما طفوليا , محروما من تجربة العمل ضد المعارضة , و ساذجا - لهذا السبب - مثل كلام الأطفال .

            إن الفروق المثيرة للحرج بين الأأعلام الحكومي في بيئته العربية و بين الأعلام الحر في بيئته الحزبية , فروق لا تختفي في أدراج الحكومات العربية , بل تتجلى علنا في الصحف و الأذاعات طوال الليل و النهار , مثل عقاب لا مرد له على تبذير حق المواطن في غير وجه الحق .

            أشهر هذه الفروق المعلنة , أن الأعلام الحر شريك شرعي في الحكم بموجب بند معلن في نص الدستور . فهو سلطة فعلية مثل الحكومة نفسها , يتمتع بحصانة دستورية مثلها , و يملك حق الرقابة عليها , و يستطيع أن يتحداها في أي وقت , أمام محاكم محايدة .

            في المقابل , يبدو الأعلام العربي مجرد موظف حكومي بالأجر . فليس ثمة دستور واحد في الوطن العربي يعتبر الأعلام سلطة شرعية , أو يضمن له لقمة عيشه أصلا , إلا بشرطين قاسيين , أولهما أن يخدم حكومة لا يعرف عنها شيئا . و الثاني أن يسكت عن كل شيء أخر يعرفه .

            و في ظل هذين الشرطين , لم يكن أمام الأعلام العربي سوى أن يتخلى عن وظيفة الأعلام نفسها , و أن يصبح شاعرا , من دون يدري , و يفعل ما فعله المتنبي منذ ألف سنة , فيهجو كافورا في دمشق , و يمدحه في القاهرة , بأسلوب شعري لا يميزه عن شعر المتنبي سوى أنه أقل موهبة , و أثقل وطأة على الخزانة العامة . ان هذا الأعلام - الشاعر- يتورط تلقائيا بين مشكلتين :

            الأولى : إنه اعلام يستعمل وسائل عصرية واسعة الأنتشار , تخاطب ملايين المواطنين في جميع الأوقات .

            الثانية : إنه اعلام لا يملك شيئا هاما يقوله لهذه الملايين , و لا يعرف كيف يستحوذ على انتباهها باللغة المألوفة وحدها , مما يضطره بالتالي إلى تبني حلول بلاغية بحتة , غير مطوعة لخدمة الأعلام :

            أول هذه الحلول , تمثل في استعمال صيغة (( الصفة )) . و هي صيغة سحرية حقا , تضاف إلى كل شيء , فيصبح شيئا آخر في لحظة قصيرة , و من دون عناء . انها تلحق بحكومة غير شرعية , فتصبح حكومة رشيدة . و تلحق بوطن يعاني الزحام و العطش , فيصبح وطنا ساميا إلى العلا . و تلحق بمواطن حافي القدمين , فيصبح مواطنا كريما , صاحب حضارة عريقة و دين قويم . فالصفة , مثل عصا الساحر , تستطيع أن تحقق جميع المعجزات , لكنها - مثل عصا الساحر أيضا - حيلة لا يصدقها الجمهور .

            و قد أفرط الأعلام العربي في استعمال الصفة سلبا و ايجابا , وورط نفسه في قاموس سحري , معد - فقط - لمخاطبة الأطفال . فكلمة [ الملك المفدى ] مثلا , كلمة لا تستطيع أن تخاطب رجلا ناضجا , من دون أن تصبح كذبة علنية . و كذلك كلمة [ الرئيس الجليل , و الشعب الأصيل , و الحكومة الرشيدة , و الثورة المباركة , و الملك الساهر على شؤون الرعية ] , و عشرات الضفات الخرافية الخرى التي لا يعرفها قاموس الأعلام إلا بمثابة مادة للضحك .

            ثاني الحلول البلاغية المفضلة لدى الأعلام العربي , تمثل في أستعمال صيغة المبالغة . و هي أداة سحرية أكثر إثارة , تضاف إلى الصغير , فيصبح كبيرا جدا , و تضاف إلى شجرة واحدة فتصبح غابة . و تضاف إلى مصفاة للنفط المشرف على النفاد , فتصبح قلعة صناعية لبناء المستقبل . و في مجال البلاغة , سجل الأعلام العربي لنفسه سجلا حافلا بأكثر فنون الكذب سذاجة , و أقلها قدرة على التمويه . و هو الكذب الذي لا يخاطب افرادا , بل يخاطب أمة بأكملها . فعندما تنشيء الحكومة مزرعة (( يعم الخير الوفير أرجاء الوطن )) . و عندما تبني الحكومة محطة كهرباء (( يدخل الوطن في أنوار القرن العشرين )) . وعندما يستقبل صغار التلاميذ ضيوف الحكومة (( تخرج الجماهير الحاشدة لأستقبالهم )) و عندما يتكلم رئيس الحكومة نصف الأمي , يصبح كلامه (( توجيهات حكيمة )) . و عندما يكون الناس في حاجة إلى ألف مستشفى (( تبني الحكومة مستشفيين مجهزين بأحدث المعدات , لخدمة أبناء الشعب )) . فكل شيء يتضاعف حجمه - أو ينقص حجمه - إلى ما لا نهاية , بتغيير طفيف في زاوية النظر , و في نوع الأسلوب . و هي حيلة بلاغية نافعة في تعليم الأطفال , لأنها تشحذ قدرتهم على التخيل , لكنها لا تعلم المواطن المسؤول شيئا سوى أن الأعلام غير جاد , و غير مسؤول .

            ثالث الحلول البلاغية المفضلة لدى الأعلام العربي , تمثل في استعمال صيغة (( الحماسة )) لشد انتباه الجمهور . فالأعلام الذي لا يقول شيئا هاما , يضطر إلى أن يقول شيئا مثيرا , و هو حل سحري آخر , مهمته أن يحيل الكلمات إلى قذائف , و يجعلها تنفجر , و يتطاير من حولها اللهب , و يسقط أمامها الأعداء صرعى , من دون أن تسيل نقطة دم واحدة . و قد أفرط الأعلام العربي في شن هذه الحرب الطفولية , و خلق لنفسه لغة من الديناميت , لا تتكلم المواطن , بل تنفجر فيه , فصوت الثورة (( يدوّي )) في أذنيه , و الجماهير (( تهدر )) من حوله , و أناشيده (( تزلزل )) الأذاعة , و لغته (( رصاص )) و سماؤه (( نار )) , و أرضه (( تستعر )) تحت قدميه كالسعير .

            و في مقابل هذه العاصفة الحماسية , لا يملك المواطن العربي صوتا في اعلان الحرب أو اقرار السلام , و لا يستطيع أن يحمل سلاحا من دون أن يتعرض للعقوبة . و لم يسأله أحد عن رايه في أي حرب , دخلتها الحكومات العربية , في أي عصر , و في أي مكان .

            رابع هذه الحلول البلاغية المفضلة لدى الأعلام العربي , تمثل في تفخيم اللقب السياسي إلى أبعد مما تحتمل السياسة نفسها . و قد جال الأعلام الحكومي طليقا في هذا المجال المفتوح , و أسبغ على حكامه من الألقاب ما تضاءلت بجانبه ألقاب السلاطين . فذهب (( خاقان البحرين )) و جاء (( بطل العروبة و حبيب الشعب , و الرئيس الملهم , و العاهل المفدى , و أمل الجماهير )), في وصلة شعرية بحتة , لا مبرر لها في قاموس الأعلام سوى الجهل بطبيعة اللقب السياسي نفسه .

            فالواقع أن اللقب السياسي لا يصلح للتفخيم لأنه ليس لقبا , بل وظيفة تتغير تلقائيا بتغير نظام الأدارة . فإذا كان الحاكم هو رأس الدولة و قلبها معا , يصبح لقبه (( رأس الدولة , أو سيف الأسلام , أو القاهر , أو صاحب المعالي , أو حبيب الملايين )) . أما إذا كان الحاكم مجرد موظف اداري في دولة تحرسها مؤسسات جماهيرية , فإنه لا يملك لقبا أصلا سوى لقب السيد المدير . و قد نسي الأعلام العربي هذه العلاقة العلنية بين اللقب السياسي و بين نظام الحكم , و انطلق يسبغ الألقاب على حكامه من دون حساب , حتى وصل إلى لقب (( صاحب الجلالة )) , و اضطر الملوك العرب إلى التدخل رسميا لمنع هذا اللقب الفرعوني من التداول , و اغلاق فم الأعلام الفصيح , قبل أن يتبين الناس فحوى كلامه .

            إن الحكومة العربية لم تكسب شيئا من وراء اعلامها الحكومي سوى الأحراج المعلن يوميا على مشهد من العالم بأسره في سجل مكتوب , سوف يبقى مفتوحا أمام أجيال العرب طوال ألف سنة من الآن . و هو مأزق اشترته الحكومات العربية لنفسها بنقود مواطنيها الفقراء , و لن ينقذها من ويلاته سوى التوبة السريعة عن هذا السلوك السلطاني , و الكف عن تبذير المال العام على أغراض الدعاية السياسية , و اطلاق سراح الأعلام , لكي يكسب رزقه بعرق جبينه , مثل كل حرفة شريفة فعلا .

            خارج هذه الوصفة , لا يكون الأعلام حرفة شريفة , حتى بشهادة من حضرة الحكومة .
            - انتهى نص المنشور -

            تعليق


            • #36


              المنشور السادس عشر -----

              مصطلح { الديموقراطية } في القاموس السياسي المعاصر يعني رسميا (( تعدد الأحزاب , و حرية السوق , و ضمان الملكية الخاصة )) و هو تعريف اكتسب لنفسه مكانة الوصايا العشر في دول الغرب منذ تاسيس الولايات المتحدة على الأقل . و تحول الآن - منذ عهد غورباتشوف - الى وصفة طبية لعلاج امراض الفقر و التخلف في كل مكان , من شرق أوربا و الأتحاد السوفييتي , إلى وطننا العربي الذي يقف مستعدا لتجربة جميع الوصفات . لكن الفكرة قد لا تكون مضمونة حقا , و قد لا يكون وطننا العربي بالذات سوى وطن غريق يتعلق بقشة .

