بسم الله الرحمن الرحيم
نبذة من السياسة الحسينية
نبذة من السياسة الحسينية
كَتَبْتَ إليَّ أيّها الفاضلـ مدّك الله منه بالعون والعناية ـ تذكر سؤال الناقد المشكّك عن الحسين(ع) إذا كان عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عَرَّضَ بِعِرْضِهِ إلى الهتك.
وأنّك أجبت: بـ «أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين لم تكن تحصل بقتله فحسب»، وذكرت أنّ المشكّك لم يقنع بهذا الجواب، وطلبت منّا جليّ البيان ليقف المشكّك على صراط الاعتقاد.
فنقول والله المستعان:
أوّلاً:
إنّ هذا السؤال وأمثاله من البحث والنظر الذي يتمخّض عن الاعتراض والتحدّي لأعمال الأئمّة، بل ولأعمال رسول الله وخلفائه المعصومين سلام الله عليهم، لا موقع له على أُصول مذهبنا معشر الإمامية، الّذين قادنا الدليل والبرهان إلى القول بعصمة أُولئك النفر المخصوص.
فليس عندنا في مناهجهم الخاصّة، وأعمالهم التي تصدر عنهم طول حياتهم بين البشر، إلاّ كمثل رَجُل عَرَفَ مِنْهُ المَلِكُ تمام الكَفاءَةِ، وأحْرَزَ مِنْهُ صِدْقَ الطاعةِ، فأرسلَه سفيراً إلى قوم، يَبُثُّ بينهم الدعاية، ويقوم فيهم بالإرشاد والهداية، وزوّده بمناهج مخصوصة، وألزمه أن لا ينحرف عنه قيد شعرة.
ولكلّ واحد من الأنبياء والأئمّة سجلٌّ خاصٌّ به، من بدء قيامه بالسفارة والدعوة إلى منتهى أجله، حسب المصالح ومناسبات الظروف الخاصّة، والحِكَمِ التي اقتضت لذلك المَلِك الحَكيم أن يسجّلها على ذلك السفير، مِن قتل، أو سمّ، أو أسر، أو غير ذلك من قضايا التضحية والمفاداة.
وعبء السؤال وعبء البحث عن تلك الحِكَم والأسرار مطروحٌ عن الرعية، وهو تكلّفٌ زائد، بل ربّما يكون نفس السفير غير واقف عليها تماماً، إنّما يجد في سجلّ أحواله: عليك أن تبذل نفسك للقتل في الوقت الفلاني; فيقول: سمعاً وطاعة; وليس له حقّ السؤال والمراجعة عن الحكمة أو المصلحة بعد أن كان من اليقين على مثل ضوء الشمس أن قضايا ذلك الحَكَم وعزائِمَهُ كُلُّها مُنبَعِثَةٌ عن أقصى ما يمكن من الصلاح ومعالي الحكمة، ليس في الإمكان أبدع ممّا كان.
وكلّ هذه النظريات سلسلة عقائد يبتني بعضها على بعض، وكلّها مدعومة بالحجّة والبرهان ممّا تمخّضت عن عقول الفلاسفة وآراء الحكماء من معاهد العلم والتأريخ، وكلّها فروع أصل واحد، ينتهي إليه البحث والجدل، وتنقطع عن الخصومة.
وما هو إلاّ إثبات العناية الأزلية والقوّة القاهرة الشاعرة، وأنّها هي المدبّرة لهذه العوامل، لا الطبيعة العمياء والمادّة الصمّاء الفاقدة للحسّ والشعور، وبعد إثبات تلك العناية ورسوخ الاعتقاد بها يهون ويسهل إثبات ما يتفرّع عليها من تلك النظريات.
وأنّ مِنْ لازم تلك العناية، بعث الهُداة والمُرشدين البالغين أقصى مراتب الكمال البشري; لتكميل الناقصين من بني جنسهم، ولا يتسنّى التكميل والاهتداء إلاّ بالتسليم والانقياد لهم، واليقين بعصمتهم عن الخطأ والخطيئة، وأنّهم مؤيدون بتلك العناية.
