بسم الله الرحمن الرحيم


لقاء الشهر
لقاء مع فضيلة القاضي الشيخ أبو جعفر المبخوت
أجراه: حيدر السلامي
عدسة: أحمد الحسن
الشيخ المبخوت واحد من أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم للحقيقة وذابوا فيها منتهجين طريقها مشمرين الذراع كاشفين عن وجهها البهي كل الأستار التي أسدلتها جنايات التاريخ في عصور حاكمية الاستبداد ودكتاتوريات التعصب البغيض.. تلك العصور التي زرعت الجهل وولدت التخلف وأودت بأمة الإسلام إلى السبات والتأخر عن الركب الحضاري.
التقيناه فدارت عجلة الحوار مسرعة ولم تحسب للوقت أي حساب، وكأن الساعات تمر مر اللحظات الهانئة - وقلما يجود بها الزمان- على شغاف القلب.
هو يروي قصة انتصار الحق على النفس وهواها والشيطان ووساوسه والدنيا وإغراءاتها. فاستمعوا له عبر هذا الجانب من الحوار الأتي:
● دعنا فضيلة القاضي ننطلق بداية من حيث الولادة الميمونة والمحطات اللاحقة من السيرة الذاتية؟
في البداية أشكركم على إتاحة هذه الفرصة الطيبة ومن بعد أقول: ولدت سنة 1973م في حصن بني سعد من مديرية المطمة التابعة لمحافظة الجوف في بلاد اليمن السعيد.
وقبل ولادتي بثلاثة شهور توفي والدي(رحمه الله) وهكذا نشأت وترعرعت في أحضان جدي لأمي، وكان رجلا صالحا محبا للدين فكان يصحبني معه إلى الصلاة عندما كان عمري ثمان سنوات. وقد أدخلني الكتاتيب الدينية التي تدرس القرآن الكريم فتعلمت تجويد القرآن ودرست بعض المقدمات على مذهب الزيدية ككتاب العقد الثمين في أصول العقيدة وكتاب الآجرومية وثلاثين مسألة في التوحيد من كتاب مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم للشيخ حسن الرصاص، ثم كتاب الأزهار لأمجد بن يحيى المرتضى.
بعدها أرسلت من قبل المشرفين في المحافظة والتابعين لحركة السيد مجد الدين إلى أحد العلماء في صعدة لإكمال دراستي فيها. ومن هناك توسعت علاقاتي مع العلماء وأخذت أدرس عند القاضي علي إسماعيل المتعيش(رحمه الله) وكان أبا رحيما وكثير الاهتمام بي، درست عليه كتاب الكاشف لذوي العقول في معرفة الأصول والروض النضير وسمة زيد بن علي على الروض النضير و حفظت (315) حديثا. ودرست على السيد عبد الله صالح العجري أكثر من (15) كتابا في العقائد، وعلى القاضي صلاح بعض العلوم، ولكن أكثر دراستي كانت على يد القاضي إسماعيل المتعيش وهو أستاذ العلماء في وقته.. وكان ذلك كله مع مواصلة الدراسة الأكاديمية ولم أتوقف عنها إلا ثلاث سنين جمدت فيها الملف وتفرغت للدراسة الدينية. ثم رجعت لمتابعتها حتى تخرجت في كلية التربية حاصلا على شهادة البكالوريوس في علوم القرآن.
