3 أطباء بيطريين فقط ومختبر واحد للمراقبة .. وبعض الجراثيم يسبب الشلل
من البرازيل إلى لبنان: اللحوم الحمراء تسلك الطريق الصعب إلى الموائد
ضياع مرجعية الرقابة يُفقد طعامنا مناعته (فادي أبو غليوم)
زينب ياغي
اللحوم، وجبات الموائد الشهية، والغذاء الرئيسية، لمن يحبها، تتحول إلى وجبات سامة في حال احتوائها على الجراثيم والأمراض، فالمواد الغذائية المأخوذة من كائنات حية مريضة تتسبب بضرر كبير للصحة.
تنتشر في لبنان شائعات كثيرة عن مصادر اللحوم التي يتناولها المواطنون، أبرزها القول بأنه يتم استيراد أبقار برازيلية وهندية تعيش في البراري، وهي بالتالي غير خاضعة للرقابة الصحية في بلاد المنشأ.
من أين يستورد لبنان الأبقار والأغنام؟
يوضح مدير الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة نبيه غوش أن لبنان يستورد الأبقار الحيّة بشكل رئيسي من البرازيل، ثم توسعت عمليات الإستيراد لكي تشمل كلا من الهند وكولومبيا والأوروغواي: «وهناك عدد قليل من الأبقار يتم استيراده من كل من فرنسا وألمانيا وهولندا، يتراوح بين سبعمئة وبين الثلاثة آلاف رأس سنويا، لكن أسعارها في السوق أعلى من أسعار أبقار أميركا اللاتينية، بسبب قلة عددها وجودة نوعيتها».
ويذكر أنه في العام 2004، تبين بعد إجراء فحوصات مخبرية على لحوم هندية أنها مصابة بجرثومة السالمونيلا.
أما الأغنام فيتم استيرادها بشكل رئيسي من جورجيا ومن استراليا، وفي بعض الأحيان من سوريا. وتجري وزارة الزراعة مباحثات حالياً مع كولومبيا لاستيراد الأغنام منها أيضاً.
ويعيد غوش إستيراد اللحوم من دول أميركا اللاتينية إلى أسعارها وجودتها، فالمواشي هناك ترعى في الطبيعة، مشيرا إلى أن تلك الأبقار تعيش في الغابات، لكن لديها مالكين يهتمون بها، فهي تربى في ما يسمى بالمزارع المفتوحة، كما أنها مراقبة بيطرياً من قبل السلطات الصحية.
وتعتبر البرازيل من أكبر الدول المصدرة للأبقار في العالم، وهي لذلك، لا تستطيع التصدير من دون تأمين الرقابة الصحية.
تستثنى أميركا الشمالية ودول أوروبا من استيراد اللحوم البرازيلية لأنها تملك مزارع أبقار ولديها اكتفاء ذاتي.
ماذا يحصل في المرفأ؟
تدخل الأبقار والأغنام إلى مرفأ بيروت عبر البواخر، وتنقل الباخرة الواحدة ما يقارب الإثني عشر ألف رأس، كل شهرين أو ثلاثة أشهر.
تبقى الأبقار في المرفأ لمدة ثلاثة أيام، قبل توزيعها على المستوردين، إذ لا توجد محاجر صحية لوضعها فيها، فتصدر عنها الروائح الكريهة التي تنتشر في الجوار، ويضج منها السكان. وتسعى وزارة الزراعة حالياً لبناء المحاجر للمواشي.
يوجد في المرفأ ثلاثة أطباء بيطريين فقط، وثلاثة فنيين، يتولون مراقبة نوعية الأبقار والأغنام المستوردة. ويترتب على أولئك الأطباء التأكد من سلامة ذلك العدد الكبير في كل حمولة، فتكون النتيجة معروفة، وهي رقابة غير كافية، مهما اجتهدوا في أداء عملهم.
تتم مراقبة الأبقار والأغنام، كما يوضح غوش، عبر طريقتين: الأولى عبر «النظر» إلى الحيوانات وهي داخل الباخرة، لمعرفة المريض منها، إذ أن عوارض المرض تظهر جلية على البقرة المريضة، فتبدو متعبة أو جالسة وعاجزة عن الوقوف.
