المسيح بعد الصلب
فاطمة فائزي*
" لم تكن قصيدة «المسيح بعد الصلب»أوّل عمل يلجأ فيه الشاعر العراقي الكبير والمعروف بدر شاكر السيّاب إلى شخصية يسوع المسيح ليستمدّ منها أو يحملها معاني ودلالات تتّصل بالتجربة الذاتية التي سعي إلى التعبير عنها في شعره، وليتوسّلها مثلها مثل مجموعة من المراجع التاريخية والأسطورية والثقافية صيغة من صيغ التعبير الرمزي المطروق لما يتوخّى أن يبلغه في العمل الشعري من كثافة دلالية و رُقيّ جمالي ".[1] "و منذ عام 1953 حتّى عام 1957 تاريخ ظهور هذه القصيدة ينشر السيّاب مجموعة من القصائد ممهورة بهذا الطابع «المسيحي» على تفاوت بينهما من حيث الدور الرمزي الذي يشغله و المدى التعبيري الذي يغطّيه في إطار النص لكلّ منها، و لعلها جميعها تشترك، على إختلاف المواقع و تباين الفعاليّة و الأثر، في الإحالة على أبعاد جزئية و محدودة من المرجع الرمزي المعتمد تتراوح هذه الأبعاد بين معاناة العذاب الذي يستدعي الصلبأ و الصليب عادة".[2]
في «المسيح بعد الصلب» يغادر السيّاب وضعية الإحالة الجزئية على الرمز ـ المسيح ليعتمد هذا الأخير رمزاً كليّاً و عاماً تشاد القصيدة بأكملها على أساسه. يشكلّ هذا التحوّل إنعطافاً مهماً في عمل السيّاب الشعري يمكّن اعتباره في المعطيات الخاصة بالمرحلة التي جاء فيها تطويراً للتعبير الرمزي الذي كان يلجأ إليه، و إرتقاء به إلى مستوى أشدّ إكتمالاً و أكثر غنى. لم يعد هذا التعبير يقتصر على الإشارة العابرة إلى المرجع المقصود، يكاد دورها يضاهي ما تؤديه الصورة البلاغية المفردة و إن تميّزت عنها، ليصبح إطاراً شاملا بل هيكلاً نبائياً عامّاً يحدد التكوين الأساسي للقصيدة و يحكم نسج أنحائها و التفاصيل و قد جاء هذا التحول ليبّي تطلّعات الشاعر إلى مراثيه المتأثرة بالنتاج الشعري الغربي و قيمه و معاييره السائدة أيّامه، و بخاصة منها ما يتيحه التعبير الرمزي العام من وحدة القصيدة و تماسك بيتها و إلتئام أجزائها ـ إلى حدّ القول بوحدتها العضوية التي كانت من المقولات التي شغّلت الشعراء والباحثين المحدثين آنذاك ـ و ما يبثّه في الرؤية العامّة المنبثقة عنها من زخم دلالي و توهّم خيالي يمضيان بها إلى التيسير و الإثراء في الآن نفسه، من خلال تعددية دلالية تنهض على المعروف و المألوف و على الجديد و المبتدع معاً.[3]
و يعتقد حول هذه القصيدة الباحث الدكتور احسان عباس؛ " فإنّها شديدة الإضطراب، تتعاقب فيها صور مستمرة من قصة المسيح على غير إنتظام، والشاعر يتّخذ المسيح رمزاً للتعبير عن حالته النفسية، و لذلك فهو المصلوب الذي إستطاع أن يقوم من بين الموتى و ينعش الحياة في جيكور"[4]. " إنّ الرّؤية التي تحكم التعبير عن تجربة المسيح (ع) في هذه القصيدة تبدو أقرب إلى الرؤية الإنجيلية منها إلى أي مرجعية دينية أخري، و لكنها مع ذلك ليست إنجيلية تماماً ، نظراً إلى ما يقحم فيها من عناصر و وقائع لم تذكر في الأناجيل الأربعة، بل إنّ بعضها يتناقض مع ما ورد صريحاً في هذه الأخيرة. لذلك لا تبدو محاسبة الباحث الشاعر بناءً على معايير مسيحية أو ملائمة، كما يظهر ذلك في تعليقه على بعض أبيات من القصيدة "[5].
