بسم الله الرحمن الرحيم
أحلام اليقظة
مع صدر المتألّهين
تأليف
العلاّمة الكبير
الشيخ محمّـد رضا المظفّر
1322 ـ 1383 هـ
تحقيـق
الشيخ هادي القبيسي
أحلام اليقظة
مع صدر المتألّهين
تأليف
العلاّمة الكبير
الشيخ محمّـد رضا المظفّر
1322 ـ 1383 هـ
تحقيـق
الشيخ هادي القبيسي
--------------------------------------------------------------------------------
(276)
(277)
مقـدّمة التحقيـق
بسـم الله الرحمن الرحيـم
بسـم الله الرحمن الرحيـم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّد خلقه وخاتم رسله محمّـد وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، واللعن على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .
لما رأى - الشيخ المظفر ره - في صدر المتألّهين الرجل العظيم ، والفيلسوف القدير ، صاحب النظريّات الجديدة والآراء الحديثة ، انبرى للدفاع عنه واضعاً نفسه موضع المستشكل متصدياً للاجابة عن الاشكالات المطروحة ، مستوحياً إيّاها من مبانيه الفلسفية ، ربّما أنّها تُعدّ من الأبحاث المعقّدة والجافة .
فحاول عرضها بشكل حوار بين السائل والمجيب ، ثمّ بدا له أن يصوّر لقاءه به على شكل حلم ، لكن ليس من أحلام المنام بل من أحلام اليقظة . فكان المحاور والمدافع والمحتلم يقظة هو : العلاّمة المحقّق الشيخ محمّـد رضا المظفّر . فالحوار حول نظريّتين .
1 ـ نظريّة اتحاد العلم والعالم والمعلوم . والحركة الجوهرية .
2 ـ نظريته في العلّة والمعلول ، وما هو مناط الحاجة إلى العلّة .
ولمّا اختلفت النظريّات ، وتباينت الآراء لدى علماء الطائفة في الفلسفة بين مدافع من جهة ومحارب من جهة اُخرى ارتئيت أن أضع هذه ( 278 ) المقالة بين يدي القاريء الكريم مع التحفّظ عن تبنّي موقف معيّن ، تاركاً هذا الأمر لكلٍّ على حسب قناعاته وآرائه ، مع أنّي أكنّ خالص احترامي وتقديري لكلٍّ من الرأي والرأي الآخر ، ما لم يخرج كلٌّ منهما عن الحدود المرسومة لآداب البحث والنقاش والمناظرة ، فتكون هذه المقالة معبّرة عن رأي الملاّ صدر المتألّهين والشيخ المظفّر (رحمهما الله) .
نبذة من حياة صدر المتألّهين :
هو : المولى صدر الدين بن ابراهيم بن يحيى القوامي الشيرازي .
ولد في شيراز ـ ولم يعلم سنة ولادته ـ من والد صالح اسمه ابراهيم بن يحيى القوامي ، وقيل : كان أحد وزراء دولة فارس فتربّى على والده ثمّ وجهّه إلى طلب العلم ، ولمّا توفّي والده رحل لتكميل معارفه إلى أصفهان يومئذ في عهد الصفوية ، وأوّل حضوره كان على الشيخ البهائي ((رحمه الله)) (953 ـ 1031 هـ) ومن ولعه في طلب العلم أنفق كلّ ما خلّفه والده من المال في تحصيله ، فانقطع إلى درس فيلسوف عصره السيّد المير الداماد محمّـد باقر المتوفّى (1040 هـ) .
وقد استنتج الشيخ المظفّر أنّ المترجم مرّ بثلاث مراحل رئيسية في نشأته العلمية:
1 ـ دور التلمّذ ، والبحث ، وتتبع آراء المتكلمين والفلاسفة ومناقشتهم . . .
2 ـ دور العزلة والانقطاع إلى العبادة في بعض الجبال النائية ، وقيل : إنّها (كهك) من قرى قم فاستمرّت هذه العزلة خمسة عشر عاماً .
