لـــو تــصمت إيـــران قــليلاً في العــراق! ..... د.نهــلة الشهال

دعوة طهران للصمت (طالما تعجز عن تغيير كلامها...ومسلكها!) لا تنبع من الطرب للكلام الأمريكي, الذي يبدو مكشوف البلاهة علاوة على العجز, عما يمثله التصويت في مجلس النواب الملتئم أخيراً ك¯"تقدم مضطرد للديمقراطية". فهذا الاتفاق السياسي هو تقاسم طائفي فج وبدائي, توصل إليه وكرسه اجتماع أربيل بين القوى العراقية قبل الجلسة النيابية بأربع وعشرين ساعة, وبحضور السفير الأمريكي شخصياً, الذي يتباهى أنتوني بلينكين, مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن, بانه وحده من كان هناك, و"ليس أي مسؤول إيراني"! ما يفترض أنه علامة على تفوق واشنطن على طهران, الله أعلم في ماذا. ولا تقل بلاهة مداخلات تابعي واشنطن - بدءاً من الأمين العام للأمم المتحدة, ثم السيدة آشتون في الاتحاد الأوروبي, وصولاً إلى المسؤولين الفرنسيين. فهؤلاء جميعهم لم يعد لديهم خيار سوى هذا الادعاء, بينما هم يقومون بتصريف الأعمال في بلادهم ومؤسساتهم نفسها, بل وحتى على صعيد إدارة العالم, بدليل تفاهة ما توصلت إليه قمة العشرين في سيول. فنحن أمام مرحلة انتقال تاريخية, تفقد فيها القيادة المكرسة لليبرالية الجديدة أدواتها, فتكتفي برأب الصدوع بانتظار معجزات لا يوجد ما يدل على أنها آتية, وبانتظار اكتمال انتقال العالم إلى نمط آخر من توزيع الثروة والسلطة, نتخيل القليل عن ملامحه, وهو قد لا يقل بشاعة من القائم, ولكنه جارٍ على كل حال.
دعوة طهران للصمت قليلاً في العراق تستمد إلحاحها من الخطورة الخاصة لما يتفوه به المسؤولون الإيرانيون كلما فتحوا أفواههم للتعليق على شأن عراقي, ولمبلغ الأذى الذي يتسبب به هذا الكلام للعراق المنكوب, كما لسائر المنطقة, حيث لم تعد ثمة حاجة للبرهان على التأثير الحاسم للتطورات الجارية في أرض الرافدين على كيفية تشكيل الاستقطاب في محيطه الإقليمي بمجمله, الذي يتخذ شكل توتر شيعي/ سني مسموم, فيتحكم بالسياسة على مستوى محددات التوازن العام للمنطقة, بل وحتى في داخل بلدان ليس فيها شيعة, كمصر والمغرب, أو فلسطين نفسها.
فقد أعلن السفير الإيراني لدى العراق, السيد حسن دانائي, لوكالة "مهر" الايرانية, دعم إيران "للتطورات السياسية في العراق", موضحا أن "التيارات الشيعية نسقت في ما بينها لاختيار مرشح لرئاسة الحكومة", مشيرا إلى أن "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي اصدر بيانا قبل انعقاد الجلسة البرلمانية أعلن فيها تأييده لتولي المالكي رئاسة الوزراء"...وكل هذا, رغم أنه ينضح بالطائفية, يبقى مقبولاً في إطار الكلام العمومي والدبلوماسي, إلى أن نصل إلى بيت القصيد, إذ اعتبر السفير أن "المالكي سيتمكن بسهولة من تشكيل الحكومة الجديدة في ضوء تأييد التحالفين الشيعي والكردستاني, ما يضمن له نحو 200 صوت في البرلمان"! من علَّم الرجل أن واحد زائد واحد يساوي اثناين في السياسة, كما في الصف الأول الابتدائي, وليس شيئاً آخر? وكيف يخطر بباله أنه يمكن الاستغناء عن ممثلي السنة العرب, طالما أن الأمر تحول فعلاً إلى تطبيق النظرية الأمريكية عن " ديمقراطية المكونات", بدلالة استخدامه هو نفسه شخصياً لها, ولكن وفق حسبة خاطئة. فإذا كان الأمر في العراق تقاسم السلطة بين المكونات الشيعية والكردية, فمن غير الممكن استبعاد المكون الثالث الكبير, ناهيك عن تحفيز المطالبات الأقلية بتمثيل ما.