● رحلة الانتقال من المذهب الزيدي إلى المذهب الجعفري، متى وكيف ومن أين انطلقت ومن كان وراءها؟
لا بد من الإشارة إلى بعض الأمور كمقدمة للحديث عن رحلة الانتقال إلى المذهب الحق منها أن المذهب الزيدي كما يذكر أربابه قائم على الانفتاح فهم يقولون في الفروع لا يجوز لمجتهد التقليد أما بقية الناس فلهم ذلك لكنهم لا يفرقون بين تقليد الميت أو الحي بل أن تقليد الميت عندهم أولى. في العقائد أيضاً لا يجوز التقليد وإنما لك أن تتبع الحق أينما وجد.. فمثلا لا يجوز تقليد أحمد بن الحسين الهادي ولا زيد بن علي ولا عبد الله بن حمزة لا يجوز في العقائد تقليد هؤلاء الأئمة. من هنا انطلقنا في دراسة العقائد أولا، وكانت أول صدمة وقعت لي هي أني كنت أتصور أن أهل البيت كما في النصوص الشرعية هم منهل واحد وطريقة واحدة متوحدة ولا فرق بينهم فكلام الأول هو كلام الثاني، لماذا؟ لأن المذهب الزيدي أو الشيعي بشكل عام يقوم في مواجهة مذهب أهل السنة على قاعدة هي: لو أن الناس اتبعوا أهل البيت لربحوا ولما حصلت التفرقة والخلاف. طيب، ولكن أئمة الزيدية كانوا يتقاتلون فيما بينهم البين، وكل إمام تتبعه مجموعة من العلماء، وكل منهم يقول: أنا عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله).. هذا شيء والأهم منه في نفسي هو اختلافهم في العقائد فإذا كان عبد الله بن حمزة يعتبر أن النص على علي بن أبي طالب خفي ويعتذر للصحابة. فمثلا يقول بعملية الموازنة في اليوم الآخر. فحسنات أبي بكر-على حد قوله- كثيرة.. لا أدري كم وكيف.. وسيئاته كم هي وكيف تصير؟!! ومن هنا نتوقف في لعنه أو سبه أو البراءة منه، ولا نترضى ولا نذم. كما يقول أحد تلامذة هذه المدرسة:
ولا أذم أبا بكر ولا عمر*** عسى التوقف أن ينجي من الزلل
هذا تيار والتيار الآخر رباح بن الحسين، قد أعلن البراءة منهم ولعنهم وأعلن أن النص على علي جلي ظاهر ومن لم يؤمن بذلك فهو فاجر وعند جميع المسلمين كافر..
ثم يأتي الاختلاف في الصفات، صفات الله سبحانه وتعالى فاختلف أئمة الزيدية الذين نسمهم بالعترة الطاهرة، في صفاته: القادرية والحيية والعالمية.. هل هي صفات ذاتية أم زائدة على الذات؟ فذهب أحمد بن يحيى المرتضى وعبد الله بن حمزة ويحيى بن حمزة الحسيني ومجموعة إلى القول بأن صفاته غير ذاتية وهي زائدة على الذات, بينما يحيى بن الحسين يقول: من قال بأن القدرة غير القادر فهو كافر ومعنى ذلك أن صفاته عين ذاته.
واختلفوا في مسألة عذاب القبر.. هل يعذب الإنسان في قبره أم رقدة إلى أن تقوم الساعة, بعضهم قال: رقدة إلى يوم القيامة سواء كان مؤمنا أو كافرا، محض الإيمان أو محض الكفر..
وبعض آخر قال:عذاب القبر نصوصه صريحة وواضحة بأن الميت يعذب وينعم، وذهبوا إلى تصحيح الحديث (إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار).. كما اختلفوا في قضية الصراط والشفاعة وقضايا أخرى كثيرة.
أما الفروع فقد اختلفوا مثلا في الغائب عنها زوجها كم تلبث منتظرة.. كم تنتظر؟! منهم ذهب إلى أربع سنوات كما في الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) في الاختصاص للشيخ المفيد. ومنهم من ذهب إلى أنها تمكث العمر الطبيعي ثم اختلفوا في العمر الطبيعي فمنهم قال مائة وعشرون عاما.. تنتظر(120) عاما ثم تطلق وتعتد ثم تتزوج. ومنهم قال ثمانون عاما..
● سماحة الشيخ.. اختلاف أئمة الزيدية هل يقوم على أدلة علمية أم هو وليد الظروف السياسية مثلا؟!
أحسنتم.. ويمكنني إعادة سؤالك بالصيغة الآتية:
لماذا ننتقدهم وهم فقهاء مجتهدون ولهم أدلتهم والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ, وقد يقال إن عندكم مجتهدين وكذلك هم يختلفون؟!
والجواب أن انتقادنا متوجه إليهم لأنهم وسموا أنفسهم بالعترة الطاهرة وأنهم حجج الله ونواب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنهم مصاديق حديث الثقلين وأنهم مصاديق قول الرسول (صلى الله عليه وآله): لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وأنهم مصاديق سفينة النجاة, وهم بذلك ادعوا ما ليس لهم. أما أنهم مجتهدون فهذا ما نقوله نحن ولنا الحق في أن نرفض أقوالهم أو أن نقبلها.. لكن جماعة الزيدية لا يقبلون منا أن نرفضهم بالكلية ويقولون إنهم أئمة أهل البيت وحجج الله على الخلق.