3 ـ وهي : دور التأليف ، إذ ألهمه الله تعالى الإفاضة ممّا شربه في المرحلة الثانية .
وأمّا مدرسته العلمية الجديدة :
إنّ فيلسوفنا يرى أنّ المعرفة تحصل من طريقين : طريق البحث والتعلّم والتعليم الذي يستند على الأقيسة والمقدمات المنطقية ، وطريق العلم اللّدنّي الذي يحصل من طريق الإلهام والكشف والحدس .
وهذا الأخير إنّما يحصل بسبب تجريد النفس عن شهواتها ولذائذها ، والتخلّص من أدران الدنيا وأوساخها ; فتنجلي مرآتها الصقيلة .
ويرى الفرق بين العلمين كالفرق بين علم من يعلم الحلاوة بالوصف وبين علم من يعلمها بالذوق ، وأنّ الثاني أقوى وأحكم ، ولا يمتنع وقوعه ، بل هو واقع فعلاً للأنبياء ، والأوصياء ، والأولياء ، والعرفاء .
وأمّا منهجه العلمي في التأليف :
فيبتني في كلّ ما ألّف على حصر العلوم الحقيقية والمعارف اليقينيّة ، في العلم بالله وبصفاته وملكه وملكوته والعلم باليوم الآخر ومنازله ومقاماته ، لأنّه يجد أنّ الغاية المطلوبة هي تعليم ارتقاء الإنسان من حضيض النقص إلى أوج الكمال ، وبيان كيفية سفره إلى الله تعالى .
وأمّا مؤلّفاته فكثيرة فقد جاوزت الثلاثين أبرزها الأسفار أو الحكمة المتعالية .
وفاته :
توفّي سنة 1050 هـ في البصرة في طريقه للحجّ للمرّة السابعة أو بعد رجوعه ، وأكبر الظن أنه تجاوز السبعين أو ناهزها ، فيكون تولّده في الربع الأخير من القرن العاشر الهجري .
هذا ما اختصرته من حياته بقلم الشيخ محمّـد رضا المظفّر ((رحمه الله)) في مقدّمة الأسفار .
نبذة من حياة الشيخ المظفّر ( رحمه الله ) (1)
هو الشيخ محمّـد رضا بن محمّـد بن عبدالله بن محمّـد المظفّر ، كان فقيهاً مجتهداً كاتباً مجدّداً شاعراً مجيداً .
ولد في النجف الأشرف سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف .
وطوى بعض المراحل الدراسية متتلمذاً على : محمّـد طه بن نصر الله الحويزي ، ومرتضى بن علي الطالقاني ، وحضر الأبحاث العالية فقهاً وأصولاً على مشاهير المجتهدين كمحمّـد حسين النائيني ، وضياء الدين العراقي ، وأخيه محمّـد حسن المظفّر ، وتلقّى الحكمة والفلسفة عن محمّـد حسين الأصفهاني الكمباني ، وانتفع به كثيراً .
وحاز ملكة الاجتهاد ، وتضلّع من العلوم الاسلامية ، ونال قسطاً وافراً من البراعة في الأدب والكتابة ، وعرّفته الأندية الأدبية شاعراً له وزنه بين أخدانه .
وكان في طليعة العلماء المجدّدين الذين سعوا إلى إصلاح نظام الدراسة الدينية ، وتطوير المناهج بما ينسجم ومتطلّبات العصر ، وإصلاح المنبر الحسيني ، وتعميم الثقافة الاسلامية ، وتطوير أساليب التبليغ والتوجيه والارشاد .
أسّس جمعية منتدى النشر عام (1354 هـ) ، وكلّية منتدى النشر عام (1362 هـ) ثمّ كلّية الفقه عام (1376 هـ) اللتين انبثقتا من الجمعية المذكورة ، وتولى أمانة سرّ الجمعية في أوّل الأمر ثم رئاستها ، وعمادة الكلّيّتين المذكورتين آنفاً .
