درج العلماء الوهابيون منذ نشأة حركتهم على تكفير الشيعة جهارا ونهارا. وهذا فعل من صميم عقيدتهم، لن ولم يتنازلوا عنه طالما أنه لم يحدث تغيير جوهري في المنظومة الفكرية والاعتقادية لهذه الحركة. وتكفير إمام الحرم الشيخ عادل بن سالم الكلباني ليس هو الفعل الأول من نوعه ولن يكون الأخير أيضا، كما أنه ليس بالشيء الجديد على مسامع العالم اجمع. يضاف إلى ما سبق أن عموم المسلمين الشيعة بشكل خاص والمسلمين السنة بشكل عام عدا غالبية من ينتمون للتيار الوهابي السلفي المتطرف لا يستبعدون استمرار "معزوفة " التكفير بحق المسلمين الشيعة وغير الشيعة أيضا. الأمر الذي يدعو للاستغراب والتعجب من هذه المدرسة القائمة على التكفير والصدام مع العقل والمنطق أساسا، هو الفعل النقيض.
وبالعودة إلى التصريحات التي أدلى بها الكلباني مؤخرا والمتضمنة تكفير عموم علماء الشيعة وإنكار تعرض شيعة المملكة للتميز الطائفي وددت تخصيص هذه المقالة للإجابة على السؤال التالي: ما هو تفسير صمت عموم السنة عما يتعرض له إخوانهم الشيعة من استمرار فتاوى التكفير الصادرة من علماء التيار الوهابي الرسمين وغير الرسمين، وما هو الفعل الذي يمكن أن يقوم به عموم الشيعة والذي من شأنه أن يضع حدا لفتاوى التكفير بحقهم؟!فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال يمكن الإشارة إلى قراءتين تشكلان الرؤية العامة للمسلين للتعاطي مع مجمل فتاوى التطرف والتكفير: الرؤية الأولى، يرى أنصارها بأن عموم المسلمين الشيعة والسنة ألفوا هذا اللون من الفتاوى الشاذة. وبما إنها كذلك فهي لا تستدعي أن يصرف المسلمون جهدا ووقتا للانشغال بها، وبالتالي، وبحسب هذه القراءة، ينبغي أن لا يعيروها أي اهتمام لأنهم إن أعاروها بالاً فهذا يعني إنهم قد وقعوا في فخ ومصيدة هؤلاء التكفيريين الذين لا شغل لهم سوى إشغال المسلمين بتفاهات وقضايا جانبية، والمسلمون في غنى عنها، لاسيما وأن العالم الإسلامي يعاني من مشاكل خطيرة وحساسة لا عد ولا حصر لها، ويستوجب الاهتمام بها وصرف الجهد فيها بدلا من الانشغال بزوابع السلفيين التكفيريين التي لن ولم تنته!
في حين أن أنصار الرؤية الثانية، يرون أن التكفير وإن كان ممارسة صادرة من تيار صغير وشاذ ولا يمثل الأمة إلا أن هذا التيار، وبموجب هذه القراءة، شئنا أم أبينا هو جزء لا يتجزأ من الأمة، بل علاوة على ذلك هو قادر على إرباكها والتأثير فيها سلبا وإدخالها في فتن طائفية ومذهبية خطيرة من خلال فعل التحريض والتكفير، لما يتمتع به هذا التيار من دعم مادي ومعنوي كبيرين. وبموجب هذه القراءة أيضا يفترض أن تكون مشكلة التكفير واحدة من أهم المشاكل التي تعاني منها الأمة والتي ينبغي أن تصرف لأجلها الجهود من أجل إيجاد حلول جذرية لها لاسيما أن نتائج هذه المشكلة الكارثية في أكثر من بلد إسلامي لازالت شاخصة والدماء التي أريقت بسبب التكفير والتحريض لم تجف بعد.
على أي حال، وبصرف لنظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع القراءتين السابقتين، والتي قد تكون أحدهما مانعة والأخرى دافعة لأن يبذل البعض جهدا في هذا السياق، إلا أنني أرى من الأهمية بمكان ضرورة التوفيق بينهما.أي بمعنى آخر، أنه في الوقت الذي لا ينبغي للمسلمين أن يسطحوا من مشكلة فتاوى التكفير ويستصغرون ضررها وبالتالي يبخلوا في أن يصرفوا أي جهد لإيجاد حل لها أو يستحقروا ويستهجنوا أي جهد يصرف في اتجاه معالجتها، في ذات الوقت لا ينبغي لهم أيضا أن يصرفوا كامل جهدهم ويوجهوا جل طاقتهم للانشغال بزوابع التكفيريين وبمشاكلهم وإثاراتهم وكأنها هي معضلات الأمة الأولى والكبرى والنهائية والوحيدة.
ووفقا للرؤية التوفيقية السابقة، ولغرض الحفاظ على السلم الأهلي في البلدان الإسلامية وإزالة موجبات التحريض والفتن المذهبة والطائفية وأبرزها الفتاوى التكفيرية، أرى ضرورة أن يتحرك عقلاء السنة والشيعة وفق رؤية واضحة بحيث لا يكون فعلهم قائما على ردة الفعل والعاطفة بقدر ما هو قائم على الفعل المخطط والمدروس والمفضي إلى حلول ناجعة لمعالجة ظاهرة الفتاوى التكفيرية بحق المسلمين.