● من أين جاء ادعاؤهم؟ هل هو من الانحدار النسبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
هناك ظروف ولدت هذا الادعاء وغيره، فإذا قرأنا الظروف التاريخية للقرن الثاني الهجري نجد أن هناك انعطافا تاريخيا في حياة الأمة من قضية التلقي للتشريع إلى قضية التصنيف للتشريع وقضية نقل الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) مشافهة.. حيث تبلورت قضية التشيع.. ولكنه ليس التشيع العقائدي الذي نعرفه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإنما تشيع اصطلاحي، وهو أن من روى مناقب لأهل البيت(عليهم السلام) واحترمهم سمي شيعيا في ذلك الوقت مقابلة للنواصب الذين كانوا يجاهرون باللعن وكانوا يسبون أهل البيت(عليهم السلام). تبلورت هذه الطائفة نتيجة الرواية والحديث.. وهذا أحمد بن حنبل أحدهم والشافعي الذي يقول:
إن كان رفضا حب آل محمد*** فليشهد الثقلان أني رافضي
ويحيى بن المديني اتهم بالرفض والغلو وفلان وفلان وهكذا كان النواصب اللاهجين باللعن والحاقدين على أهل البيت يسمون كل من يذكر فضائلهم بأنه شيعي رافضي. والواضح أن الشيعي هو من شايع وتابع لا من ذكر المناقب واحترم مواقف أهل البيت, كما تولد الحب لأهل البيت نتيجة المظلومية التي جرت عليهم ونتيجة الثورات المتتالية منهم. إلا أن هذا الزخم من المجتمع لا يقبل بالوصية وأنها منصوصة من إمام على إمام وذلك لأنهم خريجو مدارس السلطات الحاكمة فمن هنا لم يقروا الوصية ولكنهم ينكرون البغض لأن النصوص حكمت وأخذت بأعناقهم فهم محبون وليسوا بأتباع.
ولكي يواجهوا مدرسة النص قالوا كما تقول المعتزلة ونعرف أن المعتزلة أصبحت طائفة وإن كانت في الفقه سنة إلا أنها تميزت عن السنة بالمعتقدات وأصبحت تمثل طائفة لها أيديولوجيتها ومعتقداتها واسمها فكأنها غير أهل السنة والواقع أنها فرقة سنية.
فلقد قال الأسكافي والحسن البصري الحاكم الجشمي مصرحين بأنه لما قام زيد بالثورة انتمت المعتزلة إليه. ومن المفارقات التاريخية أن عبد الله بن الحسن كان يأخذ أولاده ويذهب بهم إلى مالك وفلان وفلان ولا يذهب بهم إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام) ليعلمهم كما هو الحال بالنسبة لمحمد النفس الزكية الذي كان يذهب به أبوه إلى المدينة ليتلقى العلوم من الفقهاء, وقد كانت هناك حساسيات من قضية الوصية وتعرفون المحاكمات التي صارت على قضية فدك بعدما أرجعت إلى الإمام باقر علم الأنبياء(عليه السلام) هناك أخذ جعفر بن الحسن يشاجر أولاد الحسين(عليه السلام)، وادعى أولاد الحسين بالوصية - كما تروي كتب التاريخ- ثم انعقدت بعد ذلك الشريعة أو المحاكمة فوق خالد بن عبدالله القسري مدة من الزمن ثم هلك جعفر بن الحسن فتبعه في المحاكمة عبد الله بن الحسن وكان المواجه له زيد بن علي ويحلل المؤرخون أن من أسباب ثورة زيد كان ذهابه إلى الشام وقضية الاحتكام على الأراضي وفدك..
إذن فكان ثمة تنافر بين عبد الله بن الحسن وبين الأئمة الأوصياء(عليهم السلام) وفي قضية الأبواء عندما دعوا الإمام الصادق(عليه السلام) وأبو جعفر المنصور وقال(عليه السلام): إنها ليست لك.. إني لا أجد محمد بن عبد الله خليفة في كتاب أبي علي وأنها صائرة لهذا أي المنصور, إلى آخر الرواية.. حيث يقول له عبد الله: ما حملك إلا الحسد لابني.