وحضر عدّة مؤتمرات إسلامية ، مثل مؤتمر باكستان المنعقد سنة (1376 هـ) ، ومؤتمر جامعة القرويّين بمراكش سنة (1379 هـ) .
وانضمّ إلى حركة (جماعة العلماء) التي شكّلت في النجف عام (1379 هـ) لتوعية الاُمّة ، ومواجهة الغزو الثقافي والتيّارات الإلحادية الوافدة .
ووضع مؤلّفات قيّمة ، منها :
أُصول الفقه ، حاشية خيارات المكاسب ، المنطق ، السقيفة ، عقائد الامامية ، فلسفة ابن سينا . . . نقد بعض آرائه ، وأحلام اليقظة بسط فيه حياة الفيلسوف صدر الدين الشيرازي .
توفّي ليلة (16) من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف .
المقالة ونسبتها :
قال الشيخ المظفّر في مقدّمة الأسفار في حياة الملاّ صدرا : وقبل «إثنا عشر عاماً وضعت محاضرات رمزية في عرض فلسفته ، تخيّلته فيها كأنّه يحدثني في الأحلام ولكن من طريق مؤلّفاته : فتألّفت منها رسالة سمّيتها ( أحلام اليقظة ) نشر أكثرها في المجلاّت السيّارة» .أقول : وهذا الذي بين أيدينا بعض من هذه الأحلام تمّ العثور عليه في مجلّة العرفان العاملية ، صدرت في المجلّد 33 فكان الحلم الأوّل من ص 67 ـ 71 والحلم الثاني من ص 739 ـ 744 مختومة باسمه ( رحمه الله ) ، فما ذكره في مقدّمة الاسفار كاف للدلالة على نسبتها له ، مضافاً إلى ذكر من ترجم له .
وأخيراً أقدّم شكري الجزيل للأخ الفاضل الشيخ عبد الرحمان الربيعي لما قدّمه من مساعدة مشكورة .
فلله درّه وعليه أجره .
وكتب هادي القبيسي العاملي
حامداً مصلّياً
قم ـ 1426 هـ
أحلام اليقظة
مع صدر المتألّهين
مع صدر المتألّهين
]الحلم الأوّل[
لا تركن إلى أقاويل الفلسفة وأهل الكلام
غفوت ، وإذا بي أتمثّل ـ في خيالي شيخاً فوق المربوع ، وشبحاً ممشوقاً ليس بالنحيف ، ذا عمّة بيضاء ناصعة لا تظهر عليه العناية ، على رأس أصلع ليس بالكبير النابي ، وينفتح قليلاً حول جبهته في موضعي النزعتين ، ويعلو جبيناً أبلج ، كأنّ السنين والجهود لم تؤثّر فيه تجعيداً إلاّ ما يبيّن من موضع السجود الذي يطلّ على عينين واسعتين ، تبدو عليهما آثار العناية الإلهية في جمالهما وتوقّدهما ذكاءً وفطنة ، لولا أنّ لحظاتهما تبدو كأنّها لا تثبت على مواجهة المرئيات أمامها ، وبينهما ينساب العرنين رفيقاً حيث يميل إلى النتوء ، وقد حُفّ بخدّين أسيلين وعارضين خفيفين ويستقبله فم مفلَّج يشفّ عن ابتسامة حلوة وصحة ضاحكة ونفس مطمئنة .
ثمّ تنحدر لحيته وهي بين البياض والسواد لتؤلّف مع الوجه شبه مخروط قاحدته الجبين .