وبعد الإلزام بكلّ هاتيك المبادئ عن براهينها، لا يبقى مجال للشكّ والارتياب، والنقد والاعتراض في شيء من أعمالها مهما كانت في الفظاعة والاستنكار في مطارح العقول المحدودة والأفكار المحجوبة.
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
ولعلّ إلى ذلك أشاروا سلام الله عليهم بقولهم ـ إنْ صحّ الحديث ـ: «نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشرية; يا سلمان! أنزلونا عن الربوبية ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يعرف، وكلمة الله لا توصف، ومن قال هناك: لِم؟ وممَّ؟ وبمَ؟ فقد كفر».
ولعلّ المراد بالكفر معناه الأوّل، وهو الظلام..
… *** إنْ صحّ أنّ الليلَ كافِرْ
يعني: إنْ تعرّضَ لتلك الاعتراضات فقد ظَلمَ وأظلمَ كمن خاض في لُجّ من الظلمات.وما ذكرتُ هذ النبذة إلاّ للإشارة إلى جواب ذلك السؤال من الوجهة الدينية محضاً، وإن كنت أعلم أنّ ذلك ممّا لا يُعَوِّل عليه المشكّك الناقد، ولا يعتدّ به المُعْتَرِضُ المُتَحَيِّر، سيّما لو كان ممّن لا يعرف الحسين(ع) كما تعرفه علماء الشيعة وخواصّها، إماماً معصوماً لا يتطرّق إليه العبث والعيث، فضلا عن الغلط والاشتباه، بل غاية ما يقول فيه أنّه من عَلِيّةِ الرجال وأفاضلهم، نسباً ونفساً وشجاعة وبراعة، لكن لا يمنع كُلُّ ذلك مِنْ أنْ يجري عليه ما يجري على غيره مِن نوابغ الدهر، وأفذاذ البشر، من الصواب تارة، والخطأ أُخرى، والاستقامة أحياناً، والالتواء حيناً، وكرم سجاياه وعظم مزاياه لا يقع سدّاً بين العقول وبين النقد عليه في بعض سيرته وسياسته، إن لم يكن في كلّها ; والكمال لله.
وحينئذ فلنفرض الحسين(ع) ـ كما يفترضه السائل ـ زعيماً من الزعماء يرى نفسه بما أُوتي من شرف الحسب والنسب أَوْلى بالخلافة من يزيد، وأحقّ بالمُلكِ منه، ولا جرم أنّه يبذل كلّ ما في وسعه لاستعادة ذلك الحقّ المغصوب منه ومن أبيه.
أوّلا:
فعلى الأقلّ أنّه لا يبايع يزيد ويصير رعية له، مع ما هو المعلوم من المجاهرةِ بإحياءِ كُلِّ رذيلة، وإماتةِ كُلِّ فضيلة.
وعليه: فالجواب الذي ذكرته إذا كُسي حلّة أُخرى من البيان لم يكن للخصم لو أنصف أن لا يقتنع به.
وهل من سبيل إلى الكشف عن نفسية يزيد وخسّة طبعه وعدم أهليّته، من حيث لؤم عنصره، وخبث سريرته، وقبح سيرته ـ مع قطع النظر عن الدين والشرع ـ أقرب وأصوب وأعمق أثراً في النفوس عامّة والعرب خاصّة والمسلمين بالأخصّ من هتك حرم النبوّة(ص) وودائع الرسالة، وجلبهم أُسارى من بلد إلى بلد، ومن قفر إلى قفر؟!
وهل أعظم فظاعة وشناعة من التشفّي والانتقام بالنساء والأطفال بعد قتل الرجال؟!
وأيُّ ظفر وغلبة على يزيد أعظم من إشهار هذه الجرائم عنه؟!