من هنا تعرف أن هناك شيئا من الحقد لأبناء الحسين من قبل بعض بني الحسن الذين انتموا إلى المعتزلة فكرا ومعتقدا حتى صار لهم في الأخير مذهبا ثم لم يكن يستطيع أحد أن يقول بفكرة تخالف أهل البيت(عليهم السلام) فلما قام زيد بن علي وجد بعض الناس هذه الثورة مظلة له بأن جعلها دعوة مذهبية ومن هناك دبت أقدام أشخاص مثل: أبي الجارود الأعمى والحسن بن صالح بن حي وكثير النوى وسليمان بن جرير الحرزي.. وكل واحد منهم ادعى زيدا ونسب مذهبه إليه واعتقد شيئا بالإمامة فمنهم من قدم الفاضل على المفضول ومنهم من قال الإمامة بالنص والإشارة.
● إذن فأعمدة المذهب الزيدي هم هؤلاء الأربعة؟
نعم ولهذا سميت مدارسهم بالجارودية والصالحية والسليمانية وكان اعتقاد الجارودية هو أن الإمامة في أمير المؤمنين بالوصف والإشارة دون التسمية أما الصالحية والسليمانية فأجمعوا في قول وافترقوا في قول, اجتمعوا في أن الإمامة في علي بن أبي طالب(عليه السلام) بالأفضلية وليست بالنص وافترقوا في تكفير عثمان فالسليمانية كفرته بسبب إحداثه لا بسبب الخلافة والصالحية لم تكفره. وفيما بعد تبلور خط رابع وهو دبلجة من هذه الخطوط جميعا، يقول بأن الخلافة بالنص الخفي ويجوز إمامة المفضول على الفاضل. وبهذا برروا للصحابة أعمالهم, نتيجة قولهم بالنص الخفي من أجل أن يسوغ لهم القول بتبرئة الصحابة، لأن النص إذا كان جليا وجب انحراف الصحابة، ومن هنا كان انطلاق الأئمة الزيدية منذ القرن السادس الهجري إلى يومنا هذا..
● تكرر في قولكم عبارة النص الخفي ما هي دلالتها من منظور الزيدية؟
الزيدية يعتبرون النص في أمير المؤمنين وفي الحسن والحسين(عليهم السلام) خفيا بمعنى أن النبي قصد إمامة أمير المؤمنين ضرورة وهناك طبعا مشاجرة حول مصطلح ضرورة.
لقاء مع فضيلة القاضي الشيخ أبو جعفر المبخوت
أجراه: حيدر السلامي
عدسة: أحمد الحسن
الشيخ المبخوت واحد من أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم للحقيقة وذابوا فيها منتهجين طريقها مشمرين الذراع كاشفين عن وجهها البهي كل الأستار التي أسدلتها جنايات التاريخ في عصور حاكمية الاستبداد ودكتاتوريات التعصب البغيض.. تلك العصور التي زرعت الجهل وولدت التخلف وأودت بأمة الإسلام إلى السبات والتأخر عن الركب الحضاري.
التقيناه فدارت عجلة الحوار مسرعة ولم تحسب للوقت أي حساب، وكأن الساعات تمر مر اللحظات الهانئة - وقلما يجود بها الزمان- على شغاف القلب.
هو يروي قصة انتصار الحق على النفس وهواها والشيطان ووساوسه والدنيا وإغراءاتها. فاستمعوا له عبر هذا الجانب من الحوار الأتي:
● دعنا فضيلة القاضي ننطلق بداية من حيث الولادة الميمونة والمحطات اللاحقة من السيرة الذاتية؟
في البداية أشكركم على إتاحة هذه الفرصة الطيبة ومن بعد أقول: ولدت سنة 1973م في حصن بني سعد من مديرية المطمة التابعة لمحافظة الجوف في بلاد اليمن السعيد.
وقبل ولادتي بثلاثة شهور توفي والدي(رحمه الله) وهكذا نشأت وترعرعت في أحضان جدي لأمي، وكان رجلا صالحا محبا للدين فكان يصحبني معه إلى الصلاة عندما كان عمري ثمان سنوات. وقد أدخلني الكتاتيب الدينية التي تدرس القرآن الكريم فتعلمت تجويد القرآن ودرست بعض المقدمات على مذهب الزيدية ككتاب العقد الثمين في أصول العقيدة وكتاب الآجرومية وثلاثين مسألة في التوحيد من كتاب مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم للشيخ حسن الرصاص، ثم كتاب الأزهار لأمجد بن يحيى المرتضى.
