إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الأمام الصدر ( في رحاب القرآن )

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    سـورة الكـافـرون

    بسم الله الرحمن الرحيم
    قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) صدق الله العظيم
    إنّ هذه السورة المباركة وردت أمام فكرة، طالما انتشرت بين قريش بعد أن وجدوا أنّ الإسلام ترسخ في النفوس، فلم يتمكن المعادون والمشركون من القضاء عليه.. من خلال تعذيب أهله والتآمر على حياة رسوله، ومقاطعة هذه الأمة الصغيرة التي بدأت تزحف في النفوس وفي الآفاق. فقد اجتمع نفر من قريش، في طليعتهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف. اجتمع هؤلاء وقالوا لرسول الله: "يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً".
    وهكذا حاولوا أن يساوموا رسول الله (ص) على الإسلام بعد أن يئسوا من محاربته، وأرادوا أن يميّعوا الرسالة اعتباراً منهم بأنّ الرسالة وسيلة الرزق والمجد لمحمد. دعَوه إلى المشاركة ودعَوا أنفسهم إلى المشاركة معه أيضاً.
    وصيغة أخرى برزت فيما بعد بين قريش أيضاً، كما ورد في حديث آخر، عندما قال بعضهم لرسول الله (ص): "يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة"، وبذلك كانوا يريدون بصيغة أخرى أن يساوموا ويشتركوا ويشاركوا وينتهوا من هذه الرسالة التي تهدد كيانهم ومزاعمهم ومقدساتهم وتحطم أصنامهم ومَن يهتمون بها.
    من الطبيعي أنّ هذا الاقتراح يقابَل بالرفض من رسول الله، فيقول لهم رسول الله: يا محمد قل لهؤلاء الناس: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وهذا واضح، فالفرق بين معبودي ومعبودكم كثير وكبير، معبودي فوق المادة، قوي واجب عادل حكيم وخالق. معبودكم عاجز ناقص ومخلوق. معبودي يوجهني نحو الحق والطهارة والحرية. معبودكم يحقّركم ويذلّكم ويجتذبكم إلى الباطل والانحراف. ربي يحميني وأنتم تحمون أربابكم. إذاً، إلهي وإلهكم يختلفان {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}. وعند ذلك يؤكد {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
    إذاً، اقتراحكم بالمساومة والمشاركة في العبادة اقتراح مرفوض، فليس رسالتي باب رزق لي ولا مجد لي ولعائلتي. إنما رسالتي هي حقيقتي، وأنا أذوب في سبيلها، أنا فرع لها، أموت لأجلها، ولذلك لا يمكن أن نعتبر الرسالة رسالتي بل أنا منها، ورسالتي لا تلتقي مع رسالتكم، لأنّ معبودي ومعبودكم يختلفان {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
    بطبيعة الحال، في هذا الحوار الذي هو رفض واضح لمزاعمهم ولمساوماتهم، لا يمكن أن يقبل الرسول بصورة من الصور، رغم أنه كان يبحث ويناقش، بل أمره الله (سبحانه وتعالى) بأن يجادلهم بالتي هي أحسن، ولكن هذه الطروحات الناتجة عن سوء فهم الرسالة المحمدية أو عن الطمع فيه، كانت مرفوضة بحال من الأحوال، والصرامة في الأساس هي الأساس في وضوح الخط ووضوح الرؤيا. فالمعبود عندما يختلف، سلوك الإنسان في حياته وانطلاقته جميعاً تختلف.
    نرجو أن يكون معبودنا وإلهنا الحق، وإننا نتمسك به لا نتنازل عنه ولا نساوم عليه ولا نقبل شريكاً له لضعف أو عجز أو إغراء. والله هو الموفق.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    تعليق