أمّا القتل ; فقد كان عند العرب أهون شيء، وهو أمر معتاد متعارف لا شيء فيه من الفظاعة والغرابة، فكان الحسين(ع) أعرف أنّ يزيد وابن زياد من خبث الذات وسوء الملَكة مستعدّان لتلك الجرائم ; فأراد أن يبرزها منهم إلى الوجود وتكون الناس منهم على بيّنة محسوسة، ثمّ يكون الغالب بعدها هو المغلوب، والقاهر هو المقهور.
نعم، يزيد قتل الحسين(ع) وأنصارَه، ولكنّ الحسين قتل يزيد وكلَّ بني أُميّة بأعظم من قتلهم له بألف مرّة ; قتلهم يزيد يوماً واحداً، وقتلوه وقومه إلى آخر الأبد.
فأي الظفرين أعظم؟! وأيّ القتلين أكبر؟!
وهذه الفلسفة قد أدركها حتّى الباحثون من الأجانب عن الإسلام، وقد ألمح إليها المستشرق الألماني (المسيو ماربين)، حيث قال: «لمّا كان الحسين يعلم عداوة بني أُميّة وبني هاشم، ويعرف أنّه بعد قتله يأسِرونَ عياله وأطفاله، وذلك يؤيّد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيّما العرب، كما وقع ذلك، جلبهم معه وجاء بهم من المدينة...
إلى أن قال: ولمّا كانت أنظار المانعين محدودة، وأفكارهم قاصرة، ولا يدركون مقاصد الحسين العالية، وآخر ما أجابهم به: إنّ الله شاء ذلك، وجدّي أمرني به، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟
فقال: إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا». انتهى.
أقول:
وهذا الجواب ليس كما تخيَّلَهُ المستشرق جواباً إقناعياً، ودفعاً وقتياً، بل له مقامه الراهن من الحقيقة، ولعلّ الله سبحانه، وجدّه(ص)، إنّما أمراه بذلك كي يُفتضَح يزيد ويظهر حاله للناس، نحن لا نقول: إنّ الطريق لهتك يزيد انحصرت بهتك العيال ; ولكن نقول: إنّه كان أحد الطرق التي لها التأثير الكبير في المقصود.
والقول:
إنّه لا يجوز في الدِّين أن يُعَرِّضَ نساءه للهتك مهما كان الأمر ; فهو منبعث عن البساطة والسذاجة، فإنّ الذي لا يساعد عليه الدِّين، بل ولا تسمح به الغيرة، هو تعريض الإنسان عِرْضَهُ للهتك الموجب لِما يمسّ الشرف، ويخدش رواق العفّة والصيانة، وسرادق النجابة والحصانة.
أمّا الهتك الذي تستحكم به عرى القدس والطهارة والعزّة والمنعة، فذلك ممّا لا يشين ولا يهين، وتلك الحرائر صلوات الله عليهنّ مهما سَفِرْنَ فَهُنَّ محجّبات، ومهما تَبَذَّلْنَ فهنّ مَصونات، وهنّ بحيث النجم من يد المتناول.
يَشُعُّ على وجهِ البراقِعِ نورُها * فيحسب راء أنَّهُنَّ سَوافِرُ
والغرضُ:
إنّ هذا الجواب محكم رصين، وله حظّه من الحقيقة، وإذا لم يقنع به الناقد والمشكّك فهناك:
وجه ثان وجيه أيضاً، وهو:
إنّ الحسين(ع) في كلّ أدواره وأطواره، ومنذ نشأ وشبّ إلى آخر نفَس من حياته كانت شيمته الشمم والشهامة، وعزّة النفس والإباء والكرامة، تتجلّى وتشعّ من جميع حركاته وسكناته، وكلّ أحواله وملَكاته، ولو ذهبنا إلى سرد الشواهد على هذا لجاء كتاباً مفرداً، ومجموعاً وافياً.