بعدها أرسلت من قبل المشرفين في المحافظة والتابعين لحركة السيد مجد الدين إلى أحد العلماء في صعدة لإكمال دراستي فيها. ومن هناك توسعت علاقاتي مع العلماء وأخذت أدرس عند القاضي علي إسماعيل المتعيش(رحمه الله) وكان أبا رحيما وكثير الاهتمام بي، درست عليه كتاب الكاشف لذوي العقول في معرفة الأصول والروض النضير وسمة زيد بن علي على الروض النضير و حفظت (315) حديثا. ودرست على السيد عبد الله صالح العجري أكثر من (15) كتابا في العقائد، وعلى القاضي صلاح بعض العلوم، ولكن أكثر دراستي كانت على يد القاضي إسماعيل المتعيش وهو أستاذ العلماء في وقته.. وكان ذلك كله مع مواصلة الدراسة الأكاديمية ولم أتوقف عنها إلا ثلاث سنين جمدت فيها الملف وتفرغت للدراسة الدينية. ثم رجعت لمتابعتها حتى تخرجت في كلية التربية حاصلا على شهادة البكالوريوس في علوم القرآن.
● رحلة الانتقال من المذهب الزيدي إلى المذهب الجعفري، متى وكيف ومن أين انطلقت ومن كان وراءها؟
لا بد من الإشارة إلى بعض الأمور كمقدمة للحديث عن رحلة الانتقال إلى المذهب الحق منها أن المذهب الزيدي كما يذكر أربابه قائم على الانفتاح فهم يقولون في الفروع لا يجوز لمجتهد التقليد أما بقية الناس فلهم ذلك لكنهم لا يفرقون بين تقليد الميت أو الحي بل أن تقليد الميت عندهم أولى. في العقائد أيضاً لا يجوز التقليد وإنما لك أن تتبع الحق أينما وجد.. فمثلا لا يجوز تقليد أحمد بن الحسين الهادي ولا زيد بن علي ولا عبد الله بن حمزة لا يجوز في العقائد تقليد هؤلاء الأئمة. من هنا انطلقنا في دراسة العقائد أولا، وكانت أول صدمة وقعت لي هي أني كنت أتصور أن أهل البيت كما في النصوص الشرعية هم منهل واحد وطريقة واحدة متوحدة ولا فرق بينهم فكلام الأول هو كلام الثاني، لماذا؟ لأن المذهب الزيدي أو الشيعي بشكل عام يقوم في مواجهة مذهب أهل السنة على قاعدة هي: لو أن الناس اتبعوا أهل البيت لربحوا ولما حصلت التفرقة والخلاف. طيب، ولكن أئمة الزيدية كانوا يتقاتلون فيما بينهم البين، وكل إمام تتبعه مجموعة من العلماء، وكل منهم يقول: أنا عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله).. هذا شيء والأهم منه في نفسي هو اختلافهم في العقائد فإذا كان عبد الله بن حمزة يعتبر أن النص على علي بن أبي طالب خفي ويعتذر للصحابة. فمثلا يقول بعملية الموازنة في اليوم الآخر. فحسنات أبي بكر-على حد قوله- كثيرة.. لا أدري كم وكيف.. وسيئاته كم هي وكيف تصير؟!! ومن هنا نتوقف في لعنه أو سبه أو البراءة منه، ولا نترضى ولا نذم. كما يقول أحد تلامذة هذه المدرسة:
ولا أذم أبا بكر ولا عمر*** عسى التوقف أن ينجي من الزلل
هذا تيار والتيار الآخر رباح بن الحسين، قد أعلن البراءة منهم ولعنهم وأعلن أن النص على علي جلي ظاهر ومن لم يؤمن بذلك فهو فاجر وعند جميع المسلمين كافر..
ثم يأتي الاختلاف في الصفات، صفات الله سبحانه وتعالى فاختلف أئمة الزيدية الذين نسمهم بالعترة الطاهرة، في صفاته: القادرية والحيية والعالمية.. هل هي صفات ذاتية أم زائدة على الذات؟ فذهب أحمد بن يحيى المرتضى وعبد الله بن حمزة ويحيى بن حمزة الحسيني ومجموعة إلى القول بأن صفاته غير ذاتية وهي زائدة على الذات, بينما يحيى بن الحسين يقول: من قال بأن القدرة غير القادر فهو كافر ومعنى ذلك أن صفاته عين ذاته.