والطريقة الثانية تتم بواسطة أخذ عينات من دم البقرة وفحصها في «مختبر الفنار». وبما أنه لا يمكن إجراء فحص لكل بقرة أو خروف مستورد، تؤخذ عينة من كل ألف رأس، بحسب القياس العالمي الذي يعتمد نسبة واحد على ألف.
يسبق ذلك طلب لائحة شروط لاستيراد البقر البرازيلي وتتضمن خلوه من أمراض الحمى المالطية والسل والطاعون وجنون البقر.
لكن المهندس الزراعي في «الجامعة الأميركية في بيروت» إيلي بربور يعتبر أن تلك الطريقة في الرقابة، لو حصلت، هي غير كافية. ويقول إن المسألة لا تكمن في مصدر اللحوم، «ولا مشكلة إذا كانت برازيلية أو أوكرانية أو غيرها، وإنما المهم أن تكون خاضعة للرقابة الصحية الجدّية في أماكن تربيتها، وأن تلو ذلك رقابة لبنانية، لدى استيرادها».
ويلفت إلى أن مراقبة الأبقار بالنظر، هي طريقة غير صحية وغير سليمة: «فالبقرة مثلا، قد تكون مصابة بجرثومة أو مرض ما، ولم تظهر عليها أعراض المرض بعد، لذلك، يجب أن تكون هناك أولوية لإنشاء مختبر في المرفأ، وفريق متخصص يجري الفحوصات اللازمة»، مشيراً إلى أن مثل تلك الفحوصات موجودة في مصر وفي الأردن: «فلماذا لا توجد في لبنان؟ مع العلم أن عدم وجودها يرتب مخاطر على الصحة العامة».
ويوضح بربور أن الحكومة في لبنان تعتمد على بيانات منظمة الصحة العالمية، ومركزها فرنسا، لمعرفة مدى خلو الحيوانات المعدة للإستهلاك من الأمراض، «لكن من يضمن ألا تحصل عملية خلط للأبقار في طريق الاستيراد، أو عدم تهريب حمولة باخرة أبقار خالية من الأمراض إلى بلد آخر، واستبدالها بأبقار غير مضمونة صحيا؟».
يضيف بربور أنه في لبنان «كل شيء وارد، ولا نستطيع الإعتماد على شركات النقل، ربما تأتي أبقار جيدة من البرازيل ويتم تهريبها إلى مكان آخر، لذا يجب أن يكون لدينا مختبر في المرفأ».
اللحم البلدي.. و«انتحال الصفة»
ما يسمى باللحم البلدي يفترض أن يكون من الأبقار والأغنام الأوروبية، التي توضع في مزارع داخل لبنان، لمدة ثلاثة أشهر. ويعتبر غوش، وهو طبيب بيطري، أن تلك المدة تعد كافية لكي تتغير نوعية لحم البقر، نتيجة تناولها أعلافا بتركيبة لبنانية وتنشقها للهواء اللبناني.
لكن، عدد الأبقار الأوروبية قليل، مقارنة بحجم اللحوم التي تباع على أنها بلدية، في الملاحم والمحلات الكبرى. ويحصل الغش في تصنيف النوعية، فلا يعود كل ما يسجل عليه «بلدي» حاملا الإسم الصحيح، وإنما يحصل «انتحال صفة».
وقد تبين أن لبنان ينتج سنويا ما يقارب السبعين ألف رأس بقر، بينما ينتج ما يقارب المليون رأس غنم هي التي يمكن وصفها فعلياً بالبلدية.
ويؤكد بربور إن لبنان يعتبر من بين الدول النادرة التي لا يستطيع فيها المواطن معرفة نوعية اللحوم التي يشتريها، فلا تسجل على اللحوم نوعيتها، ولا توضب، ولا يكتب عليها مصدر المنشأ أو تاريخ الإستيراد.
كما يلفت إلى وجود عدد قليل فقط من محلات بيع اللحوم التي تسجل بعض تلك المعلومات، مشيرا إلى أن لبنان يستورد أكثر من خمسة وتسعين في المئة من اللحوم الحمراء التي يستهلكها. فهو بلد منتج للفرّوج، وليس للحم الأحمر.