و هذه القصائد التي ينفي أن يكون ما يذكر فيها، من تجسّد الإله في الطبيعة و إقامة الشاعر في الشمس، والأرض والماء، من طبائع المسيح، معتبراً أنّ السيّاب «تلقّف الرموز المسيحية من الخارج» و فاتته روحانيتها، و إنّه يأخذ المسيحية بمأخذ الوثنية على تناقضهما موحّداً بين المسيح و أدونيس عبر الفداء و تموز عبر الفداء، و إنه أدني إلى الوثنية المادية منه إلى المسيحية الروحيّة "[6]. " و بحقّ أنّ قصيدة «المسيح بعد الصلب» من أجمل القصائد الحديثة التي إستطاع فيها الشاعر أن يردم الهوّة بين الذاتي و الموضوعي من جهة ، و من جهة أخرى أن يجعل الأسطورة تتفتّح من الواقع و كيان التجربة الإنسانية، لا من الكتب الدينية و التاريخية".[7] فالشّاعر في هذه القصيدة يبرز أهم دلالاته و يحدد أبرز أوجه جمالياته و الإيماء إلى أقوى إيماءاته والذاتيّة ما يبرّره.[8]
والسيّاب في قصيدة «المسيح بعد الصلب» يستغلّ شخصية المسيح (ع) في التعبير عن تجربة خاصة به، و " تجربة القصيدة في مضمونها العارم تصوّر تضحية الشاعر في سبيل أمّته، وإستشهاده في سبيل بعثها، مستغلاً في ذلك فكر صلب المسيح و فدائه للعالم، أو حياةً العالم من خلال موته. و فكرة البعث من خلال الموت إفتتن بها السيّاب و أصبحت تمثّل عنصراً هاماً من عناصر الرؤية الشعرية "[9]. و السيّاب في هذه القصيدة يستعير ثلاثة من ملامح المسيح في الموروث المسيحي ، هي الصلب والفداء والحياة من خلال الموت، ليصوّر من خلالها مدى معاناته و العذاب الذي تحمله في سبيل بعث أمّته، و كيف أثمرت هذه التضحية فإنبعثت أمته مناضلة تسلك الطريق الذي سلكه، طريق النضال والتضحيات و الفداء، و قد إتّحدت شخصية الشاعر بشخصية المسيح إتحاداً تاماً. ففي الوقت الذي يستعير لنفسه بعض الملامح تجربة المسيح، يضفي أيضاً على المسيح بعض ملامح تجربته الخاصة، حيث توحّدت الشخصيتان في شخصية واحدة، و تتكون ملامح هذه الشخصيّة الموحّدة من ملامح الشخصيتين مجتمعةً [10].
والقصيدة تبدأ بعد الصلب ، و بعد أن أنزلوا المسيح عن صليبه، و لكنّه مازال يعي و يحسُّ، و هو يعي بشكلّ خاص حزن مدينته و بكاءها عليه، و يمنحه هذا الحزن إحساساً بالعزاء، فإحساس أمّته به وبتضحيته بداية بعثها الذي ضحّي من أجله و إذن فهو لم يمت. فهو يرى نفسه مسيحاً صلب و سمّر و لكنّه لم يمت: بعد ما أنزلوني ، سمعت الرّياح في نواح طويل تسفّ النخيل والخطى و هي تنأى. إذن فالجراح و الصليب الذي سمّروني عليه طوال الأصيل لم تُمتني ، وأنصتُّ : كان العويل يعبر السهل بيني و بين المدينة مثل حبل يشدّ السفينة و هي تهوي إلى القاع. كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح و الدُجى، في سماء الشّتاء الحزينة. ثُمّ تغفو على ما تحسُّ المدينة[11] " إن السيّاب الذي يرى في نفسه مسيحاً لأمته يحسُّ أنّه إستطاع أن يُحيي جيكور بموته. جيكور قرية واقعة بالقرب من أبي الخصيب في جنوب العراق و قد وُلد السيّاب فيها لأنّها إمتداد منه كما أنّه إمتداد لجيله. قد صور السيّاب في هذه القصيدة أنّه بعد أن صلب استطاع أن يقوم من بين الموتى و يعيش الحياة من جيكور. و هكذا قد جعل جيكور «يوتوبيا السيّابية» عندما يلمس الدفء قلبه يجري دمه في ثراها لأن قلبه هو الشمس التي تنبض بالنور و هي الأرض التي تنبض بالقمح و الهر و الماء النمير و هو في ذات الوقت، نفس الخبز و الشراب الذي سوف يحلّ السيّاب في كلّ من يأكل و يشرب منه ".[12]