واختلفوا في مسألة عذاب القبر.. هل يعذب الإنسان في قبره أم رقدة إلى أن تقوم الساعة, بعضهم قال: رقدة إلى يوم القيامة سواء كان مؤمنا أو كافرا، محض الإيمان أو محض الكفر..
وبعض آخر قال:عذاب القبر نصوصه صريحة وواضحة بأن الميت يعذب وينعم، وذهبوا إلى تصحيح الحديث (إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار).. كما اختلفوا في قضية الصراط والشفاعة وقضايا أخرى كثيرة.
أما الفروع فقد اختلفوا مثلا في الغائب عنها زوجها كم تلبث منتظرة.. كم تنتظر؟! منهم ذهب إلى أربع سنوات كما في الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) في الاختصاص للشيخ المفيد. ومنهم من ذهب إلى أنها تمكث العمر الطبيعي ثم اختلفوا في العمر الطبيعي فمنهم قال مائة وعشرون عاما.. تنتظر(120) عاما ثم تطلق وتعتد ثم تتزوج. ومنهم قال ثمانون عاما..
● سماحة الشيخ.. اختلاف أئمة الزيدية هل يقوم على أدلة علمية أم هو وليد الظروف السياسية مثلا؟!
أحسنتم.. ويمكنني إعادة سؤالك بالصيغة الآتية:
لماذا ننتقدهم وهم فقهاء مجتهدون ولهم أدلتهم والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ, وقد يقال إن عندكم مجتهدين وكذلك هم يختلفون؟!
والجواب أن انتقادنا متوجه إليهم لأنهم وسموا أنفسهم بالعترة الطاهرة وأنهم حجج الله ونواب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنهم مصاديق حديث الثقلين وأنهم مصاديق قول الرسول (صلى الله عليه وآله): لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وأنهم مصاديق سفينة النجاة, وهم بذلك ادعوا ما ليس لهم. أما أنهم مجتهدون فهذا ما نقوله نحن ولنا الحق في أن نرفض أقوالهم أو أن نقبلها.. لكن جماعة الزيدية لا يقبلون منا أن نرفضهم بالكلية ويقولون إنهم أئمة أهل البيت وحجج الله على الخلق.
● من أين جاء ادعاؤهم؟ هل هو من الانحدار النسبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
هناك ظروف ولدت هذا الادعاء وغيره، فإذا قرأنا الظروف التاريخية للقرن الثاني الهجري نجد أن هناك انعطافا تاريخيا في حياة الأمة من قضية التلقي للتشريع إلى قضية التصنيف للتشريع وقضية نقل الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) مشافهة.. حيث تبلورت قضية التشيع.. ولكنه ليس التشيع العقائدي الذي نعرفه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإنما تشيع اصطلاحي، وهو أن من روى مناقب لأهل البيت(عليهم السلام) واحترمهم سمي شيعيا في ذلك الوقت مقابلة للنواصب الذين كانوا يجاهرون باللعن وكانوا يسبون أهل البيت(عليهم السلام). تبلورت هذه الطائفة نتيجة الرواية والحديث.. وهذا أحمد بن حنبل أحدهم والشافعي الذي يقول:
إن كان رفضا حب آل محمد*** فليشهد الثقلان أني رافضي
ويحيى بن المديني اتهم بالرفض والغلو وفلان وفلان وهكذا كان النواصب اللاهجين باللعن والحاقدين على أهل البيت يسمون كل من يذكر فضائلهم بأنه شيعي رافضي. والواضح أن الشيعي هو من شايع وتابع لا من ذكر المناقب واحترم مواقف أهل البيت, كما تولد الحب لأهل البيت نتيجة المظلومية التي جرت عليهم ونتيجة الثورات المتتالية منهم. إلا أن هذا الزخم من المجتمع لا يقبل بالوصية وأنها منصوصة من إمام على إمام وذلك لأنهم خريجو مدارس السلطات الحاكمة فمن هنا لم يقروا الوصية ولكنهم ينكرون البغض لأن النصوص حكمت وأخذت بأعناقهم فهم محبون وليسوا بأتباع.
ولكي يواجهوا مدرسة النص قالوا كما تقول المعتزلة ونعرف أن المعتزلة أصبحت طائفة وإن كانت في الفقه سنة إلا أنها تميزت عن السنة بالمعتقدات وأصبحت تمثل طائفة لها أيديولوجيتها ومعتقداتها واسمها فكأنها غير أهل السنة والواقع أنها فرقة سنية.