              فمثلا :

              جمهورية البيرو , دولة (( ديموقراطية )) طبقا لجميع المواصفات الواردة في التعريف المذكور . إنها دولة ذات اقتصاد حر , يديرها برلمان منتخب في اقتراع عام , و يمثلها رئيس شعبي من أبناء الطبقة الكادحة , و تراقبها صحف مستقلة سليطة اللسان مثل [ لا ريبوبليكا ] , و تحرسها اتحادات عمالية منظمة , و أحزاب مسجلة باسم جميع فئات الشعب , من أقصى اليمين الى اقصى اليسار .

              أكثر من ذلك , فإن البيرو دولة متدينة جدا , تتمتع برضاء البابا و الولايات المتحدة معا . و تقاتل الشيوعيين من أعضاء حركة [ الدرب المضيء ] منذ عشرين سنة , بحماسة لا تضاهيها سوى حماستها في تشجيع المستثمرين الأجانب الذين جمعتهم في ضاحية [ ميرافلوريس ] لكي تضمن حمايتهم من الخطف , تحت حراسة بوليسية مشددة .

              لكن أحدا لا يعتبر جمهورية البيرو دولة ديموقراطية , و لا أحد يدرجها تحت هذه الخانة , حتى من باب النكتة , بمن في ذلك (( المفكرون )) العرب الذين يتولون الترويج لنظام الأحزاب في وطننا بأصوات تعلوا على أصوات الباعة المتجولين , لأن البيرو في الواقع هي أشهر نماذج الديموقراطية المزورة في ظل نظام الأحزاب بالذات .

              --- دستور البيرو يقول أنها دولة راسمالية , لكن متوسط دخل الفرد فيها يقل عن ثلث دخل الفرد في دولة شيوعية مثل ألبانيا .

              --- ديون البيرو و صلت الآن الى 200 في المئة من دخلها القومي . و كل طفل يولد فيها الآن , يولد مدينا بمبلغ قدره ألف دولار .

              --- حكومة البيرو (( البرلمانية )) أصدرت 72 ألف قانون منذ سنة 1947 حتى الآن . لكن 99في المئة من هذه القوانين لم يعتمدها البرلمان , و لم يطلع عليها النواب , و لم تنشر في الصحف أصلا .

              --- بلديات البيرو (( لا تدخر وسعا في تشجيع الملكية الخاصة )) لكن المواطن الذي يريد أن يبني بيتا يأويه , عليه أن ينتظر سبع سنوات لكي ينال رخصة البناء بعد أن يدفع من الرشاوي ما يعادل دخله خلال 56شهرا .

              --- وزارة الأقتصاد في البيرو (( تعمل بجد لتنشيط العمل الحر )) لكنها تحتاج الى سبعة عشر عاما لكي تصدر رخصة محل لبيع أمواس الحلاقة .

              --- شعب البيرو (( يختار حكومته بمحض إرادته في انتخابات حرة )) لكنه لا يدفع لها الضرائب , فمن أصل 21مليون مواطن , لم تجمع الحكومة (( الشعبية )) خلال عام 89 سوى ضرائب قديمة من ربع مليون . أما نسبة الأقبال على الأنتخابات فقد وصلت في عهد الرئيس غاريشيا الى نصف مواطن من كل مئة مواطن .

              --- قوانين البيرو , تنص صراحة على حرية الأقتصاد , لكن جميع وسائل النقل العام في العاصمة ليما , تابعة لتجار السوق السوداء , فيما تصل نسبة التضخم الى 6آلاف في المئة , و تتزايد الأسعار سنويا بمعدل قدره 30 إلى واحد .

              البرازيل أيضا دولة (( ديموقراطية )) من هذا الطراز . و كذلك بنما و المكسيك و كولمبيا و هندوراس و نيكاراغوا و تشيلي و بوليفيا و الأرجنتين , فجميع هذه الدول , تتوفر لها مواصفات الحكم الديموقراطي , كما ينص عليها (( المفكرون )) العرب . و ليس بينها دولة واحدة تخضع لنظام الحزب الواحد , أو تغلق أسواقها في وجه رأس المال الأجنبي , أو تتقاعس عن تشجيع الملكية الخاصة بكل وسيلة في حوزتها , من تمليك أراضي الهنود لأصحاب المناجم , الى بيع الغابات الأستوائية لشركات الأخشاب و تجار الكوكايين .

              و مع ذلك , فإن جمهوريات أمريكا اللاتينية , ليس اسمها (( دولا ديموقراطية )) بل اسمها (( جمهوريات الموز )) لأن واقعها الذي تعيشه في أرض الواقع لا يؤمّن لها سوى هذا اللقب المهين بالذات . و لعل حاجة الفكر العربي الى التعايش من انصاف الحقائق , تستطيع أن تساعده على تجاهل هذه الحقيقة بكاملها . لكن ذلك لا يجعله سوى فكر خرافي في نهاية المطاف . إن غلطة الشاطر بألف غلطة على الأقل .

              فالديموقراطية القائمة على تعدد الأحزاب صيغة رأسمالية محضة , تخص الأوربيين الرأسماليين وحدهم , و لا يمكن نقلها الى بيئة أخرى , و لا يمكن تقليدها إلا بوسائل المكياج المؤقت , كما يصبغ المرء شعره من باب حب التمثيل . و الثابت أنه من أصل 170 دولة في العالم , لم تنجح هذه الصيغة , إلا في عشرين دولة فقط , هي دول الأوربيين الأغنياء , لأنها صيغة مفصلة على مقاسهم بيد التاريخ و مقصه معا .

              فمنذ منتصف القرن الثامن عشر , كانت شعوب غرب أوربا قد نجحت في تسخير قوة البخار , و اكتشفت سر المصباح السحري . و كانت بريطانيا تفتتح عصر الثورة الصناعية , بمغازل النسيج العملاقة في لانكشاير , و تضاعف انتاجها من المنسوجات فجأة بمقدار 400 مرة خلال خمسين سنة فقط , و في ظروف هذا الأنقلاب الصاعق , انهارت قاعدة الأقتصاد القائم على العمل اليدوي في جميع أنحاء العالم , و فقد التفوق العددي معناه , و تغيرت مراكز التجارة الدولية , و بدأت الشعوب التي سيعرفها القرن العشرون , تحت اسم [ العالم الثالث ] مسيرتها الطويلة - و الموجعة- نحو القاع ..

              سنة 1750 , كانت الصين , مثلا , تحتكر حوالي 33في المئة من الأنتاج الصناعي في العالم , بينما كانت حصة بريطانيا تقل عن 2 في المئة , لكن الميزان ما لبث أن أنقلب خلال المئة سنة التالية , فزادت حصة بريطانيا الى 18في المئة , و تراجعت حصة الصين الى 6 في المئة فقط . أما الهند التي كانت أكبر مصدّر للمنسوجات خلال القرن الثامن عشر , فقد انهارت مصانعها اليدوية أمام طوفان النسيج الممتاز و الرخيص القادم من بريطانيا , و خسرت جميع أسواقها الدولية , بينما بدأت وارداتها تتضاعف باطراد , من مليون ياردة سنة 1813 الى 51مليون ياردة سنة 1814 , إلى 995مليون ياردة سنة 1870 , بزيادة قدرها الف مرة خلال 57 سنة فقط .

              بالأضافة الى بريطانيا شملت ثورة التصنيع , ست امبراطوريات أوربية أخرى , و هي التي نعرفها الآن تحت اسم [ العالم الديموقراطي ] :

              الأولى : الولايات المتحدة التي ارتفعن حصتها من الأنتاج الصناعي في العالم , من واحد في الألف سنة 1750 , إلى 23في المئة سنة 1900 .

              الثانية : ألمانيا , و قد بلغت حصتها السنوية 13 في المئة , أو ما يعادل حصة الهند في عشر سنوات .

              الثالثة : فرنسا بحصة قدرها 6 في المئة , أي ما يعادل متوسط إنتاج الصين بنسبة 15 إلى واحد .

              النمسا التي كانت تعرف باسم امبراطورية آل هابسبورغ . و قد بلغت حصتها 4 في المئة .

              الخامسة : السويد التي شملت فنلندا و دول البلطيق , بحصة قدرها 3في المئة .

              السادسة : ايطاليا التي دخلت السباق متأخرة بزمن قدره قرن كامل , و بلغت حصتها إثنان و نصف في المئة .

              في المقابل , انخفضت حصة بقية شعوب العالم من 73 في المئة سنة 1750 الى 11 في المئة سنة 1900 , و انعكس هذا التراجع في انهيار متوسط دخل الفرد الى المستوى الرهيب الذي نعايشه الآن في ما يسمى بالعالم الثالث . ففي مصر مثلا , كان دخل الفرد مساويا لدخله في غرب أوربا حتى منتصف القرن الثامن عشر , لكنه انهار فجأة خلال القرن التالي , فأصبح واحدا إلى 18 بالنسبة لدخل المواطن في فرنسا , و بلغ واحدا إلى خمسين بالنسبة لدخل المواطن في بريطانيا . و قبل أن يبدأ القرن العشرون , كانت الثورة الصناعية , قد قلبت موازين القوى الى الأبد , و كان رجل أمريكي واحد مثل روكفلر , يملك من الثروة أكثر مما تملكه شعوب قارة افريقيا مجتمعة .

              هذا الأنقلاب الصناعي رافقه انقلاب آخر في طاقة السلاح الناري . فقد أدى تطوير الرشاشات و مدفعية الميدان و السفن البخارية الى ضمان تفوق الجيوش الأوربية , حيث شاءت أن تقاتل , من أسوار شنغهاي الى غابات السودان . و في صباح يوم واحد , قتل البريطانيون 11ألف جندي من قوات المهدي , مقابل 48 جنديا فقط , بينما توغلت قواربهم المسلحة مئات الأميال داخل نهر النيجر لكي تقصف تجمعات الزنوج في قلب افريقيا . إن الملكة فيكتوريا تتلقى سنة 1865 تقريرا عن وضع الأمبرطورية , يقول لها مباهيا :

              (( ..... سهول روسيا و أمريكا الشمالية , هي حقول قمحنا . شيكاغو و اوديسا هي مطاحن غلالنا . كندا و البلطيق , غابات أخشابنا . استراليا مراعي خرافنا . أودية أمريكا الغربية مراعي ابقارنا . مناجم البيرو , تغدق علينا الفضة . استراليا و جنوب افريقيا مناجم لذهبنا , الهندوس و الصينيون يزرعون لنا الشاي الأنديز تزرع لنا السكر . اسبانيا و فرنسا , عرائش أعنابنا . بلدان البحر المتوسط , حدائق ثمارنا . أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة , فقد امتد الآن الى جميع مناطق الأرض الدافئة ...))

