إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

شبهة تعريض الإمام الحسين عليه السلام ـ بحمله عياله ـ للهتك في كربلاء!!!

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    بسم الله الرحمن الرحيم

    نبذة من السياسة الحسينية

    كَتَبْتَ إليَّ أيّها الفاضلـ مدّك الله منه بالعون والعناية ـ تذكر سؤال الناقد المشكّك عن الحسين(ع) إذا كان عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عَرَّضَ بِعِرْضِهِ إلى الهتك.
    وأنّك أجبت: بـ «أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين لم تكن تحصل بقتله فحسب»، وذكرت أنّ المشكّك لم يقنع بهذا الجواب، وطلبت منّا جليّ البيان ليقف المشكّك على صراط الاعتقاد.
    فنقول والله المستعان:

    أوّلاً:
    إنّ هذا السؤال وأمثاله من البحث والنظر الذي يتمخّض عن الاعتراض والتحدّي لأعمال الأئمّة، بل ولأعمال رسول الله وخلفائه المعصومين سلام الله عليهم، لا موقع له على أُصول مذهبنا معشر الإمامية، الّذين قادنا الدليل والبرهان إلى القول بعصمة أُولئك النفر المخصوص.
    فليس عندنا في مناهجهم الخاصّة، وأعمالهم التي تصدر عنهم طول حياتهم بين البشر، إلاّ كمثل رَجُل عَرَفَ مِنْهُ المَلِكُ تمام الكَفاءَةِ، وأحْرَزَ مِنْهُ صِدْقَ الطاعةِ، فأرسلَه سفيراً إلى قوم، يَبُثُّ بينهم الدعاية، ويقوم فيهم بالإرشاد والهداية، وزوّده بمناهج مخصوصة، وألزمه أن لا ينحرف عنه قيد شعرة.
    ولكلّ واحد من الأنبياء والأئمّة سجلٌّ خاصٌّ به، من بدء قيامه بالسفارة والدعوة إلى منتهى أجله، حسب المصالح ومناسبات الظروف الخاصّة، والحِكَمِ التي اقتضت لذلك المَلِك الحَكيم أن يسجّلها على ذلك السفير، مِن قتل، أو سمّ، أو أسر، أو غير ذلك من قضايا التضحية والمفاداة.
    وعبء السؤال وعبء البحث عن تلك الحِكَم والأسرار مطروحٌ عن الرعية، وهو تكلّفٌ زائد، بل ربّما يكون نفس السفير غير واقف عليها تماماً، إنّما يجد في سجلّ أحواله: عليك أن تبذل نفسك للقتل في الوقت الفلاني; فيقول: سمعاً وطاعة; وليس له حقّ السؤال والمراجعة عن الحكمة أو المصلحة بعد أن كان من اليقين على مثل ضوء الشمس أن قضايا ذلك الحَكَم وعزائِمَهُ كُلُّها مُنبَعِثَةٌ عن أقصى ما يمكن من الصلاح ومعالي الحكمة، ليس في الإمكان أبدع ممّا كان.
    وكلّ هذه النظريات سلسلة عقائد يبتني بعضها على بعض، وكلّها مدعومة بالحجّة والبرهان ممّا تمخّضت عن عقول الفلاسفة وآراء الحكماء من معاهد العلم والتأريخ، وكلّها فروع أصل واحد، ينتهي إليه البحث والجدل، وتنقطع عن الخصومة.
    وما هو إلاّ إثبات العناية الأزلية والقوّة القاهرة الشاعرة، وأنّها هي المدبّرة لهذه العوامل، لا الطبيعة العمياء والمادّة الصمّاء الفاقدة للحسّ والشعور، وبعد إثبات تلك العناية ورسوخ الاعتقاد بها يهون ويسهل إثبات ما يتفرّع عليها من تلك النظريات.
    وأنّ مِنْ لازم تلك العناية، بعث الهُداة والمُرشدين البالغين أقصى مراتب الكمال البشري; لتكميل الناقصين من بني جنسهم، ولا يتسنّى التكميل والاهتداء إلاّ بالتسليم والانقياد لهم، واليقين بعصمتهم عن الخطأ والخطيئة، وأنّهم مؤيدون بتلك العناية.
    وبعد الإلزام بكلّ هاتيك المبادئ عن براهينها، لا يبقى مجال للشكّ والارتياب، والنقد والاعتراض في شيء من أعمالها مهما كانت في الفظاعة والاستنكار في مطارح العقول المحدودة والأفكار المحجوبة.
    {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
    ولعلّ إلى ذلك أشاروا سلام الله عليهم بقولهم ـ إنْ صحّ الحديث ـ: «نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشرية; يا سلمان! أنزلونا عن الربوبية ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يعرف، وكلمة الله لا توصف، ومن قال هناك: لِم؟ وممَّ؟ وبمَ؟ فقد كفر».
    ولعلّ المراد بالكفر معناه الأوّل، وهو الظلام..
    … *** إنْ صحّ أنّ الليلَ كافِرْ
    يعني: إنْ تعرّضَ لتلك الاعتراضات فقد ظَلمَ وأظلمَ كمن خاض في لُجّ من الظلمات.
    وما ذكرتُ هذ النبذة إلاّ للإشارة إلى جواب ذلك السؤال من الوجهة الدينية محضاً، وإن كنت أعلم أنّ ذلك ممّا لا يُعَوِّل عليه المشكّك الناقد، ولا يعتدّ به المُعْتَرِضُ المُتَحَيِّر، سيّما لو كان ممّن لا يعرف الحسين(ع) كما تعرفه علماء الشيعة وخواصّها، إماماً معصوماً لا يتطرّق إليه العبث والعيث، فضلا عن الغلط والاشتباه، بل غاية ما يقول فيه أنّه من عَلِيّةِ الرجال وأفاضلهم، نسباً ونفساً وشجاعة وبراعة، لكن لا يمنع كُلُّ ذلك مِنْ أنْ يجري عليه ما يجري على غيره مِن نوابغ الدهر، وأفذاذ البشر، من الصواب تارة، والخطأ أُخرى، والاستقامة أحياناً، والالتواء حيناً، وكرم سجاياه وعظم مزاياه لا يقع سدّاً بين العقول وبين النقد عليه في بعض سيرته وسياسته، إن لم يكن في كلّها ; والكمال لله.
    وحينئذ فلنفرض الحسين(ع) ـ كما يفترضه السائل ـ زعيماً من الزعماء يرى نفسه بما أُوتي من شرف الحسب والنسب أَوْلى بالخلافة من يزيد، وأحقّ بالمُلكِ منه، ولا جرم أنّه يبذل كلّ ما في وسعه لاستعادة ذلك الحقّ المغصوب منه ومن أبيه.
    أوّلا:
    فعلى الأقلّ أنّه لا يبايع يزيد ويصير رعية له، مع ما هو المعلوم من المجاهرةِ بإحياءِ كُلِّ رذيلة، وإماتةِ كُلِّ فضيلة.
    وعليه: فالجواب الذي ذكرته إذا كُسي حلّة أُخرى من البيان لم يكن للخصم لو أنصف أن لا يقتنع به.
    وهل من سبيل إلى الكشف عن نفسية يزيد وخسّة طبعه وعدم أهليّته، من حيث لؤم عنصره، وخبث سريرته، وقبح سيرته ـ مع قطع النظر عن الدين والشرع ـ أقرب وأصوب وأعمق أثراً في النفوس عامّة والعرب خاصّة والمسلمين بالأخصّ من هتك حرم النبوّة(ص) وودائع الرسالة، وجلبهم أُسارى من بلد إلى بلد، ومن قفر إلى قفر؟!
    وهل أعظم فظاعة وشناعة من التشفّي والانتقام بالنساء والأطفال بعد قتل الرجال؟!
    وأيُّ ظفر وغلبة على يزيد أعظم من إشهار هذه الجرائم عنه؟!
    أمّا القتل ; فقد كان عند العرب أهون شيء، وهو أمر معتاد متعارف لا شيء فيه من الفظاعة والغرابة، فكان الحسين(ع) أعرف أنّ يزيد وابن زياد من خبث الذات وسوء الملَكة مستعدّان لتلك الجرائم ; فأراد أن يبرزها منهم إلى الوجود وتكون الناس منهم على بيّنة محسوسة، ثمّ يكون الغالب بعدها هو المغلوب، والقاهر هو المقهور.
    نعم، يزيد قتل الحسين(ع) وأنصارَه، ولكنّ الحسين قتل يزيد وكلَّ بني أُميّة بأعظم من قتلهم له بألف مرّة ; قتلهم يزيد يوماً واحداً، وقتلوه وقومه إلى آخر الأبد.
    فأي الظفرين أعظم؟! وأيّ القتلين أكبر؟!
    وهذه الفلسفة قد أدركها حتّى الباحثون من الأجانب عن الإسلام، وقد ألمح إليها المستشرق الألماني (المسيو ماربين)، حيث قال: «لمّا كان الحسين يعلم عداوة بني أُميّة وبني هاشم، ويعرف أنّه بعد قتله يأسِرونَ عياله وأطفاله، وذلك يؤيّد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيّما العرب، كما وقع ذلك، جلبهم معه وجاء بهم من المدينة...
    إلى أن قال: ولمّا كانت أنظار المانعين محدودة، وأفكارهم قاصرة، ولا يدركون مقاصد الحسين العالية، وآخر ما أجابهم به: إنّ الله شاء ذلك، وجدّي أمرني به، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟
    فقال: إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا
    ». انتهى.
    أقول:
    وهذا الجواب ليس كما تخيَّلَهُ المستشرق جواباً إقناعياً، ودفعاً وقتياً، بل له مقامه الراهن من الحقيقة، ولعلّ الله سبحانه، وجدّه(ص)، إنّما أمراه بذلك كي يُفتضَح يزيد ويظهر حاله للناس، نحن لا نقول: إنّ الطريق لهتك يزيد انحصرت بهتك العيال ; ولكن نقول: إنّه كان أحد الطرق التي لها التأثير الكبير في المقصود.
    والقول:
    إنّه لا يجوز في الدِّين أن يُعَرِّضَ نساءه للهتك مهما كان الأمر ; فهو منبعث عن البساطة والسذاجة، فإنّ الذي لا يساعد عليه الدِّين، بل ولا تسمح به الغيرة، هو تعريض الإنسان عِرْضَهُ للهتك الموجب لِما يمسّ الشرف، ويخدش رواق العفّة والصيانة، وسرادق النجابة والحصانة.
    أمّا الهتك الذي تستحكم به عرى القدس والطهارة والعزّة والمنعة، فذلك ممّا لا يشين ولا يهين، وتلك الحرائر صلوات الله عليهنّ مهما سَفِرْنَ فَهُنَّ محجّبات، ومهما تَبَذَّلْنَ فهنّ مَصونات، وهنّ بحيث النجم من يد المتناول.
    يَشُعُّ على وجهِ البراقِعِ نورُها * فيحسب راء أنَّهُنَّ سَوافِرُ