    • #17
      سـورة الكـوثـر

      الدرس الأول :
      بسم الله الرحمن الرحيم
      إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
      صدق الله العظيم
      هذه السورة المباركة التي تعتبر أقصر السور القرآنية على الإطلاق تضم على الكثرة والامتداد والخلود.
      فقد وردت عندما عاتب وشامت بعض المشركين والأعداء رسول الله (ص) بعدما مات ابناه القاسم والطاهر، على قول، فقال: لقد أصبح محمداً ابترا يموت فتموت رسالته ومهمته، وقد عبّر بعضهم عن ذلك صريحاً، وبعضهم بكنايات شائنة، وبعضهم كان يحفظ هذا الشعور في قلبه.
      ومنشأ الشعور والشماتة أنّ العرب كانت تعيش نظاماً قبلياً، فرسالة محمد في مقياسهم رسالة تبقى بوجوده أو بوجود أبنائه، أما إذا كان له بنات أو لم يكن له ذكور فرسالته تموت بموته. هذا التعبير أدخل بعض الحزن على قلب رسول الله (ص) سيما عندما انتشر الخبر، وكان يخشى على معنويات أصحابه عندما يسمعون هذا الأمر، فلا يراهنون على الأمر الباقي. عندها نزلت الآية الكريمة التي تأتي في نهاية هذه السورة لتقول: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، أما أنت يا محمد فكما تقول بداية السورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}. والكوثر على وزن "فوعل" كما نعلم هو كل شيء كثير متكاثر، والكثرة لرسول الله تشمل كل شيء من ذكره وأثره وأبناء أمته، ووجوده وآثاره، ومؤسساته، وتأثيره في التاريخ، كل ذلك معناه الكوثر وكل هذه المعاني متوفرة لدى الرسول (ص) بعناية الله تعالى. ولذلك فعليه أن يشكر الله، ويصلي لربه كما يأمره القرآن الكريم. ويضيف "وانحر"، أي ارفع يديك الى موضع النحر، بمعنى التكبير ورفع اليد. ولا شك أنّ رفع اليد هذا تكليف وسنّة من الله. ولعل سرّها كما يقول بعض الباحثين أننا عندما نرفع اليدين الى حد النحر نشير إلى أنّ جميع العالم، ما عدا الله، نرميه وراء ظهورنا ونتوجه الى الله تعالى. فعندما يؤمر النبي بالصلاة، وأن ينحر فمعنى ذلك أنه يلتزم ويرتاح ويطمئن الى الله تعالى ويترك كل شيء في سبيله.
      إذاً، إنا أعطينا الرسول الكوثر، فعليه أن يصلّي لله ويرفع يديه للتكبير. أو النحر بمعنى ذبح الأضحية والصدقة، وعند ذلك فمن واجب الرسول تجاه نعمة الله (سبحانه وتعالى) أن يصلّي وأن يتصدق بما ينحر يوم العيد في الحج أو في غيرهما، ولكن تناسب الآية عندما تختم السورة المباركة بها فتقول: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} تناسب هذه الآية يجعل معنى الكوثر يتناسب مع مفهوم الأبتر. وعند ذلك، فمعنى الكلمة أننا يا رسول الله رغم أنه مات أبناؤك وبقي لك البنات، سيما فاطمة، وسوف تكون ذريتك ونسلك منها كثيراً كثيراً، فقد ورد في الحديث أنّ الرسول (ص) كان يؤكد أنّ الحسن والحسين ابناه من صلب علي، وكان يسميهما "ولداه". يقول في الحديث: "الحسن والحسين ابناي إمامان قاما أو قعدا".
      ولذلك، فذرية الرسول بكثرتها تنفي ما ادعاه الشامتون من الأبتر، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ أثر النبي وأمته بعض آثاره، فقد ورد في الحديث الشريف: أنه قال إنه "أب لهذا الأمة"، وفي حديث آخر: "أنا وعلي أبوا هذه الأمة"، وباعتبار أنّ الذرية أثر وتربية.. للإنسان، فأمة محمد على كثرتها بقاء لرسول الله ورفض لمفهوم الأبتر. وتأثيره أيضاً على الحياة تأثيره على الحضارات والثقافات وما أكثر هذا التأثير معنى آخر للكوثر.
      إذاً، إنّ عدو محمد هو الأبتر، أما هو فأثره وذريته.. وخلوده، كثير وكثير جداً.
      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