فتقدّمت وقد جذبتني إليه جذبة الحبّ الهائم ، فانقدح في خاطري أنّه ( المولى صدر الدين الشيرازي ) . وكأنّي أعرفه بشخصه ، وكأنّ من عادتي الجلوس إليه لاستماع دروسه ، إلاّ أنّه نفر منّي وأنكر عرفاني إنكار مستوحش في الناس ، فقلت له :
ألستُ تلميذك منذ سنوات ، وقد تلقّيت منك بعض المعارف ؟ ! فقال بنفور وقد تجهّم وجهه : لا أعهدك تلميذاً ، ولا أثبتك معرفة !
أمّا أنا فقد صدمتني هذه المجابهة صدمة قويّة جعلتني أفزع إلى أغوار نفسي لأستنجد بخيالي . وهنا تذكّرت أنّي في حلم من الخيال ، وأين منّي زمانه ، وقد توفّي عام 1050 هـ وأنا الآن في عام 1365 هـ .
ولكنّي سرّيت عن نفسي ، فحدّثتها أنّي اتصلت بأفكاره عن طريق كتبه ، فلا بدّ أنّ روحه السابحة في فضاء القدرة الالهية عرّفتني حقّ العرفان . . .
وساءلتُ نفسي لماذا هذا التنكّر عليَّ إذاً ، أكنت أسأت فيمن أساء إليه ؟
ـ ( صدر المتألهين ): لا .
ـ ألأنّي لم أحسن فهم كلامه ومغازي إفاداته في كتبه ؟ أم ماذا ؟
إذاً فلأخاصمه على طريقته الفلسفية ، لافتح معه باب البحث في هذا الطريق:
فقلت في خطابه :
يا حضرة المولى.! إنّي اتّصلت بروحك بواسطة بعض مؤلّفاتك، كالأسفار التي أفضت بمجلّداتها الأربع الكبيرة إلى الناس، فأفرغت فيها نفسك ، وسافرت ( 2 ) أنت من الخلق إلى الحقّ ، ثمّ بالحقّ في الحقّ ، ثمّ من الحقّ إلى الخلق بالحقّ ، ثمّ بالحقّ في الخلق( 3 ) ، والسفر ليس عندكم إلا سير النفس وتوجّه القلب ، وقد سافرت أنا بتوجّه قلبي إليك على متن أسفارك .
هو ( صدر المتألهين ): كيف ؟ هذا كلام غير مفهوم . وليس من أسفارنا ـ نحن معاشر أهل الله ـ السفر من الخلق إلى الخلق .
أنا ( الشيخ المظفر ): ليكن، ليس من أسفاركم على ما تصطلحون.! ولكنّه على كلّ حال سفر للنفس وتوجّه القلب نحوك .
هو ( صدر المتألهين ): أعوذ بالله ممّا تصفون . إنّ هذا هو الشرك بعينه ، أن يتوجّه إنسان بقلبه لغير الله وليست أسفارنا اصطلاحات خالية من الحقيقة(4) .
أنا ( الشيخ المظفر ): وقد جفّ ماء فمي ـ أمهلني دقيقة واحدة حتّى أجمع نفسي للجواب ؟
هو ( صدر المتألهين ) ـ أمهلتك ألف سنة ممّا تعدّون(5) .
أنا ( الشيخ المظفر ): « بعد التفكّر » ـ أنت طريقي إلى الله ، لأنّي درست أفكارك وأراءك . فتوجّهي إليك توجّه إلى الله بك (6) . فهو سفر من الخلق إلى الحقّ .
هو ( صدر المتألهين ): تخلّص حسن ونظرة دقيقة ، لو أنّ نفسي من وسائط وجود نفسك أو أنّ نفسي تجلّت لنفسك ، متعارفاً . ولكن كلّ منهما لم يكن .