الحليب الطبيعي.. والبودرة
في المقابل، تعاني، حتى الأبقار المنتجة في لبنان، من مشاكل صحية، أبرزها الحمى القلاعية، الموجودة عندنا منذ مئات السنين. ويقول بربور إنهم، في البلاد المتطورة، يستأصلون المرض، «أما عندنا فيعيش الحيوان مع المرض لأن الدولة لا تستطيع التعويض على المزارعين، في حال تم التخلص من المواشي». ويشير إلى أنه على الرغم من تطعيم الأبقار المصابة، إلا أنها تبقى حاملة للفيروس، «فالطعم يحمي من ظهور أعراض المرض ولا يقضي عليه».
ويذكر في ذلك الإطار، الأبقار الأميركية التي تم استيرادها لمساعدة المزارعين، إذ كان يفترض أن تحلب كل بقرة ما يقارب خمسة وثلاثين كيلوغراما من الحليب في اليوم، لكنها أصبحت تحلب عشرة كيلوغرامات أو خمسة عشر كيلوغراما بعد إصابتها بالفيروس، ففشل المشروع.
ويعتبر بربور أن الحليب البودرة صحي أكثر من الحليب الطازج المنتج من الأبقار في لبنان، لأن الأخير برأيه يحتوي على الكثير من الجراثيم: «ربما تكون البقرة مصابة بالتهاب الضرع، فلا تُفصل عن باقي الأبقار، وتنتقل عدوى الجراثيم إلى غيرها، وبعض تلك الجراثيم يموت عبر الغليان وبعضها يبقى».
ويذكّر بربور في المجال نفسه بمشاريع الزراعات العضوية، ويقول إنه يجب التيّقن من أن المزارع العضوية لا تقام بالقرب من مزارع غير عضوية، بل يجب أن تكون بعيدة عنها، حتى لا يطاولها تلوث التربة والمياه.
اللحوم المجلدة
يوضح غوش أنه يتم إستيراد اللحوم المجلدة ضمن شروط صحية تتناول مدة التجليد، وكيفية نقلها في مستوعبات (كونتينر) مبردة، وتؤخذ منها عينات تمثيلية ترسل إلى مختبر الفنار لإجراء فحص بكتيرولوجي لها.
ويبدو أنه لا توجد أي ضمانات للحفاظ على بقاء تلك اللحوم مجلدة قبل استهلاكها، سوى ضمائر الذين يبيعونها، فيما تشكل عملية إذابة الجليد عن اللحوم ثم تجليدها مرة جديدة أكثر طرق الغش خطورة على الصحة العامة. ويؤكد بربور أنه إذا تم تبريد اللحوم أكثر من مرة، فإنها تنتج سموما لا تتفكك وتسبب حالات القيء والإسهال، كما توجد بعض الجراثيم التي يلزمها غليان على حرارة تبلغ 360 درجة، فيما طبخنا يغلي على مئة درجة.
ويشير بربور أيضاً إلى وجود جراثيم تسبب الشلل الكامل في الجسم لأنها تضرب الجهاز العصبي تسمىCLOSKRIDIUM BOTHLIMUM ، بالإضافة إلى وجود أمراض في الحيوانات تصيب الإنسان يصل عددها إلى المئة.
اللحوم.. المعلّقة
لا يقل تعليق اللحوم في الهواء الطلق طوال اليوم خطورة، عن كل ما ذكر أعلاه، إذ درج التقليد اللبناني على بيع اللحوم في الملاحم من الفجر حتى آخر النهار، من دون إيجاد حل لتلك المعضلة.