              في ظل هذا الثراء القائم على التصنيع و التجارة الدولية , تحولت دول الغرب من حكومات بسيطة تديرها أسر اقطاعية إلى أجهزة عملاقة معقدة , يتوقف بقاؤها على إيجاد صيغة إدارية مؤهلة لتوفير الشرطين التاليين :

              الأول : أن تضمن حرية رأس المال دستوريا , بما يشجعه على التدفق المستمر الى مجالات الأستثمار المتاحة .

              الثاني : ان تكسب رضاء العمال , و توفر لهم مستوى المشاركة المطلوبة في السلطة , بما يضمن استمرار العمل و زيادة الأنتاج .

              و من هذين الشرطين , و لدت صيغة الديموقراطية الرأسمالية كما نعرفها الآن :

              فحرية رأس المال , تشريع يغطي حق الملكية الخاصة و ضمان الفائدة على القروض و حرية الأعلان و القضاء و حماية الأستثمارات الخارجية , حتى عن طريق الحرب الشاملة .

              و مشاركة العمال في السلطة , تشريع يغطي حق التصويت , و حق التجمع و الأضراب , و إتاحة فرص التأهيل للرجل و المرأة , و توفير الضمان الأجتماعي بفرض الضرائب التصاعدية على رأس المال , و تأميم مرافق الخدمة العامة .

              ميزة هذه الصيغة الرأسمالية , أنها قادرة تلقائيا على استبعاد الجيش و الكنيسة من قائمة المرشحين لتولي السلطة . فالمجتمع القائم على التصنيع و التجارة الدولية , مؤسسة تعتمد على تحالف العمال مع أصحاب رأس المال , و ليس بوسع العسكر أو رجال الدين أن يضربوا هذا التحالف أو يتولوا إدارة المجتمع من دون أن يتسببوا في انهياره اقتصاديا من القاعدة . و هي ميزة تضمن للصيغة الرأسمالية حماية كاملة من الأنقلابات العسكرية و المتطرفين الدينيين , لكنها لا تتوفر للأحزاب خارج العالم الرأسمالي .

              ان الديموقراطية الحزبية ليست (( فكرة )) طرأت على ذهن رجل مفكر , بل (( بيئة )) فرضتها ظروف الثورة الصناعية , لم يكن للأوربيين يد في اختيارها , إلا بقدر ما كانت لهم يد في اختيار جلودهم أو لون عيونهم . ورغم أن شعوبا كثيرة أخرى , قد عمدت الى تقليدهم , فإن ذلك كان مجرد نوع من خداع البصر بوسائل المكياج المؤقت .
              و الثابت , أن هذه الصيغة لم تنجح في أي مكان خارج بيئتها الرأسمالية , بل تحولت إلى قناع تختفي وراءه نظم ملكية مطلقة , و حكومات يديرها جنود و مشايخ و تجار مخدرات و قتلة و عملاء على طول العالم الثالث من عصر فاروق إلى عصر أورتيغا . و لو كانت الجدية صفة من صفات ثقافتنا العربية , لما ارتفعت الآن هذه الدعوة المضحكة الى نظام الأحزاب في وطن عاش تجربة الأحزاب من قبل , و ذاق ثمارها الرديئة من أقصى العراق الى اقصى المغرب , لكن ثقافتنا العربية ليست جادة .

              إنها مجرد نكتة مترجمة عن لغة اجنبية , يرويها المترجمون بحماسة , منذ عصر نابوليون حتى الآن , من دون أن يضحك عربي واحد . و لو كانت الديموقراطية تتحقق فعلا باستيراد وصفة جاهزة , لجرت الرياح بما تشتهي السفن منذ زمن بعيد . إن طريقنا أن نمضي غاضبين في الأتجاه المعاكس :

              ---- طريقنا أن نجمع ثقافتنا المترجمة , و نعطيها لبرميل القمامة , لكي يصبح برميلا مثقفا .

              ---- طريقنا أن نكف عن سرقة أفكار الآخرين و نفتش في ترابنا عن البذرة التي تنبت بيننا مثل أشجارنا و سنابلنا .

              ---- طريقنا أن نستعيد شرعنا الجماعي , و نكتشف لغة الملايين التي تلتقي أسبوعيا في الجوامع , و نحرر يوم الجمعة من خطب الوعاظ , و نعطي مكبر الصوت لهذا المواطن الساكت .

              كل وصفة أخرى , مجرد قفزة في الظلام , لا طائل من ورائها سوى أن تعاد مسرحية أمريكا اللاتينية في وطننا العربي , بلغة الحرب الأهلية الشاملة . فمشكلة العرب بالذات أنهم لا يستطيعون أن يبدأوا من الصفر , ما دام يوم الجمعة يجمعهم بالملايين في مكان واحد , أمام منبر واحد . إنهم ملزمون بتحرير هذا المنبر من سيطرة المؤسسات الدينية و الأقطاعية . و ملزمون بتطوير الأجتماع الى لقاء دستوري قادر على ضمان حق الأغلبية في اتخاذ القرار . و من هذه البداية , يستطيع العرب أن يجربوا جميع الوصفات , و يقلدوا الأوربيين كما يحلو لهم , و يصبغوا شعورهم و لون عيونهم , و يمضوا وراء لعبة الأحزاب و الثقافة المترجمة الى آخر محطة على الطريق . لكن يوم الجمعة , سوف يكون دائما بركانا نشطا تحت أقدامهم , و سوف يجلسون فوقه غافلين , حتى يداهمهم الأنفجار في ساعة آتية لا ريب فيها .

              انتهى نص المنشور , دمتم في سلام

              تعليق


              • #37



                سنة 890 م توفي الخليفة هارون الرشيد , أعظم خلفاء بني العباس , و أشهر حاكم شهدته القرون الوسطى على الأطلاق , أما نظام الخلافة نفسه , فقد كان يواجه ثلاث مشاكل مميتة , و غير قابلة للحل .:

                الأولى : أن الولاة لم يعودوا مجرد موظفين في ديوان الخليفة , بل اصبحوا أمراء يتوارثون العرش في نظام أسروي لا يقل شرعية عن نظام وراثة الخلافة نفسها .

                الثانية : أن فرقة الحرس الخاص , لم تعد فرقة واحدة , بل انقسمت بين أمراء البيت المالك , إلى جيوش مسلحة , تتبادل التهديد و حبك المؤامرات .

                الثالثة : إن نظام الخلافة , أصبح معرضا للضرب من داخله بسبب نزاع الأمراء على امتيازات السلطة , في معركة علنية تحت سقف البيت المالك . إن الخليفة هارون الرشيد شخصيا تضطره هذه الظروف الصعبة إلى أن يتخطى العرف السائد , و يعين وليين اثنين من أولاده لولاية العهد تباعا , بدل ولي واحد . في محاولة يائسة لأغلاق الباب في وجه العاصفة . لكن الباب انفتح بيسر , قبل أن يصل الرشيد إلى قبره .

                انفجر النزاع بين ولديه الأمين و المأمون , فانحاز أحدهما إلى الأمراء العرب , و انحاز الآخر إلى الأمراء الفرس . و انغمسوا جميعا في صراع مسلح , على جبهة عريضة شملت معظم العراق و خراسان , و انتهت بعد ثلاث سنوات , بحصار بغداد , و تهديم بيوتها , وأسر الخليفة الأمين , الذي احتز الجنود الفرس رأسه و بعثوه إلى أخيه المأمون في خراسان بمثابة رسالة لا تحتاج إلى مترجم . و في نهاية هذه الحرب الشاملة , كان من الواضح أن الصراع على السلطة , قد انتقل من ميدانه المألوف بين الأسرة و الأسرة , إلى ميدانه الجديد بين أفراد الأسرة الواحدة , و أن نظام البيت المالك , كما صممه معاوية قد انهار حرفيا , على رؤوس سكانه .

                فكرسي الحكم الذي صعد إليه المأمون على جثة أخيه , ما لبث أن تحول إلى فخ مميت , يشبه كرسي الأعدام , لا يعتليه الخليفة لكي يحكم , بل لكي يقتل علنا , أو يموت بأسلحة صامتة مثل السم و الخنق . إن الحرب تندلع سرا داخل حجرات البيت المالك .

                بعض الخلفاء , لقي الموت على يد أقرب الناس إليه .

                قال إبن الأثير :

                [ أول من استبد من النساء الخيزران أم هارون الرشيد . و هي قرشية , و كانت ذات نفوذ و قوة يخافها أولادها , و من خالفها منهم أو اعترضها قتلته . و كانت في أيام زوجها المهدي صاحبة الأمر و النهي , و هو يطاوعها . فلما تولى ابنها الهادي , أرادت الأستبداد بالأمر دونه , و أن تسلك به مسلك أبيه . فلم يمض أربعة أشهر , حتى انثال الناس إليها , و كانت المواكب تغدو و تروح على بابها . فساءه ذلك . و كلمته يوما في أمر , فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا , فقالت (( لابد من إجابتي إليه , فإني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك )) فغضب الهادي و قال : (( ويلي على إبن الفاعلة . قد علمت انه صاحبها . و الله لا أقضيها لك )) . قالت : (( إذن و الله لا أسألك حاجة )) قال : (( لا أبالي )) و قامت مغضبة , فصاح بها (( مكانك ! و الله لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو خاصتي , لأضربن عنقه , و لأقبضن ماله . ما هذه المواكب التي تغدو و تروح إلى بابك ؟ أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكرك ؟ أو بيت يصونك ؟ إياك إياك , لا تفتحي بابك لمسلم و لا ذمي )) فانصرفت وهي لا تعقل ]

                إلى أن يقول :

                [ فحقدت عليه , حتى إذا علمت أنه يريد خلع أخيه الرشيد , و البيعة لأبنه جعفر , أمرت بعض جواريها بقتله بالغم و الجلوس على وجهه حتى قتلنه ]

                بعض الخلفاء لقي حتفه على يد خادمه الخاص .

