الكعبة (سر البناء والموقع)
الكعبة المشرّفة : سرُّ البناء والموقع
(قراءة في خطبة القاصعة)
عبد السلام زين العابدين
احتلّ حديث الإمام عليّ(عليه السلام) حول الكعبة المشرّفة في خطبة (القاصعة) مساحةً واسعةً ، ركّز فيها على سرّين أساسيين :
السرّ الأوّل : طبيعة البناء (أحجارٌ لا زمرّد ، ولا ياقوت) .
السرّ الثاني : طبيعة الموقع (جبالٌ خشنة ورمالٌ دمثة) .
لقد كشف الإمام(عليه السلام) أسرار كون بيت الله الحرام من أحجار «لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع» .
لماذا كانت الاُسس والبناء من حجارة ، وليس «من زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء»؟!
ولماذا كان الموقع الجغرافي «بأعور بقاع الأرض حجراً ، وأقلّ نتائق الأرض مدراً ، وأضيق بطون الأودية قطراً ، بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة»؟!
لماذا لم يضع الله ـ عزّوجلّ ـ بيته الحرام ومشاعره العظام «بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البنا ، متّصل القرى ، بين بُرّة سمراء ،
وروضة خضراء ، وأرياف محدقة وعراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة»1؟!
وبكلمة واحدة : لماذا كانت الكعبة أحجاراً بواد غير ذي زرع؟!
أسئلةٌ مهمّة يجيب عنها أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) في خطبة هي من أروع خطبه التي جمعها الشريف الرضي في نهج البلاغة تسمّى (القاصعة) .
المبحث الأوّل
خطبة القاصعة : الهيكلية ودلالات السياق
جاء في الحديث عن مكّة والكعبة في سياق خطبة القاصعة منسجماً مع محورها العام ، وموضوعها الأساس الذي ركّزت عليه من أوّلها إلى آخرها ، وفي جميع فقراتها .
وقد سمّيت الخطبة بـ (القاصعة) لأنّها تزيل الكبر عن قلب سامعها أو قارئها إذا أصغى قلبه إلى كلماتها ، كما يقصع الماء العطش ، من قَصَعَ بمعنى أزال ، أو لأنّها تحقر وتشجب المتكبِّرين والمترفين الذين ينازعون الله رداء عزّه وكبريائه ، قصع بمعنى حقر وصغّر ، وقيل غير ذلك .
يطرح العلاّمة ميثم البحراني وجوهاً أربعة قد ذكرها الشارحون لنهج البلاغة في معنى (القاصعة) جاء الوجه الثالث منها : «سمّيت بذلك لأنّها هاشمة كاسرة لإبليس ، ومصغّرة ومحقّرة لكلّ جبّار ، وهو وجه حسن» ، أمّا الوجه الرابع : «لأنّها تسكِّنُ نخوة المتكبّرين وكبرهم فأشبهت الماء الذي يسكِّنُ العطش ، فيكون من قولهم : قصَعَ الماء عطشه إذا سكّنه وأذهبه»2 .
وجاء في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي في معنى (القاصعة) «من قصع فلانٌ فلاناً : أي حقّره; لأنّه(عليه السلام) حقّر فيها حال المتكبّرين»3 .
تبدأ خطبة (القاصعة) بتقرير حقيقة إذا غفل عنها الإنسان أصابه الكبر; ألا وهي أنّ «العزّ والكبرياء» لله عزّ وجلّ فحسب ، لا يشاركهما فيه أحد :
«الحمدُ لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمىً وحَرَماً على غيره ، واصفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده» .
المستكبرون عبر التاريخ : نماذج ومصاديق
ثمّ تبدأ فقرات الخطبة باستعراض المصاديق الصارخة لأولئك الذين نازعوا الله رداء العزّة والكبرياء ، فعاشوا الاستكبار والاستعلاء ، منذ مرحلة التمهيد للخلافة (دور جنة آدم(عليه السلام)) وهي مرحلة ما قبل هبوط آدم ، إلى الأرض ، إلى (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين) الذين قاتلهم عليّ(عليه السلام) ، وجاهدهم ودوّخهم!
