بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
إثبات أن عمر بن الخطاب هو الذي اتهم النبي بالهذيان في رزية الخميس
اللهم صل على محمد وآل محمد
إثبات أن عمر بن الخطاب هو الذي اتهم النبي بالهذيان في رزية الخميس
في هذا الموضوع نريد أن نتحقّق من أمرين:
الأول: صحّة ما وقع من الاعتراض على النبي (صلى الله عليه وآله) واتهامه بالهذيان في مرض الوفاة من قبل بعض الصحابة.
الثاني: صحّة أنّ الذي قام بذلك هو الصحابي الشهير عمر بن الخطاب الذي اختلف المسلمون في استقامته وعدالته.
أمّا الأمر الأول فنمهد له بالسؤال التالي:
هل صح سند القصة من الأساس، أي ما يقال من أن بعض الصحابة اتهم النبي صلى الله عليه وآله بالهذيان؟ وما هي المصادر التاريخية والحديثية التي تثبت ذلك؟
والإجابة:
إنه نعم؛ لقد صح ذلك، ففي صحيح مسلم (5/76) دار الفكر ـ بيروت:
(عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالكتف والدواة (أو اللّوح والدّواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر) انتهى بنصِّه.
وهكذا عند أحمد بن حنبل في مسنده (1/355) دار صادر ـ بيروت، ومثله السنن الكبرى للنسائي (3/435) دار الكتب العلمية ـ بيروت.
وفي صحيح البخاري (4/31) ، كتاب الجهاد والسير، بَاب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ ، دار الفكر ـ بيروت:
(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ...) .
وغيره ذلك من المصادر التي لا نريد أن نطيل على القارئ بسردها.
فإن قلتَ: فما معنى الهُجْر؟
أجبتك بما قاله ابن حجر في توضيحه في فتح الباري شرح صحيح البخاري (8/101) دار المعرفة ـ بيروت ، حيث قال ما نصّه:
(وَالْهُجْر ـ بِالضّمِّ ثُمّ السّكُون ـ : الْهَذَيَانُ، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا: مَا يَقَع مِنْ كَلام الْمَرِيض الَّذِي لا يَنْتَظِم وَلا يُعْتَدّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَته. وَوُقُوع ذَلِكَ مِنْ النّبِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْتَحِيل لأَنّهُ مَعْصُوم فِي صِحّته وَمَرَضه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) وَلِقَوْلِهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إِنّي لا أَقُول فِي الْغَضَب وَالرّضَا إِلاّ حَقّاً) انتهى.
فإن قال قائل: ولكن اللفظ رُوي في مواضع أُخرى على نحو الاستفهام (أَهَجَرَ؟) .
قلنا: هذا غير معلوم الصحة لتعارض نحوَي الخبر، والصحيح الواضح أنه لم يكن استفهاماً، والدليل عليه: أنّ الموقف كان موقف معارضة لطلب النبي صلى الله عليه وآله، ولذا وقع الاختلاف والتنازع بين الحاضرين، فمنهم من أصر على المعارضة، ومنهم من أصرّ على تنفيذ طلب النبي صلى الله عليه وآله. فلو كان مجرد استفهام ساذج لانحلّ بالتحقّق والجواب، ولما انجرّ إلى النزاع ثم إخراج النبي إياهم ثم بكاء ابن عباس وتعبيره عما جرى بالرزية، بل بكلِّ الرزية.
فإن قال قائل: وفي متون الأخبار المروية أن الجملة لم تكن (يهجر) أو (هجر) بل كانت (غَلَبَهُ الوَجَعُ) ، فالقائل لعله قال ذلك شفقة على النبي، لا من باب المعارضة والممانعة.
قلنا: إن عبارة غلبه الوجع هي لفظة تلطيفية لعبارة الهذيان والهُجر التي قالها بعض الصحابة، وهي تدل على المعنى نفسه؛ لأنّ المقصود بغلبة الوجع أن المريض أصبح مغلوباً عقلُه من شدة ما يعانيه من المرض، فهو يقول ما لا يعي، وهو معنى الهذيان.. فالبرغم من بعض الرواة حاول تخفيف وطأة كلمة (يهجر) بعبارة (غلبه الوجع) إلا أنه لم يستطع أن يخرج من الإشكالية.