لقد أدى التأسيس لهذا النظام في العراق إلى تعميق الكارثة التي لم تنته فصولها بعد. ويمكن هنا اعتبار مسؤولية النظام الديكتاتوري السابق, الذي سحق تعبيرات المجتمع عن نفسه, مطارداً أدق تفاصيلها, كما سنوات الحروب الطاحنة والمتكررة. ويمكن التبرير بأن العراق عند احتلاله كان عارياً من أي نخبة, وأن مَنْ جاء على ظهر الدبابات الأمريكية (وبتواطؤ إيراني بل وإقليمي كان لا يرى سوى التخلص من صدام حسين), قد كان بالضرورة سمساراً يحتسب الربح والخسارة وليس وطنياً يحلم لبلده بآفاق. وهم لذلك فاسدون حتى النخاع العظمي وبلا أدنى خجل. وقد أمكن فرض هذا النظام على العراق- أو اللجوء إليه كأمر واقع لغياب البدائل - لأنه ملائم لاستمرار تعطيل الإرادة الوطنية خدمة للاحتلال الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة من دون ذلك التعطيل. ولكن حل المحاصصة الطائفية والعرقية, الذي يقال له "لبننة", يتجاهل المرتكزات التي أنتجت نظام الطائفية السياسية المكرس في الميثاق الوطني اللبناني, والتي أسندته لسنوات طوال. وعلى كل حال, وعلاوة على "معقولية" هذا النظام في بلد متناهي الصغر ومحروم من الموارد الطبيعية, (مما يجعل اقتصاده يقوم على علاقات تقاسم الأدوار في التوسط المالي والتجاري بين أرجاء العالم وفي الخدمات للآخرين), فهو اثبت أنه موضوع تأزم مستمر, بما فيه ذاك العنفي, لكونه رجراجاً يقوم على توازن داخلي يجب تعريفه بصورة دائمة, وبطريقة, هي بالضرورة أو غالباً, تنافسية بل وصراعية. ثم هو رهين توازنات المحيط والعالم (فيا للهول!). وإذا كان هذا النظام لا "يمشي" في لبنان, فكيف له النجاح في بلد عظيم كالعراق?!
أما الكلام الإيراني فأفدح! فهو يدعو صراحة إلى تكريس الإخلال بهذا النظام البائس نفسه, عبر الاستئثار بالسلطة كلما أمكن غنمها! وهذا يفتح الباب عريضاً أمام حرب أهلية مستمرة توقع يومياً عشرات الضحايا, وتحيل العراق أرضا خراباً, وتتسبب بانتقال ميسر للعدوى إلى كل المنطقة.
استخدمت إيران العراق منذ احتلاله من قبل الأمريكان كوسادة ملاكمة فيما بينهما. وساهمت بتأجيج خرابه عبر تحويله إلى مجرد ورقة مساومة في صراعهما. وهذا دور يضيق به العراق فتراه يتفجر باستمرار, يأكل أبنائه ويطلق شرره يحرق مساحات قد تتزايد اتساعاً. وإذا كان الأمريكان لا خيار آخر لهم, ثم أنه لا يعنيهم الأمر أكثر من ذلك, وهم في نهاية المطاف بعيدون ولديهم ملفات أخرى رغم الأهمية الكبيرة للعراق, فالإيرانيون جيران, وليس موقعهم الجغرافي والتاريخي مرشح للتغيير, ويمكنهم بقليل من الخيال السياسي ومن سعة الأفق وحسن النوايا ولوج مسالك أخرى. فإلى متى هذا العبث القاتل?