المصداق الأوّل : إبليس إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين; لذا فإنّ خطبة القاصعة تبدأ بمصداق الاستكبار الأوّل إبليس الذي هو أوّل من قال (أنا) ، فأسّس الأنيّة والأنانية : {أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ، لذلك أبى السجود بقوله : {أأسجدُ لمن خلقت طيناً} ، {أأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} :
«ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، لتميزَ المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ، ومحجوبات الغيوب :
{ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ} اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله . فعدّه الله إمام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل . ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ، ووضَعَه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدَّ له في الآخرة سعيراً؟!» .
ولم يكن إبليس شخصاً عادياً ، فله تأريخٌ عبادي طويل ، ترسمه خطبة (القاصعة) بأبلغ وصف :
«فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذْ أحبط عمله الطويل ، وجهدهُ الجهيد ، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمِنْ سِني الدُّنيا أم من سِني الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة» .
ثمّ يتساءل أمير المؤمنين(عليه السلام) محذِّراً :
«فمن ذا بعد إبليس يسلمُ على الله بمثلِ معصيته؟ كلاّ»
المصداق الثاني : قابيل
«ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة» .
المصداق الثالث : فرعون الطاغية
وفي سياق التحذير من طاعة السادات والكبراء والأدعياء «الذين تكبّروا على حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم» ، والاعتبار «بما أصاب الأمم المستكبرين . . . من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته»4 ، يذكر الإمام(عليه السلام)مصداقاً صارخاً للطاغية المستكبر الذي ما فتئ يدقُّ على طبل «أنا ربّكم الأعلى» و«ما علمت لكم من إله غيري» :
«ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العِصيّ فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ ، فهلاّ أُلقي عليهما أساوِرةٌ من ذهب»؟ إعظاماً للذهب وجمعه ، واحتقاراً للصوف ولبسه! . ولو أراد الله لأنبيائه حيث بعثهم أنْ يفتح لهم كنوز الذِّهبان5 ، ومعادن العِقيان6 ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ، ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء7 ، وبطل الجزاء8 ، واضمحلّت الأنباء9 ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين10 ، ولا لزمت الأسماء معانيها»11 .
«ولكنّ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأُ القلوب والعيون غنًى ، وخصاصة تملأُ الأبصار والأسماع أذًى» .
وفي هذا السياق; سياق الحديث عن الابتلاء في ساحة الصراع ، وميدان المواجهة بين المترفين والأنبياء ، وسرّ ما يعيشه الأنبياء(عليهم السلام) ، على مرّ التاريخ ، من استضعاف ومحنة ومعاناة وخصاصة ، لأسباب ومقاصد عديدة . . عرّج الإمام(عليه السلام)على مكّة المكرّمة والكعبة المشرّفة كمصداق من مصاديق الاختبار والابتلاء ، من خلال طبيعة المادّة والبناء أوّلا ، وطبيعة الموقع الجغرافي الصعب ثانياً .
المبحث الثاني
طبيعة البناء : حجارةٌ صمّاء لا ياقوتة خضراء
النصّ الأوّل : «ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً»!
النصّ الثاني : «ولو كان الأساس المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضَعَ مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتَلَجَ الرَّيب من الناس .
ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم ، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله ، وأسباباً ذُلُلا لعفوه» .
في هذين النصّين الرائعين يرسم أمير المؤمنين سرَّ طبيعة بناء الكعبة المتواضع المتكوّن من أحجار جامدة ، ينظرُ إليها الناظر فيراها لا تمتلك شعوراً ولا إحساساً . . فلا بصر ولا سمع ، ولا ضرّ ولا نفع . . ومع كلّ ذلك يسعى الحجيج للطواف حولها بكلِّ خشوع واستكانة وخضوع . بل نراهم (يتقاتلون) على استلام الحجر الأسود والسلام عليه ومعاهدته!! وهو لا يملك بريق الزمرّد ، وتلألأ الياقوت . .
وفي ذلك سرٌّ كبير يكشفه لنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته القاصعة . . لأنّ البناء لو كان من «زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من الناس» .