وأمّا تصوّر أن يكون قائل العبارة ـ ولو كانت (غلبه الوجع) ـ يقصد التخفيف عن النبي، فهو تصور غير صحيح؛ لأنّ التخفيف عن النبي ليس أهم من قضية هداية الأمّة التي من أجلها طلب النبيّ الكتابةَ، فالمسألة أهم من أن تُلغى في سبيل مراعاة حالة مرضيّة.
أضف إلى ذلك أنّ موقف الممانع من امتثال أمر النبي لو كان بداعي الشفقة على النبي، لما كان يصر على موقفه بالرغم من نشوب النزاع والفوضى في محضر النبي المريض الذي يشفق عليه.
وأضف إلى ذلك أن موقفه لو كان بداعي الشفقة، وكان موقفاً مبرّراً؛ لما كان ابن عباس يعد القضية من الرزايا، بل يعدها كلّ الرزية أي المصيبة، بل كان عليه أن يحمد الله على وجود هذا النمط من الصحابة الذين راعوا حالة النبي الصحية وأشفقوا عليه من التعب.
وبهذا نكون قد فرغنا من الأمر الأوّل، وهو إثبات صحة أصل القضية، أي أنه وقع من بعض الصحابة هذا التصرف الفظيع، حيث اعترضوا على طلب النبي، ومنعوا من تنفيذ رغبته، ووصفوا مطالبته بالهذيان تحت عنوان (يهجر) أو (غلبه الوجع) .
وقد آن لنا الآن أن نتطرق إلى الأمر الثاني، وهو التحقّق ممّا إذا كان عمر بن الخطاب هو الذي ترأّس حركة العارضة لطلب النبي، والذي قال إن النبي يهذي والعياذ بالله تعالى.
من الملفت للانتباه أنّ الروايات التي جاء فيها ذكرٌ لعمر ودوره في رزية الخميس، هي يروايات عبرت عن فعل عمر بـ (غلبه الوجع) ، بينما نجد الروايات التي أُخفي فيها اسم المتكلم جاءت فيها عبارة (هجر) أو (يهجر) أو (أهجر) !
وهذا يعني أن الرواة كانوا حريصين على أن يخفوا شيئاً على القرّاء الكرام..
ولكننا حين نجمع بين الروايات ونقرؤها بنظرة فاحصة دقيقة، نستطيع أن نسجل الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: أن الكلام الذي قيل بصدد معارضة النبي ورفض طلبه هو (يهجر) أو (هجر) أو (أهجر) أو (غلبه الوجع) أو غير ذلك مما يرجع إلى مؤدّى واحد وهو اتهام النبي بالهذيان كما أوضحنا آنفاً.
الملاحظة الثانية: أنّ الروايات صرّحت بأن قائل عبارة (غلبه الوجع) هو عمر بن الخطاب، ففي صحيح البخاري (7/9) كتاب المرضى والطب، باب قول المريض قوموا عني: (لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ) . وهكذا في صحيح مسلم (5/76) ، ومسند أحمد (1/336) .. وغيرها من المصادر.
الملاحظة الثالثة: أنّ من الواضح من الروايات أنّها تصنف المتنازعين في محضر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى فريقين: فريق يؤيد ما يطلبه النبي، وفريق يعارض ويجابه ما يطلبه النبي، والذي يتزعّم الفريق الثاني هو عمر، فنص عبارة البخاري ومسلم ومسند أحمد في الموضع آنف الذكر: (فَاخْتَصَمُوا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ) ، وهذا صريح في أن عمر بن الخطاب هو صاحب جملة (يهجر) والتي تمت ترجمتها إلى (غلبه الوجع) ، وإنما قال ما قاله ليتزعّم بذلك فريقاً يعارض النبي ويجابِهه.
وبهذا يتضح بصورة كاملة أنّ قائل عبارة (يهجر) والتي تعني يهذي، هو عمر بن الخطاب، وقد حاول بعض محبيه أن يخفوا اسمه حيث ظهرت هذه العبارة الشنيعة، وفي مكان آخر حاولوا تغيير العبارة حيث أظهروا اسم عمر، ولكنهم لم ينتبهوا إلى أن الباحث يمكنه اكتشاف ما حولوا إخفاءه عبر المقارنة، خصوصاً أنهم لم ينجحوا في إخفاء أصل القضية، كما لم ينجحوا في إخفاء كون عمر هو المتكلم بالاعتراض على طلب النبي، وأنه هو الذي تصدّر الفريق الذي كان يرفض تقديم الكتاب للنبي.