    والغرضُ:
    إنّ هذا الجواب محكم رصين، وله حظّه من الحقيقة، وإذا لم يقنع به الناقد والمشكّك فهناك:
    وجه ثان وجيه أيضاً، وهو:
    إنّ الحسين(ع) في كلّ أدواره وأطواره، ومنذ نشأ وشبّ إلى آخر نفَس من حياته كانت شيمته الشمم والشهامة، وعزّة النفس والإباء والكرامة، تتجلّى وتشعّ من جميع حركاته وسكناته، وكلّ أحواله وملَكاته، ولو ذهبنا إلى سرد الشواهد على هذا لجاء كتاباً مفرداً، ومجموعاً وافياً.
    ويخطر لي أنّ الحسن(ع) لمّا صالح معاوية على الشروط التي لم يفِ بشيء منها، وكان قد حضر عند معاوية مع خواصّ أصحابه للبيعة، فبايع الحسن ومن معه، وطلب معاوية البيعة من الحسين(ع)، فقال: دعه! فإنّه لا يبايع، ولكن لا يأتيك منه سوء.
    فقال: حسبنا منه ذلك
    .
    وبعد أن تمّ الأمر لمعاوية كان الحسين(ع) إذا اجتمع به في حشد من محافل الشام أو الحجاز يناضله ويناظره فيرضخه من القول بالصَّلادِم، ويصكّ جبهته بما هو أمضّ من الصَّوارِم ـ ورُبّ قول أنفذ من صولـ ومعاوية يحتمل كلّ ذلك منه لِما يعلم من عزّة نفسه وشدّة شكيمته.