ما معنى ذلك؟ وكيف يحصل كلُّ ذلك؟
لقد أراد الله عزّوجلّ أنْ يكون القصد لبيته الحرام نابعاً من معاناة ووعي وإيمان ، خالصاً من الدوافع المادّية العاجلة . . ولو كان البيت من تلك الأحجار النفيسة (الزمرّد والياقوت) :
أوّلا : «لخفّف ذلك مصارعة12 الشكّ في الصدور» ، لأنّ نفاسة تلك الأحجار هي التي تدفعهم إلى التصديق والاعتقاد بأنَّ البيت بيته ، كما تدفعهم إلى الطواف حولها .
ثانياً : «ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب» ، لأنَّ قصد البيت وزيارته تكون من منطلق الانبهار بجواهره ، والتأثّر بدرره ونفاسة أحجاره ، والتمتّع برؤية زينته ومنظره ، وليس من منطلق مجاهدة إبليس الداعي إلى التخلّف عن حجّه وإيثار الدعة والسلامة على قصده .
ثالثاً : «ولنفى معتلج الرَّيب من الناس» ، أي لزال تلاطم واضطراب الريب والشكّ من صدور الناس .
إشكاليّة ابن أبي العوجاء :
لو لم يكن البيت من أحجار عادّية لما تحقّق الابتلاء الإلهي والاختبار الربّاني للإنسانية على طول مسيرتها التاريخية : «من الأوّلين من لدن آدم(عليه السلام) إلى الآخرين من هذا العالم» ، حيث تنجلي قصّة العبودية لله عزّوجلّ ، والطاعة لأوامره فيما شرعه من مناسك الحجّ من طواف وسعي ورجم قد ينظر إليها من لم يدرك أسرارها ومقاصدها أنّها حركات غير عقلائية لا يمارسها إلاّ الذين اختلّت عقولهم . . فما قيمة الطواف حول بيت من حجارة صمّاء ، والسعي بين جبلين صلدين ، والرجم لأحجار كبيرة بأحجار صغيرة ، واستلام حجر أسود كالفحم ، وما إلى ذلك من المناسك والممارسات؟
وهذا النمط من التفكير كان يراود بعضهم في زمن الأئمّة(عليهم السلام) من أمثال ابن أبي العوجاء ، فخاطب الإمام الصادق(عليه السلام) قائلا :
الكعبة المشرّفة : سرُّ البناء والموقع
(قراءة في خطبة القاصعة)
عبد السلام زين العابدين
احتلّ حديث الإمام عليّ(عليه السلام) حول الكعبة المشرّفة في خطبة (القاصعة) مساحةً واسعةً ، ركّز فيها على سرّين أساسيين :
السرّ الأوّل : طبيعة البناء (أحجارٌ لا زمرّد ، ولا ياقوت) .
السرّ الثاني : طبيعة الموقع (جبالٌ خشنة ورمالٌ دمثة) .
لقد كشف الإمام(عليه السلام) أسرار كون بيت الله الحرام من أحجار «لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع» .
لماذا كانت الاُسس والبناء من حجارة ، وليس «من زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء»؟!
ولماذا كان الموقع الجغرافي «بأعور بقاع الأرض حجراً ، وأقلّ نتائق الأرض مدراً ، وأضيق بطون الأودية قطراً ، بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة»؟!
لماذا لم يضع الله ـ عزّوجلّ ـ بيته الحرام ومشاعره العظام «بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البنا ، متّصل القرى ، بين بُرّة سمراء ،
وروضة خضراء ، وأرياف محدقة وعراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة»1؟!
وبكلمة واحدة : لماذا كانت الكعبة أحجاراً بواد غير ذي زرع؟!
أسئلةٌ مهمّة يجيب عنها أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) في خطبة هي من أروع خطبه التي جمعها الشريف الرضي في نهج البلاغة تسمّى (القاصعة) .
المبحث الأوّل
خطبة القاصعة : الهيكلية ودلالات السياق
جاء في الحديث عن مكّة والكعبة في سياق خطبة القاصعة منسجماً مع محورها العام ، وموضوعها الأساس الذي ركّزت عليه من أوّلها إلى آخرها ، وفي جميع فقراتها .