ويخطر لي أنّ الحسن(ع) لمّا صالح معاوية على الشروط التي لم يفِ بشيء منها، وكان قد حضر عند معاوية مع خواصّ أصحابه للبيعة، فبايع الحسن ومن معه، وطلب معاوية البيعة من الحسين(ع)، فقال: دعه! فإنّه لا يبايع، ولكن لا يأتيك منه سوء.
فقال: حسبنا منه ذلك.
وبعد أن تمّ الأمر لمعاوية كان الحسين(ع) إذا اجتمع به في حشد من محافل الشام أو الحجاز يناضله ويناظره فيرضخه من القول بالصَّلادِم، ويصكّ جبهته بما هو أمضّ من الصَّوارِم ـ ورُبّ قول أنفذ من صولـ ومعاوية يحتمل كلّ ذلك منه لِما يعلم من عزّة نفسه وشدّة شكيمته.
مرّ على الحسين عشرون عاماً ـ مدّة خلافة معاوية ـ ما ذاق فيها طعم الخضوع والاستكانة، حتّى إذا هلك معاوية وامتنع عن البيعة ليزيد، ورأى من السداد الهجرة عن المدينة ; ليعرف العالم الإسلامي امتناعه عن البيعة، فخرج من المدينة بأهل بيته قاصداً مكّة، ولزم الطريق الأعظم (الدرب السلطاني)، فقيل له: «لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير؟
فقال: لا والله لا أُفارقه أو يقضي الله ما هو قاض».
فالحسين ـ وعلى ذِكره السلام، هو يحمل بين جنبيه هذه النفس الكبيرة ـ لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق أبت نفسه الكريمة، وأنفت همّته القعساء أن يخرج هو وولدانه وغلمانه على ظهور خيولهم خروج المتشرّد الخائف، والنافر الفزع، ولم يرض لنفسه إلاّ أن يظهر بأسمى مظاهر الأُبَّهَةِ والهَيْبَةِ والجَلالِ والحِشْمَةِ في الموكب الملوكي، وفخامة الملك والسلطان.
ومن المعلوم أنّ لحمل الحرم والعائلة من لوازم الفخامة والعظمة، وشوكة المناطق والسرادق، ما لا يحصل بدونها، ولو خرج سلام الله عليه من أوطانه وترك عقائله في عقر دارهم لكان خروجه أشبه ما يكون بصعاليك العرب وأهل الغزو والغارات والمتلصّصين، وحاشا لسيّد أهل الإباء أن يرضى لنفسه بتلك المنزلة والخطّة السافلة، بل سار بأهله وذراريه ليكون على مهاد الدعة والسكينة والهدوء والطمأنينة، كَسَيْر أكبر ملك من ملوك الدنيا وأوسعهم في القدرة والسلطان.
ولا تخالنّ في كلمتي هذه ضرباً من الخيال، أو شيئاً من المبالغة والغلوّ; كلاّ، فإنّك لو نظرت إلى بعض الخصوصيات في سيره لوجدت منها أوثق شاهد لك على ما ادّعيناه.
أنْعِمِ النظر في قصّة الحرّ التي اتّفقت على نقلها أرباب المقاتل وأُمناء التاريخ والسيَر، حيث التقى بالحسين في قفر من الأرض لا ماء فيه ولا كلاء، وقد أمضّ به وبأصحابه العطش، وَهُمْ زُهاءَ ألف فارس على ألف فرس، فقال الحسين(ع) لفتيانه: «اسقوا القوم وأوردوهم الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»، ففعلوا وأقبلوا يملأُون القِصاعوالطِساس من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقي آخر حتّى سقوها عن آخرها.