    مرّ على الحسين عشرون عاماً ـ مدّة خلافة معاوية ـ ما ذاق فيها طعم الخضوع والاستكانة، حتّى إذا هلك معاوية وامتنع عن البيعة ليزيد، ورأى من السداد الهجرة عن المدينة ; ليعرف العالم الإسلامي امتناعه عن البيعة، فخرج من المدينة بأهل بيته قاصداً مكّة، ولزم الطريق الأعظم (الدرب السلطاني)، فقيل له: «لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير؟
    فقال: لا والله لا أُفارقه أو يقضي الله ما هو قاض».
    فالحسين ـ وعلى ذِكره السلام، هو يحمل بين جنبيه هذه النفس الكبيرة ـ لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق أبت نفسه الكريمة، وأنفت همّته القعساء أن يخرج هو وولدانه وغلمانه على ظهور خيولهم خروج المتشرّد الخائف، والنافر الفزع، ولم يرض لنفسه إلاّ أن يظهر بأسمى مظاهر الأُبَّهَةِ والهَيْبَةِ والجَلالِ والحِشْمَةِ في الموكب الملوكي، وفخامة الملك والسلطان.
    ومن المعلوم أنّ لحمل الحرم والعائلة من لوازم الفخامة والعظمة، وشوكة المناطق والسرادق، ما لا يحصل بدونها، ولو خرج سلام الله عليه من أوطانه وترك عقائله في عقر دارهم لكان خروجه أشبه ما يكون بصعاليك العرب وأهل الغزو والغارات والمتلصّصين، وحاشا لسيّد أهل الإباء أن يرضى لنفسه بتلك المنزلة والخطّة السافلة، بل سار بأهله وذراريه ليكون على مهاد الدعة والسكينة والهدوء والطمأنينة، كَسَيْر أكبر ملك من ملوك الدنيا وأوسعهم في القدرة والسلطان.
    ولا تخالنّ في كلمتي هذه ضرباً من الخيال، أو شيئاً من المبالغة والغلوّ; كلاّ، فإنّك لو نظرت إلى بعض الخصوصيات في سيره لوجدت منها أوثق شاهد لك على ما ادّعيناه.
    أنْعِمِ النظر في قصّة الحرّ التي اتّفقت على نقلها أرباب المقاتل وأُمناء التاريخ والسيَر، حيث التقى بالحسين في قفر من الأرض لا ماء فيه ولا كلاء، وقد أمضّ به وبأصحابه العطش، وَهُمْ زُهاءَ ألف فارس على ألف فرس، فقال الحسين(ع) لفتيانه: «اسقوا القوم وأوردوهم الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»، ففعلوا وأقبلوا يملأُون القِصاعوالطِساس من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقي آخر حتّى سقوها عن آخرها.
    فانظر أوّلاً واعجب ما شئت بهذا الحنان والرحمة والعطف والإشفاق، فإنّ القوم الّذين سقاهم الحسين(ع) كانوا أعداءه، وقد جاءُوا مِنْ قِبَل ابن زياد للقبض على الحسين(ع)، حتّى إنّ عليّ بن طعّان المحاربي ـ وهو عراقي من أصحاب الحرّ ـ لم يعرف كيف يشرب من الراوية وكيف يخنث السقاء كما يفعله الحجازي، فكان يشرب والماء يسيل على أشداقه وثيابه، فنزل الحسين(ع) بنفسه وخنث السقاء حتّى شرب وارتوى.
    واعجب ثانياً لإيثاره بالماء في بادية قحلاء وصحصحان أجرد، والماء فيه أعزّ من الذهب، وقد لا يجدونه في يومين أو ثلاثة أو أكثر، فأيٌّ سخاء هذا السخاء؟! وأيُّ نفس تلك النفس؟!
    واعجب ثالثاً ـ وهو محلّ الغرض ـ كم كانت سعة ذلك الموكب السلطاني وإدارة ذلك الركاب الملوكي؟!
    وكم كان يحمل من الماء؟! حيث سقى نفسه وأعداءه، سقى ألف فارس وألف فرس، وعلى أقلّ تقدير أنّ النفوس التي كانت مع الحسين(ع)، من أولاده وأنصاره وعيالاتهم ألف نفس، وحمولهم (المِكارَهْ) التي تحمل خيامهم وأمتعتهم، وما إليها من قدور وقصاع وطساس، ونحو ألفين من الخيل والبغال غير الإبل، فتكون النفوس المحتاجة إلى الإرواء بالماء في ذلك الموكب ـ على أقلّ التقادير ـ خمسة آلاف أو أربعة آلاف نسمة، غير الفضلة الاحتياطية التي سقى منها الحرّ وأصحابه وخيولهم.
    فالموكب الذي يحمل من الماء ما يروي ستّة آلاف أو سبعة آلاف نسمة، كم ترى يكون ضخامة ملكه وفخامة سلطانه؟!
    وإذا صحّ ما رواه الطريحي في «مجمع البحرين» من أنّ الحسين(ع) لمّا نزل كربلاء اشترى أرض نينوى والغاضرية من بني أسد بستّين ألف درهم، واشترط عليهم أن يدلّوا زوّاره على قبره ويضيّفوهم; انتهى بمعناه; فكم كان معه من الأموال والنقود التي يكون فضلتها ستّون ألفاً؟!
    وأزيدك شاهداً على ذلك من عظمة الملك والسلطان قضية محمّد بشير الحضرمي ـ الذي رواه السيّد ابن طاووس وغيره حين قيل له ليلة عاشوراء ليلة القلق والأرق، الليلة التي كانت المَنايا فيها على الحَوايا، والحِمام يحوم فيها على الخيام ـ قيل له: «إنّ ابنك أُسر في ثغرَي الريّ; فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما أُحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده; فسمع الحسين(ع) قوله، فقال له: رحمك الله، أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك.
    فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.
    قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه.
    فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار».
    وعليه: فيكون قيمة كلّ ثوب مئتي دينار (مئة ليرة ذهب).
    وأنا لا أدري ما كانت تلك الثياب التي قيمة الواحد مئة ليرة؟! وكم كان معه مثلها؟! ولماذا يحملها وأمثالها معه في تلك المراحل؟!
    هذه سؤلة لعلّك في غنىً عن الجواب عنها، ولكن أيّها الناقد المشكّك! أتحسب أنّ الحسين(ع) كان صعلوكاً من صعاليك العرب، ولئيماً من لئامها، كابن الزبير، الذي يقول لجنده: «أكلتم تمري وعصيتم أمري»؟!
    ويقول للوافد عليه، المستجدي منه، بعد أن قال له: إنّ ناقتي قد نقبت.
    فقال: ارقعها بهلب، واخصفها بسبت.
    فقال الوافد: لعن الله ناقةً حملتني إليك.
    فقال: إنّ وراكبها».
    لا يا هذا! الحسين أكبر ممّا تظنّ، الحسين أكبر من أن يتخلّص من طواغيت بني أُميّة الّذين أرادوا سفك دمه في حرم الله فتنتهك به حرمة الحرم، كما فعل ابن الزبير وفعلوا به، هو أكبر من أن يخلص بنفسه ويترك عياله يشرئبّون إليه ويتطلّعون إلى أخباره ويناشدون الركبان عنه.
    وأمّا ما تخيَّلْتَهُ من أنّ هتك الحريم لا يقدم الغيور عليه مهما كان الأمر، فهو وَهمٌ زائف، وقد عرَّفناك أنّ الهتك المُشين هو الذي يلمس أذيال العفّة، ويمسّ ذلاذل الشرف، لا الذي تستحكم به أسوار الصون وسياج العفاف.
    وبعد هذا كلّه، فهل أقنعك هذا الوجه، وعرفت كيف كانت منزلة الحسين(ع) من عظمة الشأن وسموّ السلطان؟!
    وهناك وجه ثالث لحمل العيال، وهو: كما كانت العرب عليه من أنّهم إذا أرادوا أن يستميتوا في الحرب، ويصبروا للطعن والضرب، جعلوا الحريم خلفهم، واستقبلوا العدوّ، فأمّا الحتف أو الفتح، ويستحيل عندهم النكوص أو الفرار، وترك الحريم للذلّ والإسار، ويشهد لهذا عدّة وقائع لا تغيب عن الضليع في تاريخ العرب، عليه حَمَلَ العيال كي يستميت أصحابه دونها، وينالوا درجة السعادة بالشهادة كما فعلوا.
    وهناك وجه رابع لعلّه أوجه من تلك الوجوه، وأقربها إلى الحقيقة، وإنْ كانت للحسين(ع) ملحوظة وراء التعبّد والانقياد والرضا والتسليم للمشيّة القاهرة، وكانت سياسة عن فلسفة نظرية، وتدابير بشرية، فهي هذه الملاحظة التي سوف نبديها ونشير إليها على الجملة حيث لا سعة للتفصيل.
    تقول أيّها الناقد: «إنّ الحسين(ع) كان يعلم أنّه يقتل»..
    نعم، وأنا أقول كذلك، بل يعلم أنّ جميع مَنْ معه مِن الرجال، بل وكثير من الأطفال يُقتلون حتّى الرضيع، ولا يفلت إلاّ وَلَدهُ زين العابدين من أجل العلّة والمرض.