أنا ( الشيخ المظفر ): هذا الوجه الأخير هو الذي أريد أن أتوصّل إليه فنبّهني ، أليس الكتاب وجود ظلّي لوجود الكاتب ; لأنّه من رَشَحاته بل من تجلّياته وتنزّلاته وشؤونه ؟
فنفسك ـ إذاً ـ موجودة في كتبك بوجود معلولها . وقد سافرتُ إليها ، وناجيتُها وناجتني ، فكيف صحّ نكران معرفتي ؟ وكيف لم يشاهدني حسُّك الباطن ، وكيف لم تتجلّ نفسك لنفسي ؟
هو ( صدر المتألهين ) ـ أتهزل ؟
أنا ـ ( الشيخ المظفر ): استعيذ بالله من الهزل ! وأنا إنّما جئتك للاستفادة ممّا وهبك الله من العلم والفهم ونور البصيرة والمشاهدة ، وكلامي هذا مأخوذ من فلسفتك في الوجود والعلّة والمعلول .
هو ( صدر المتألهين ) ـ يا سبحان الله ! مثل هذا الكلام والوهم هو الذي كان يضايقني من الناس ، فكنت أفرّ منهم ما استطعت .
وكلّما جاهدت أن أوضّح مقصدي بالبيان المبسّط والدليل المقنع أراهم لا يزيدون إلا تبلّداً ، وللواضحات إلاّ جحوداً . وكأنّك من هذه الفصيلة ؟ إليك عنّي !
أنا ( الشيخ المظفر ): ألستَ قد نصبتَ في مؤلّفاتك هادياً للناس ، ومرشداً لمن كان ضالّته الحكمة ! وأملي أن أكون من طلاّب الحقيقة ، فأفض عليّ ممّا آتاك الله ، وأوضح لي هذا التوهّم ، إذا كان !
هو ( صدر المتألهين ): أنت في محاولتك هذه تستدرجني لترجع بي إلى الدنيا وغواشيها بعد أن منّ الله تعالى عليّ فأدخلني في عالم البرزخ « عالم الصور الإدراكية الحسّية المجرّدة عن المادة » ، وانقطعت علائق نفسي بالدنيا ، وقويت قوّتها وتأكّدت فعليّتها (7).
وأصبحت مصروفة الهمّة إلى فعل التخيّل والتصوّر ، وغير مرتهنة بما يزعجها ويؤذيها وما يمنعها من الرجوع إلى ذاتها ولها عالم خاص من نفسها فيه كلّ ما تريده وتشتهيه ، وأصبحت متمكّنة من الصعود إلى مرتبة المقرّبين وترى الأشياء « بعين اليقين » .
فلست بحاجة ـ اليوم ـ وأنا في عالم الشهادة إلى الأدلّة والبراهين ، ولا إلى الخصومة واللجاج . فاتركني من أوهام أهل الدنيا ونقاشها ، وقد تركت لكم كتباً مبسّطة فيها الغنى لمستزيد ، وخلِّني منشرح الصدر مبتهجاً بما أوتيت من اليقين بما لم تسمع به أذن ولم تره عين .
أنا ( الشيخ المظفر ): إنّ النفس ـ على ما قرّرتَ في فلسفتك ـ لسعة وجودها ووفور نورها في هذا العالم العلوي ، فذاتها تتطوّر بالشؤون والأطوار ، وتتنزّل إلى منازل القوى والأعضاء . فكما أنّ لها الصعود إلى مرتبة العقل الفعّال(8) .
فلها النزول إلى مرتبة الحواس والآلات الطبيعية في آن واحد ، من غير مشقّة وكلفة . . . فما كان عليك لو نزلت فجاريتني في النقاش ، كما تنزّلت في خطابي ومشافهتي ، لتكشف سرّ تلك المغالطة التي قلت عنها في كلامي !
ولئن لم يزدك ذلك مالاً ولا استعداداً لكمال ، فإنّ نفسي لمّا استعدّت لتلقّي نور العلم وفيض المعرفة بتجرّدها بهذا الحلم عن الحوائل المادّية والموانع العنصرية والحواجز الحسّية ، فإنّها تطلب منك بلسان أستعدادها ألاّ تبخل عليّ من فيض قدسك ، وليس لك أن تبخل وحاشاك !