      تعليق


      • #18
        الدرس الثاني:
        بسم الله الرحمن الرحيم
        إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
        صدق الله العظيم
        هذه السورة المباركة نزلت عندما مات ابن رسول الله الوحيد، إبراهيم، ابنه من ماريا القبطية. وقد حزن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لوفاة إبراهيم، وكان يبكي ويحزن. وعندما عاتبوه قال: "القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما لا يرضي الرب".
        عندما مات إبراهيم، حدثت حوادث كونية، فقد انكسفت الشمس، فقال بعض الناس: إنّ كسوف الشمس كان حزناً على ابن رسول الله. فرفض الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام)، نبي العلم والمنطق والواقعية، هذه الشائعة، مستنكراً هذا الترابط قائلاً: "إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد".
        وحينما مات إبراهيم، بدأ المنافقون يشمتون، ويقولون: إنّ محمداً سيموت وليس له من ولد يُحيي ذكره ويبقي رسالته. وكان حديثهم هذا ناتجاً عن الشعور القبلي، والأفكار العشائرية المنتشرة، أنّ الولد هو الوحيد الذي يبقي ذكر الإنسان. وما كانوا يتصورون أنّ الرسالة تتخطى نطاق الأولاد.
        حزن الرسول لقولهم، وشماتتهم، فجاءت السورة المباركة هذه تعزية لقلبه المتألم، وتأكيداً وتربية للحقيقة، وتربية له ولكل إنسان على وجه الأرض..
        تختم السورة قولها بهذه الآية: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، أعداؤك هم سوف ينساهم الدهر، وسوف لا يبقى لهم ذكر، هم الأبتر. أما أنت يا رسول الله فقد أعطيناك الكوثر. الكوثر بمعنى الشيء الكثير الكثير، مبالغة في الكثرة. أعطيناك الكثير الكثير، يعني أعطيناك الرسالة والأمة الكثيرة الكثيرة، التي تشمل العالم، والتي تستمر مدى الدهور، وتبقى الى آخر حياة الإنسان على وجه الأرض، ويدخل فيها الملايين الملايين، من البشر. أنت يا محمد أبوهم وهم أبناؤك {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
        ومعنى آخر، أننا أعطيناك الكثير الكثير، من الأولاد فأحفادك ليسوا من صلبك، بل أحفادك من رحم فاطمة ابنتك، ومن صلب علي. ولذلك كان يسمي الحسن والحسين "ابناه" وكان يقول "إنّ أولاده من صلب علي وفاطمة".
        وقد ثبت في التاريخ أنّ أحفاد الرسول، وهم السادة، بلغوا من الكثرة الملايين الملايين، المنتشرين في أرجاء العالم. فحتى الناحية التي كان يشمت من خلالها بعداء رسول الله، ما كانت ثابتة فكان أولاده أيضاً أكثر من أولاد شانئيه.
        ولذلك، فقد ورد في بعض الروايات أنّ الكوثر يعني فاطمة، باعتبار أنّ ذرية محمد (عليه الصلاة والسلام) من فاطمة.
        كما أنّ الكوثر بمعنى النهر المعروف، نهر الرحمة الذي يتوزع على العطشى يوم القيامة، والذي يغمر حياة الناس في آخرتهم، كما غمر رسول الله بكوثره الرسالي حياتهم في الدنيا.
        وبناءاً على ذلك، فمفهوم الكوثر، مفهوم شامل، يشمل الرسالة الشائعة المنتشرة، ويشمل الأولاد الكثر المنتشرين في أرجاء الأرض، ويشمل: الرحمة، والسمعة، والتأثير، والحضارات التي حصلت من دعوة الرسول.
        بناءاً على ذلك يا رسول الله، طالما أنّ الله أعطاك الكوثر فلا ترد عليهم، ولا تحزن وصلّ لربك وانحر. والنحر باعتبار أنه يؤدي الى إطعام الفقراء والمساكين، والشكر لله رب العالمين، فاتجاه هذه النعمة الإلهية، عليك أن تقوي صِلاتك مع الله، وعليك أن تقوّي صِلاتك مع المتعبين من عباد الله. عليك أن تصلي حتى تتقرب إلى الله، وعليك أن تزكي وتنحر وتوزع للناس، حتى تكون خير مَن خدم عيال الله، وأفضل الناس أشفقهم لعيال الله. والذي يشعر بشفقة لعيال الله، وهم البشر.
        هذه السورة المباركة، تعزية للرسول، وتربية لأمته، وكشف عن الحقيقة.
        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

        تعليق


        • #19
          الســـــلام عليــــــكم ورحمة الله وبركاتــــه

          تشكر أخي صدر على الموضوع ..

          جزاك الله خير وبارك بك ..


          تقبل خالص تحياتي

          تعليق


          • #20
            السلام عليكم

            اهلا" وسهلا" اختي عاشقة المصطفى لا شكر على واجب اتمنى منك متابعة الموضوع حتى النهاية لأنه مهم وجدا" .
            تحيــــــــــــــاتي .