    فلمّا عَلِمَ ذلك كُلّه، وَعَلِمَ أنّ بني أُميّة وأشياعهم سوف يموّهون، بل كانوا قد موّهوا على المسلمين أنّ الحسين(ع) خارج على إمام زمانه، وهو يزيد المنصوب بالنصّ عليه بالاستخلاف من الخليفة الذي قبله وهو معاوية، فالحسين(ع) بخروجه باغ، وحكم الباغي القتل {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، فتكون هذه الفتوى وهذا التمويه أعظم على الحسين مِن قتله.
    وهذا الطلاء المبهرج، وإنْ كان لا يخفى على العارفين والنياقدة، ولكنّهم بالضرورة خاضعون للسلطة، قد شملتهم الذلّة، وأخملتهم القلّة، وألجمهم الخوف والتقيّة، سيّما بعد الفراغ من أمر الحسين (ع)، فلا رحمة لأحد بعده ولا حرمة، والناس كما قال هو سلام الله عليه يوم الطفّ، وكما هو حالهم اليوم: «عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم»، فمن ذا يقدر أن ينبس بالحقيقة، فضلاً عن الإصحار بها، وسيوف يزيد وابن زياد فوق أرؤسهم، وأموالهم نصب أعينهم؟!
    وتعلم كيف يلعب الرجاء والخوف في النفوس، فحينئذ فلا يمرّ حول أو حولان إلاّ وقد سجّل التاريخ أنّ الحسين (ع) ـ وأستغفر الله ـ باغ عات وقد قُتل بحكم شريعة جدّه.
    وبَعّدَ الناقدُ فريتَه بقوله: هلاّ بايع كما بايع أخوه الحسن (ع) ودفع عن نفسه وأهله القتل؟!
    كيف؟! وقد قال بعض النواصب في القرون الوسطى: إنّ الحسين قتل بسيف شريعة جدّه.
    وهذه عند الحسين ـ وهو عَلَمُ الحقّ، ومنارُ الهُدى، وجسمُ روحِ الغيرة والإباء ـ رزيّة لا رزيّة فوقها، ومصيبة لا مصيبة أعظم منها.
    فعلى من يعتمد الحسين(ع) في دفع هذه الغائلة، وتفنيد هذه الضلالة، وإنقاذ المسلمين من هذه الورطة المهلكة؟!
    أَعَلى رجال وكلّهم سوف يقتلون معه بعلم منه؟!
    أم على زين العابدين، وهو أسير مشغول بعلّته، وقتله أهون عليهم من قتل ذبابة؟!
    فمَن يقوم للحسين بهذه المهمّة بعد قتله؟!
    ومَن ذا يقرع بالحجّة، ويوضح المحجّة، ويكشف الحقيقة، ويتعقّب القضية، ويخطب في النوادي الحاشدة، والجوامع الحافلة، تلك الخطبة البليغة، والحجج الدامغة؟!
    تصوّر ذلك العصر مليّاً، واستوسع التأمّل في تلك الأوضاع، وانظر هل كان من الممكن أن يقوم بشيء من ذلك أكبر رجل باسل؟!
    وهب أنّ الممكن أن يفادي رجلٌ بنفسه للحقّ وإبداء الحقيقة، ولكن هل يمهلوه إلى أن يستوفي الغرض ويبلغ الغاية؟!
    أَوَليس عبد الله بن عفيف الأزدي، ذلك البصير الذي ذهبت عيناه، واحدة يوم الجمل والأُخرى بصفّين ; نعم، ذهبت عيناه، ولكن فتح الله له في قلبه عشرة عيون، وسقط الجهاد عنه بيده، ولكن جاهد في لسانه بعشرة أسياف إلى أن أحرز الشهادة في هذا السبيل.
    فإنّه لمّا سمع خطبة ابن زياد على منبر الكوفة بعد قتل الحسين(ع) وهو يقول: «الحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب»، نهضت به الحمية والحماية للحقّ، وفادى بنفسه في ذلك الحشد الرهيب، فقام وقطع عليه خطبته قائلا له: «إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت ومن استعملك يا عدوّ الله، تقتلون أولاد النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين.
    فغضب ابن زياد وقال: من هذا المتكلّم؟!
    فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ الله!
    أتقتل الذرّيّة الطاهرة الّذين أذهب الله عنهم الرجس وتزعم أنّك على دين الإسلام؟!
    واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّد(ص)؟!
    فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، وقال: عَلَيَّ به!
    فقام الجلاوزة فأخذوه، وقامت الأشراف من الأزد عشيرته فخلّصوه، وانطلقوا به إلى منزله».
    ولكن هل خلص ونجا من ذلك الطاغية؟! وهل كان آخر أمره إلاّ أن أُحضر بين يديه فضرب عنقه صبراً وصلب جثمانه في السبخة في قصّة طويلة، وما ظفر ابن زياد به إلاّ بعد حرب سجال وتحريش منه خبيث بين اليمانية والمضرية على قاعدة التفرّق.
    نعم، ما أنكر على ابن زياد إلاّ عبد الله بن عفيف رضوان الله عليه، وإلاّ ذلك الصحابي الضعيف بكلّ مواقع الضعف، ألا وهو زيد بن أرقم، فإنّه حين رأى رأس الحسين(ع) بين يدَي بن زياد وهو يضربه بعوده، قال له: «ارفع عودك عن هاتين الشفتين! فوالله لطالما رأيت رسول الله(ص) يقبّلهما.
    ثمّ بكى زيد، فقال له ذلك الخبيث: أتبكي لما فتح الله للأمير؟! لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأخذت الذي فيه عيناك!
    فخرج زيد وهو يقول: ملَكَ عبدٌ حرّاً، أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم، قتلتم ابن بنت رسول الله وأَمَّرْتُم ابن مرجانة».
    ولا أستحضر مُنْكِراً على ابن زياد غير هذين الرجلين، وكلماتهما وإنْ كانت ذات قيمة ثمينة في مثل تلك الأيّام العصيبة والمواقف الرهيبة، ولكن أيّ شيء لها من التأثير؟!
    وما ميلها في تلك التيارات الجارفة والزوابع القاصفة؟!
    وهل هي إلاّ كلمات قيلت وذهبت أدراج الرياح؟!
    وهل كانت تكفي لإيجاد بواعث الثورة، وتكوين الانقلاب على بني أُميّة وتحرير النفوس وغليان الأفكار وتأجيج النار لطلب الثار؟!
    كلاّ ثمّ كلاّ، فإنّ الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى المثابرة والتعقيب في الخطب الرنانة والكلمات المهيّجة، وتشهير المثالب والمساوئ، ونقد السيّئات ونعيها على تلك الدولة الغاشمة والسلطة الظالمة والحكومة الجائرة.
    فإنّ بهذا ومثله تتكوّن في الأُمّة روح ثورة وانفجار يكتسح ظلم الظالمين، وتقتلع عروق الجور والاستبداد.
    قل لي برأيك أيّها الناقد، أيّ رجالات ذلك العصر كان يقدر على القيام بتلك المهمّة، ويقوى على النهوض بذلك العبء؟!
    أليس قصارى أمره مهما كان من البسالة والجرأة أن يقول الكلمتين والثلاث، فيقال: خذوه فاقتلوه فاصلبوه في السبخة أو في الكناسة؟!
    أليس زين العابدين(ع) مع أنّه عليل أسير ـ والأسير لا يُقتل ـ قد أمر ابن زياد بقتله لجواب خفيف وقول طفيف، فإنّ ابن زياد بعد أن فرغ من تحدّي زينب وأخرجته بقوّة العارضة والبيان من الميدان مكعوماًبالخزي والخذلان التفت إلى زين العابدين، فقال: « من هذا؟!
    فقيل له: هو عليّ بن الحسين(ع).
    فقال: أليس قد قتل الله عليّاً؟!
    فقال سلام الله عليه: كان لي أخ يقال له عليٌ قتله الناس.
    فقال ابن زياد: بل الله قتله!
    فقال الإمام: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}.
    فقال له: أَوَبـِكَ جرأةٌ على ردّ جوابي؟! يا غلمان! خذوه فاضربوا عنقه!
    فتعلّقت به زينب، وقالت: يا بن زياد! حسبك من دمائنا ما سفكت، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه.
    فقال الطاغية: عجباً للرحم! فوالله لَوَدَّتْ أن تموتَ دونه، اتركوه لِما به».
    وما تركه رحمةً لها، ولكن قد رأى أنّ العلّة والإسار والأغلال والجامعة ستقضي عليه وتكفي ابن زياد مؤنة قتله.
    فإنّ سلامة زين العابدين وبقاء حياته كان من خوارق العادة، وعلى خلاف مجاري الأسباب، ولو قُتل أو مات في تلك البرهة لانقَطَعَ نسل الحسين، ولكن مشيئة الله سبحانه وقضاءه السابق بأنّ الأئمّة من ذرّيّته لا يردّ ولا يُغلب، وكانت زينب هي السبب في حفظه على الظاهر.
    فليكن هذا وجهاً خامساً لحمل العيال، فلعلّ الحسين عرف العلّة والمرض لا يكفي في سلامة ولده، وأنّهم قد يقتلونه على مرضه، وأنّ لزينب موقفها الباهر في المفاداة والدفاع عنه.