في المقطع الأول من القصيدة تتبدى قصيدة «المسيح بعد الصلب» تعبيراً عن المعاناة القديمة التي تعرفها الطبيعة البشرية في جبهها قوى الموت و الدمار الغاشمة و تأكيدها للوجود الإنساني الحي و المتجدّد انها نوع من الإدانة الصارخة للموت في أقصى يمثّله من إيذاء و بطش و إمحال، تزرى به و تتخطاه بقدر ما هي نوع من الإحتفاء العميق بالحياة في اشد ظواهرها تأجّحا و تفجّراً و فعالية. في ترسمها لمسيرة المسيح (ع) بعد الصلب في بذله و عطائه كما في الأمة و عذاباته. منذ إنزاله عن الصليب في المقطع الأول من القصيدة حتّى تسميره عليه في المقطع الثامن.[13] " فأبعاد قصيدة «المسيح بعد الصلب» تتجاوز الفردية و كذلك تتضمن العناصر الحسية و نسبية «تسمير المسيح على الصليب طوال الأصيل ثم إنزاله عنه و سماع النواح و العويل ... » و حزن السماء و غفوة المدينة، و آلام الحزينة ... لقاء المسيح بيهوذا. والعلاقة الخاصة بينهما...» نحو أبعاد عامّة و إنسانية تدخل في دائرة التجريد و الإطلاق الفداء الألوهيّة و البعث و القيامة ... كمقومات لدين المسيحية العالمي ".[14]
أما هذا المقطع الذي يقول فيه السيّاب : حينما يزهر التوت و البرتقال حين تمتد جيكور حتّى حدود الخيال حين تخضر عشبا يغنّي شذاها. والشموس التي أرضعتها سناها حين يخفر حتّى دجاها يلمس الدفء قلبي ، فيجري دمي في ثراها[15] ففي هذا المقطع الثاني يصور الشاعر عمق رضا المسيح و سعادته بأن يحيا شعبه من خلال موته و تضحيته، و في التعبير عن هذا البعد من أبعاد التجربة يستخدم السيّاب ملامح من تجربته هو المعاصرة، و مفردات من معجمه الشعري الخاص، حيث يتحدث عن قريته جيكور، و بعثها و ازدهارها من خلال موته، سعادته و إحساسه بالدفء لهذا البعث الجديد الذي رواه بدماء قلبه. و يظل الشاعر يلحّ على هذه الفكرة ـ فكرة الحياة من خلال الموت ـ و يبرزها في أكثر من معرض و بأكثر من صورة مستغلاً عبارات المسيح الشهيدة التي قالها لتلاميذه في العشاء الأخير حيث أخذ يسوع الخبز وبارك و كسر و أعطى تلاميذه و قال: " خذوا كلّوا، هذا و هو جسدي، و أخذ الكأس و شكر و اعطاهم قائلا. إشربوا منها كلّكم، لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثير لمغفرة الخطايا ".[16]