                و مشكلة الخدم داخل البيت المالك لها علاقة بالبيت المالك نفسه . فما دامت السلطة محصورة , تحت سقف بيت واحد , فإن كل فرد يعيش تحت هذا السقف , يكتشف ممرا - شرعيا - إلى موقع السلطة . فالغلام بدر - خادم المعتضد - (( تولى قيادة الجند , و نقش اسمه على التروس و الأعلام )) و الغلام بجكم - خادم المكتفي - (( ترقى في المنصب , حتى صار أمير الأمراء )) و هي أكبر وظيفة في الدولة . و جوهر الصقلي - خادم المعز - (( تولى قيادة الجيش المتجه لغزو مصر , و ودعه أولاد الخليفة و أهله , ومشوا بين يديه , حتى خرج موكبه من المدينة )) . و كافور النوبي - خادم الأخشيديين - وضع يده على عرش مصر , و تولى حكمها فعلا (1) .

                أغلب الخلفاء , لقوا حتفهم على يد حرسهم الخاص .

                و مشكلة الحرس الخاص , بدأت في عصر معاوية , ثم تفاقمت في عصر المأمون الذي أحاط نفسه بفرق من الجنود الفرس . و بعد ذلك اصبحت معضلة غير قابلة للحل , عندما خطر للخليفة المعتصم أن يحرر نفسه من الجنود الفرس , فوضع عنقه - و عاصمته - تحت سيوف الجنود الأتراك .

                قال إبن الأثير :

                [فلما افضت الخلافة للمعتصم , كان الأتراك عونا له , و تكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم , و صاروا يؤذون العوام في الأسواق , فينال الضعفاء و الصبيان من ذلك أذى كثيرا , و ربما أردوا الواحد بعد الواحد قتيلا على قارعة الطريق . فاتفق أن المعتصم خرج بموكبه في يوم عيد , فقام إليه شيخ و و قال له : (( يا أبا أسحاق )) فأراد الجنود ضربه , فمنعهم و قال : (( ياشيخ مالك ؟ )) . قال : (( لا جزاك الله عن الجوار خيرا . جاورتنا . و جئت بهؤاء العلوج من غلمانك الأتراك , فأسكنتهم بيننا , فأيتمت بهم صبياننا , و أرملت نساءنا , و قتلت رجالنا )) و المعتصم يسمع ذلك , فدخل منزله و لم ير راكبا إلى مثل ذلك اليوم ..]

                فماذا فعل الخليفة ؟

                لقد بنى لنفسه و حراسه مدينة تخصهم وحدهم في سامراء . و هو الحل الوحيد , أمام رجل لا يستطيع أن يعيش من دون جيش من الحرس . و وراء أسوار المدينة الخاصة , كان الخليفة في الواقع مجرد رجل أسير بين أيدي أمراء الأتراك , و كانت هذه الحقيقة , قد اصبحت بالنسبة للمواطنين من سكان بغداد , مجرد مصدر مألوف للنكات :

                قال الفخري :

                [ ... فلما تولى المعتز , قعد خواصه , و أحضروا المنجمين , و قالوا لهم : (( انظروا كم يعيش الخليفة , و كم يبقى في الخلافة )) و كان في المجلس بعض الظرفاء فقال : (( أنا أعلم من هؤاء بمقدار عمره و خلافته )) فقالوا له : (( فكم تقول إنه يعيش , و إنه يملك ؟ )) قال : (( مهمت أراد الأتراك )) فلم يبق أحد في المجلس إلا ضحك ]

                لكن النكتة لم تكن طريفة إلى هذا الحد . فقد قام الأتراك فعلا , بقتل الخليفة المعتز , بعد أن [ جروه برجله إلى باب الحجرة , و ضربوه بالدبابيس , و خرقوا قميصه , و أقاموه في الشمس , فكان يرفع رجلا , و يضع أخرى لشدة الحر ] أما الخليفة المكتفي فقد [سملوا عينيه , ثم حبسوه حتى مات في الحبس ] و عزلوا ابنه المدعو باسم القاهر [ فكان يشاهد يستعطي في أسواق بغداد , لابسا قبقابا خشبيا ] .

                إن هولاكو يجتاح العراق عند منتصف القرن الثالث عشر , و يظهر فجأة تحت أسوار بغداد , مثل كارثة في حجم إعصار , فيقابله خليفة أعزل اسمه المستنصر بالله يحيط به موكب من الفقهاء العزل , في شهادة معلنة على أن تغييب الشرع الجماعي , وراء فتاوى الفقه , لم يحل مشكلة الأدارة الأسلامية , بل حرمها من إيجاد الحلول , و سلمها في شخص خليفة سمين , حاسر الرأس , إلى جزار دموي من طراز هولاكو .

                كتب التاريخ الأسلامي , لا تفسر تاريخ الأسلام من هذا المنظور , و لا تربط بين غياب الشرع الجماعي , و ما حدث لدولة المسلمين . إنها تلتزم بمنهج موجه لتسجيل التاريخ , و ليس لتفسيره , بسبب الرقابة الحكومية الصارمة على كتب التاريخ . و في منهج حكومي إلى هذا الحد , كان على المؤرخ المسلم أن يلتزم بمنهج منحرف , و غير إسلامي .

                إنه لا يتحدث عن شرع الجماعة , و لا يلاحظ غياب الأغلبية عن الأدارة , و لا يستطيع أن يقول , إن الخليفة سرق حق الناس , و خطفهم في مدن مسورة تحت حراسة جنوده المأجورين .

                لقد كان على المؤرخ المسلم , أن يطفو ساكنا مع التيار, و يسجل غزوات الخليفة , و يمتدح مآثره في الدفاع عن أرض الأسلام . و يتغاضى عما يفعله الخليفة للمسلمين أنفسهم ,و يتغاضى عن غياب الأدارة الجماعية , و يدير ظهره للواقع , لكي يسجل واقعا سواه , و في ظروف حرجة من هذا النوع , كان تاريخ الأسلام يصاغ بمنهج محرج حقا .

                ففي عصر بني العباس مثلا , كان على المؤرخ المسلم أن يستقبل خليفة اسمه (( السفاح )) . و يلحق نسبه ببيت الرسول , و يناصره على أعدائه الأمويين , و يلعنهم إلى يوم الدين . لكنه لا يلعنهم , لأنهم سرقوا حق الناس , بل لأنهم يشربون الخمر , و يشترون الجواري , و يسمعون الغناء . فسرقة حق الناس , جريمة أرتكبها السفاح أيضا , و من شأنها أن تجمعه مع أعدائه في خانة لعينة واحدة .

                و في وقت لاحق , عاد العباسيون , فتعلموا بدورهم أن يشربوا الخمر , و يشتروا الجواري , و يسمعوا الغناء , لكن المؤرخ المسلم , كان مضطرا هذه المرة , إلى أن يسجل الحادثة من دون لعنات .

                في عصر الفاطميين , كان على الفقهاء في القاهرة , أن يطعنوا في شرعية العباسيين , و كان على الفقهاء في بغداد , أن يطعنوا في شرعية الفاطميين , و كان على المؤرخ المسلم أن يسجل هذه المعركة النظرية , من دون أن يشير من جانبه إلى أنها معركة نظرية جدا , و أن الشرعية مصدرها الشرع الجماعي , و ليس نسب الخليفة من رسول الله . فالشرع الجماعي , يلغي نظرية العباسيين و الفاطميين على حد سواء , مما يضع رأس المؤرخ المسلم حيث يلتقي السيفان .

                للمنشور بقية , مع الود و التحية
                _______

                تعليق


                • #38


                  تكملة المنشور:


                  لقد كتب التاريخ الأسلامي , من منظور فرضته ظروف الرقابة السياسية , و التزم سلفا بأن يصبح تاريخا تسجيليا منحازا , لا يرى الأحداث من واقع الناس , بل من واقع الدولة , وهي زاوية شديدة الأنحراف في موضعين .

                  في الموضع الأول : يصبح تاريخ دولة الأسلام , هو تاريخ الخلفاء شخصيا , فالدولة الأسلامية قوية , في يد رجل قوي , و ضعيفة في يد رجل ضعيف . من دون أن يمضي المؤرخ خطوة واحدة بعد ذلك , لكي يكتشف وراء هذا التفسير السطحي , أن المشكلة تكمن في غياب الأدارة الجماعية , و أن الدولة التي تضع مصيرها في يد شخص واحد , أو طبقة , تضعه أصلا في يد الصدفة العمياء .

                  في الموضع الثاني : تصبح منجزات الأسلام هي منجزاته العلمية و الحضارية , و يتعمد المؤرخ أن يخلط بين أمة إسلامية ذات شرع جماعي , و دولة إقطاعية يحكمها خليفة مسلم , و ينطلق من هذه المغالطة المميتة للحديث عن حضارة اسلامية لم يعرفها تاريخ الحضارة أصلا .

                  فمنجزات العلماء المسلمين , لا علاقة لها بالأسلام , بل بموقع المسلمين في الشرق . إنها ثمرة حضارة قديمة قدم الأهرام نفسها , تكفلت منذ الأزل , بارتياد المعارف العلمية في الحساب و الجبر و الطب و الكيمياء و الفلك و الهندسة . و نجحت في تطويرها قبل الأسلام و بعده , إلى مستويات رفيعة من الدقة و الأبداع .

                  أما العلوم الأسلامية الحقة , فإنها للأسف , لم تولد في لغة الأسلام نفسه , لأنها أجهضت في وقت مبكر جدا , بإنهاء نظام الشرع الجماعي , على يد الأسرة الأموية , و العودة بالمسلمين إلى شرائع الشرع القديم .

                  إن الجبر و الهندسة و الفلك , ليست علوما إسلامية , بل علوما فقط . أما العلوم الأسلامية , فهي الشرع الجماعي , و حرية الرأي و العقيدة , و مسؤلية المواطن عن سير الأدارة , و حقوق الأنسان , و توفير الضمان للعمال , و تحريم الأقطاع في جميع صوره القديمة و الجديدة . و هي علوم لم يعرفها المسلمون , و لم تسمع عنها إدارتهم - لأول مرة - إلا في لغة رجل غير مسلم , اسمه نابليون بونابرت .