هو ( صدر المتألهين ): أحسنت إنّك عن صبوح ترفق وإلى مسلك دقيق تشير ، هذا ما أحكمنا بنيانه في فلسفتنا ، وإن كنت قد أخطأت المرمى بعض الشيء . ولكن لنثق أنّ هذا لا يقنعني للدخول معك في المجادلات الكلامية ، والأبحاث البحثية(9) ، فإنّي قد مللت من تتّبع أمثال هذه السخافات والأوهام فيما ألّفت لمّا كنتُ في عالمكم الدنيوي ، وأضعت الوقت الكثير بذكر هذه المجازفات وردّها .
وكان عذري أن أصحابها كانوا يُعدّون عند الناس من أهل النظر والرأي ، فيتبعونهم على أهوائهم وسفسطاتهم(10) . وأنت الآن تريد أن تعيد عليّ جذعة ! لماذا هذا الإزعاج ؟
أنا ( الشيخ المظفر ): ما كنت أتخيّل أنّ هذا يزعجك ! مع أنّ نفسك في رضوان وابتهاج دائم ، وإفاضتك علي من نور علمك هو عين الابتهاج ومحض الرضا ، وصرف الكمال لنفسك أليست هذه فلسفتك ؟
هو ( صدر المتألهين ): هذا صحيح لو أنّ نفسي بإنّيّتها وحاقّ ذاتها تتجلّى لك ، فتفيض عليك نورَ العلم ، وتؤثر فيك ، كما توهّمتَ أوّلاً ، وهذا التوهّم سرّ المغالطة عندك (11). ولكن لتعلم أن تخيّلك لي وتصوّرك لوجودي هو عين نفسك (12) ، وتطوّر لوجودها وتقوٍّ لقوّتها ، لأنّه مخلوق لها وفعلها وأثرها ، قال سيّدي أوّل الأئمّة قسيم الجنّة والنّار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :
« كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانية فهو مخلوق لكم مردود عليكم » (13) .
ما أعظم هذه الكلمة لهذا الإمام القدّوسي الربّاني ، والحكيم العظيم الإلهي ، وقد مرّت على مسامع الأجيال المتعاقبة ، فما كان لأحد أن يكون أهلاً لإدراك مغزاها ، أو ليحوم حول مرماها . ولو لم تكن له سواها لكفتني دليلاً على إمامته وعصمته ، وأنّ علمه من لدن حكيم عليم من غير تعليم وتلقين ، فإنّه لو كان من سائر البشر في عصره البعيد كلّ البعد عن المعارف الكونيّة والعلوم الفلسفية ، وهذه الدقائق العلمية العالية ، لما استطاع أن يتوصّل إلى شمّ رائحة هذه النظريّة (14).
على أنّ هذه الفلسفة لم يتوصّل إليها بشر إلاّ بعد أبحاث ومجادلات ، وحدوث نظريّات وافتراضات في العلم والوجود الذهني ، سوّدت فيها الصحف فملأت الطوامير ، ومرّت عليها القرون .
واشتركت فيها مئات العلماء العظام . وقد كشفناها في أسفارنا في عدّة مناسبات . ولم يسبقنا إليها إلاّ هذه الكلمة من سيّد الكونين عليه السلام ، وكلمة اُخرى من العارف المحقّق محي الدين بن العربي المتوفّى سنة 638 هـ ، ذكرناها في مبحث الوجود الذهني في السَفَر الأوّل (15) . . . . . . . .
وإذا استطعت أن تعرف ما رمينا إليه ، سهّل عليك أن تعرف أنّ تصوراتك الباطلة وتوهّماتك المريضة إنّما هي إنزعاج لنفسك في الحقيقة وآلام لروحك ، ومرض ونقص في وجودك ، وكذلك اعتقاداتك الصحيحة وآراؤك المطابقة للواقع هي تطوّر في وجود نفسك ، وترقٍّ إلى مراقي الأنبياء والأولياء ، وانتقال من مرتبة النقص إلى مرتبة الكمال ، واستعداد للرجوع إلى ذاتك والاتحاد مع العقل الفعّال ( 16 ) .