فانظر أوّلاً واعجب ما شئت بهذا الحنان والرحمة والعطف والإشفاق، فإنّ القوم الّذين سقاهم الحسين(ع) كانوا أعداءه، وقد جاءُوا مِنْ قِبَل ابن زياد للقبض على الحسين(ع)، حتّى إنّ عليّ بن طعّان المحاربي ـ وهو عراقي من أصحاب الحرّ ـ لم يعرف كيف يشرب من الراوية وكيف يخنث السقاء كما يفعله الحجازي، فكان يشرب والماء يسيل على أشداقه وثيابه، فنزل الحسين(ع) بنفسه وخنث السقاء حتّى شرب وارتوى.
واعجب ثانياً لإيثاره بالماء في بادية قحلاء وصحصحان أجرد، والماء فيه أعزّ من الذهب، وقد لا يجدونه في يومين أو ثلاثة أو أكثر، فأيٌّ سخاء هذا السخاء؟! وأيُّ نفس تلك النفس؟!
واعجب ثالثاً ـ وهو محلّ الغرض ـ كم كانت سعة ذلك الموكب السلطاني وإدارة ذلك الركاب الملوكي؟!
وكم كان يحمل من الماء؟! حيث سقى نفسه وأعداءه، سقى ألف فارس وألف فرس، وعلى أقلّ تقدير أنّ النفوس التي كانت مع الحسين(ع)، من أولاده وأنصاره وعيالاتهم ألف نفس، وحمولهم (المِكارَهْ) التي تحمل خيامهم وأمتعتهم، وما إليها من قدور وقصاع وطساس، ونحو ألفين من الخيل والبغال غير الإبل، فتكون النفوس المحتاجة إلى الإرواء بالماء في ذلك الموكب ـ على أقلّ التقادير ـ خمسة آلاف أو أربعة آلاف نسمة، غير الفضلة الاحتياطية التي سقى منها الحرّ وأصحابه وخيولهم.
فالموكب الذي يحمل من الماء ما يروي ستّة آلاف أو سبعة آلاف نسمة، كم ترى يكون ضخامة ملكه وفخامة سلطانه؟!
وإذا صحّ ما رواه الطريحي في «مجمع البحرين» من أنّ الحسين(ع) لمّا نزل كربلاء اشترى أرض نينوى والغاضرية من بني أسد بستّين ألف درهم، واشترط عليهم أن يدلّوا زوّاره على قبره ويضيّفوهم; انتهى بمعناه; فكم كان معه من الأموال والنقود التي يكون فضلتها ستّون ألفاً؟!
وأزيدك شاهداً على ذلك من عظمة الملك والسلطان قضية محمّد بشير الحضرمي ـ الذي رواه السيّد ابن طاووس وغيره حين قيل له ليلة عاشوراء ليلة القلق والأرق، الليلة التي كانت المَنايا فيها على الحَوايا، والحِمام يحوم فيها على الخيام ـ قيل له: «إنّ ابنك أُسر في ثغرَي الريّ; فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما أُحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده; فسمع الحسين(ع) قوله، فقال له: رحمك الله، أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك.
فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.
قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه.
فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار».
وعليه: فيكون قيمة كلّ ثوب مئتي دينار (مئة ليرة ذهب).
وأنا لا أدري ما كانت تلك الثياب التي قيمة الواحد مئة ليرة؟! وكم كان معه مثلها؟! ولماذا يحملها وأمثالها معه في تلك المراحل؟!
هذه سؤلة لعلّك في غنىً عن الجواب عنها، ولكن أيّها الناقد المشكّك! أتحسب أنّ الحسين(ع) كان صعلوكاً من صعاليك العرب، ولئيماً من لئامها، كابن الزبير، الذي يقول لجنده: «أكلتم تمري وعصيتم أمري»؟!
ويقول للوافد عليه، المستجدي منه، بعد أن قال له: إنّ ناقتي قد نقبت.
فقال: ارقعها بهلب، واخصفها بسبت.
فقال الوافد: لعن الله ناقةً حملتني إليك.
فقال: إنّ وراكبها».