                  إن كتب التاريخ الأسلامي , تتحدث عن حضارة بديلة من حضارة الأسلام , و علم بديل من علم الأسلام . و تتورط في مقاييس قصيرة النظر لمعنى الحضارة و العلم معا , لأنها لم تكن تعرف , أنها تعيش في عالم قديم ضيق , و أن كوكب الأرض , لا يزال يضم أربع قارات في عالم جديد , و أن مصير الحضارة و العلم , سوف يقرره وصول الملاحين الأوربيين إلى هذا الكنز في قارات المحيط الهاديء , و ليس ما يقوله مؤرخ خائف عن خليفة وحيد .
                  .... إنتهى نص المنشور , و يليه الهامش

                  (1)--- في عصر كافور الأخشيدي , زار مصر شاعر من أشهر شعراء العرب في كل العصور , هو أبو الطيب المتنبي , و كانت مصر - تحت حكم كافور - مجرد إقطاعية متخلفة , ينهبها أمراء الحرس و جباة الضرائب , و يعاني أهلها شظف العيش بين المجاعات و الأوبئة . لكن عذاب الناس , لا ينعكس في شعر المتنبي , و لا يجد هذا الشاعر الموهوب في مصر , ثمة ما يلفت نظره سوى كافور الأخشيدي شخصيا .

                  إن المتنبي لا يشغل باله , بما يحدث للملايين , و لا يلاحظ فقر الرجال , و بؤس النساء , و تشرد الأطفال المتسولين في الطرقات , بل يركز عينيه على كافور وحده من دون سواه , مبديا عجزا ظاهرا عن الخروج بشعره , من هذه الزاوية الضيقة , خلال مرحلتين :

                  في المرحلة الأولى : امتدح المتنبي شخصية كافور , و اجتهد في نيل عطاياه بأشعار مسطحة منها قوله :
                  [ مولاي هل في الكأس فضل أناله فإني أغني منذ حين و تشرب ]

                  و في المرحلة الثانية : عاد المتنبي , فهجا كافور , و اجتهد - هذه المرة - في إيذاء مشاعره شخصيا , بأشعار مسطحة أخرى , منها قوله :
                  [ لا تشتر العبد إلا و العصا معه إن العبيد لأنجاس منا كيد ]

                  و يلفت النظر في هذا الشعر , أن بناءه الجميل , مسخر في الواقع لخدمة أفكار قبيحة , و غير إسلامية , و غير لائقة بروح الشعر . فلا ( العبد ) في الأسلام هو الرجل الأسود , و لا التسول على أبواب الأقطاعيين , حرفة إنسانية , و لا دعوت النخاسين لضرب المستعبدين بالعصي , و صية تحتاج إلى جهد الشعراء .

                  إن شاعرا في مستوى المتنبي - و هو مستوى متطور جدا تقنيا - لا يقول في القرن العاشر , سوى ماردده تجار الرقيق في أسواق النخاسة منذ عصر الرومان على الأقل . فقد كان كاتو - خبير الزراعة - قد أعلن منذ القرن الثامن قبل الميلاد أن أفضل طريقة لتشغيل الأرقاء في المزرعة , هي أن تقيد أرجلهم بسلسلة .

                  هذا الموقف المنحرف لا يميز أدب المتنبي وحده , بل يميز الأدب العربي القديم كله , لأن الضربة التي قضت على شرع الجماعة في السلام , قضت تلقائيا على الضمانة الوحيدة للأدب الأنساني نفسه .

                  فالأدب - من دون شرع الناس - ليس مسخرا لخدمة الناس أصلا . إنه مجرد سلاح آخر من أسلحة الأقطاع القديمة التي عرفتها الحضارة منذ مولدها في سومر و مصر . فالقصة و الرواية و المسرحية و القصيدة , لم تولد لتغيير الواقع - كما يشيع أهل الأدب - بل ولدت لتبريره من وجهة نظر الأقطاع , بموجب أساطير لا علاقة لها بالواقع , مثل قصص الكهنة عن العالم السفلي , و علاقة الملك بالألهة , و قوة السحر الخفية , و حاجة النيل إلى أن (( يتزوج )) فتاة عذراء . و هي أفكار لا تريد أن تغير الواقع , بل تريد تفسيره اسطوريا , باعتباره جزءا من عالم سحري غائب . و طوال الفترة الممتدة بين عصر فرعون , و عصر كافور الأخشيدي , لم تشهد الحضارة الأنسانية , نصا أدبيا , مكتوبا , ينادي بإنهاء منهج الأسطورة , و رفع عبء الأقطاع عن كاهل الناس , سوى نص واحد , فقط , لا غير , هو نص القرآن .

                  باستثناء القرآن , لم تعرف الحضارة حتى مطلع العصر الحديث نصا مكتوبا واحدا ينادي بإنهاء نظام الأقطاع , أو الدفاع عن حقوق المرأة أو الشفقة بالأرض و الحيوانات . و لعل منهج القرآن الأنساني , كان من شأنه أن يخلق أدبا إنسانيا مزدهرا في ثقافتنا العربية , لو أن القرآن لم يخسر تجربة الشرع الجماعي , و يخسر معركته مع الأقطاع , قبل أن تبدأ . مما أعاد الأدب العربي إلى موقعه القديم , و أغلق مدخل الطريق من أوله .

                  و منذ أن صار بوسع الخليفة , أن ينثر الدنانير على رؤوس الشعراء , و أن يقطع رؤوس بعضهم , كان الشعر العربي قد اختار مكانه في جانب الخليفة ضد الناس . و كان الكاتب العربي يشغل نفسه بالسجع و البديع و الكناية و الطباق , و ليس بقضايا الدستور , و حقوق الموطن في الضمان الأجتماعي , و حرية الرأي و القول و القضاء . و رغم ثورة النشر التي عاشها الأدب العربي , منذ عصر المأمون على الأقل , و رغم المواهب الكبيرة التي ظهرت على مسرح هذا الأدب , فإن لغتنا العربية لا تشهد نصا أدبيا واحدا , له علاقة بواقع الناس .

                  فالشعرب العربي لا يخاطب العرب , بل (( يتحدث إليهم )) عن كرم الخليفة و مجالسه , و حبه للشعر . و النثر العربي لا يشغل باله بما يعانيه العرب يوميا , بل بما يتعين عليهم معرفته حبا في ذات المعرفة , من الموسوعات الخاصة بسلوك الحيوان , إلى سير الشعراء و المغنين . و قد قدم الأدباء العرب منجزات أدبية متطورة في الشعر و القصة و البحث و المقالة , لكنهم لم يكتشفوا ابدا مهمة الأدب في تغيير الواقع , و لم يتركوا وراءهم نصا أدبيا واحدا ينادي بتحرير الأرقاء , أو إنهاء عصر الأقطاع , أو إلغاء نظام الجيش المأجور , أو توفير حق الضمان الأجتماعي للمواطنين , لقد كان أدبنا العربي السلامي , أدبا ساكتا عما يقع للمسلمين , مثل كل أدب عرفه تاريخ الأقطاع , قبل الأسلام و بعده .

                  لهذا السبب , لم يكن بوسع موهبة فائقة مثل موهبة المتنبي , أن تكتشف الفرق بين تسخير الشعر للهجاء , و تسخيره للثورة , و لم تولد أول قصيدة عربية تخاطب الأمة إلا على يد أحمد شوقي , و لم يسجل الأدب العربي أول رواية عن واقع العرب , إلا في روايات طه حسين , مثل دعاء الكروان و المعذبون في الأرض . أما قصص الأطفال - و هذه حقيقة قاسية فعلا - فإن الأدب العربي لم يعرفها إلا على يد كامل الكيلاني منذ خمسين سنة فقط .
                  إنتهى هامش المنشور, و دمتم بسلام
                  ________

                  تعليق


                  • #39


                    سنة 1922 , كان الأتحاد السوفياتي يوشك ان يولد , و كان لينين يوشك أن يموت . و قد جاء متوكئا على عكازه الى اجتماع لجنة موسكو يوم 22 نوفمبر ( تشرين الثاني ) , و ألقى أمامها آخر خطاب له , قبل أن يصاب بالشلل الذي أفقده القدرة على النطق .

                    في هذا الخطاب , تعمد لينين أن يعلن عن بدء خطط التنمية في اطار نظرية الحزب الواحد . و قد أحسن العرض , و رسم بريشته البارعة صورة مذهلة للمستقبل , و صفق له أعضاء اللجنة , و اقفين على الكراسي , في جو حماسي ملهب للمشاعر . لكن عاقبة هذه العواطف الطيبة لم تكن في الواقع طيبة كلها . فقد نسي لينين , و نسي أعضاء اللجنة , أن نظرية الحزب الواحد ليست نظرية في الأقتصاد بل في السياسة , و أن الخلط في هذه النفطة المميتة خطأ مميت مثل اللعب بالنار .

                    فنظرية الحزب الواحد تقوم على ثلاث قواعد ادارية , كل قاعدة منها , موجهة عمدا ضد التنمية الأقتصادية بالذات .

                    القاعدة الأولى : أن الحزب هو صاحب الحق الشرعي في توجيه الأقتصاد , مما يعني عمليا تسخير المال العام لخدمة السياسة قبل التنمية .

                    القاعدة الثانية : أن الحزب هو وريث الشعب , و صاحب الحق الشرعي في إدارة أملاكه , مما يعني بالتالي , تخصيص الوظائف الهامة لأعضاء الحزب , و ليس لأصحاب الخبرة .

                    القاعدة الثالثة : أن رأس المال - طبقا للنظرية - عدو علني للفلاحين والعمال . و أن الحزب اللينيني الذي أخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن هؤلاء الفقراء , مضطر إلى اعتماد (( سياسة العنف الثوري )) التي لا تجيز له عقد المحاكم الأستثنائية فقط , بل تمنحه الحق في استباق الحوادث , و تصفية أعدائه الرأسماليين مقدما . و هي (( سياسة )) نجم عنها أن أصحاب رأس المال , في الأتحاد السوفييتي , هربوا إلى الغرب , و أن أصحاب رأس المال في الغرب لم يهربوا إلى الأتحاد السوفييتي .