            تعليق


            • #21
              سـورة المـاعـون

              الدرس الأول:
              بسم الله الرحمن الرحيم
              أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
              صدق الله العظيم
              في هذه السورة المباركة، نجد مبدأ أساسياً، من مبادئ الإسلام، وعميقاً في حياة الإنسان، يكشف عن الترابط بين الإيمان وبين الاهتمام بالشؤون العامة الاجتماعية. وفي ذلك رد واضح على الذين يظنون أنّ الإنسان يتمكن من أن يكون مؤمناً متديناً، ولكن دينه وإيمانه لا يتجاوزان علاقاته مع ربه، ولا يصلان إلى علاقاته مع المجتمع.
              وهذا المفهوم، يكشفه القرآن الكريم في هذه السورة، بصورة واضحة. فيقول: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}، هل ترغب أن ترى الذين يكذّبون بالدين؟ ويُخَطّئون رسل الله؟ ويكفرون بأديان الله ورسالات الله؟ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}،. فإذا تريد أن ترى هذا الوجود فانظر {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} فهذا مصدقا واضح للذي يكذب بالدين. ومعنى دعّ اليتيم: طرد اليتيم.
              ومفهوم الآيتين المباركتين، أنّ الذي يطرد اليتيم، ويحرم اليتيم حقه، هذا هو الذي يكذب بالدين. تعبيراً عن الترابط العميق بين الدين، وبين الاهتمام بشؤون الأيتام، وبين الإيمان وبين الاهتمام بشؤون المتعبين. فلا يمكن أن يبقى الإنسان متديناً ويطرد اليتيم.
              ثم تتابع السورة المباركة، فيقول: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}، فلا يمكن الإيمان بالله وطرد اليتيم، وعدم الاهتمام بإطعام المساكين وشؤونهم العامة. ثم تضيف السورة المباركة: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} حتى الذين يصلّون، ويعتقدون أنهم أدَّوا واجبهم، هؤلاء لهم الويل في حالات ثلاث:
              الأولى: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، فأولئك الذين لا يهتمون ويستهترون بصلاتهم، ويستخفون بواجباتهم الدينية، ويعتبرون أنّ الصلاة عمل ثانوي تابع في حياة الإنسان.
              والثانية: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ}، يصلون رئاء للناس، ولأجل الناس، ولأجل إظهار وجودهم، وكسب ثقة الناس بالنسبة إليهم.
              ثم الفئة الثالثة: من المصلّين الذين لهم الويل هم {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}، والماعون تعبير عن الزكاة، أو عن الصحون، أو عن كل ما يحتاج إليه الإنسان.
              والمقصود بالآية، حسب الظاهر وحسب ما ورد في التفاسير، أنّ الذي يمنع جاره من إعطاء حاجته، عندما يكون الجار محتاجاً الى شيء، فطلب من جاره ذلك، وكان الرجل مستغنٍ عن هذا الشيء، ولكن امتنع عن مساعدة جاره بالماعون، فهذا مصداق يمنعون الماعون. فالذي يصلّي ولا يبالي بحق جاره ويلٌ له.
              وهكذا، نجد أنّ القرآن الكريم يحاول أن يربط، ربطاً وثيقاً، بين الإيمان بالله وبين خدمة اليتيم والمسكين. وبين قبول الصلاة وبين مساعدة الجار، والاهتمام بأمر الجار.
              وهذا المفهوم ظاهر في الروايات التي وردت عن النبي الكريم وعن الأئمة المعصومين (ع)، حيث أنّ الحديث الشريف يقول: "ما آمن بالله واليوم الآخر مَن بات شبعاناً وجاره جائع".
              ينفي وجود الإيمان بالله واليوم الآخر هذا الحديث، مع تجاهل شؤون الجار، ومع عدم المبالاة بأوضاع الآخرين.
              فإذاً، لا يمكن أن يكون الإيمان إيماناً حقيقياً، والصلاة صلاة حقيقية، إذا تجردت عن الاهتمام بشؤون الآخرين.
              وهذا يؤكد أنّ الإيمان بالله، لا يمكن أن ينفصل عن محبة الناس، والاهتمام بشؤون الناس، والسعي لخدمة الناس.
              وبناءاً على ذلك، فالإيمان في منطق الإسلام ليس إيماناً تجريدياً لا يتجاوز القلب، بل إيمان يعيشه الإنسان في علاقاته مع الآخرين.
              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

              تعليق


              • #22
                الدرس الثاني:
                بسم الله الرحمن الرحيم
                أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
                صدق الله العظيم
                هذه الآية التي تبدأ بها سورتنا هذه، سورة "الماعون" {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}، ترسم صورة جديدة عن الكفر، وعن التكذيب بالدين، صورة تختلف عن الصورة التي عهدناها. فالمعروف أنّ المكذّب للدين، هو الذي ينكر ويكذّب النبي، ويتنكر للعقيدة وللإيمان. ولكن هذه الآية تضع أمام القارئ وأمام الإنسان صورة أخرى للتكذيب بالدين وللكفر.
                هذه الصورة هي صورة الذين يتنكرون لواجباتهم ولمسؤولياتهم العامة. فالذي يدعّ اليتيم، أي الذي يمنع اليتيم من حقه بقهر وعنوة، والذي لا يقدّم خدمة له، بل يقهره ويعنف معه، هذا الإنسان تعتبره هذه السورة مكذّباً بالدين أيضاً.
                ثم نجد في الآية الثالثة: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}، أي أولئك الذين لا يرغّبون ولا يشجعون على خدمة المسكين، ويمنعون المسكين من الطعام. وهنا نقف لحظة أمام كلمة "الطعام" للمسكين، لا "إطعام" المسكين. فكأنّ القرآن الكريم يقول إنّ المسكين هو المالك للطعام، فالطعام طعامه.
                إذاً، بكلمة مختصرة: أولئك الذين يمنعون اليتيم حقه، ولا يقدّمون خدمة للمسكين من طعام أو إطعام، أولئك الذين يهملون المعذبين من أبناء مجتمعهم، أولئك الذين يتجاهلون إخوانهم المعذبين والمحرومين، هؤلاء هم أيضاً صورة أخرى ومصداق آخر للمكذّبين بالدين.
                ومعنى ذلك أنّ الإيمان بالله والدين، له بعدان: بُعد نحو السماء، وهو الاعتراف بوجود الله والإسلام له بالعقل وبالقلب وبالجسد، وبُعد آخر نحو الأرض، نحو خدمة الإنسان. فكما أنّ الذي يقدّم الخدمة للإنسان وينكر الله، فهو الكافر والمكذّب بالدين، أيضاً أولئك الذين يؤمنون بالله ويتجاهلون حقوق الأيتام والمعذبين هم بدورهم كفار أيضاً.
                وهذا المعنى يتأكد في النصف الآخر من الآية الكريمة، عندما نقرأ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}. فهنا أيضاً تأكيد آخر على أنّ الصلاة، وهي عبادة الله، وهي معراج المؤمن، وعمود الدين؛ ورغم أنّ شأنها العظيم، ورغم أنّ الله لا يتقبل من الصالحين من العاملين عملهم إذا اختلف، وافترق واقترن مع التنكر للصلاة. مع ذلك، المصلّي إذا لم يتوفر له شروط معيّنة، من جملتها الإمتناع عن خدمة الآخرين، فصلاته ليست مقبولة. وهنا نقف أمام هذه الآيات المباركات: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}، لكي نجد صورة أخرى تدعم ما ذكرناه في بداية السورة، وبذلك تكتمل الصورة الشاملة.
                والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                تعليق