لا يا هذا! الحسين أكبر ممّا تظنّ، الحسين أكبر من أن يتخلّص من طواغيت بني أُميّة الّذين أرادوا سفك دمه في حرم الله فتنتهك به حرمة الحرم، كما فعل ابن الزبير وفعلوا به، هو أكبر من أن يخلص بنفسه ويترك عياله يشرئبّون إليه ويتطلّعون إلى أخباره ويناشدون الركبان عنه.
وأمّا ما تخيَّلْتَهُ من أنّ هتك الحريم لا يقدم الغيور عليه مهما كان الأمر، فهو وَهمٌ زائف، وقد عرَّفناك أنّ الهتك المُشين هو الذي يلمس أذيال العفّة، ويمسّ ذلاذل الشرف، لا الذي تستحكم به أسوار الصون وسياج العفاف.
وبعد هذا كلّه، فهل أقنعك هذا الوجه، وعرفت كيف كانت منزلة الحسين(ع) من عظمة الشأن وسموّ السلطان؟!
وهناك وجه ثالث لحمل العيال، وهو: كما كانت العرب عليه من أنّهم إذا أرادوا أن يستميتوا في الحرب، ويصبروا للطعن والضرب، جعلوا الحريم خلفهم، واستقبلوا العدوّ، فأمّا الحتف أو الفتح، ويستحيل عندهم النكوص أو الفرار، وترك الحريم للذلّ والإسار، ويشهد لهذا عدّة وقائع لا تغيب عن الضليع في تاريخ العرب، عليه حَمَلَ العيال كي يستميت أصحابه دونها، وينالوا درجة السعادة بالشهادة كما فعلوا.
وهناك وجه رابع لعلّه أوجه من تلك الوجوه، وأقربها إلى الحقيقة، وإنْ كانت للحسين(ع) ملحوظة وراء التعبّد والانقياد والرضا والتسليم للمشيّة القاهرة، وكانت سياسة عن فلسفة نظرية، وتدابير بشرية، فهي هذه الملاحظة التي سوف نبديها ونشير إليها على الجملة حيث لا سعة للتفصيل.
تقول أيّها الناقد: «إنّ الحسين(ع) كان يعلم أنّه يقتل»..
نعم، وأنا أقول كذلك، بل يعلم أنّ جميع مَنْ معه مِن الرجال، بل وكثير من الأطفال يُقتلون حتّى الرضيع، ولا يفلت إلاّ وَلَدهُ زين العابدين من أجل العلّة والمرض.
فلمّا عَلِمَ ذلك كُلّه، وَعَلِمَ أنّ بني أُميّة وأشياعهم سوف يموّهون، بل كانوا قد موّهوا على المسلمين أنّ الحسين(ع) خارج على إمام زمانه، وهو يزيد المنصوب بالنصّ عليه بالاستخلاف من الخليفة الذي قبله وهو معاوية، فالحسين(ع) بخروجه باغ، وحكم الباغي القتل {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، فتكون هذه الفتوى وهذا التمويه أعظم على الحسين مِن قتله.
وهذا الطلاء المبهرج، وإنْ كان لا يخفى على العارفين والنياقدة، ولكنّهم بالضرورة خاضعون للسلطة، قد شملتهم الذلّة، وأخملتهم القلّة، وألجمهم الخوف والتقيّة، سيّما بعد الفراغ من أمر الحسين (ع)، فلا رحمة لأحد بعده ولا حرمة، والناس كما قال هو سلام الله عليه يوم الطفّ، وكما هو حالهم اليوم: «عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم»، فمن ذا يقدر أن ينبس بالحقيقة، فضلاً عن الإصحار بها، وسيوف يزيد وابن زياد فوق أرؤسهم، وأموالهم نصب أعينهم؟!
وتعلم كيف يلعب الرجاء والخوف في النفوس، فحينئذ فلا يمرّ حول أو حولان إلاّ وقد سجّل التاريخ أنّ الحسين (ع) ـ وأستغفر الله ـ باغ عات وقد قُتل بحكم شريعة جدّه.