                    في هذه الصيغة الدارية المغلقة , لم تكن خطط لينين في تنمية وطنه سوى كلام طيب على الورق , و لم تكن أحلام الشعوب السوفياتية بالرخاء و العدل سوى أحلام مستحيلة من أساسها . لكن (( الرؤية )) لم تكن , إذ ذاك , واضحة بالقدر الكافي , و لم يكن من شأن قائد هائل مثل لينين , أن يصدق أبدا أنه يعاني من ضعف البصر , وأنه سيقود سفينته إلى الصخور .

                    في ذلك الوقت , كانت النظرية تبدو علمية و قابلة للحساب عمليا . و كان لينين يبدو واثقا من قدرته على قراءة المستقبل , عندما اختتم خطابه قائلا : (( اليوم , أيها الرفاق , تولد معجزة الأقتصاد الأشتراكي في روسيا الأشتراكية )) .

                    خلال ثمان و ستين سنة التالية , كان حزب لينين الواحد , قد ضرب حول نفسه سورا من الحديد , و كانت الأنباء عن خطط التنمية في التجربة السوفياتية بوقا إعلاميا هائلا يسخره , الحزب لأغراض الدعاية , و ليس لأغراض الأحصاء . و عبر هذه الحملة الأعلانية - التي دفع الشعب السوفياتي نفقاتها من ميزانية التنمية - نجح الحزب في رفع لينين إلى مقام الرسل , و نجح في رفع نظرية الحزب الواحد إلى مقام العقيدة , و تكفلت نقود الروس الفقراء , بشراء ما يكفي من الذمم , و غسل ما يكفي من الأدمغة , لجعل العقيدة موضع جدال مستمر بين ((مثقفي )) العصر , مما فرض قاموسها على لغة الثورة في القرن العشرين . و قبل أن يصل غورباتشيف بوقت قليل , كان النموذج اللينيني قد تحول على يد ماو إلى ديانة مقدسة , لها كتاب أحمر مقدس , و كانت السفينة قد غرقت فعلا إلى هذا الحد .

                    فجأة , جاء غورباتشيف .

                    فجأة انفتح باب السور , و وصل إلى لندن , خبير سوفياتي يدعى ( آبل أجنبجان ) , و هو رئيس قسم الأقتصاد في أكاديمية العلوم السوفياتية , و المبعوث الشخصي لغورباتشيف . و قد دعاه المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن إلى الحديث عن تجربة لينين , و استجاب الخبير للدعوة بيسر ينبيء عن لهفته على إثارة هذا الموضوع . لقد كان حديثه شهادة رسمية معلنة ضد لينين , و ضد أعضاء اللجنة المركزية , و ضد خطط التنمية في ظل الحزب الواحد .
                    ....

                    ...للمنشور بقية

                    تعليق


                    • #40


                      تكملة المنشور :

                      بشأن هذا الحزب, قال الخبير إن أجهزته كانت تكذب - رسميا - على الجمهور , و تنشر معدلات نمو خيالية للأنتاج القومي , بلغت 28 في المئة للفترة بين 71-75 , و بلغت 20 في المئة للفترة بين 76- 80 , رغم أن الأنتاج القومي نفسه لم تطرأ عليه أية زيادة طوال هذه الفترة , بل كان راكدا في إشارة واضحة إلى الأزمة الراهنة . و هي إشارة , كانت أجهزة الحزب تعرف معناها , لكنها اختارت أن تكذب رسميا .

                      بشأن الأنتاج الزراعي , قال الخبير , إن معدل الأنتاج العام , قد هبط حاليا إلى 9 في المئة فقط , مما دعا إلى إعادة توزيع الأراضي , و فك مزارع القطاع العام , و هي اجراءات لا تزال تواجه مقاومة شديدة من جهاز الحزب , رغم أنها جاءت متأخرة عن موعدها بأكثر من نصف قرن .

                      بشأن الأنتاج الصناعي , قال الخبير , إن 71 في المئة من مجموع المعدات في المصانع السوفياتية , أصبحت بالية , و قديمة الطراز , و غير صالحة للعمل , لأن أجهزة الحزب التي تولت تخطيط المصانع نسيت أن تخصص ميزانيات للصيانة .

                      بشأن الأنتاج الرعوي , قال الخبير إن 81 في المئة من تربة الأتحاد السوفياتي تربة سوداء , و هي أغنى تربة في العالم , لكن الأتحاد السوفياتي نفسه , لا يزال عرضة للتجويع , و لا يزال يستورد مليون طن من اللحوم سنويا , بالأضافة إلى ثلاثمئة ألف طن من الزبد , لكي يفر للمواطن معدل استهلاك يقل بمقدار 20 في المئة عن معدل استهلاك مواطن آخر يعيش فوق تربة مالحة مثل هولندا .

                      بشأن الأدارة , قال الخبير إن شركات القطاع العام , قامت على أساس أنها شركات يملكها الحزب , و له عليها سلطة شرعية , مما ورط الشركات في روتين مالي مريب , لا يهدف إلى استثمار المال العام , بل يهدف إلى تسخيره - قانونيا - لشراء الأنصار , و توفير العمولات لكبار الموظفين , و قد وصل هذا الروبل الأسود إلى جميع الجيوب الحمراء , بما في ذلك جيب السيد رئيس تحرير جريدة (( البرافدا )) .

                      بشأن سكن المواطن و قال الخبير إن الوحدات المشيدة , بقيت كما هي , منذ سنة 1980 , تبنى بمعدل مليوني وحدة في السنة , رغم أن الزيادة السنوية في عدد السكان , تفوق هذا الرقم مرتين على الأقل , مما يعني أن ملايين المواطنين السوفيات يعيشون حاليا في أكواخ , أو في بيوت ذويهم , داخل شقق مزدحمة , على غرار ما يحدث في بلدان فقيرة مثل الهند .

                      بشأن المواطن نفسه , قال الخبير إن معدل عمر المواطن السوفياتي لم يزد خلال العشرين سنة الماضية . لكن معدل الوفيات زاد . و قد ساء حال الخدمات الصحية , إلى حد جعلها مادة للتندر بين المواطنين السوفيات . فالحكمة الشائعة الآن بين أهل الحكمة (( إن الوقاية خير من المرض , و المرض خير من العلاج )) .

                      بشأن الرأسمالية - التي كانت تعد (( العدو الأول )) في قاموس لينين - قال الخبير إن الروبل سوف يصبح عملة رأسمالية قابلة للتحويل , و إن الأتحاد السوفياتي , قد شرع بالفعل في تطوير تعاونه مع رأس المال الغربي , من موقع يقوم على مبدأ المشاركة , و اعتمد حتى الآن , ثلاثة عشر عقدا مع شركات غربية , و يستعد لأعتماد 26 عقدا آخر .

                      في نهاية المحاضرة , كان من الواضح , أن مبعوث غورباتشيف , قد جاء لكي يقول إن كل شيء في الأتحاد السوفياتي يحتاج فورا إلى إصلاح فوري , و إن الخطأ الذي ارتكبه رجل طموح واحد , يتم الآن اصلاحه بخسارة قدرها ثمان و ستون سنة من عمر أمة بكاملها . و هو عرض شجاع و واقعي , في مواجهة أمر واقع . و إذا بدا أنه قد جاء متأخرا جدا , فالمعجزة , أنه جاء على الأطلاق . لأن العالم الذي بناه لينين , كان عالما غيبيا مسحورا , مثل عالم الخرافات نفسه , و كان بوسع الروس أن يناموا في هذه الخرافة , الف سنة أخرى . إن السحر , كان ظاهرا - و قويا - في كل مكان .

                      شعوب أوربية متطورة , مثل شعوب الأتحاد السوفييتي , تنفق سبعين سنة من القرن العشرين في الهتاف بحياة رجل ميت .

                      بلد واسع , و مترامي الأطراف , مثل الأتحاد السوفياتي , يضيق فجأة حتى يصبح زنزانة مغلقة بمفتاح .

                      حقول القمح الخصبة في أوكرانيا , يتناقص انتاجها تحت إدارة الحزب , حتى تعجز عن إطعام الفلاحين , فيما يخرج الفلاحون , للهتاف بحياة الحزب في نشرة الأخبار .

                      مصانع متطورة , مثل مصانع الأتحاد السوفياتي , (( تنسى )) أن تضع في حسابها نفقات الصيانة .

                      صحافة محترفة , مثل صحافة الأتحاد السوفييتي , تتحول على يد خبراء الحزب إلى منشور طفولي ينطق من دون أن يتكلم .

                      مخبر سري برتبة عريف مثل السيد أندروبوف , يترقى سرا , حتى يصبح رئيسا للأتحاد السوفييتي .

                      كل شيء في تجربة لينين , يبدو مستحيلا , و خارجا عن حدود المنطق . كل شيء لا يستقيم شرحه إلا في لغة السحر المدهشة . لكن مشكلة لينين أن سحره ليس مدهشا , لأنه قابل للتفسير .

                      فالواقع , أن نظام الحزب الواحد - رغم هيئته العلمية - ينطلق من حيلة , تعتمد على خفة اليد , مثل حيل الحواة أنفسهم . إنه يضرب بعصاته غير السحرية , في مكان سحري فعلا اسمه [القانون ] . و عن طريق هذا القانون , يستطيع الحزب أن يقدم عرضا مذهلا , تتضاءل بجانبه امكانيات جميع السحرة .

                      إنه يستطيع أن يحيل مدينة حية , إلى مدينة من الحجر , و يحيل رجلا بريئا , إلى رجل متهم , و ينقل مواطنا من بيته إلى سيبيريا في غمضة عين , و يضاعف محصول القمح , من دون قمح , و يفعل كل المعجزات الخارقة التي تروق للسحرة , ما عدا معجزة صغيرة واحدة فقط , هي أن يفسر الحزب - قانونيا - لماذا يحتكر لنفسه حق اصدار القانون ؟
                      فهذا هو السؤال الذي يبطل التعويذة , و يكشف حيلة الساحر من اساسها , لأن القانون الذي يسري على جميع الناس , لا يحتكره بعضهم , و لا يصبح قانونا أصلا , إلا بعد أن يعتمده الناس في استفتاء عام . و هي قاعدة لا يستطيع لينين أن يلتزم بها إلا بقدر ما يستطيع الساحر أن يتخلى عن ملك الجن .