                • #23
                  الدرس الثالث:
                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
                  صدق الله العظيم
                  الصلاة، رغم شأنها العظيم، عندما تقترن مع بعض المفارقات إذا افترقت عن بعض نتائجها، لا شك أنها تدعو بالويل لمصلّيها، فمَن هم هؤلاء الذين تصبح صلاتهم ويلاً لهم؟ {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ويتعود على السهو في الصلاة بتركه للصلاة أو بإخلاله بالصلاة. لا شك أنّ السهو في الصلاة إذا صدر عن ضعف أو خطأ، فليس فيه عيب ولا خطيئة، بل المقصود من الآية أولئك الذين يتعودون السهو بإهمالهم للصلاة، وتجاهلهم للصلاة وباحتقارهم للصلاة.
                  هذه الطبقة من الناس، الذين يصلّون ولا يحترمون صلاتهم، ولا يستفيدون من صلاتهم لإهمالهم، وكبار الصحابة، نقلاً عن رسول الله، إنّ كلاً منهم كان يوصي الآخر بالاهتمام بالصلاة وبعدم إهمال الصلاة. لأنّ الصلاة، هذه الفرصة النادرة، الكريمة، التي وفّرها الله تعالى للإنسان فجعله متشرفاً بأن يتحدث مع الله ساعة يشاء، عندما يوفر الله هذه الفرصة للإنسان، ثم يتجاهل هذه الفرصة فالويل له لأنه عطشان، يجد نفسه أمام الماء ولا يشرب، وهذا من سوء حظ الإنسان عندما يجحد الفرص ويتنكر للسبيل التي تتوفر له في حياته.
                  أما الفئة الثانية، الذي يقول القرآن الكريم إنّ الويل لها رغم صلاتها، {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ}، أي أولئك الذين يمارسون صلاتهم، يصلون رئاء الناس ولجلب توجه الناس، لإبعاد الشك أو لجلب الثقة، أو لجلب الاحترام من الناس. فالصلاة إذا صدرت رئاءاً تبعد الإنسان عن الله ولا تقرّبه منه. والسبب واضح فالصلاة فعل نابع عن إرادة ونية وهدف. وعندما يصدر عن هدف فعلاً، فالفعل هذا يقوّي الهدف. فإذا كانت الصلاة تقرباً إلى الله، ورغبة في التقرب إلى الله وفي معرفته، فالصلاة تقرّب الإنسان وتحقق الهدف خطوة بعد خطوة. أما إذا كانت الصلاة من أجل اجتذاب الناس، لا من أجل التقرب إلى الله، فهذه النية، أي الدافع الذي هو الرغبة في الاقتراب من الناس، يقوى بالصلاة ويصبح الآخرون في نفس الإنسان بمنزلة المعبود، وهذه الصلاة تبعد الإنسان عن الله كما أنّ الصلاة الصادرة عن القربة تقرّب الإنسان إلى الله.
                  أما الفئة الثالثة، فهي أولئك {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}، والماعون عبارة عن كل عون يقدّم للإنسان الآخر، من جار أو صديق أو رحم أو ابن بلد. فعدة الشغل ووسائل العيش، وكل خدمة يمكن أن يقدّمها الإنسان لأخيه فهو "الماعون".
                  القرآن الكريم يقول: إنّ المصلي الذي يمنع أخاه المعونة والمساعدة حتى ولو كانت جزئية وصغيرة فالويل له. ومعنى ذلك أنّ الصلاة، وهي عبادة وتوجه إلى الله عندما تقترن مع تجاهل للناس فتدعو الصلاة بالويل على هذا الإنسان.
                  وهنا نصل إلى نتيجة ما ورد في صدر الآية. فالسورة في أولها تؤكد عدم الفصل بين الإيمان بالله والاهتمام بالإنسان، وفي ذيلها تفرض الربط بين الصلاة، وهي العبادة لله والخدمة للناس. فلا يمكن الفصل بين الحب والإيمان لله، والحب والاحترام للإنسان، سيما المعذبين. كما لا يمكن الفصل بين عبادة الله وبين خدمة الإنسان المحتاج على الأرض، وبذلك نجد صورة متكاملة في الإيمان وفي الفعل وردت خلال هذه السورة المباركة. التي نسأل الله أن يوفقنا لمتابعتها.
                  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                  تعليق