يعتبر الشاعر ان تضحيته و عذابه قد طهرته فلم تبق منه إلا على كلّ ما هو إلهي و مقدس، و انه سيحيي حيوانات متعددة من خلال الأجيال التي تستفيد من تضحية فلهذا يرى حتّى كلّ قلب منهم قطرة من دمه.[17] ولأن ميزات قصيدة «المسيح بعد الصلب »؛ "هو أن الشاعر يذهب في هذه القصيدة إلى موت ـ قيام ـ رمزي بالتضحية ... الإنسان هنا حيٌّ في الموت أكثر منه في الحياة ـ فليس الموت هو ما تحوّل دون الحياة بل الحياة نفسها هي التي تحول دون الحياة و الخ ".[18] فالمكافح يعرف أن الموت في الحياة يفيض إلى العدم، أما اذا كان استشهادا في سبيل الآخرين ، فإنه يصبح إنتصارا للحياة بمجموعتها، إنتصارا له و للجنس البشري و من ثم فإنه يفضي إلى الخلود سبباً في إنتصاره على الموت. و عالم الطفولة والإنسان البدائي ، فكانت فكرة الحياة في الموت هي المنتصرة أخيراً. لأنّ عالم الإنسان المكافح فإنه عالم آخر، عالم الثورة على الطبيعة و الواقع المُر، يرفض فيه الإنسان كلّ صور العبودية و الذلّ و القهر، حيث يشدّ قبضه ليصفع القدر و يفرض عليه إرادته. و فكرة الخصب لدى السيّاب هذه عاشت في دم الشاعر شعراً، و كتب فيه كلّ قصائده التموزية، و استطاع من خلالها أن يخترق أعماق الحياة الإنسانية حين اتسع بمعناها الرمزي ، بحيث اصبح الموت دليلا على الحياة، إنه موت الفادي المختار من اجل بعث جديد فاضل. و هذا ما جعل موضوع «الحياة في الموت» هو المنتصر على سلبيات «الموت في الحياة» لانه كان فداء و تضحية من اجل التغيير، و ليس فداء سلبيا لإيراد به غير التكفير و تحمل العبء و الألم كما كان عند إليوت. لأن الضحية المسيحية ليست إلا تضحية سيزيفية ، بينما تضحية تموز كانت تضحية بطولية و هي إيجابية التحمل و العطاء، لا قدرية مفروضة. و في قول بيكيت يتجسّد الفكر المسيحي حول الضحية، فالمسيح أعطى دمه من أجل الناس جميعاً و منهم بيكيت نفسه، فلا غرو أن أعطى بيكيت دمه فداءً و تضحيةً لدم المسيح، فهو فداء بفداء. و فكرة التضحية هذه نجدها عند السيّاب حين يوّحد بينه و بين المسيح و تموز، فيرى أنّ دمه قد صار في كلّ قلب حتّى استشهاده.[19]
" و كذلك الشاعر أراد أن يختتم قصيدته و قد اتت تضحية ثمارها، و إبتداء مخاض البعث الأليم، و ابتدأت صحوته تدبّ في أوصال أمته فحملت صلبانها و سادت في درب التضحية الدامي، إنّها الصحوة والازدهار والفلاء التي ضحّى لأجلها، تلمحها عيناه ملّ المدى ، و يهتف المسيح في دهشته قريرة و في ختام القصيدة يستخدم فيها الشاعر المعجم المسيحي ، فبدلاً من أن يعبر عن إندهاشه بالبعث الجديد و شكر الله عليه بعبارة مألوفة من نحو «سبحان الله» أو «تعالى الله» فإنه يستخدم عبارة من المعجم العيسوي «قدس الرب»" [20] : بعد أن سمّروني و ألقيت عيني نحو المدينة كدت لا أعرف السّهل و السور و المقبرة: كان شيء مدى ما ترى العين، كالغابة المزهرة، كان في كلّ مرمي ، صليب و أمٌّ حزينة. قدس الرب! هذا مخاض المدينة[21]
ففي هذه القصائد يتصوّر السيّاب نفسه ميتاً يبعث رامزاً إلى بعث الأمة العربية. "و جاء الصلب خاتمة للأوجاع، و إيذاناً ببدء عهد جديد، ولكنّه سبقه اضطهاد، و تعذيب، وجوع"[22] : ... و أنصت: كأنّ العويل. يعبر السهل بيني و بين المدينة مثل حبل يشدّ السفينة و هي تهوي إلى القاع، كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح والدجى ، في سماء الشتاء الحزينة[23] "يرجع السيّاب إلى الوراء بحثاً عن زعيم فداء يزرع الأمل في قلوب المظلومين والفقراء، لعلّ بطلاً ينهض من بينهم، يحمل صليبه على