باحثة في علم الاجتماع السياسي
العرب اليوم
منقول

دعوة طهران للصمت (طالما تعجز عن تغيير كلامها...ومسلكها!) لا تنبع من الطرب للكلام الأمريكي, الذي يبدو مكشوف البلاهة علاوة على العجز, عما يمثله التصويت في مجلس النواب الملتئم أخيراً ك¯"تقدم مضطرد للديمقراطية". فهذا الاتفاق السياسي هو تقاسم طائفي فج وبدائي, توصل إليه وكرسه اجتماع أربيل بين القوى العراقية قبل الجلسة النيابية بأربع وعشرين ساعة, وبحضور السفير الأمريكي شخصياً, الذي يتباهى أنتوني بلينكين, مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن, بانه وحده من كان هناك, و"ليس أي مسؤول إيراني"! ما يفترض أنه علامة على تفوق واشنطن على طهران, الله أعلم في ماذا. ولا تقل بلاهة مداخلات تابعي واشنطن - بدءاً من الأمين العام للأمم المتحدة, ثم السيدة آشتون في الاتحاد الأوروبي, وصولاً إلى المسؤولين الفرنسيين. فهؤلاء جميعهم لم يعد لديهم خيار سوى هذا الادعاء, بينما هم يقومون بتصريف الأعمال في بلادهم ومؤسساتهم نفسها, بل وحتى على صعيد إدارة العالم, بدليل تفاهة ما توصلت إليه قمة العشرين في سيول. فنحن أمام مرحلة انتقال تاريخية, تفقد فيها القيادة المكرسة لليبرالية الجديدة أدواتها, فتكتفي برأب الصدوع بانتظار معجزات لا يوجد ما يدل على أنها آتية, وبانتظار اكتمال انتقال العالم إلى نمط آخر من توزيع الثروة والسلطة, نتخيل القليل عن ملامحه, وهو قد لا يقل بشاعة من القائم, ولكنه جارٍ على كل حال.
دعوة طهران للصمت قليلاً في العراق تستمد إلحاحها من الخطورة الخاصة لما يتفوه به المسؤولون الإيرانيون كلما فتحوا أفواههم للتعليق على شأن عراقي, ولمبلغ الأذى الذي يتسبب به هذا الكلام للعراق المنكوب, كما لسائر المنطقة, حيث لم تعد ثمة حاجة للبرهان على التأثير الحاسم للتطورات الجارية في أرض الرافدين على كيفية تشكيل الاستقطاب في محيطه الإقليمي بمجمله, الذي يتخذ شكل توتر شيعي/ سني مسموم, فيتحكم بالسياسة على مستوى محددات التوازن العام للمنطقة, بل وحتى في داخل بلدان ليس فيها شيعة, كمصر والمغرب, أو فلسطين نفسها.
فقد أعلن السفير الإيراني لدى العراق, السيد حسن دانائي, لوكالة "مهر" الايرانية, دعم إيران "للتطورات السياسية في العراق", موضحا أن "التيارات الشيعية نسقت في ما بينها لاختيار مرشح لرئاسة الحكومة", مشيرا إلى أن "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي اصدر بيانا قبل انعقاد الجلسة البرلمانية أعلن فيها تأييده لتولي المالكي رئاسة الوزراء"...وكل هذا, رغم أنه ينضح بالطائفية, يبقى مقبولاً في إطار الكلام العمومي والدبلوماسي, إلى أن نصل إلى بيت القصيد, إذ اعتبر السفير أن "المالكي سيتمكن بسهولة من تشكيل الحكومة الجديدة في ضوء تأييد التحالفين الشيعي والكردستاني, ما يضمن له نحو 200 صوت في البرلمان"! من علَّم الرجل أن واحد زائد واحد يساوي اثناين في السياسة, كما في الصف الأول الابتدائي, وليس شيئاً آخر? وكيف يخطر بباله أنه يمكن الاستغناء عن ممثلي السنة العرب, طالما أن الأمر تحول فعلاً إلى تطبيق النظرية الأمريكية عن " ديمقراطية المكونات", بدلالة استخدامه هو نفسه شخصياً لها, ولكن وفق حسبة خاطئة. فإذا كان الأمر في العراق تقاسم السلطة بين المكونات الشيعية والكردية, فمن غير الممكن استبعاد المكون الثالث الكبير, ناهيك عن تحفيز المطالبات الأقلية بتمثيل ما.