                  • #24
                    سـورتـا الفـيـل وقـريـش

                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
                    صدق الله العظيم
                    هاتان السورتان المباركتان تعدّان في الفقه سورة واحدة، مرتبطة إحداهما بالأخرى. والحقيقة، أنّ بين السورتين ربطاً عميقاً يكشف عن سر تاريخي كبير.
                    أما السورة الأولى فهي تتحدث عن قصة الفيل. وقد حدثت عام مولد النبي الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث حاول حاكم اليمن الذي كان مندوباً من قِبل ملك الحبشة، وقد بنى معبداً كبيراً في اليمن، وأراد أ، يجذب الناس إلى معبده، ويمنعهم من زيارة الكعبة. فلما فشل في ذلك حقد وحاول هدم الكعبة. فأخذ جيشاً كبيراً مع مجموعات من الأفيال وحاول هدم الكعبة، ومكة. ولكنه فشل في ذلك، لأنّ الله (سبحانه وتعالى) أرسل إليه والى قومه، مجموعات من الطيور بصورة متقطعة، فئات فئات، أو حسب تعبير القرآن الكريم "أبابيل". وهذه الطيور، رمت الجيش بحجارة صغيرة، فجعلهم كعصف مأكول.
                    ولا حاجة بنا أن نحاول إعطاء صورة غير واضحة عن هذه الحادثة التاريخية، كما يقول بعض كبار المفسرين، بأنّ المرض الوبائي قد سيطر على الجماعة الذين هجموا على الكعبة لهدم الكعبة. الوباء تفشّى بينهم وقضى عليهم. والمقصود من كلمة طير، كلمة الجراثيم والميكروبات.
                    لا حاجة لنا بهذا التفسير، سيما وأنّ الحادثة كانت قريبة من عهد نزول هذه السورة المباركة. فحينما تُليت هذه السورة على الناس في مكة، كان هناك الكثير الكثير من الناس، كانوا يشهدون، وقد شهدوا هذه الحادثة بصورة مفصّلة. فلو كان هناك أقل مبالغة، أو أقل تأويل، أو في الحقيقة كان هناك جراثيم عبّر عنها القرآن الكريم بالطير، لَتحدَّوا النبي وكذبوه. ولكن حقيقة الأمر ووضوحه، أدى إلى قبولهم، وسكوتهم، وعدم ردّهم لهذه الآية المباركة. والحقيقة أنّ الطيور حينما تأتي بصورة هائلة، كأسراب من الجراد، تتمكن أن تقضي على جيش. خاصة إذا كانت في منطقة سابقة من الطين، في منطقة رملية رطبة، وهي منطقة قريبة من مكة، منطقة الساحل على البحر الأحمر. فمن الممكن أنّ هذه الطيور قد حطت في الأماكن الساحلية، وبالتالي التصقت الى مخالبها كميات من الحجارات الرملية الصغيرة، وحينما عبرت فوق الجيش قضت عليهم نتيجة لصبّ هذه الكميات الهائلة من الحجارات الصغيرة، بواسطة هذه الطيور الهائلة.
                    هذا بالنسبة إلى أصل الحادثة، أما لماذا حدثت؟ فتجيب على هذا السؤال السورة التي تأتي، والتي تشكّل في الفقه تتمة للسورة الأولى. إنّ هذه الحالة والقضاء على الجماعة المعتدين على مكة، حصلت لإيلاف قريش. إيلافهم، محاولة لصيانة قريش وأهل مكة، وصيانة رحلة الشتاء والصيف، والتآلف فيما بينهم، وحفظهم من جوع ومن خوف، وعدم ابتلائهم بالمستعمر. ذلك أنّ جماعة اليمن، لو كانوا يتمكنون من السيطرة على مكة وهدم الكعبة، لكانوا يستعمرون أهل مكة. والاستعمار من طبيعته إخضاع الناس، وتعويدهم على النفاق وعلى الذل. وبالتالي فقدهم للميزات التي كانت الرسالة الإلهية بحاجة إليها.
                    فإذاً، حصلت حادثة الفيل، وحادثة الطير، لكي تصون أهل مكة من الاستعمار، وتحافظ على كرامة أهل مكة، وصيانة أخلاقهم، وتمكينهم من أن يحملوا رسالة الله التي سوف تأتي بعد هذه الحادثة. والتي ولد رسولها في السنة التي حدثت فيها هذه الحادثة.
                    وعلى ذلك، فعبارة {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}، التي تبدأ سورة "قريش" بها: جار ومجرور يتعلقان بالسورة السابقة، سورة الفيل. والقرآن الكريم يؤكد أنّ هذه الحادثة، حدثت لأجل المحافظة على قريش، ورحلاتهم، وإيلافهم، وحفظهم من جوع ومن خوف. وبالتالي، وقبل كل شيء، عدم ابتلائهم بمرض الاستعمار.
                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                    تعليق