ويجمع المسؤولون في كل من مديرية الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة ومديرة حماية المستهلك في وزارة الإقتصاد على أن إلغاء تلك الطريقة في بيع اللحوم هو من مهمة المجالس البلدية في المدن والبلدات والقرى، وهم يجمعون على أنها تسبب مراكمة عدد كبير من الجراثيم، لأن الشروط الصحية لحفظ الأطعمة تملي ألا يبقى الطعام المطهو خارج التبريد لمدة تزيد عن الساعتين. وفي حل بقائه أكثر من تلك المدة، تبدأ الجراثيم بالتكاثر فيه، فكيف إذا كان الطعام لحوما نيئة؟
الرقابة مشتتة كالعادة
بسبب سوء التوزيع في الإدارات المعنية بصحة المواطن وسلامته الغذائية، فإن مراقبة سلامة الغذاء هي عملياً من مهمة ثلاث وزارات هي: الصحة والزراعة والاقتصاد.
فالرقابة على عملية استيراد اللحوم هي من مهام وزارة الزراعة، والرقابة على سلامتها داخل الأسواق هي من تخصص مديرية حماية المستهلك، أما الرقابة على الملاحم فهي من مهمة البلديات، فيما توكل مهمة الرقابة عليها في المطاعم لوزارة الصحة.
أما في بقية بلاد العالم فتتولى وزارة الزراعة مسؤولية مراقبة اللحوم من المزارع حتى الموائد.
ويختصر بربور الحال بالقول إن بعض الوزارات في لبنان تجرب الإنتقال من حالة الفوضى الغذائية إلى حالة الضبط والتحكم في الغذاء، لكن تلك النقلة تتطلب موظفين غير الذين اعتادوا على الفوضى، وأصبح من الصعب عليهم التقيد بالقوانين. كما أن مهمة من هذا النوع تتطلب سنوات، وليس مجرد قرارات، «لأن بناء الإنسان المتوازن والمثقف وصاحب الأخلاق، يتطلب أكثر من جيل».
يضيف أن وزارة الزراعة تحاول صياغة مشاريع قوانين جديدة وتحويلها إلى مجلس النواب، وقد طلبت من أجل ذلك استشارة كلية الزراعة في الجامعة الأميركية، «لكن، ما يحصل داخل المجلس هو تضارب في المصالح، فمن سينفذ القانون بعد إقراره؟».
وبالإضافة إلى القوانين، من الضروري وجود أشخاص مؤهلين للقيام بحملة تعتمد على العلم والفحوصات والمختبرات المجهزة ومراقبين لا يخضعون للرشاوى.
وعلى قلة عدد المراقبين الموجودين حالياً، فإن معظمهم لا يعرف العلوم الجديدة في التغذية، والأمراض الجديدة التي تصيب المزروعات والحيوانات. يضاف إلى ذلك حجم موازنة الوزارة الصغير، مقارنة بالمسؤوليات التي يجب أن تحملها.
وينتقد بربور إهمال الطبقة السياسية للخريجين المتخصصين، فيقول إن كليات الزراعة في الجامعات تؤهل طلابا متخصصين، لكن مصير غالبيتهم هو العمل في الخارج، «يحملون شهاداتهم من أجل المساهمة في تطور البلدان التي يهاجرون إليها، لأن بلدهم لا يتيح لهم إمكانية العمل».
من جهته، يقول غوش إن لدى وزارة الزراعة حالياً مشروعاً لتحسين نوعية العمل فيها، أعدته بعثة أوروبية بعد إجرائها تقييما للنواقص في المديريات والمصالح.
ويوصي المشروع ببناء مختبرات في كل محافظة، إذ لا يوجد حالياً إلا مختبر واحد في كل لبنان هو مختبر الفنار. كما تحتاج الوزارة إلى ما بين الأربعين والخمسين طبيبا بيطريا، فيما العدد المتوفر حالياً هو ثمانية أطباء داخل مديرية الثروة الحيوانية، وثلاثة في المرفأ، واثنان في المطار، واثنا عشر طبيبا في البقاع وطبيب واحد في العبودية، واثنان في المصنع وثلاثة في جبل لبنان، وثلاثة في الشمال، وأربعة في الجنوب. ولدى مديرية حماية المستهلك، يوجد مئة واثنان وثلاثون مراقبا على جميع الأراضي اللبنانية، أصبح عدد كبير منهم في سن التقاعد، وتحتاج المديرية إلى مئة وخمسين مراقبا إضافيا، لا يزالون بانتظار مباريات مجلس الخدمة المدنية، منذ سنوات عدة.