هذا والله وتعالى يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب: 36) .
ويقول تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 33) .
ويقول تبارك وتعالى: (...وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور: 54) .
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والحمد لله رب العالمين.
الأول: صحّة ما وقع من الاعتراض على النبي (صلى الله عليه وآله) واتهامه بالهذيان في مرض الوفاة من قبل بعض الصحابة.
الثاني: صحّة أنّ الذي قام بذلك هو الصحابي الشهير عمر بن الخطاب الذي اختلف المسلمون في استقامته وعدالته.
أمّا الأمر الأول فنمهد له بالسؤال التالي:
هل صح سند القصة من الأساس، أي ما يقال من أن بعض الصحابة اتهم النبي صلى الله عليه وآله بالهذيان؟ وما هي المصادر التاريخية والحديثية التي تثبت ذلك؟
والإجابة:
إنه نعم؛ لقد صح ذلك، ففي صحيح مسلم (5/76) دار الفكر ـ بيروت:
(عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالكتف والدواة (أو اللّوح والدّواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر) انتهى بنصِّه.
وهكذا عند أحمد بن حنبل في مسنده (1/355) دار صادر ـ بيروت، ومثله السنن الكبرى للنسائي (3/435) دار الكتب العلمية ـ بيروت.
وفي صحيح البخاري (4/31) ، كتاب الجهاد والسير، بَاب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ ، دار الفكر ـ بيروت:
(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ...) .
وغيره ذلك من المصادر التي لا نريد أن نطيل على القارئ بسردها.
فإن قلتَ: فما معنى الهُجْر؟
أجبتك بما قاله ابن حجر في توضيحه في فتح الباري شرح صحيح البخاري (8/101) دار المعرفة ـ بيروت ، حيث قال ما نصّه:
(وَالْهُجْر ـ بِالضّمِّ ثُمّ السّكُون ـ : الْهَذَيَانُ، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا: مَا يَقَع مِنْ كَلام الْمَرِيض الَّذِي لا يَنْتَظِم وَلا يُعْتَدّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَته. وَوُقُوع ذَلِكَ مِنْ النّبِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْتَحِيل لأَنّهُ مَعْصُوم فِي صِحّته وَمَرَضه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) وَلِقَوْلِهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إِنّي لا أَقُول فِي الْغَضَب وَالرّضَا إِلاّ حَقّاً) انتهى.
فإن قال قائل: ولكن اللفظ رُوي في مواضع أُخرى على نحو الاستفهام (أَهَجَرَ؟) .
قلنا: هذا غير معلوم الصحة لتعارض نحوَي الخبر، والصحيح الواضح أنه لم يكن استفهاماً، والدليل عليه: أنّ الموقف كان موقف معارضة لطلب النبي صلى الله عليه وآله، ولذا وقع الاختلاف والتنازع بين الحاضرين، فمنهم من أصر على المعارضة، ومنهم من أصرّ على تنفيذ طلب النبي صلى الله عليه وآله. فلو كان مجرد استفهام ساذج لانحلّ بالتحقّق والجواب، ولما انجرّ إلى النزاع ثم إخراج النبي إياهم ثم بكاء ابن عباس وتعبيره عما جرى بالرزية، بل بكلِّ الرزية.
فإن قال قائل: وفي متون الأخبار المروية أن الجملة لم تكن (يهجر) أو (هجر) بل كانت (غَلَبَهُ الوَجَعُ) ، فالقائل لعله قال ذلك شفقة على النبي، لا من باب المعارضة والممانعة.
قلنا: إن عبارة غلبه الوجع هي لفظة تلطيفية لعبارة الهذيان والهُجر التي قالها بعض الصحابة، وهي تدل على المعنى نفسه؛ لأنّ المقصود بغلبة الوجع أن المريض أصبح مغلوباً عقلُه من شدة ما يعانيه من المرض، فهو يقول ما لا يعي، وهو معنى الهذيان.. فالبرغم من بعض الرواة حاول تخفيف وطأة كلمة (يهجر) بعبارة (غلبه الوجع) إلا أنه لم يستطع أن يخرج من الإشكالية.
وأمّا تصوّر أن يكون قائل العبارة ـ ولو كانت (غلبه الوجع) ـ يقصد التخفيف عن النبي، فهو تصور غير صحيح؛ لأنّ التخفيف عن النبي ليس أهم من قضية هداية الأمّة التي من أجلها طلب النبيّ الكتابةَ، فالمسألة أهم من أن تُلغى في سبيل مراعاة حالة مرضيّة.