وبَعّدَ الناقدُ فريتَه بقوله: هلاّ بايع كما بايع أخوه الحسن (ع) ودفع عن نفسه وأهله القتل؟!
كيف؟! وقد قال بعض النواصب في القرون الوسطى: إنّ الحسين قتل بسيف شريعة جدّه.
وهذه عند الحسين ـ وهو عَلَمُ الحقّ، ومنارُ الهُدى، وجسمُ روحِ الغيرة والإباء ـ رزيّة لا رزيّة فوقها، ومصيبة لا مصيبة أعظم منها.
فعلى من يعتمد الحسين(ع) في دفع هذه الغائلة، وتفنيد هذه الضلالة، وإنقاذ المسلمين من هذه الورطة المهلكة؟!
أَعَلى رجال وكلّهم سوف يقتلون معه بعلم منه؟!
أم على زين العابدين، وهو أسير مشغول بعلّته، وقتله أهون عليهم من قتل ذبابة؟!
فمَن يقوم للحسين بهذه المهمّة بعد قتله؟!
ومَن ذا يقرع بالحجّة، ويوضح المحجّة، ويكشف الحقيقة، ويتعقّب القضية، ويخطب في النوادي الحاشدة، والجوامع الحافلة، تلك الخطبة البليغة، والحجج الدامغة؟!
تصوّر ذلك العصر مليّاً، واستوسع التأمّل في تلك الأوضاع، وانظر هل كان من الممكن أن يقوم بشيء من ذلك أكبر رجل باسل؟!
وهب أنّ الممكن أن يفادي رجلٌ بنفسه للحقّ وإبداء الحقيقة، ولكن هل يمهلوه إلى أن يستوفي الغرض ويبلغ الغاية؟!
أَوَليس عبد الله بن عفيف الأزدي، ذلك البصير الذي ذهبت عيناه، واحدة يوم الجمل والأُخرى بصفّين ; نعم، ذهبت عيناه، ولكن فتح الله له في قلبه عشرة عيون، وسقط الجهاد عنه بيده، ولكن جاهد في لسانه بعشرة أسياف إلى أن أحرز الشهادة في هذا السبيل.
فإنّه لمّا سمع خطبة ابن زياد على منبر الكوفة بعد قتل الحسين(ع) وهو يقول: «الحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب»، نهضت به الحمية والحماية للحقّ، وفادى بنفسه في ذلك الحشد الرهيب، فقام وقطع عليه خطبته قائلا له: «إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت ومن استعملك يا عدوّ الله، تقتلون أولاد النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين.
فغضب ابن زياد وقال: من هذا المتكلّم؟!
فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ الله!
أتقتل الذرّيّة الطاهرة الّذين أذهب الله عنهم الرجس وتزعم أنّك على دين الإسلام؟!
واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّد(ص)؟!
فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، وقال: عَلَيَّ به!
فقام الجلاوزة فأخذوه، وقامت الأشراف من الأزد عشيرته فخلّصوه، وانطلقوا به إلى منزله».
ولكن هل خلص ونجا من ذلك الطاغية؟! وهل كان آخر أمره إلاّ أن أُحضر بين يديه فضرب عنقه صبراً وصلب جثمانه في السبخة في قصّة طويلة، وما ظفر ابن زياد به إلاّ بعد حرب سجال وتحريش منه خبيث بين اليمانية والمضرية على قاعدة التفرّق.
نعم، ما أنكر على ابن زياد إلاّ عبد الله بن عفيف رضوان الله عليه، وإلاّ ذلك الصحابي الضعيف بكلّ مواقع الضعف، ألا وهو زيد بن أرقم، فإنّه حين رأى رأس الحسين(ع) بين يدَي بن زياد وهو يضربه بعوده، قال له: «ارفع عودك عن هاتين الشفتين! فوالله لطالما رأيت رسول الله(ص) يقبّلهما.