وقد سمّيت الخطبة بـ (القاصعة) لأنّها تزيل الكبر عن قلب سامعها أو قارئها إذا أصغى قلبه إلى كلماتها ، كما يقصع الماء العطش ، من قَصَعَ بمعنى أزال ، أو لأنّها تحقر وتشجب المتكبِّرين والمترفين الذين ينازعون الله رداء عزّه وكبريائه ، قصع بمعنى حقر وصغّر ، وقيل غير ذلك .
يطرح العلاّمة ميثم البحراني وجوهاً أربعة قد ذكرها الشارحون لنهج البلاغة في معنى (القاصعة) جاء الوجه الثالث منها : «سمّيت بذلك لأنّها هاشمة كاسرة لإبليس ، ومصغّرة ومحقّرة لكلّ جبّار ، وهو وجه حسن» ، أمّا الوجه الرابع : «لأنّها تسكِّنُ نخوة المتكبّرين وكبرهم فأشبهت الماء الذي يسكِّنُ العطش ، فيكون من قولهم : قصَعَ الماء عطشه إذا سكّنه وأذهبه»2 .
وجاء في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي في معنى (القاصعة) «من قصع فلانٌ فلاناً : أي حقّره; لأنّه(عليه السلام) حقّر فيها حال المتكبّرين»3 .
تبدأ خطبة (القاصعة) بتقرير حقيقة إذا غفل عنها الإنسان أصابه الكبر; ألا وهي أنّ «العزّ والكبرياء» لله عزّ وجلّ فحسب ، لا يشاركهما فيه أحد :
«الحمدُ لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمىً وحَرَماً على غيره ، واصفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده» .
المستكبرون عبر التاريخ : نماذج ومصاديق
ثمّ تبدأ فقرات الخطبة باستعراض المصاديق الصارخة لأولئك الذين نازعوا الله رداء العزّة والكبرياء ، فعاشوا الاستكبار والاستعلاء ، منذ مرحلة التمهيد للخلافة (دور جنة آدم(عليه السلام)) وهي مرحلة ما قبل هبوط آدم ، إلى الأرض ، إلى (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين) الذين قاتلهم عليّ(عليه السلام) ، وجاهدهم ودوّخهم!
المصداق الأوّل : إبليس إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين; لذا فإنّ خطبة القاصعة تبدأ بمصداق الاستكبار الأوّل إبليس الذي هو أوّل من قال (أنا) ، فأسّس الأنيّة والأنانية : {أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ، لذلك أبى السجود بقوله : {أأسجدُ لمن خلقت طيناً} ، {أأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} :
«ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، لتميزَ المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ، ومحجوبات الغيوب :
{ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ} اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله . فعدّه الله إمام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل . ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ، ووضَعَه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدَّ له في الآخرة سعيراً؟!» .
ولم يكن إبليس شخصاً عادياً ، فله تأريخٌ عبادي طويل ، ترسمه خطبة (القاصعة) بأبلغ وصف :
«فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذْ أحبط عمله الطويل ، وجهدهُ الجهيد ، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمِنْ سِني الدُّنيا أم من سِني الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة» .
ثمّ يتساءل أمير المؤمنين(عليه السلام) محذِّراً :
«فمن ذا بعد إبليس يسلمُ على الله بمثلِ معصيته؟ كلاّ»
المصداق الثاني : قابيل
«ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة» .
المصداق الثالث : فرعون الطاغية
وفي سياق التحذير من طاعة السادات والكبراء والأدعياء «الذين تكبّروا على حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم» ، والاعتبار «بما أصاب الأمم المستكبرين . . . من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته»4 ، يذكر الإمام(عليه السلام)مصداقاً صارخاً للطاغية المستكبر الذي ما فتئ يدقُّ على طبل «أنا ربّكم الأعلى» و«ما علمت لكم من إله غيري» :
«ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العِصيّ فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ ، فهلاّ أُلقي عليهما أساوِرةٌ من ذهب»؟ إعظاماً للذهب وجمعه ، واحتقاراً للصوف ولبسه! . ولو أراد الله لأنبيائه حيث بعثهم أنْ يفتح لهم كنوز الذِّهبان5 ، ومعادن العِقيان6 ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ، ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء7 ، وبطل الجزاء8 ، واضمحلّت الأنباء9 ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين10 ، ولا لزمت الأسماء معانيها»11 .