لقد أدى التأسيس لهذا النظام في العراق إلى تعميق الكارثة التي لم تنته فصولها بعد. ويمكن هنا اعتبار مسؤولية النظام الديكتاتوري السابق, الذي سحق تعبيرات المجتمع عن نفسه, مطارداً أدق تفاصيلها, كما سنوات الحروب الطاحنة والمتكررة. ويمكن التبرير بأن العراق عند احتلاله كان عارياً من أي نخبة, وأن مَنْ جاء على ظهر الدبابات الأمريكية (وبتواطؤ إيراني بل وإقليمي كان لا يرى سوى التخلص من صدام حسين), قد كان بالضرورة سمساراً يحتسب الربح والخسارة وليس وطنياً يحلم لبلده بآفاق. وهم لذلك فاسدون حتى النخاع العظمي وبلا أدنى خجل. وقد أمكن فرض هذا النظام على العراق- أو اللجوء إليه كأمر واقع لغياب البدائل - لأنه ملائم لاستمرار تعطيل الإرادة الوطنية خدمة للاحتلال الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة من دون ذلك التعطيل. ولكن حل المحاصصة الطائفية والعرقية, الذي يقال له "لبننة", يتجاهل المرتكزات التي أنتجت نظام الطائفية السياسية المكرس في الميثاق الوطني اللبناني, والتي أسندته لسنوات طوال. وعلى كل حال, وعلاوة على "معقولية" هذا النظام في بلد متناهي الصغر ومحروم من الموارد الطبيعية, (مما يجعل اقتصاده يقوم على علاقات تقاسم الأدوار في التوسط المالي والتجاري بين أرجاء العالم وفي الخدمات للآخرين), فهو اثبت أنه موضوع تأزم مستمر, بما فيه ذاك العنفي, لكونه رجراجاً يقوم على توازن داخلي يجب تعريفه بصورة دائمة, وبطريقة, هي بالضرورة أو غالباً, تنافسية بل وصراعية. ثم هو رهين توازنات المحيط والعالم (فيا للهول!). وإذا كان هذا النظام لا "يمشي" في لبنان, فكيف له النجاح في بلد عظيم كالعراق?!
أما الكلام الإيراني فأفدح! فهو يدعو صراحة إلى تكريس الإخلال بهذا النظام البائس نفسه, عبر الاستئثار بالسلطة كلما أمكن غنمها! وهذا يفتح الباب عريضاً أمام حرب أهلية مستمرة توقع يومياً عشرات الضحايا, وتحيل العراق أرضا خراباً, وتتسبب بانتقال ميسر للعدوى إلى كل المنطقة.
استخدمت إيران العراق منذ احتلاله من قبل الأمريكان كوسادة ملاكمة فيما بينهما. وساهمت بتأجيج خرابه عبر تحويله إلى مجرد ورقة مساومة في صراعهما. وهذا دور يضيق به العراق فتراه يتفجر باستمرار, يأكل أبنائه ويطلق شرره يحرق مساحات قد تتزايد اتساعاً. وإذا كان الأمريكان لا خيار آخر لهم, ثم أنه لا يعنيهم الأمر أكثر من ذلك, وهم في نهاية المطاف بعيدون ولديهم ملفات أخرى رغم الأهمية الكبيرة للعراق, فالإيرانيون جيران, وليس موقعهم الجغرافي والتاريخي مرشح للتغيير, ويمكنهم بقليل من الخيال السياسي ومن سعة الأفق وحسن النوايا ولوج مسالك أخرى. فإلى متى هذا العبث القاتل?
باحثة في علم الاجتماع السياسي
العرب اليوم
منقول

تعليق