ثمّ بكى زيد، فقال له ذلك الخبيث: أتبكي لما فتح الله للأمير؟! لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأخذت الذي فيه عيناك!
فخرج زيد وهو يقول: ملَكَ عبدٌ حرّاً، أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم، قتلتم ابن بنت رسول الله وأَمَّرْتُم ابن مرجانة».
ولا أستحضر مُنْكِراً على ابن زياد غير هذين الرجلين، وكلماتهما وإنْ كانت ذات قيمة ثمينة في مثل تلك الأيّام العصيبة والمواقف الرهيبة، ولكن أيّ شيء لها من التأثير؟!
وما ميلها في تلك التيارات الجارفة والزوابع القاصفة؟!
وهل هي إلاّ كلمات قيلت وذهبت أدراج الرياح؟!
وهل كانت تكفي لإيجاد بواعث الثورة، وتكوين الانقلاب على بني أُميّة وتحرير النفوس وغليان الأفكار وتأجيج النار لطلب الثار؟!
كلاّ ثمّ كلاّ، فإنّ الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى المثابرة والتعقيب في الخطب الرنانة والكلمات المهيّجة، وتشهير المثالب والمساوئ، ونقد السيّئات ونعيها على تلك الدولة الغاشمة والسلطة الظالمة والحكومة الجائرة.
فإنّ بهذا ومثله تتكوّن في الأُمّة روح ثورة وانفجار يكتسح ظلم الظالمين، وتقتلع عروق الجور والاستبداد.
قل لي برأيك أيّها الناقد، أيّ رجالات ذلك العصر كان يقدر على القيام بتلك المهمّة، ويقوى على النهوض بذلك العبء؟!
أليس قصارى أمره مهما كان من البسالة والجرأة أن يقول الكلمتين والثلاث، فيقال: خذوه فاقتلوه فاصلبوه في السبخة أو في الكناسة؟!
أليس زين العابدين(ع) مع أنّه عليل أسير ـ والأسير لا يُقتل ـ قد أمر ابن زياد بقتله لجواب خفيف وقول طفيف، فإنّ ابن زياد بعد أن فرغ من تحدّي زينب وأخرجته بقوّة العارضة والبيان من الميدان مكعوماًبالخزي والخذلان التفت إلى زين العابدين، فقال: « من هذا؟!
فقيل له: هو عليّ بن الحسين(ع).
فقال: أليس قد قتل الله عليّاً؟!
فقال سلام الله عليه: كان لي أخ يقال له عليٌ قتله الناس.
فقال ابن زياد: بل الله قتله!
فقال الإمام: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}.
فقال له: أَوَبـِكَ جرأةٌ على ردّ جوابي؟! يا غلمان! خذوه فاضربوا عنقه!
فتعلّقت به زينب، وقالت: يا بن زياد! حسبك من دمائنا ما سفكت، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه.
فقال الطاغية: عجباً للرحم! فوالله لَوَدَّتْ أن تموتَ دونه، اتركوه لِما به».
وما تركه رحمةً لها، ولكن قد رأى أنّ العلّة والإسار والأغلال والجامعة ستقضي عليه وتكفي ابن زياد مؤنة قتله.
فإنّ سلامة زين العابدين وبقاء حياته كان من خوارق العادة، وعلى خلاف مجاري الأسباب، ولو قُتل أو مات في تلك البرهة لانقَطَعَ نسل الحسين، ولكن مشيئة الله سبحانه وقضاءه السابق بأنّ الأئمّة من ذرّيّته لا يردّ ولا يُغلب، وكانت زينب هي السبب في حفظه على الظاهر.
فليكن هذا وجهاً خامساً لحمل العيال، فلعلّ الحسين عرف العلّة والمرض لا يكفي في سلامة ولده، وأنّهم قد يقتلونه على مرضه، وأنّ لزينب موقفها الباهر في المفاداة والدفاع عنه.
تعليق