                    • #25
                      سـورة الفـيـل

                      الدرس الأول:
                      بسم الله الرحمن الرحيم
                      أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
                      صدق الله العظيم
                      هذه السورة المباركة تتحدث عن واقعة الفيل، وهي واقعة معروفة العرب أجمع، حتى أنهم جعلوها بداية تاريخهم. وفي الآثار الإسلامية أنّ ولادة الرسول الأكرم صادفت هذه السنة أيضاً.
                      وعلى كل حال، فعلينا أن نتذكر أنّ الخلاف بين الحبشة وبين الجزيرة كان من قديم الزمن جارياً على طرفي البحر الأحمر، فكان في بعض الأحيان حكام الحبشة يسيطرون على الطرف الآخر من البحر الأحمر. وقد يمر بعض الوقت ويصبح التسلط لحكام اليمن على الطرف الآخر من البحر.
                      في هذه الفترة، كانت الحبشة مسيطرة على اليمن، وكان يحكم اليمن حاكم حبشي يسمى "أبرهة". وحاول "أبرهة" أن ينافس الكعبة، فبنى في اليمن معبداً، وحاول منع العرب من زيارة الكعبة، لأنه كان يدرك أنّ الكعبة رمز وحدة العرب وقوّتهم، ونشاط تجارتهم، وإمكانية تحوّلهم الثقافي. وعندما لم ينجح في منع الناس من زيارة الكعبة حاول أن يهدم الكعبة. فبعث لقريش رسلاً وأكد لهم أنه لا يقصدهم بل إنه يقصد هدم الكعبة. ومع ذلك فإنه وجد في طريقه صعوبات وإصطدامات ووقفات من القبائل العربية التي كانت ترى اعتداءاً صارخاً من حاكم اليمن الأجنبي على كعبتهم وقبلتهم.
                      واقترب "أبرهة" من مكة، وبدأ جيشه ينهب أموال المكّيين. وفي الجملة نهب عدداً من الإبل لسيد قريش عبد المطلّب، وهو جد الرسول الأعظم (عليه الصلاة والسلام). راجعه عبد المطّلب بخصوص الإبل، ولم يراجعه لمنعه من هدم الكعبة، وعندما سأله "أبرهة" متعجباً، قال: "أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه..".
                      هذه الثقة الكلية أدخلت الضعف في نفس "أبرهة"، فتردد وحاول أن يعود، ولكن لم يتمكن من العودة بسبب نصيحة أصحابه، وبسبب الخوف على معنوياته وهزيمته في اليمن أخيراً. في هذا الوقت، ورغم وجود الصعوبات في الطريق، حاول أن يدخل فامتنعت بعض الأفيال من الدخول إلى المسجد الحرام، ولكنه أصر على الدخول، فشاهد الناس ـ جميع الناس ـ أعداداً كبيرة من الطير، فئات فئات، التي يسميها القرآن الكريم بالأبابيل، فئة إثر فئة، ومجموعة إثر مجموعة. وكان الطير حاملاً حجارة من سجيل. والسجيل عبارة عن حجارة صغيرة تتكون من تركيب الطين مع الرمال. جاء الطير بصورة مجموعات وطار فوق رأس جيش أبرهة ورمى ما عنده من الأحجار، فقضى على جيش أبرهة.
                      ومن الطبيعي أننا إذا نظرنا إلى العدد الكبير من الطير، والى الكميات الكبيرة من الأحجار التي تحملها مئات الألوف أو الملايين من الطير، لا نستغرب الحادثة. ولعلنا شاهدنا مرات هجوم الجراد على البساتين والمزارع، فعندما تأتي موجات الجراد بالملايين تقضي على الحرث والنسل والزرع وكل شيء. وهكذا عندما كانت الكميات الكبيرة من الطير، تمر وتحمل أحجاراً صغيرة أو تحمل ما لصق بأقدامها من التراب المختلط بالرمال فترمي هذه المواد بكميات كبيرة على الجيش أو الفيلة، من الطبيعي أن تجعله كعصف مأكول.
                      وعلى كل حال، فالسورة تنقل صورة واضحة مرّت على تاريخ العرب، وشاهدها الكثير من الناس، وجعلوها بداية تاريخهم، واعتزوا بالحادثة واعتبروها حماية من الله تعالى لكعبتهم، ولقبلتهم ولحماية أرزاقهم ومجدهم وكرامتهم.
                      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                      تعليق