«ولكنّ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأُ القلوب والعيون غنًى ، وخصاصة تملأُ الأبصار والأسماع أذًى» .
وفي هذا السياق; سياق الحديث عن الابتلاء في ساحة الصراع ، وميدان المواجهة بين المترفين والأنبياء ، وسرّ ما يعيشه الأنبياء(عليهم السلام) ، على مرّ التاريخ ، من استضعاف ومحنة ومعاناة وخصاصة ، لأسباب ومقاصد عديدة . . عرّج الإمام(عليه السلام)على مكّة المكرّمة والكعبة المشرّفة كمصداق من مصاديق الاختبار والابتلاء ، من خلال طبيعة المادّة والبناء أوّلا ، وطبيعة الموقع الجغرافي الصعب ثانياً .
المبحث الثاني
طبيعة البناء : حجارةٌ صمّاء لا ياقوتة خضراء
النصّ الأوّل : «ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً»!
النصّ الثاني : «ولو كان الأساس المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضَعَ مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتَلَجَ الرَّيب من الناس .
ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم ، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله ، وأسباباً ذُلُلا لعفوه» .
في هذين النصّين الرائعين يرسم أمير المؤمنين سرَّ طبيعة بناء الكعبة المتواضع المتكوّن من أحجار جامدة ، ينظرُ إليها الناظر فيراها لا تمتلك شعوراً ولا إحساساً . . فلا بصر ولا سمع ، ولا ضرّ ولا نفع . . ومع كلّ ذلك يسعى الحجيج للطواف حولها بكلِّ خشوع واستكانة وخضوع . بل نراهم (يتقاتلون) على استلام الحجر الأسود والسلام عليه ومعاهدته!! وهو لا يملك بريق الزمرّد ، وتلألأ الياقوت . .
وفي ذلك سرٌّ كبير يكشفه لنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته القاصعة . . لأنّ البناء لو كان من «زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من الناس» .
ما معنى ذلك؟ وكيف يحصل كلُّ ذلك؟
لقد أراد الله عزّوجلّ أنْ يكون القصد لبيته الحرام نابعاً من معاناة ووعي وإيمان ، خالصاً من الدوافع المادّية العاجلة . . ولو كان البيت من تلك الأحجار النفيسة (الزمرّد والياقوت) :
أوّلا : «لخفّف ذلك مصارعة12 الشكّ في الصدور» ، لأنّ نفاسة تلك الأحجار هي التي تدفعهم إلى التصديق والاعتقاد بأنَّ البيت بيته ، كما تدفعهم إلى الطواف حولها .
ثانياً : «ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب» ، لأنَّ قصد البيت وزيارته تكون من منطلق الانبهار بجواهره ، والتأثّر بدرره ونفاسة أحجاره ، والتمتّع برؤية زينته ومنظره ، وليس من منطلق مجاهدة إبليس الداعي إلى التخلّف عن حجّه وإيثار الدعة والسلامة على قصده .
ثالثاً : «ولنفى معتلج الرَّيب من الناس» ، أي لزال تلاطم واضطراب الريب والشكّ من صدور الناس .
إشكاليّة ابن أبي العوجاء :
لو لم يكن البيت من أحجار عادّية لما تحقّق الابتلاء الإلهي والاختبار الربّاني للإنسانية على طول مسيرتها التاريخية : «من الأوّلين من لدن آدم(عليه السلام) إلى الآخرين من هذا العالم» ، حيث تنجلي قصّة العبودية لله عزّوجلّ ، والطاعة لأوامره فيما شرعه من مناسك الحجّ من طواف وسعي ورجم قد ينظر إليها من لم يدرك أسرارها ومقاصدها أنّها حركات غير عقلائية لا يمارسها إلاّ الذين اختلّت عقولهم . . فما قيمة الطواف حول بيت من حجارة صمّاء ، والسعي بين جبلين صلدين ، والرجم لأحجار كبيرة بأحجار صغيرة ، واستلام حجر أسود كالفحم ، وما إلى ذلك من المناسك والممارسات؟
وهذا النمط من التفكير كان يراود بعضهم في زمن الأئمّة(عليهم السلام) من أمثال ابن أبي العوجاء ، فخاطب الإمام الصادق(عليه السلام) قائلا :
تعليق