    تعليق


    • #17
      وكلّ غرضنا من سحب أذيال هذا المقال، أن يتجسّم لديك كيف كان الحال في كمّ الأفواه، وعقل الألسن، وإرجاف القلوب، ومشق الحسام لضرب الهام على أقلّ الكلام.
      إذاً فمَن يَردّ تلك الأمانة ويؤدّي تلك الوديعة، وديعة الحقّ، وأمانة الصدق، والانتصار للحقيقة، وإزهاق الباطل؟!
      نعم، قُمْنَ بكلّ تلك الوظائف على أوفى ما يرام، وأتمّ ما يحصل به الغرض، قُمْنَ به ودائع النبوّة وحرائر الوحي والرسالة، نهضن بتلك الأعباء الثقيلة التي تعجز عنها الأبطال وأُسود الرجال.
      كأنّ الحسين(ع) علم ـ ولا شكّ أنّه علم ـ أنّه سيُقتل هو وجميع أهل بيته وأنصاره، ولا يبقى رجل يتسنّى له الكشف لجمهرة ذلك الخلق التعس عن فظاعة تلك الجناية وشناعة تلك الجرائم السيّئة، ولو أهمل هذه الناحية المهمّة لذهب قتله سدىً، ولفات الغرض والغاية، فلم يجد بُدّاً من حمل تلك المصونات معه لتكميل ذلك المشروع الذي ابتذل نفسه ونفوس أعزّته في سبيله.
      وعلم سلام الله عليه أنّ بني أُميّة مهما بلغوا في خرق النواميس وهتك الحرمات والتجاوز على الشناشن العربية، والشرائع الإسلامية، ولكنّهم لا يقدرون على قتل النساء; لا يقدرون على قتل امرأة مصابة مفجوعة تكلّمت بشيء من الكلام تبريداً وتسكيناً للوعتها.
      ويوم الطفّ وإنْ قَتَلَ حزبُ بني أُميّة عدّةً من النساء الوديعات، كما قتلوا الأطفال، ولكنّ الحربَ لها أحكام وشواذّ لا تجري في غيرها.
      لا، وكلاّ، لا يستطيع ابن زياد ـ مهما طغى وتجبّر ـ أن يقتل ساعة السلم امرأة عزلاء، أسيرة بين يديه، لا تحمل من السلاح إلاّ قلبها ولسانها، قلبها درعها، ولسانها ] سيفها [، لا يستطيع أن يقتل امرأة مهما تجرّأت عليه، بل ولا يستطيع أن يمدّ يده إليها فيضربها.
      إنّ زينب العقيلة لمّا سوّدت وجه ابن زياد ولطمته تلك اللطمة السوداء بقولها: «ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!»، اسودّت الدنيا في عينه، حيث عرف والحاضرون ما أرادت، فَهَمَّ أن يضربها، ولكنّ عمرو بن حريث، وهو من أكبر القوّاد في جند ابن سعد، وكان أميراً على الرجّالة بعد أن كان من خواصّ أمير المؤمنين في صفّين، أنكر عليه وجاءه بحجّة، وهي أنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فقال ابن زياد: «أما تراها كيف تجرّأت علَيَّ؟!».
      كان الحسين وأنصاره قد وقفوا يوم الطفّ موقفاً تجسّمت فيه روح الشجاعة والبسالة، وأصبح المثل الأعلى للعزم والإقدام والاستهانة بهذه الحياة في سبيل العزّ والإباء، ودون موارد الذلّ!
      وقفوا موقفاً ما حدّثنا التاريخ بمثله، ولا سمع الدهر بنظيره!
      وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً، ومددهم إلى الكوفة، بل إلى الشام متواصل، وهؤلاء لا مدد لهم، هؤلاء على شاطئ النهر يكرعون منه، وينتهلون كلّ حين، وأُولئك قد حُبسوا عن الماء يومين أو ثلاث، والعطش وحرّ الهجير ورمال الصحراء أحرق أجسادهم، وفتّت أكبادهم، وأطفالهم يتصارخون من العطش نصب أعينهم، وعلى احتفاف أضعاف ذلك الرزايا والمحن بهم.
      نعم، ومع كلّه ما هانوا ولا استكانوا، ولا فشلوا ولا ذلّوا، بل كانوا يزدادون بشراً وطلاقة، وعزماً وصلابة، وعزّاً وشهامة.
      حقّاً إنّه لموقف باهر، ومقام قاهر، وحديث مدهش، ونفوس غريبة، بل وفوق الغرابة بمكان!
      ولكن ألا أدلّك على أدهى من موقف أنصار الحسين(ع) وأدهش وأبهى وأبهر؟! هو موقف عقائل النبوّة في مجلس يزيد وابن زياد!
      أتستطيع أن تستحضر في نفسك، وتتمثّل في أُمّ رأسك مجلس ابن زياد في قصر الإمارة بالكوفة وقد أَدْخَلوا عليه السبايا والرؤوس، وفيهنّ الحرّة الحوراء زينب الكبرى، وهو سكران بنشوة الفتح والظفر، ورؤساء الأرباع والأسباع، ورؤوس القبائل مثول بين يديه، والدنيا مقبلة بكلّ وجهها عليه؟!
      دخلت عليه تلك العقيلة وجلست ناحية متنكّرة، فأبت نفسه الخبيثة أن يصفح صفح الكرام، ويغضي إغضاء الأماجد، أبت نفسه إلاّ إظهار الشماتة، ولؤم الملَكة، وخبث الظفر، وسوء الاستيلاء، وقبيح الأثرة، فسأل ـ ولا شكّ أنّه......، ويهتكها ـ وهو المهتوك ـ وقال: «مَن هذه المتنكّرة؟!
      فقيل له: هي زينب بنت عليّ(ع).
      فقال لها قول الشامت الشاتم: أرأيت كيف صنع الله بأخيك الحسين والعتاة المردة من أهل بيته؟!
      فقالت ـ قول الثابت الجَنان، المتدرّع بدلاص اليقين والإيمان، المستحقر له ولكلّ ما له من قوّة وسلطان ـ: ما رأيت إلاّ جميلاً، أُولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفلج؟! ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!
      فلمّا لطمته بهذه اللطمة السوداء لم يجد سبيلاً للتشفّي منها والانتقام إلاّ بأسوأ الكلام من السباب والشتيمة، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم، وأكذب أُحدوثتكم.