حينما يتم الحديث عن فعل الطائفتين لا نعني بذلك أن كل المسلمين ومن مختلف مواقعهم ينبغي لهم أن يستنفروا لمعالجة معضلة التكفير، وإنما نعني بذلك جهات وأطراف محددة من كلا الفريقين. فالعلماء والكتاب والصحافيين والإعلاميين السنة، وأخص منهم السعوديين، يفترض أن يبادروا قبل إخوانهم الشيعة باستنكار هذه الفتاوى وإدانة مصدريها ومؤازريها ولو بدافع الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والأمن والاستقرار الاجتماعيين. وإذا ما حصل هذا الموقف المتواضع من قبل المواطنين السنة، فإن الشيعة سيقدمون لهم جزيل الشكر على هذه الخطوة الوطنية الرائعة. وبحسب ظني لا يريد الشيعة في المملكة من إخوانهم السنة العقلاء والمؤثرين في الرأي أكثر من هذا الموقف.
شخصيا لا أود هنا تذكير الإخوة السنة في المملكة بمواقف أخوانهم الشيعة الذين انتقدوا علانية وأدانوا صراحة تصريحات (وليست فتاوى تكفيرية) لبعض العلماء الشيعة التي لم تكن لائقة في حق بعض الرموز الدينية والسياسية الوطنية. كما لست بحاجة لأن اذكر إخواننا السنة بمواقف الشيعة حيال التكفير الذي يمارسه السلفيون ضد إخواننا السنة المصنفين باللبراليين وغيرهم. ولا أود القول أن هذه بتلك أبدا.
إذا تجاوزنا الموقف المفترض لعقلاء المواطنين السنة المعتدلين الذي ينبغي أن يكون صريحا وعلنيا وواضحا حيال فتاوى تكفير المواطنين الشيعة، ففي المملكة رموز سلفية معتدلة لديها قناعة في تعزيز خيار التعايش السلمي والاحترام الظاهري للآخر أيا كان على قاعدة المواطنة. هؤلاء السلفيون أيضا، ووفق الدوافع الوطنية، يفترض أن يكون لهم موقف نقدي واضح وصوت بارز حيال فتاوى التكفير التي تطال المواطنين الشيعة في المملكة. وليكن في اعتبار الجميع أن فتاوى التكفير لأي طائفة في أي مجتمع من شانها أن تدفع باتجاه التشنج والتشنج المضاد وقد تجر الوطن إلى منزلقات خطيرة.
أظن أن عموم الشيعة ووفق الإمكانات المتاحة لهم، مضافا إلى أنهم معنيون قبل غيرهم بالتصدي لفتاوى التكفير بحقهم، فأنهم قادرون على فعل الشيء الكثير على هذا الصعيد، حتى وإن لم يتخذ إخوانهم السنة أو السلفيين المعتدلين أي موقف مؤازر لهم. فبإمكان المهتمين من الشيعة مثلا أن يقوموا بالخطوات التالية:
1- أن ينظموا حملة إعلامية عالمية مركزة وواسعة النطاق مستعينين في ذلك بكل الوسائل الإعلامية المتاحة ليشكلوا ضغطا على الجهات الداعمة والمؤازرة للفتاوى التكفيرية.
2- رفع دعوات قضائية ضد التكفيريين لملاحقتهم حقوقيا وقضائيا محليا وعالميا، على غرار ما قامت به مؤخرا لجنة انتفاضة المهجر في أوروبا التي رفعت دعوى قضائية أمام المحاكم الرسمية لمحاكمة رجل الدين السعودي الشهير بتهمة "التحريض على الإرهاب وإبادة الجنس البشري"، مستعينة في ذلك بفريق من المحامين الألمان.
3- إصدار بيانات وتصريحات من قبل المرجعيات والشخصيات والفعاليات الشيعية في العالم الإسلامي تندد بالفتاوى التكفيرية مبينة خطورتها على استقرار الأوطان، ومطالبة الدول المحتضنة للتكفيريين ومن بينها الحكومة السعودية، بضرورة سن قوانين تجرم وتعاقب التكفيريين والمحرضين على الفتنة الطائفية، خصوصا أن اغلب أن لم يكن جل الفتاوى التكفيرية والتحريضية، صادرة من علماء سعوديين سواء رسميين أو غير رسميين.
أظن أن مثل هذه الخطوات وغيرها ليست بالصعبة، وهي متاحة للجميع وبإمكان أن تمارس من قبل عقلاء الطائفتين (السنة والشيعة) على حد سواء. وأنا على يقين لو يبذل هذا النوع من الجهد، الذي لن يستنزف بطبيعة الحال طاقات وجهود الأمة ولن يشغلها أو يصرفها عن بقية اهتماماتها، لضاقت الأرض ذرعا بـالتكفيريين والحاضنين لهم، وكان حال الأمة أفضل مما هي عليه الآن بكثير.
تعليق