فلقد قال الأسكافي والحسن البصري الحاكم الجشمي مصرحين بأنه لما قام زيد بالثورة انتمت المعتزلة إليه. ومن المفارقات التاريخية أن عبد الله بن الحسن كان يأخذ أولاده ويذهب بهم إلى مالك وفلان وفلان ولا يذهب بهم إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام) ليعلمهم كما هو الحال بالنسبة لمحمد النفس الزكية الذي كان يذهب به أبوه إلى المدينة ليتلقى العلوم من الفقهاء, وقد كانت هناك حساسيات من قضية الوصية وتعرفون المحاكمات التي صارت على قضية فدك بعدما أرجعت إلى الإمام باقر علم الأنبياء(عليه السلام) هناك أخذ جعفر بن الحسن يشاجر أولاد الحسين(عليه السلام)، وادعى أولاد الحسين بالوصية - كما تروي كتب التاريخ- ثم انعقدت بعد ذلك الشريعة أو المحاكمة فوق خالد بن عبدالله القسري مدة من الزمن ثم هلك جعفر بن الحسن فتبعه في المحاكمة عبد الله بن الحسن وكان المواجه له زيد بن علي ويحلل المؤرخون أن من أسباب ثورة زيد كان ذهابه إلى الشام وقضية الاحتكام على الأراضي وفدك..
إذن فكان ثمة تنافر بين عبد الله بن الحسن وبين الأئمة الأوصياء(عليهم السلام) وفي قضية الأبواء عندما دعوا الإمام الصادق(عليه السلام) وأبو جعفر المنصور وقال(عليه السلام): إنها ليست لك.. إني لا أجد محمد بن عبد الله خليفة في كتاب أبي علي وأنها صائرة لهذا أي المنصور, إلى آخر الرواية.. حيث يقول له عبد الله: ما حملك إلا الحسد لابني.
من هنا تعرف أن هناك شيئا من الحقد لأبناء الحسين من قبل بعض بني الحسن الذين انتموا إلى المعتزلة فكرا ومعتقدا حتى صار لهم في الأخير مذهبا ثم لم يكن يستطيع أحد أن يقول بفكرة تخالف أهل البيت(عليهم السلام) فلما قام زيد بن علي وجد بعض الناس هذه الثورة مظلة له بأن جعلها دعوة مذهبية ومن هناك دبت أقدام أشخاص مثل: أبي الجارود الأعمى والحسن بن صالح بن حي وكثير النوى وسليمان بن جرير الحرزي.. وكل واحد منهم ادعى زيدا ونسب مذهبه إليه واعتقد شيئا بالإمامة فمنهم من قدم الفاضل على المفضول ومنهم من قال الإمامة بالنص والإشارة.
● إذن فأعمدة المذهب الزيدي هم هؤلاء الأربعة؟
نعم ولهذا سميت مدارسهم بالجارودية والصالحية والسليمانية وكان اعتقاد الجارودية هو أن الإمامة في أمير المؤمنين بالوصف والإشارة دون التسمية أما الصالحية والسليمانية فأجمعوا في قول وافترقوا في قول, اجتمعوا في أن الإمامة في علي بن أبي طالب(عليه السلام) بالأفضلية وليست بالنص وافترقوا في تكفير عثمان فالسليمانية كفرته بسبب إحداثه لا بسبب الخلافة والصالحية لم تكفره. وفيما بعد تبلور خط رابع وهو دبلجة من هذه الخطوط جميعا، يقول بأن الخلافة بالنص الخفي ويجوز إمامة المفضول على الفاضل. وبهذا برروا للصحابة أعمالهم, نتيجة قولهم بالنص الخفي من أجل أن يسوغ لهم القول بتبرئة الصحابة، لأن النص إذا كان جليا وجب انحراف الصحابة، ومن هنا كان انطلاق الأئمة الزيدية منذ القرن السادس الهجري إلى يومنا هذا..
● تكرر في قولكم عبارة النص الخفي ما هي دلالتها من منظور الزيدية؟
الزيدية يعتبرون النص في أمير المؤمنين وفي الحسن والحسين(عليهم السلام) خفيا بمعنى أن النبي قصد إمامة أمير المؤمنين ضرورة وهناك طبعا مشاجرة حول مصطلح ضرورة.
تعليق