أنا ( الشيخ المظفر ): لقد بعدنا ـ أيها المولى ـ عن الهدف في مسألتنا التي طلبتُ كشفها ، وكأنّك تفرّ من توضيح تلك المغالطة التي أشرتَ إليها .
هو ( صدر المتألهين ): لو كنتَ من أهل طريق الكشف واليقين ، وممّن عنّى نفسه بالمجاهدات العقلية والرياضات البدنيّة ، لكنتَ انتفعت بهذه الرموز والإشارات ولا ستغنيت بها عن مجادلات الكلاميّين وأصحاب المباحثة والنظر البحت ، ولعرفتَ كيف حللتُ لك المسألة من أقرب طرقها ؟
إني ( 17 ) لأستغفر الله تعالى كثيراً مما ضيّعت أوّل الأمر شطراً من عمري في تتبّع تلك التدقيقات والمجادلات ، وتعلّم جربزتهم في القول. وأنصح كلّ من يريد أن يسلك مسلك الكرام الإلهيّين ، ويتمثّل له ما ينكشف للعارفين المستصغِرين لعالَم الصور واللذّات المحسَّة ، فينفتح له طريق الحقائق أن يبدأ
(( أوّلاً )) بتزكية نفسه عن هواها ، فـ ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ( 18 ) ، وباستحكام أساس المعرفة والحكمة بالتقوى ليرقَ ذُراها ، وإلاّ كان ممّن ( أَتَى الله بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ) ( 19 ) .
وأنصحه (( ثانياً )) ألاّ يشتغل بترّهات عوامّ الصوفيّة من الجهلة ، ولا يركن إلى أقاويل المتفلسفة وأهل الكلام جملة ( 20 ) ، فإنّها فتنة مضلّة ، وجميعها ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا ، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور ) ( 21 ) .
(( وآخر نصيحتي )) أن يلقي بزمام أمره إلى الله تعالى وإلى رسوله النذير الأمين ، فكلّ ما بلغه منه آمن به وصدَّقه ، من غير أن يتحيّل فيتخيّل له وجهاً عقليّاً ومسلكاً بحثيّاً . بل يجب أن يقتدي بهديه وينتهي بنهيه ، امتثالاً لقوله تعالى ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ( 22 ) حتّى يفتح الله على قلبه ، ويجعل له نوراً يمشي بين يديه .
وبينا أنا في نشوة الابتهاج باستماع هذه النصائح الخالدة ( 23 ) ، استيقظت من رقدتي ، ولم أتمكّن من حمله على الدخول في محاورات أهل النظر .
النجف ـ محمّـد رضا المظفّر
--------------------------------------------------------------------------------
(1) انظر موسوعة طبقات الفقهاء 214 ص 710 .
(2) اشارة إلى الأسفار الأربعة التي بنى الملاّ صدرا كتابه عليها ، الأسفار 1/13 .
(3) وقد بيّنها السبزواري في تعليقته على هذه العبارات قائلاً : السفر الأوّل : . . . برفع الحجب الظلمانية والنورية التي بين السالك وبين حقيقته التي هي معه أزلاً وأبداً .
السفر الثاني ، وهو السفر بالحقّ في الحقّ ، وإنّما يكون بالحقّ لأنّه صار وليّاً وجوده وجوداً حقّانياً ، فيأخذ في السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد .
السفر الثالث : ويسلك من هذا الموقف في مراتب الأفعال ويزول نحوه ويحصل له الصحو التامّ .
السفر الرابع : فيشاهد الخلائق وآثارها ولوازمها ، فيعلم مضارّها ومنافعها في الدنيا والآخرة . الأسفار 1/ هامش ص 13 .