طريق الجلجلة، و يأتي بالخلاص، اذ يبذل نفسه فداء عن أحبائه» و لكنّ صوته ضاع في بريّة الناس سدّىً ـ إذ تربّد سماؤه بغيوم اليأس، يغضب و يثور على الوضع المتردّي و يصرخ صرخة مدوّية ـ ملؤها الوجع و الغيظ"[24]. فيرى السيّاب فكرة التضحية و الإستشهاد السبيل الوحيد في توعية الناس. يعتقد بأنّ هذا الموت نعمة كبيرة و هدية ثمينة له و هي تعيد للشاعر فكرة البعث: قلبي الماء، قلبي هو السنبل موته البعث يحيا بمن يأكل مت بالنار، أحرقت صحراء طيني ، فظل الإله مت كي يؤكل الخبز بإسمي ، لكلّ يزرعوني مع الموسم كم حياة سأحيى، ففي كلّ حفرة صرت مستقبلاً، صرت بذره صرت جيلاً من الناس، في كلّ قلب دمي[25] " و هكذا فإن الشاعر / المسيح قد بعث من جديد بعد صلبه، بعث في موته و إن لم يغادر قبره في كلّ مظاهر التجديد و الحياة و الخصب و الإزدهار في بلده، و لكن تلك القوى الخائنة التي وشت به و أسلمته للأعداء ـ ممثلة في يهوذا الذي أسلم المسيح لأعدائه و لعل الشاعر يرمز به إلى القوى التي إستعدّت سلطات البغي عليه ـ ما كانت لتتركه يبعث، لأنّ في بعثه تعرية لها و كشفاً لجريمتها و سقوطها، و من ثم فإنها تغري به قوى البغي ثانية لتصلبه في قبره من جديد"[26].
و إضافة إلى ذلك يرى السيّاب في هذا الموت أسوة للآخرين، و يرى بعث المدينة التي تعجّ بالشياطين من أمثال يهوذا و خلاصها متوقف على تضحية سكانها و فدائهم. إنّ تضحية الشاعر و موته بمثابة البذرة التي نبتت الثورة في الجميع و قد إختار المناضلون كلّهم طريق الفداء لتتمّ ثورة و مخاض جديد. ينظر الشاعر إلى المدينة و هو قد سمّر على الصليب و يرى غاية من الصلب ان. و في الحقيقة قد تفتحت على أرض المدينة كلّها زهرة الصلب و إختار السكان جميعاً طريق الفداء فليس سواه تتمُّ مخاض المدينة ولادتها. " أما بالنسبة إلى اللون التعبيري للقصيدة؛ فلا يعود يصحّ إعتباراً القصيدة نوعا من التعبير التمثيلي (الأيغوري ) ذي الطابع التعليمي أو الإصلاحي محددة بمغزى لا يخفي على القارئ اللبيب، بل يرجح إعتبارها نمطاً من التعبير الرمزي ـ الإيحائي المفتوح بكثافة دلاليّة على أبعاد شخصية فردية و إنسانية عامّة، و على تصورات إجتماعية و حضارية خاصة. و إذا يستدعي هذا التعبير الأخير التأويل بقدر ما يجعل عليه من تعدّد فضاءات و ما يرشح به من إحتمالية تراكيب، فإنه يبقى النص في النهاية مطلقاً من إسار المغزي الواحد و إرغام الرؤية الثابتة. ضمن هذا المنظور لا يضيء الرمز الموضوع الراهن الذي يستدعيه بزخم دلالاته النشطة و حسب، بل إنّ هذه الدلالات تتعرّض في علاقتها الطارئة. بهذا الموضوع للتأثر و تخضع للتحوّل"[27]: فاجأ الجند كلّ ما ليس حتّى جراحي و دقات قلبي فاجئوا كلّ ما ليس موتاً و إن كان في مقبره فاجئوني كما فاجأ النخلة المثمرة سرب جوعى من الطير في قرية مقفّرة أعين البندقيات يأكلّن دربي، شُرّع ٌتحلم النار فيها بصلبي ، إن تكن من حديد و نار، فأحدق شعبي من ضياء السماوات، من ذكريات و حُبّ تحملُ العبءُ فيندي صليبي، فما أصغره ذلك الموت، موتي ، و ما أكبره[28]
تعليق