جريدة السفير
http://www.assafir.com/Article.aspx?...hannelId=35924
من البرازيل إلى لبنان: اللحوم الحمراء تسلك الطريق الصعب إلى الموائد

زينب ياغي

اللحوم، وجبات الموائد الشهية، والغذاء الرئيسية، لمن يحبها، تتحول إلى وجبات سامة في حال احتوائها على الجراثيم والأمراض، فالمواد الغذائية المأخوذة من كائنات حية مريضة تتسبب بضرر كبير للصحة.
تنتشر في لبنان شائعات كثيرة عن مصادر اللحوم التي يتناولها المواطنون، أبرزها القول بأنه يتم استيراد أبقار برازيلية وهندية تعيش في البراري، وهي بالتالي غير خاضعة للرقابة الصحية في بلاد المنشأ.
من أين يستورد لبنان الأبقار والأغنام؟
يوضح مدير الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة نبيه غوش أن لبنان يستورد الأبقار الحيّة بشكل رئيسي من البرازيل، ثم توسعت عمليات الإستيراد لكي تشمل كلا من الهند وكولومبيا والأوروغواي: «وهناك عدد قليل من الأبقار يتم استيراده من كل من فرنسا وألمانيا وهولندا، يتراوح بين سبعمئة وبين الثلاثة آلاف رأس سنويا، لكن أسعارها في السوق أعلى من أسعار أبقار أميركا اللاتينية، بسبب قلة عددها وجودة نوعيتها».
ويذكر أنه في العام 2004، تبين بعد إجراء فحوصات مخبرية على لحوم هندية أنها مصابة بجرثومة السالمونيلا.
أما الأغنام فيتم استيرادها بشكل رئيسي من جورجيا ومن استراليا، وفي بعض الأحيان من سوريا. وتجري وزارة الزراعة مباحثات حالياً مع كولومبيا لاستيراد الأغنام منها أيضاً.
ويعيد غوش إستيراد اللحوم من دول أميركا اللاتينية إلى أسعارها وجودتها، فالمواشي هناك ترعى في الطبيعة، مشيرا إلى أن تلك الأبقار تعيش في الغابات، لكن لديها مالكين يهتمون بها، فهي تربى في ما يسمى بالمزارع المفتوحة، كما أنها مراقبة بيطرياً من قبل السلطات الصحية.
وتعتبر البرازيل من أكبر الدول المصدرة للأبقار في العالم، وهي لذلك، لا تستطيع التصدير من دون تأمين الرقابة الصحية.
تستثنى أميركا الشمالية ودول أوروبا من استيراد اللحوم البرازيلية لأنها تملك مزارع أبقار ولديها اكتفاء ذاتي.
ماذا يحصل في المرفأ؟
تدخل الأبقار والأغنام إلى مرفأ بيروت عبر البواخر، وتنقل الباخرة الواحدة ما يقارب الإثني عشر ألف رأس، كل شهرين أو ثلاثة أشهر.
تبقى الأبقار في المرفأ لمدة ثلاثة أيام، قبل توزيعها على المستوردين، إذ لا توجد محاجر صحية لوضعها فيها، فتصدر عنها الروائح الكريهة التي تنتشر في الجوار، ويضج منها السكان. وتسعى وزارة الزراعة حالياً لبناء المحاجر للمواشي.
يوجد في المرفأ ثلاثة أطباء بيطريين فقط، وثلاثة فنيين، يتولون مراقبة نوعية الأبقار والأغنام المستوردة. ويترتب على أولئك الأطباء التأكد من سلامة ذلك العدد الكبير في كل حمولة، فتكون النتيجة معروفة، وهي رقابة غير كافية، مهما اجتهدوا في أداء عملهم.
تتم مراقبة الأبقار والأغنام، كما يوضح غوش، عبر طريقتين: الأولى عبر «النظر» إلى الحيوانات وهي داخل الباخرة، لمعرفة المريض منها، إذ أن عوارض المرض تظهر جلية على البقرة المريضة، فتبدو متعبة أو جالسة وعاجزة عن الوقوف.