                      إن ادارة تقوم على قوانين , لم يسنها الناس هي إدارة خرافية بالضرورة , لأنها لا تقرأ الواقع , بل تقرأ ما يقال عنه , و تبني لنفسها واقعا شفويا مسحورا , لا يسكنه الأحياء , بل تسكنه الأرقام , و يعيش فيه المواطنون على هيئة رموز صامتة مثل أسمائهم في دليل الهاتف .

                      و قد اختار لينين أن يتكلم بلغة العلماء , و يفكر بلغة السحرة , فاحتكر لحزبه , حق اصدار القوانين , من دون إذن الناس , بموجب نظرية , أول صفة لها , أنها فعلا مجرد (( نظرية )) , و ليست قانونا طبيعيا , في عالم الناس . و هو اختيار محرم , عقابه أن لينين عاش و مات في وطن خرافي مسحور, يشبه الجنة شفويا , و يلاقي الويل في ضؤ النهار .

                      فالقوانين يسنها الناس , و تتربى بينهم مثل الأطفال . إنها كنز مسحور لا يعرف مكانه رجل أو حزب , أو طبقة , بل يعرفه الناس جميعا عندما يجتمعون . و إذا شاء أحد ما أن يجرب حظه في سرقة الكنوز المسحورة , فالعادة أن تتحول الجواهر بين يديه إلى عظام , و يضربه حارس الكنز بالدبوس .

                      انتهى نص المنشور , دمتم بسلام
                      ________...............ويتبع

                      تعليق


                      • #41


                        حتى منتصف القرن الخامس عشر , كان العالم ثلث العالم فقط , و كانت خرائطه لا تزال ناقصة , بمقدار أربع قارات , هي أمريكا الشمالية و أمريكا الجنوبية , و أستراليا , و القارة القطبية بالأضافة إلى آلاف الجزر الواقعة داخل المحيط .

                        لكن المحيط نفسه . كان اسمه (( بحر الظلمات )) , وكان اجتيازه للوصول إلى أراضي العالم الجديد , مشكلة تقنية معقدة , تتوقف على تطوير السفينة , من وسيلة نقل في بحار مغلقة مثل البحر الأبيض المتوسط , إلى وسيلة نقل في المحيط , عبر مساحات مفتوحة من المياه , دون مرافيء , و دون محطات تموين . و هي مشكلة , لم تكن ظروف التقنية البحرية قادرة على حلها , حتى نهاية القرن العاشر على الأقل .

                        فالأبحار عبر المحيط , يتطلب سفينة عميقة القاع لنقل حمولات تغطي تكاليف هذه الرحلة الطويلة . بالأضافة إلى سطوح خاصة بالمدافع , لحماية السفينة من غارات القراصنة , و غرف لجنود المدفعية , و مخازن للتموين و خزانات للمياه , و أطعمة يمكن حفظها لعدة أشهر , و دراية بأمراض البحر الناجمة عن الأبحار الطويل , وخرائط مفصلة لحركة التيارات و الرياح . و هي شروط تتطلب بدورها مستويات تقنية خاصة , في تصميم السفن و آلات القياس معا . مما جعل ظهور السفينة المحيطية على أيدي العرب , عند مطلع القرن الحادي عشر , إنجازا تقنيا حاسما , لا يقل ضخامة , أو إثارة للمشاعر , عن ظهور سفن الفضاء في العصر الحالي . لقد فتح العرب للحضارة طريقا عبر المحيط .

                        و عندما ظهر السندباد في حكايات ألف ليلة و ليلة , كانت سفن العرب المحيطية , قد وصلت إلى اليابان , و ارتادت جزر تيمور , و كان المحيط - لأول مرة في تاريخه - يتحول من حاجز بين القارات إلى جسر يربط بينها . و عند مطلع القرن الخامس عشر , كان ( البحر الشرقي الكبير ) الذي يدعى الآن باسم المحيط الهندي , قد أصبح ممرا للتجارة الدولية , ترتاده سفن العرب من مواني مصر و الشام , عبر البحر الأحمر . و من موانيء اليمن و حضرموت و عمان و البحرين و البصرة , قاصدة أسواق الشرق الأقصى , تحت قيادة ربابنة متخصصين في الأبحار عبر المحيط , منهم أحمد بن ماجد الذي قاد سفينة فاسكو داجاما من مدغشقر إلى الهند سنة 1497.

                        في ذلك الوقت , لم يكن ثمة ما يمنع العرب , من أن يستديروا بسفنهم غربا , و يقصدوا شواطيء العالم الجديد , في رحلة كان من شأنها أن تغير مجرى التاريخ , و تفتح للأسلام و اللغة العربية ثلاث قارات مرة واحدة , و هو إنجاز , كان العرب مؤهلين تقنيا لتحقيقه , منذ مطلع القرن الحادي عشر , قبل مولد كولومبس بثلاث قرون على الأقل . و لو كان السباق على المحيط سباقا مفتوحا أمام جميع الأمم , لأختلف شكل العالم الذي نعرفه الآن , بقدر ما يختلف العرب عن الأمريكيين , لكن السباق , كان مغلقا بالسلاسل في وجه العرب بالذات .

                        فالحرب الصليبية , التي اعتقد صلاح الدين , أنه أنهاها في الشرق , كانت مندلعة في أقصى الغرب , على جبهة أخرى , داخل إسبانيا , عند الطرف الهش للهلال الأسلامي , في منطقة قليلة السكان , تصعب نجدتها من مراكز القوة الأسلامية الكثيفة في مصر و الشام .

                        و على هذه الجبهة البعيدة , كان الرمح الصليبي يطعن صدرا عربيا عاريا .

                        سنة 1085 سقطت طليطلة , و تقدم الأسبان جنوبا , قاصدين مضيق جبل طارق , فاجتاحوا بقايا الأمارات الأموية , و وقفوا قبل نهاية القرن الرابع عشر , على ساحل البحر الأبيض المتوسط , عند رأس المضيق , تاركين أمراء بني الأحمر في غرناطة , و راء ظهورهم , لمدة مائة سنة أخرى .

                        فلم يكن الأسبان , يشغلون بالهم بغرناطة الواقعة شرقا داخل البحر المتوسط , بل بمدينتي سبته و مليله المغربيتين , اللتين أتاحتا للمدفعية الأسبانية , أن تتمركز على جانبي جبل طارق , و تسد هذا المضيق , في وجه الأسطول الأسلامي إلى الأبد , و هي كارثة مميتة جدا , لأنها تمت في عصر شهد تطوير السفينة المحيطية , و أخرج العرب من معركة حضارية كبرى , لا تقل أهمية عن معركة الفضاء في العصر الحالي .

                        إن العرب , لم يخسروا إسبانيا , كما يقال في كتب التاريخ , بل خسروا المحيط كله , و معه الأمريكتين , و استراليا و نيوزيلندا , و آلاف الجزر , و جميع ممرات التجارة الدولية (1) و قد حشرتهم مدافع السبان , وراء مضيق جبل طارق , لكي يتفرجوا على التاريخ من بعيد , و يروا الفلاحين الأوربيين , يبحرون بسفن عربية , و خرائط عربية إلى عصر آخر في (( علم جديد )) . و عندما نزلت فرقة الخيالة الأسبانية في المكسيك , و تقدم المدعو (( هيرنان كورتيز )) لأبادة هنود الأزتك و الأنكا , كان الحصان العربي , هو السلاح الذي أربك الهنود أكثر من سواه . و كان على التاريخ أن يسجل بهدؤ , أن الحصان العربي قد وصل إلى أمريكا , لكن فارسه العربي لم يصل .

                        خلال الثلاثمئة السنة التالية , كان العرب , يقضون عقوبة الحبس , وراء مضيق جبل طارق , مثل مارد مسحور في قمقم . و كان البحر المتوسط قد أصبح زنزانة للأسلام , و لفظ المحيط موجة رأسمالية عاتية , ما لبثت أن اجتاحت العالم بقاراته الخمس , و وضعتها جميعا تحت إدارة رأسمالية واحدة , لأول مرة في تاريخ العالم و الأدارة معا .

                        في ظروف هذا الواقع الجديد , كان من الواضح , أن الأسلام , لم يحقق هويته العالمية , و لم يسيطر على مسيرة الحضارة , بل حجز داخل العالم القديم , في مناطق موبؤة بالفقر و الجهل , تحت حراسة فقهاء غائبين عن التاريخ , حبسهم الرأسماليون وراء مضيق جبل طارق منذ خمسمائة سنة على الأقل .

                        لم يحقق الأسلام رسالته العالمية على يد الفقه , بل خسر معركته , قبل أن يعبر المحيط , و ظهرت الرأسمالية , بمثابة دين عالمي بديل , و فتح التاريخ صفحة جديدة أخرى , و طوى صفحة الأديان , بموجب نظريات رأسمالية و اشتراكية مستحدثة . لكن المؤرخ المسلم لم يكن بوسعه أن يسجل ما حدث للأسلام , إلا في الصفحة القديمة نفسها .

                        إنه لا يلاحظ غياب الأدارة الجماعية , و لا يفسر ما حدث للمسلمين , باعتباره نتيجة حتمية لغيابها . بل يبدأ من حيث يبدأ الفقهاء , و ينحي باللوم على المسلمين الذين ( فرطوا في دينهم ) دون أن يحدد لهم أين فرطوا فيه . و يعيرهم بحاضرهم , على أساس أنهم لا يستحقون ماضيهم المجيد , دون أن يفسر لهم , لماذا ذهب الماضي المجيد نفسه . إن تاريخنا يكتبه فقيه غاضب , لا يعرف ما حدث في التاريخ .

                        رجل يريد أن يقول , إن المسلمين خسروا ثلاث قارات , و خسروا أرضهم نفسها , لأنهم لم يتمسكوا بدينهم , و لم يؤدوا الشعائر , و لم يكونوا مسلمين حقا كما كانوا ذات مرة في عصر هارون الرشيد . و هو تشخيص حكومي , يتعمد أساسا , أن ينسى ما حدث في عصر هارون الرشيد نفسه .