      فقالت ـ غير طائشة ولا مذعورة ـ: إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا.
      وقف الحسين وأنصاره ظهيرة عاشوراء وهم على خيولهم الجياد، وفي أيمانهم البيض الحداد، وعلى متونهم السمر الصِّعاد، قد رفلوا بأبراد العزّ، وتكلّلوا بتيجان الشرف، لا يُقتل منهم واحد حتّى يَقتلوا ألفاً من عدوّهم، وهم ضاحكون مستبشرون، ثقة بما يصيرون إليه بَعدُ من منازل الفردوس الأعلى في دار النعيم.
      كان هذا موقف الحسين وأنصاره يوم الطفّ.
      ووقفت زينب بنت عليّ(ع) والخفيرات من أهل بيتها في مجلس ابن زياد وهم في قيد الإسار، وذلّ الصغار، لا ترى أمام عينها إلاّ عدوّاً شاتماً، أو كاشحاً شامتاً، أو قاتلا لحُماتها وسُراتها، واليتامى والأيامى حولها، كلّ هذه الشؤون والشجون ممّا تذيب القلب، وتذهل اللبّ، وتطيش عندها الأحلام، وتخرس الألسنة، وتموت الفطنة، ولا يستطيع أجلد إنسان أن ينبس بكلمة في مثل تلك الكوارث.
      أفهل تخشى ـ لو تصوّرت مزايا تلك الرزايا لزينب ـ أن تقول: إنّ موقفها عند ابن زياد كان أعظم من موقف أنصار الحسين يوم الطفّ عند جند ابن سعد؟!
      قل ولا تخف، وعلَيَّ الإثبات.
      هل أحسستَ في تلك الساعة الرهيبة من زينب أمام عدوّها القاسي الظالم الشامت الشاتم أن تلجلج لسانها؟! أو اضطرب جَنانها؟! أو ظهر عليها ذرّة من الذلّ والاستكانة؟! أو خضعت فانقطعت؟! أو عجزت عن ارتجال الخطب البليغة التي لو جاء بها الوادع الساكن والمطمئنّ الآمن بعد ليال وأيّام لكانت آية من آيات الإبداع، ورمزاً من رموز البراعة؟!
      فكيف وقد اندفعت بها في حشد الرجال على سبيل الارتجال، وهي على ما عرفتَ من الوضع ; عنه يقال في الشدّة: « بين ذارعي وجبهة الأسد »، تتقاذفها لهوات الكُرب، وتلوكها وتمضغها أنياب النوب، حتّى إنّ ابن زياد أعجَمَ عُودَها، فرآها صلباً مرّاً، لا يلين لغامز، ولا يلذّ لماضِغ، وأنّها لا تنقطع ولا تكلّ، ولا تعرف للرهبة وللخوف معنىً، وخشي أن لا تُبقي من هتكه وفضيحته باقية، وأن تقلب عليه الرأي العامّ، وتُحْدِث في جماعته فتقاً لا يرتق، غيَّرَ من خطّته، وتنازل عن غُلوائه وشدّته، فكان آخر كلامه معها بعد أن شفت غليلها منه: لعمري إنّها لسجّاعة، ولقد كان أبوها أسجع منها؟!
      لا يا بن مرجانة! ما هي بسجّاعة، هي أُمثولة الصبر والثبات، ورمز غلبة الحقّ على الباطل، واحتقار الحكم الزائف والملك الزائل، وسلطنة الخداع والمكر.
      لا يا بن مرجانة! هذه زينب بنت عليّ الذي عَلَّمَ الناس الفصاحة، والبراعة، والشجاعة، والسجاعة.
      هذه زينب بنت الزهراء البتول، لا كمرجانة وسميّة ذوات الأعلام في الجاهلية والإسلام.
      هذه زينب بنت الطاهرة العذراء، لا كهند الخرقاء، صاحبة القارعة والفاكّة، التي يقول فيها حسّان شاعر النبيّ(ص) :
      لمنِ الصبيُّ بجانبِ البطحاءِ***..............البيتين
      وما كانت تلك الشجاعة منها سلام الله عليها في مرّة أو مرّتين، بل كانت كلّما ضاق الأمر، واشتدّت المحنة، وتجمهر المتفرّجون عليهم عند دخولهم الكوفة، وعند خروجهم منها، وفي قصر الإمارة، وفي مجلس ابن زياد ; في كلّ ذلك تتحدّى فتُدْهش، وتحتجّ فتُفْلج، وتخطب فتُعْجب، تخطب خطبة البليغِ المُدِرِّ، والمِصْقَعِ المُفَوَّهِ الذي تهيّأت له كلّ أسباب الدِّعَة والراحة والفراغ والطمأنينة.
      دخل السبي إلى الكوفة بحال (يذوب الصفا منها ويشجي المحصبُ)، فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال عليّ بن الحسين(ع) وقد أنهكته العلّة: «تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحَكَمُ بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء».
      ثمّ تعاظمت الفجيعة فصار الرجال والنساء يبكون معاً، فقال(ع) : « أتبكون وتنوحون لنا؟! فمن قتلنا؟!».
      قال بشر بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت عليّ(ع) يومئذ فلم أرَ خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين (ع)، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت:
      « الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله.
      أمّا بعد.. يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟!
      فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي {نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا
      }.
      واندفعت كالسيل المنحدر، إلى أن قالت:
      أتبكون وتنتحبون؟!
      إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها.
      ويلكم! أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم؟! وأيَّ دم له سفكتم؟!
      أفعجبتم أن قطرت السماء دماءً {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنّكم الجهل، فإنّه لا يحفزه البِدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد.