والطريقة الثانية تتم بواسطة أخذ عينات من دم البقرة وفحصها في «مختبر الفنار». وبما أنه لا يمكن إجراء فحص لكل بقرة أو خروف مستورد، تؤخذ عينة من كل ألف رأس، بحسب القياس العالمي الذي يعتمد نسبة واحد على ألف.
يسبق ذلك طلب لائحة شروط لاستيراد البقر البرازيلي وتتضمن خلوه من أمراض الحمى المالطية والسل والطاعون وجنون البقر.
لكن المهندس الزراعي في «الجامعة الأميركية في بيروت» إيلي بربور يعتبر أن تلك الطريقة في الرقابة، لو حصلت، هي غير كافية. ويقول إن المسألة لا تكمن في مصدر اللحوم، «ولا مشكلة إذا كانت برازيلية أو أوكرانية أو غيرها، وإنما المهم أن تكون خاضعة للرقابة الصحية الجدّية في أماكن تربيتها، وأن تلو ذلك رقابة لبنانية، لدى استيرادها».
ويلفت إلى أن مراقبة الأبقار بالنظر، هي طريقة غير صحية وغير سليمة: «فالبقرة مثلا، قد تكون مصابة بجرثومة أو مرض ما، ولم تظهر عليها أعراض المرض بعد، لذلك، يجب أن تكون هناك أولوية لإنشاء مختبر في المرفأ، وفريق متخصص يجري الفحوصات اللازمة»، مشيراً إلى أن مثل تلك الفحوصات موجودة في مصر وفي الأردن: «فلماذا لا توجد في لبنان؟ مع العلم أن عدم وجودها يرتب مخاطر على الصحة العامة».
ويوضح بربور أن الحكومة في لبنان تعتمد على بيانات منظمة الصحة العالمية، ومركزها فرنسا، لمعرفة مدى خلو الحيوانات المعدة للإستهلاك من الأمراض، «لكن من يضمن ألا تحصل عملية خلط للأبقار في طريق الاستيراد، أو عدم تهريب حمولة باخرة أبقار خالية من الأمراض إلى بلد آخر، واستبدالها بأبقار غير مضمونة صحيا؟».
يضيف بربور أنه في لبنان «كل شيء وارد، ولا نستطيع الإعتماد على شركات النقل، ربما تأتي أبقار جيدة من البرازيل ويتم تهريبها إلى مكان آخر، لذا يجب أن يكون لدينا مختبر في المرفأ».
اللحم البلدي.. و«انتحال الصفة»
ما يسمى باللحم البلدي يفترض أن يكون من الأبقار والأغنام الأوروبية، التي توضع في مزارع داخل لبنان، لمدة ثلاثة أشهر. ويعتبر غوش، وهو طبيب بيطري، أن تلك المدة تعد كافية لكي تتغير نوعية لحم البقر، نتيجة تناولها أعلافا بتركيبة لبنانية وتنشقها للهواء اللبناني.
لكن، عدد الأبقار الأوروبية قليل، مقارنة بحجم اللحوم التي تباع على أنها بلدية، في الملاحم والمحلات الكبرى. ويحصل الغش في تصنيف النوعية، فلا يعود كل ما يسجل عليه «بلدي» حاملا الإسم الصحيح، وإنما يحصل «انتحال صفة».
وقد تبين أن لبنان ينتج سنويا ما يقارب السبعين ألف رأس بقر، بينما ينتج ما يقارب المليون رأس غنم هي التي يمكن وصفها فعلياً بالبلدية.
ويؤكد بربور إن لبنان يعتبر من بين الدول النادرة التي لا يستطيع فيها المواطن معرفة نوعية اللحوم التي يشتريها، فلا تسجل على اللحوم نوعيتها، ولا توضب، ولا يكتب عليها مصدر المنشأ أو تاريخ الإستيراد.
كما يلفت إلى وجود عدد قليل فقط من محلات بيع اللحوم التي تسجل بعض تلك المعلومات، مشيرا إلى أن لبنان يستورد أكثر من خمسة وتسعين في المئة من اللحوم الحمراء التي يستهلكها. فهو بلد منتج للفرّوج، وليس للحم الأحمر.