أضف إلى ذلك أنّ موقف الممانع من امتثال أمر النبي لو كان بداعي الشفقة على النبي، لما كان يصر على موقفه بالرغم من نشوب النزاع والفوضى في محضر النبي المريض الذي يشفق عليه.
وأضف إلى ذلك أن موقفه لو كان بداعي الشفقة، وكان موقفاً مبرّراً؛ لما كان ابن عباس يعد القضية من الرزايا، بل يعدها كلّ الرزية أي المصيبة، بل كان عليه أن يحمد الله على وجود هذا النمط من الصحابة الذين راعوا حالة النبي الصحية وأشفقوا عليه من التعب.
وبهذا نكون قد فرغنا من الأمر الأوّل، وهو إثبات صحة أصل القضية، أي أنه وقع من بعض الصحابة هذا التصرف الفظيع، حيث اعترضوا على طلب النبي، ومنعوا من تنفيذ رغبته، ووصفوا مطالبته بالهذيان تحت عنوان (يهجر) أو (غلبه الوجع) .
وقد آن لنا الآن أن نتطرق إلى الأمر الثاني، وهو التحقّق ممّا إذا كان عمر بن الخطاب هو الذي ترأّس حركة العارضة لطلب النبي، والذي قال إن النبي يهذي والعياذ بالله تعالى.
من الملفت للانتباه أنّ الروايات التي جاء فيها ذكرٌ لعمر ودوره في رزية الخميس، هي يروايات عبرت عن فعل عمر بـ (غلبه الوجع) ، بينما نجد الروايات التي أُخفي فيها اسم المتكلم جاءت فيها عبارة (هجر) أو (يهجر) أو (أهجر) !
وهذا يعني أن الرواة كانوا حريصين على أن يخفوا شيئاً على القرّاء الكرام..
ولكننا حين نجمع بين الروايات ونقرؤها بنظرة فاحصة دقيقة، نستطيع أن نسجل الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: أن الكلام الذي قيل بصدد معارضة النبي ورفض طلبه هو (يهجر) أو (هجر) أو (أهجر) أو (غلبه الوجع) أو غير ذلك مما يرجع إلى مؤدّى واحد وهو اتهام النبي بالهذيان كما أوضحنا آنفاً.
الملاحظة الثانية: أنّ الروايات صرّحت بأن قائل عبارة (غلبه الوجع) هو عمر بن الخطاب، ففي صحيح البخاري (7/9) كتاب المرضى والطب، باب قول المريض قوموا عني: (لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ) . وهكذا في صحيح مسلم (5/76) ، ومسند أحمد (1/336) .. وغيرها من المصادر.
الملاحظة الثالثة: أنّ من الواضح من الروايات أنّها تصنف المتنازعين في محضر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى فريقين: فريق يؤيد ما يطلبه النبي، وفريق يعارض ويجابه ما يطلبه النبي، والذي يتزعّم الفريق الثاني هو عمر، فنص عبارة البخاري ومسلم ومسند أحمد في الموضع آنف الذكر: (فَاخْتَصَمُوا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ) ، وهذا صريح في أن عمر بن الخطاب هو صاحب جملة (يهجر) والتي تمت ترجمتها إلى (غلبه الوجع) ، وإنما قال ما قاله ليتزعّم بذلك فريقاً يعارض النبي ويجابِهه.
وبهذا يتضح بصورة كاملة أنّ قائل عبارة (يهجر) والتي تعني يهذي، هو عمر بن الخطاب، وقد حاول بعض محبيه أن يخفوا اسمه حيث ظهرت هذه العبارة الشنيعة، وفي مكان آخر حاولوا تغيير العبارة حيث أظهروا اسم عمر، ولكنهم لم ينتبهوا إلى أن الباحث يمكنه اكتشاف ما حولوا إخفاءه عبر المقارنة، خصوصاً أنهم لم ينجحوا في إخفاء أصل القضية، كما لم ينجحوا في إخفاء كون عمر هو المتكلم بالاعتراض على طلب النبي، وأنه هو الذي تصدّر الفريق الذي كان يرفض تقديم الكتاب للنبي.
هذا والله وتعالى يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب: 36) .
ويقول تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 33) .
ويقول تبارك وتعالى: (...وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور: 54) .
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والحمد لله رب العالمين.
تعليق