      قال: فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً يبكي حتّى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يذلّ ولا يخزى».
      ثمّ خطبت أُمّ كلثوم بخطبة بليغة.
      ثمّ خطبت فاطمة الصغرى بخطبتها التي تقول في أوّلها: «الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى...» إلى آخر ما قالت.
      هذا كلّه وهم سائرون يساقون في السبي على الهوادج والمحامل، وفي الكوفة، وعند ابن زياد.
      ولكن هلمّ معي ندخل مع هذا السبي إلى الشام وننظر كيف دخوله على يزيد ووقوفهم بين يديه، ولنستبق إلى مجلس يزيد نتبوّأ لنا موقفاً منه قبل ازدحام المتفرّجين وتزاحم النظّارة..
      ووقفنا في حاشية النادي الأُموي نتطلّع..
      هذا يزيد جالس على السرير فوق المصطبة العالية، وهو مخمور يرنّح أعطافه من خمرتين: خمرة العُقار، وخمرة الانتصار، ومنتش بنشوتين: نشوة الملك، ونشوة الفتح والظفر، ودونه طواغيت بني أُميّة من الأعياص والعنابسة من بني عبد شمس، وهم على كراسي الذهب والعاج، يرفُلون بحلل الديباج..
      وهذه أقداح الشراب والخمور، ونخب الفرح والسرور تدار عليه وعليهم، والأعواد والمزامير تضرب لديهم..
      فبينما [هم] على هذا ومثله، إذ أدخلوا سبي آل محمّد(ص) مربّقين بالحبال، بين نساء وأطفال..
      هناك استفزّته نشوة الأُنس والطرب، وتمنّى حضور أشياخه قتلى بدر، من عتبة وشيبة والوليد; ليشاهدوا أخذه بثأرهم، وقيامه بأوتارهم، وأنّه زاد على أخذ الثار بقتل الرجال وسبي العيال، قائلاً:
      ليت أشياخي ببدر شهدوا ***.............
      هنالك قامت العقيلة زينب فقالت، واسمع ما قالت، وانظر كيف خطبت، وهل راعها أو هالها شيء من تلك المظاهر الهائلة، وتأمّل في فقرات خطبتها التي قصمت بها الفَقار من ظهر يزيد، وكانت أشدّ عليه من ضرب الحسام في يد الضرغام، وانظر كيف صيّرته ـ وهو بتلك الأُبّهةـ أحقر من قلامة، وأقذر من قمامة، قامت صلوات الله عليها فقالت:
      «صَدَقَ اللهُ كَذلِكَ حينَ يَقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.
      أَظَنَنْتَ يا يَزيد حَيْث أَخَذْتَ عَلَيْنا أَقطارَ الأَرْضِ وَآفاقَ السَماءِ، فَأصْبَحْنا نُساقُ بَيْنَ يَدَيْكَ كَما تُساقُ الأُسارى، أنّ بِنا عَلى اللهِ هَواناً وَبِكَ عَلَيهِ كَرامَة، وَأنّ ذلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ عِنْدَه؟! فَشَمَخْتَ بِأنْفِكَ، وَنَظَرْتَ في عطْفِكَ، جَذلان مَسْروراً، حَيْث رَأيْتَ الدُنْيا لَكَ مُستَوْسِقة، وَالأُمور مُتّسقَة، وَحِينَ صَفا لَكَ مُلْكُنا وَسلطانُنا.
      فَمَهْلاً مَهْلاً! أَنَسيتَ قَولَ اللهِ عَز وَجَلّ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}؟!
      أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنّ، وأبديت...
      وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكبادَ الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!
      ثمّ تقول غير مستعظم ولا متأثّم:
      لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ***.............
      تهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلَتَرِدَنَّ وشيكاً مَورِدَهُمْ، وتودّنّ أنّك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، حسبك بالله حاكماً، وبمحمّد(ص) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وأيُّكُم {شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا}.
      أقول: ألا بحرمة الإنصاف والحقيقة قل لي: أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثّل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه، وزهوّه بعطْفه، وسروره وجذله باتّساق الأُمور وانتظام الملك، ولذّة الفتح والظفر، والتشفّي والانتقام، بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل؟!
      وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدمغ خصمه بتلك الكلمات وهي على الحال الذي عرفت؟!
      ثمّ لم تقنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل وعزّة الحقّ، وعدم الاكتراث والمبالاة بالقوّة والسلطة، والهيبة والرهبة.
      أرادت أن تُعَرِّفَهُ خِسَّةَ قدره، وضعة مقداره، وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله، وتعاليها عن حواره، وترفّعها عن مخاطبته، فقالت وتعاظمت بحقّ واستطالت:
      ولئن جرّت علَيَّ الدواهي مخاطبتك أنّي أستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء.
      ثمّ أرادت أن تجسّم له عياناً مقام العزّة، وموضع الصبر والجلد والثبات والسكينة..
      أرادت أن تعرِّفَهُ والناسَ جميل النظر في العاقبة، وأنّ الأُمور بعواقبها، والأعمال بخواتمها، وأنّ شرف الغاية ـ كما يقال ـ يبرّر الواسطة..
      أرادت أن تعرّفه شرف آبائها وأبنائها، وأنّ القتل والشهادة ما زادهم إلاّ فخاراً، وما جلب لعدوّهم إلاّ عاراً وناراً، فقالت وما أبلغ ما قالت:
      فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله
      لا تمحو ذِكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تَرْحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.
      فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل
      .
      هذا قليل من كثيرِ تلك الخطبة، التي هي آية في البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان!
      وهل يختلجك الشكّ والريب بأنّ كلّ فقرة منها كانت على يزيد أشدّ من ألف ضربة؟!