الحليب الطبيعي.. والبودرة
في المقابل، تعاني، حتى الأبقار المنتجة في لبنان، من مشاكل صحية، أبرزها الحمى القلاعية، الموجودة عندنا منذ مئات السنين. ويقول بربور إنهم، في البلاد المتطورة، يستأصلون المرض، «أما عندنا فيعيش الحيوان مع المرض لأن الدولة لا تستطيع التعويض على المزارعين، في حال تم التخلص من المواشي». ويشير إلى أنه على الرغم من تطعيم الأبقار المصابة، إلا أنها تبقى حاملة للفيروس، «فالطعم يحمي من ظهور أعراض المرض ولا يقضي عليه».
ويذكر في ذلك الإطار، الأبقار الأميركية التي تم استيرادها لمساعدة المزارعين، إذ كان يفترض أن تحلب كل بقرة ما يقارب خمسة وثلاثين كيلوغراما من الحليب في اليوم، لكنها أصبحت تحلب عشرة كيلوغرامات أو خمسة عشر كيلوغراما بعد إصابتها بالفيروس، ففشل المشروع.
ويعتبر بربور أن الحليب البودرة صحي أكثر من الحليب الطازج المنتج من الأبقار في لبنان، لأن الأخير برأيه يحتوي على الكثير من الجراثيم: «ربما تكون البقرة مصابة بالتهاب الضرع، فلا تُفصل عن باقي الأبقار، وتنتقل عدوى الجراثيم إلى غيرها، وبعض تلك الجراثيم يموت عبر الغليان وبعضها يبقى».
ويذكّر بربور في المجال نفسه بمشاريع الزراعات العضوية، ويقول إنه يجب التيّقن من أن المزارع العضوية لا تقام بالقرب من مزارع غير عضوية، بل يجب أن تكون بعيدة عنها، حتى لا يطاولها تلوث التربة والمياه.
اللحوم المجلدة
يوضح غوش أنه يتم إستيراد اللحوم المجلدة ضمن شروط صحية تتناول مدة التجليد، وكيفية نقلها في مستوعبات (كونتينر) مبردة، وتؤخذ منها عينات تمثيلية ترسل إلى مختبر الفنار لإجراء فحص بكتيرولوجي لها.
ويبدو أنه لا توجد أي ضمانات للحفاظ على بقاء تلك اللحوم مجلدة قبل استهلاكها، سوى ضمائر الذين يبيعونها، فيما تشكل عملية إذابة الجليد عن اللحوم ثم تجليدها مرة جديدة أكثر طرق الغش خطورة على الصحة العامة. ويؤكد بربور أنه إذا تم تبريد اللحوم أكثر من مرة، فإنها تنتج سموما لا تتفكك وتسبب حالات القيء والإسهال، كما توجد بعض الجراثيم التي يلزمها غليان على حرارة تبلغ 360 درجة، فيما طبخنا يغلي على مئة درجة.
ويشير بربور أيضاً إلى وجود جراثيم تسبب الشلل الكامل في الجسم لأنها تضرب الجهاز العصبي تسمىCLOSKRIDIUM BOTHLIMUM ، بالإضافة إلى وجود أمراض في الحيوانات تصيب الإنسان يصل عددها إلى المئة.
اللحوم.. المعلّقة
لا يقل تعليق اللحوم في الهواء الطلق طوال اليوم خطورة، عن كل ما ذكر أعلاه، إذ درج التقليد اللبناني على بيع اللحوم في الملاحم من الفجر حتى آخر النهار، من دون إيجاد حل لتلك المعضلة.
ويجمع المسؤولون في كل من مديرية الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة ومديرة حماية المستهلك في وزارة الإقتصاد على أن إلغاء تلك الطريقة في بيع اللحوم هو من مهمة المجالس البلدية في المدن والبلدات والقرى، وهم يجمعون على أنها تسبب مراكمة عدد كبير من الجراثيم، لأن الشروط الصحية لحفظ الأطعمة تملي ألا يبقى الطعام المطهو خارج التبريد لمدة تزيد عن الساعتين. وفي حل بقائه أكثر من تلك المدة، تبدأ الجراثيم بالتكاثر فيه، فكيف إذا كان الطعام لحوما نيئة؟
الرقابة مشتتة كالعادة
بسبب سوء التوزيع في الإدارات المعنية بصحة المواطن وسلامته الغذائية، فإن مراقبة سلامة الغذاء هي عملياً من مهمة ثلاث وزارات هي: الصحة والزراعة والاقتصاد.