                        فالواقع أن المسلمين , لم يفرطوا في دينهم , بل إنتزعه منهم رجل مسلح على رأس جيش من القتلة المأجورين . و إذا كان الأسلام هو آداء شعائره , فإن عدد المسلمين الذين يؤدون هذه الشعائر الآن , يزيد عن عدد المسلمين في عصر هارون الرشيد , بعشرة أضعاف على الأقل . أما إذا كان الأسلام , هو الأدارة الجملاعية , فإن ذلك مسؤول عنه رجل مسلح , على رأس جيش من القتلة المأجورين , و مسؤول عنه فقيه يزعم أن مصادر الشرع أربعة , ليس بينها صوت الناس .

                        إن المنهج التاريخي المستخدم في كتابة تاريخنا الأسلامي , لا يرى حجم الكارثة التي حلت بالأدارة الأسلامية , منذ إبطال الشرع الجماعي في عصر معاوية , بل ينطلق من هذا العصر , لكي يسجل (( أمجاد )) الأدارة الأسلامية , في إعلان مدفوع , يتجاهل - أولا - أن الأدارة التي يتحدث عنها , نسخة منقولة عن تراث بيزنطة . و يتجاهل - ثانيا- أنها إدارة قامت على انقاض الشرع الأسلامي بالذات . و إذا كانت مهمة التاريخ , أن يشرح للناس أخطاءهم , فإن المنهج المستخدم في تاريخنا الأسلامي , موجه عمدا لأخفاء هذه الأخطاء .

                        إنه منهج لا يشغل نفسه , بما حدث للناس , و لا يرى مدى خسائرهم التي نجمت عن إبطال الشرع الجماعي . و لا يهمه الفارق الصارخ , بين حضارة إقطاعية , قامت على حاجة الأقوياء للترف , وحضارة اشتراكية , تقوم على حق كل مواطن في السلام و العدل .

                        منهج لا يهمه أن العالم الذي خاطبه القرآن , يضم خمس قارات , و أن الأدارة الأسلامية قد فشلت في حمله إلى خمس منها , و أن ذلك , ليس سببه , عدم تمسك الناس بآداء شعائر الدين , بل سببه , عدم تمسك الخليفة بالأدارة الجماعية . إن تاريخنا لا يعلمنا الدرس المفيد , الذي سوف نتعلمه من تاريخ أمة أخرى , على أي حال .

                        فقد أثبت سير الأحداث في غرب أوربا , أن الشرع الجماعي , ليس فكرة قابلة للموت , بل قانون طبيعي , لا بد منه في نهاية المطاف . و رغم أن الثورات الأوربية , لم تنجح أبدا , في إقرار صيغة إدارية شاملة مثل صيغة الشرع الجماعي في الأسلام , فإنها - على الأقل - قد نجحت في إنهاء نظرية الحق الألهي المقدس في الحكم , و كسرت بذلك سلسلة الأقطاع الحديدية التي طوقت عنق الأدارة منذ عصر الملوك المتألهين في دول الشرق القديم . و في اليوم الثلاثين من يناير ( كانون الثاني ) سنة 1649, سقط السيف في مدينة لندن , على عنق أول ملك في التاريخ , يتم إعدامه بموجب قرار من محكمة شعبية , و تدحرج رأس شارل الأول , ملك انجلترا , مفتتحا عصرا طويلا من رؤوس الملوك المتدحرجة .

                        ....... للمنشور بقية , و دمتم بسلام
                        _________

                        تعليق


                        • #42


                          تكملة المنشور

                          لم تكن الثورة الأنكليزية , موجهة لاحتواء طبقات الناس , و لم تنجح في إقرار شرع جماعي قادر على ضمان المساواة بينهم , بل إن (( كرومويل )) قائد قوات الثورة , كان يبدي إزدراءه لفكرة المساواة نفسها , و كان يسمي الدعاة إليها ( المسوّين ) . و قد اختار أن يصفيهم , قبل أن يصفي الملك , لكن الثورة الأنجليزية , لها فضل إحياء حقيقتين , كاد العالم أن ينساهما , منذ أن سمعهما لأول مرة في لغة الأسلام .

                          الأولى : إن الأقطاع فكرة محكوم عليها بالموت , حتى دون الأسلام .

                          و الثانية : إن الجيش المأجور , الذي تقوم عليه نظرية الأقطاع جيش من ورق , يمكن هزيمته بجيش من الناس .

                          و لأن الأسلام نفسه , لم يصل إلى بريطانيا , فقد وصلت إليها صيغة مختلفة من صيغ الشرع الجماعي , و التأم شمل كبار الملاك و التجار البريطانيين تحت سقف واحد , مفتتحين عصر الرأسمالية الحديثة , بمعركة مضمونة النتائج سلفا , بين سلطان تركي وحيد جاهل , و جزيرة مغطاة بالضباب , يديرها جيش من الخبراء الحاذقين , تحت سقف برلمان واحد .

                          و خلال المائة سنة الأولى , كانت السفينة المحيطية , قد تحولت من وسيلة نقل , إلى سلاح للسيطرة على ممرات التجارة الدولية . و كان القرصان البريطاني ذو الرجل الخشبية , قد صار ضابطا وسيما , في بدلة رسمية , يذرع المحيط على رأس أساطيل مسلحة بالمدافع , و يرفع علم بريطانيا على كل أرض تطأها قدماه . و عندما كان السلطان التركي أحمد الثالث , منغمسا في حرب مدمرة ضد الفرس , من أجل بضعة أميال من أراضي العراق , كان قبطان بريطاني اسمه جيمس كوك , قد رفع علم بريطانيا على استراليا و نيوزيلندا , و جزر البحر الكاريبي , و سواحل كندا , و سواحل القارة القطبية , و هي مساحة تزيد خمسين مرة عن مساحة أراضي الأتراك و الفرس معا .

                          و فيما يخيم الشلل القتصادي على الوطن الأسلامي , و تقفر اسواقه , و تخرب مزارعه و يتناقص عدد سكانه في الشام من ستة ملايين إلى مليونين , فقط , و يتناقص في مصر , من أربعة ملايين إلى أقل من النصف , و فيما يتوقف النشاط التجاري داخل البحر المتوسط , و يفقد البن اليمني السوق , أمام البن الجديد القادم من البرازيل , و يضرب الكساد سوق البهارات و الحبوب , يكون مواطننا الذي بدأت الحضارة على يديه , في مدن غنية مزدهرة , قبل أن يتعلم الأوربيون بناء البيوت , بثلاثة آلاف سنة , قد أصبح مواطنا جائعا , و عاريا , و حافي القدمين , يطارد السياح الأوربيين بين الآثار . و تكون الحضارة التي عرفها الشرق دون شرع الجماعة , قد انهارت علنا , و دفنت الشرق حيا , تحت الركام . إن المنتصرين الجدد , لا يرحمون أحدا .

                          فالرأسمالية التي كسبت السباق هذه المرة , لم تكن رسالة إنسانية لجميع الناس في نظام محرر , من سلطة المؤسسات , بل كانت رسالة المؤسسات نفسها , محررة من كل مبدأ إنساني , و موجهة دستوريا , لخدمة رأس المال , على حساب كل رأس سواه , و قد أباح الأوربيون لأنفسهم إنتهاك جميع الحقوق الأنسانية لغير الأوربيين , من إبادة الهنود الحمر , إلى قصف اليابانيين بقنابل ذرية .
                          و عندما ظهر نابليون تحت أسوار عكا , سنة 1799 , كانت قد مرت ستمائة سنة على عصر ريتشارد قلب الأسد . و كان الأسد الجديد , قد تضاعف حجمه إلى ما لا نهاية , من دون أن يتغير شيء في قلبه الصليبي . و في لحظة هائلة لها طعم الكابوس , كان من الواضح , أن المسلمين , لم يخسروا معركتهم ضد أمة جديدة لا تعرفهم , بل ضد أمة تعرفهم جيدا , و تعتقد أن لها ثأرا قديما عندهم , و تملك تراثا يعاديهم عداء سافرا , و تواجه سلطانا تركيا , خالي اليدين من كل سلاح , ما عدا سلاح الصبر و المروحة .

                          إن الفرنسيين , يضعون يدهم على الجزائر سنة 1830 , و يحط البريطانيون رحالهم في مصر , و بعد ذلك يجتمع ضباط أوربيون صغار السن , لكي يرسموا وطننا الذي نعرف الآن , يقتسموه بينهم , كما يقتسم القراصنة سفينة ركاب . فتذهب ليبيا و الصومال إلى إيطاليا . و جنوب المغرب إلى اسبانيا , و تذهب البقية بالتساوي , بين بريطانيا و فرنسا , و تدخل الدبابات الفرنسية دمشق في يونيو ( حزيران ) سنة 1941, و تمر بالقرب من الجامع الأموي حيث يرقد معاوية منذ 1182 سنة , و إذا كان الخليفة قد فتح عينيه ذلك النهار , فلا بد أنه لن يغلقهما قبل مرور زمن طويل .

                          إن عصر المحيط , الذي افتتحه العرب , لا يدخله العرب , بل يقعون في الأسر داخل البحر المتوسط , تحت سيطرة حضارية رأسمالية , تناصبهم عداء قديما مزمنا في تراثها و تاريخها معا .

                          و في ظل هذه الحضارة المعادية , ولدت في ثقافتنا العربية التي نعرفها , ثقافة عربية أخرى , لا تعادي تراثنا فقط , بل تشترط أن نلغيه من ذاكرتنا , بحجة أنه سبب الكارثة من أولها . و هي نصيحة تشبه ما يروى عن جحا - عليه رحمة الله - الذي قال للطبيب ناصحا , (( إن المريض , إذا غير اسمه لا يصبح شخصيا هو المريض )) .

                          ... انتهي نص المنشور , و سوف تليه الهوامش
                          مع الود و التحية

                          تعليق


                          • #43
                            يرفع لكي أقرأه على مهلي

                            تعليق

                            المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                            حفظ-تلقائي
                            x

                            رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                            صورة التسجيل تحديث الصورة

                            اقرأ في منتديات يا حسين

                            تقليص

                            لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                            يعمل...
                            X