      وهل تشكّ أنّ هذه الخطبة وأمثالها كانت هي الضربة القاضية على مُلك يزيد ومعاوية؟!
      وهل أبقت لهم من باقية؟!
      وهل يبقى لك شكٌّ بعدُ أنّ مواقف زينب وأُمّ كلثوم وفاطمة الصغرى ورباب وسكينة، في الكوفة والشام، بل في كلّ موقف ومقام، كان لا يقصر ـ إنْ لم يتفوّق ـ على موقف حُماتهنّ وسُراتهنّ يوم الطفّ؟!
      وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين سلام الله عليه لو قُتل هو ووُلْدُهُ ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جُباراً، ولم يطلب به أحد ثاراً، ولضاع دمه هدراً، ولم يكن قتله إلاّ قتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب وأمثالهما ممّن خَمَدَ ذِكرهم وضاع وترهم؟!
      نعم، لا يرتاب لبيب عارف بأسباب الثورات، وتكوين انقلابات الأُمم، وتهييج الرأي العامّ، أنّ أقوى سبب لذلك هو الخطابة والسحر البياني الذي يؤثّر في العقول وينير العواطف!
      وإذا استحضرت واقعة الطفّ المفجعة وتواليها، تعلم حقّاً أنّه ما قلب الفكرة على بني سفيان، وانقرضت دولة يزيد بأسرع زمان، إلاّ من جرّاء تلك الخطب والمقالات التي لم يقدر أيّ رجل في تلك الأوقات الحرجة والأوضاع الشاذّة على القيام بأدنى شيء منها، فقد تسلسلت الثورات والفتن على يزيد من بعد فاجعة الطفّ إلى أن هلك.
      بل ما نهضت جمعية التوّابين، وتلاهم قيام المختار لأخذ الثار، وتعقّبتها واقعة الحرّة، التي هلك بعدها يزيد بأيّام قليلة ; ما كان كلّ ذلك إلاّ من أثر تلك المواقف المشهودة لزينب وأخواتها.
      فكان الحسين(ع) يعلم أنّ هذا عمل لا بُدّ منه، وأنّه لا يقوم به إلاّ تلك العقائل، فوجب عليه ـ حتماً ـ أن يحملهنّ معه، لا لأجل المظلومية بسبيهنّ فقط ـ كما شرحناه في الجواب الأوّل ـ بل لنظر سياسيّ وفكر عميق، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليّتها الأُولى!
      فقد أصبح الدين على عهد يزيد هو دين القرود والفهود، دين الخمور والفجور، والضرب بالعود والطنبور، وأوشك أن يذهب دين محمّد(ص) أدراج الرياح، وتكون نبوّته كنبوّة مسيلمةوسجاح، ونظرائهم.
      إذاً، فجزى الله تلك الحرائر بحسن صنيعهنّ عن الإسلام أحسن الجزاء، وكلّ مسلم مدين بالشكر لهنّ وللحسين(ع) إذا كان مسلماً حقّاً ويرى للإسلام حقّاً عليه.
      وعلى هذا، فيحقّ للجنس اللطيف ـ كما يسمّونه اليوم ـ أن يفخر على الجنس الآخر بوجود مثل تلك العليّات العلويّات فيه، وقد تجلّى واتّضح أنّ هذا الجنس الشريف قد يقوم بأعمال كبيرة يعجز عنها الجنس الآخر ولو بذل كلّ ما في وسعه، وأنّ له التأثير الكبير في قلب الدول والممالك، وتحوير الأفكار، وإثارة الرأي العامّ.
      وهذه نكتة واحدة من نكات السياسة الحسينية، وغور نظره في الشؤون الدولية لو قطعنا النظر عن الوحي والإمامة، وجعلناه كواحد من الناس قد ثار على عدوّ له متغلّب عليه، يريد الانتقام منه، يريد أن ينقله من عرشه إلى نعشه، ومن قصره إلى قبره، ومن ملكه إلى هلكه، ويريد أن يقضي على دولة أبيه ودولته، ولا يدع حظّاً في الملك لولده وذرّيّته.
      ومن تصفّح سيرة معاوية، وجهوده العظيمة، وتدابيره العميقة مدّة عشرين سنة، يعرف عظيم مساعيه، وكم كان حريصاً على توطيد دعائم الملك ليزيد، وحبسه أبداً عليه وعلى ولده، حتّى دسّ السمّ إلى الحسن(ع) وقتله مقدّمة لاستخلاف يزيد، وكم استعمل العامِلَين القويَّين السيف والدينار، والرغبة والرهبة، في تمهيد عرش يزيد وإعطائه صولجان الملك وتاج الخلافة الذي انتزعه من بني هاشم، وأعمل التدابير المبرمة في أن لا يعود إليهم أبداً.
      ولكنّ الحسين وعلى ذِكره آلاف التحيّة والسلام بتفاديه وتضحيته، وتدابيره الفلسفية، وإحاطته بدقائق السياسة، ثَلَّ ذلك العرش، وهدم ذلك البنيان الذي بناه معاوية في عشرين سنة، هدمه في بضعة أيّام، وما أثمر ذلك الغرس الذي غرسه معاوية ليزيد إلاّ العار والشنار، والخزي المؤبّد، واللعنة الدائمة، وصار معاوية المثل الأعلى للخداع والمكر، والظلم والجور، والرمز لكلّ رذيلة، ومعاداة كلّ فضيلة.
      كلّ ذلك بفضل السياسة الحسينية وعظيم تضحيته، وصار هو وأهل بيته ـ إلى الأبد ـ المثل الأعلى لكلّ رحمة ونعمة، وبركة وسلام، فما أكبره وما أجلّه!
      وقد بقيت هناك دقائق وأسرار لم يتّسع الوقت لنظمها في هذا السلك...، وهذا الذي ذكرنا هنا طرف من سياسة الحسين(ع)، وناحية من نواحيها، ذكرنا منه ما يتعلّق به الغرض في الجواب، ودفع الشكّ والارتياب.
      وفي الختام، أرجع فأقول: ما أدري، هل اندفع بهذه الوجوه الأربعة أو الخمسة اعتراض الناقد أو المشكّك على الحسين(ع) في حمل العيال؟!
      وهل انكشف الستار عن تلك الأسرار؟!
      فإنْ كان كلّ ذلك البيان لم يقنعه، ولم يدفع شكّه وريبه، فأمره إلى الله، ولا أحسبه إلاّ ممّن قال فيه سبحانه: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}.

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      x

      رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

      صورة التسجيل تحديث الصورة

      اقرأ في منتديات يا حسين

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
      استجابة 1
      10 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة ibrahim aly awaly
      بواسطة ibrahim aly awaly
       
      أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
      ردود 2
      12 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة ibrahim aly awaly
      بواسطة ibrahim aly awaly
       
      يعمل...
      X