فالرقابة على عملية استيراد اللحوم هي من مهام وزارة الزراعة، والرقابة على سلامتها داخل الأسواق هي من تخصص مديرية حماية المستهلك، أما الرقابة على الملاحم فهي من مهمة البلديات، فيما توكل مهمة الرقابة عليها في المطاعم لوزارة الصحة.
أما في بقية بلاد العالم فتتولى وزارة الزراعة مسؤولية مراقبة اللحوم من المزارع حتى الموائد.
ويختصر بربور الحال بالقول إن بعض الوزارات في لبنان تجرب الإنتقال من حالة الفوضى الغذائية إلى حالة الضبط والتحكم في الغذاء، لكن تلك النقلة تتطلب موظفين غير الذين اعتادوا على الفوضى، وأصبح من الصعب عليهم التقيد بالقوانين. كما أن مهمة من هذا النوع تتطلب سنوات، وليس مجرد قرارات، «لأن بناء الإنسان المتوازن والمثقف وصاحب الأخلاق، يتطلب أكثر من جيل».
يضيف أن وزارة الزراعة تحاول صياغة مشاريع قوانين جديدة وتحويلها إلى مجلس النواب، وقد طلبت من أجل ذلك استشارة كلية الزراعة في الجامعة الأميركية، «لكن، ما يحصل داخل المجلس هو تضارب في المصالح، فمن سينفذ القانون بعد إقراره؟».
وبالإضافة إلى القوانين، من الضروري وجود أشخاص مؤهلين للقيام بحملة تعتمد على العلم والفحوصات والمختبرات المجهزة ومراقبين لا يخضعون للرشاوى.
وعلى قلة عدد المراقبين الموجودين حالياً، فإن معظمهم لا يعرف العلوم الجديدة في التغذية، والأمراض الجديدة التي تصيب المزروعات والحيوانات. يضاف إلى ذلك حجم موازنة الوزارة الصغير، مقارنة بالمسؤوليات التي يجب أن تحملها.
وينتقد بربور إهمال الطبقة السياسية للخريجين المتخصصين، فيقول إن كليات الزراعة في الجامعات تؤهل طلابا متخصصين، لكن مصير غالبيتهم هو العمل في الخارج، «يحملون شهاداتهم من أجل المساهمة في تطور البلدان التي يهاجرون إليها، لأن بلدهم لا يتيح لهم إمكانية العمل».
من جهته، يقول غوش إن لدى وزارة الزراعة حالياً مشروعاً لتحسين نوعية العمل فيها، أعدته بعثة أوروبية بعد إجرائها تقييما للنواقص في المديريات والمصالح.
ويوصي المشروع ببناء مختبرات في كل محافظة، إذ لا يوجد حالياً إلا مختبر واحد في كل لبنان هو مختبر الفنار. كما تحتاج الوزارة إلى ما بين الأربعين والخمسين طبيبا بيطريا، فيما العدد المتوفر حالياً هو ثمانية أطباء داخل مديرية الثروة الحيوانية، وثلاثة في المرفأ، واثنان في المطار، واثنا عشر طبيبا في البقاع وطبيب واحد في العبودية، واثنان في المصنع وثلاثة في جبل لبنان، وثلاثة في الشمال، وأربعة في الجنوب. ولدى مديرية حماية المستهلك، يوجد مئة واثنان وثلاثون مراقبا على جميع الأراضي اللبنانية، أصبح عدد كبير منهم في سن التقاعد، وتحتاج المديرية إلى مئة وخمسين مراقبا إضافيا، لا يزالون بانتظار مباريات مجلس الخدمة المدنية، منذ سنوات عدة.
جريدة السفير
http://www.assafir.com/Article.aspx?...hannelId=35924
تعليق