(4) بيان أنّ هناك سفران :
1 ـ سفر أنفسي وهو ما كان في داخل النفس الإنسانية وقد أشارت إليه بعض الأحاديث «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» .
2 ـ سفر الآفاق وهو ما كان خارج حيطة النفس وهو السفر في ملكوت السماوات والأرض ، أنظر قوله تعالى في سورة فصلت : 53 (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .
(5) إشارة إلى أنّ صدر المتألّهين يعيش عالم البرزخ الذي انعدم فيه الزمان والمكان حيث فناء المادّة وبقاء الروح ، فيكون كلامه صحيحاً بحساب البرزخ ، وإن كان خطابه لما في عالم المادة .
(6) إنّ الذي يليق لأن يكون طريقاً إلى الله هو المعصوم والامام المفترض الطاعة وليس كلّ خلق ، إلاّ أن يقصد المتكلّم أنّ المؤمن يكون طريقاً لأهل البيت (عليهم السلام) وهم طريق إلى الله ، ألاّ أن تحمل على مقولة «أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق» البحار 64/137 وهو يحتاج إلى بيان وتوضيح وتوثيق .
(7) النفس الانسانية في عالم الدنيا والمادّة تنشغل بالجسد والبدن ، وبعد انفصالها عنه تتفرّغ لشؤوناتها فتقوى قوّتها وتتأكّد فعليّتها .
(8) يقسّم العقل النظري إلى أربع مراتب العقل الهيولائي ، العقل بالملكة ، العقل الفعّال ، العقل المستفاد .
(9) إشارة إلى العلوم التي تكتسب من خلال البحث والاستقصاء ويقابله العلم الإلهامي واللدنّي الذي يأتي دفعة واحدة . لأنّ من يخرج من عالم المادّة يدخل في عالم الحقائق والوقائع فلا يتنزّل إلى عالم المادّة مرّة اُخرى .
(10) المسمّى بعلم المغالطة .
(11) هذا اشارة إلى المغالطة التي ذكرها المظفّر ، وهو لسان حال المستشكل وقد قال له فيما سبق : أنّك قادر على التجلّي ، حيث ينفيه الملاّ صدرا .
(12) هذا إشارة إلى نظرية اتحاد العلم والعالم والمعلوم وهي من ابتكارات الملاّ صدرا وكذا الحركة الجوهرية : وهو أنّ العلم يتذوّت ويتشأّن وتزداد النفس قوّة وسعة وشدّة .
(13) البحار 66/293 .
(14) وهي نظرية اتحاد العلم والعالم والمعلوم ، والحركة الجوهريّة . انظر الأسفار 3/381 .
(15) مع التحفّظ في اعتقادات هذا الشيخ لتضارب أقواله في كتبه وهناك أدلّة لكلّ من يمدح ويقدح في أرائه الاعتقادية ، والله العالم .
(16) حيث أنّ الملاّ صدرا يعتقد أنّ النفس إذا اتحدت مع العقل الفعّال يمكن أن تفاض عليها الصور الحقيقية الواقعيّة .
(17) هنا يُعرّض الملاّ صدرا بمن يدّعي أنّه يعرف الفلسفة وهو بعيد عنها كلّ البعد ، ويأسف لمناقشته ومباحثته إيّاهم ، لأنّهم لا يريدون بنقاشهم الوصول إلى الحقيقة ، بل غايتهم تبكيت الخصم وإفحامه ، انظر الاسفار 1 / 11 .
(18) سورة الشمس : 9 .
(19) سورة النحل : 26 .
(20) إشارة إلى من يريد من هذين العلمين تبكيت الخصم والزامه بحجج واهية لا إحقاق الحق .
(21) سورة النور : 40 .
(22) سورة الحشر : 7 .
(23) ومجموع هذه النصائح مستوحات من كتابه الأسفار 1/12 .
-----
منقول من الموضوع التالي: http://www.wahajr.com/hajrvb/showthread.php?t=402988897
تعليق