                      • #26
                        سـورة قـريـش

                        بسم الله الرحمن الرحيم
                        لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
                        صدق الله العظيم
                        هذه السورة المباركة، تبدأ بكلمة "لإيلاف". والجار والمجرور كما نعرف بحاجة إلى المتعلَّق! فكيف يمكن البدء بالجار والمجرور في بداية السورة دون ذكر المتعلَّق؟
                        الكثيرون من المفسرين حاولوا أن يوجدوا للجار والمجرور متعلَّقاً معنوياً، كما ورد في كثير من كتب اللغة العربية. ولكن الحقيقة أنّ هذه الكلمة {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}، ترتبط بالسورة السابقة، فهي كالنتيجة لواقع الفيل، ولدفع خطر أصحاب الفيل، ومنعهم من هدم الكعبة.
                        والواقع أنّ حادثة الفيل، والقضاء على "أبرهة" وجيشه وأفياله، رفعت معنويات قريش، وخلقت لهم عزاً كبيراً، وجعلتهم في أمان داخل بلدهم. يتمكنون من العبادة والتجارة، ويستفيدون من الأمن لكي يجتذبوا عدداً كبيراً من الحجاج، فتنتعش تجارتهم وأسواقهم. بالإضافة الى أنهم عندما ارتفعت معنوياتهم وكبر شأنهم، كانوا بسهولة يتمكنون من الانتقال في أرجاء الجزيرة، فيرتحلون شتاءاً إلى اليمن وصيفاً إلى بلاد الشام؛ وبذلك انتعشت تجارتهم.
                        إذاً، حادثة الفيل خلقت لهم هذا الوضع الذي أدى إلى "الإيلاف" في رأي كثير من المفسرين. فهؤلاء يقولون إنه بعد أن حصلت واقعة الفيل، أصبح وضع قريش بشكل أفضل، وفي حالة أحسن مما مضى. إنتعشت تجارتهم، فيذكّرهم القرآن الكريم بأنّ عليهم أن يعبدوا رب هذا البيت الذي أبعد عنهم شبح الجوع والخوف. المرضان الأساسيان، والخطران الكبيران على حياة الإنسان.
                        ولكن بعض الدقة، في مفهوم السورة، تجعل الإنسان ينتقل إلى آفاق أوسع. لأنّ حادثة الفيل منعت الاعتداء واستعمار مكة، وتسلّط قوم مستعمرين على الناس في مكة. وكان ذلك تمهيداً لرسالة الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) الذي ولد في نفس العام. فعندما جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة، كان المطلوب من أبناء مكة، أن يكونوا حَمَلة الرسالة. فلو تم الاستعمار وسيطرة "أبرهة" والجيش الحبشي على مكة، لأذلّوا الناس، وعوّدوهم على النفاق، وأذلّوهم وجعلوهم لا يتمكنون من الإتقان في حمل الرسالة الإلهية.
                        إنّ قريشاً، رغم تعذيبهم للرسول وقسوتهم أمامه، فقد حملوا الرسالة، بعد أن آمنوا بقوة، وتمكنوا من أداء الرسالة.
                        إذاً، ربنا (سبحانه وتعالى) أرسل على المعتدين على مكة طيراً أبابيل، فجعلهم كعصف مأكول، حتى تبقى قبائل قريش، وأهل مكة في عزّهم، وإيلافهم، وقوّتهم، وعنفوانهم، فيعبدوا رب هذا البيت، ويستعدوا لتحمل الرسالة.
                        والذي يؤكد هذا الأمر أنّ النعمة التي أنعم الله بها على أهل مكة، والتي وردت في الكلمتين {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وأمنهم مِّنْ خَوْفٍ}، لا يمكن أن تفسر بنتيجة انتعاش التجارة، وإلاّ لما وردت كلمة {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} بل لكان ورد "أطعمهم من تجارتهم"، أو "من كدّهم"، أو "من نشاطهم". ولذلك، بعض المفسرين يحاولون أن يعتبروا كلمة "من" بمعنى "بدلاً" أي بمعنى أنّ الله أطعمهم بدلاً من جوعهم وآمنهم بدلاً من خوفهم.
                        وبإمكاننا، على ضوء ما قلنا من التفسير، أن نفهم الكلمة بشكل آخر: إنّ الغاية من واقعة الفيل، لم تكن إنعاش تجارتهم، وإنما كان إبعاد الذل عنهم وتحضيرهم للرسالة المحمدية التي جعلتهم، رغم ضعفهم ورغم خوفهم وجوعهم، أقوياء حَمَلة الرسالة الإلهية. فقد جعل رسول الله (ص) برسالته المقدسة الإلهية، جعل من خوفهم أمناً، ومن جوعهم حياة، ومن ضعفهم قوة، لأنّ وجود الرسالة، رغم الجوع والخوف، وانطلاقاً من الجوع والخوف، قوة الرسالة التي تعتمد على الفقراء، وعلى المعذبين، وعلى طالبي الخلاص، جعلهم من جوعهم يخلقون حياة وطعاماً وانتعاشاً، جعلهم يخلقون من خوفهم أمناً، ومن قوّتهم ضعفاً. وهذا أيضاً يؤكد الصورة التي اكتشفناها في هذه السورة المباركة.
                        وبعد، فإنّ الكثيرين من المفسرين والفقهاء، يعتبرون السورتين: سورة "الفيل" وسورة "الإيلاف" سورة واحدة. ولذلك يفتي بعض الفقهاء بأنّ قراءة إحدى السورتين في الصلاة لا تكفي، بل يجب على المصلي أن يقرأ السورتين معاً، كما هو الشأن في سورتي "الضحى" و"الإنشراح".
                        وعلى كل حال، فالسورتان المعجزتان تكشفان عن الحادثة التي هي تمهيد لرسالة رسول الله، والمقترنة بولادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
                        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                        تعليق


                        • #27
                          بسم الله الرحمن الرحيم
                          وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9) صدق الله العظيم
                          في بداية دراسة معاني هذه السورة الجليلة، علينا أن نقف أمام بعض الملاحظات:
                          أولاً: في الروايات التفسيرية أنّ السورة هذه نزلت في حق "الأخنس بن شُريق"، وهو من قريش. ولكن المورد لا يقيّد مطلق الآيات، ولا يخصص عمومها، بل إنّ المورد هو إشارة إلى مفهوم الآية، فالآية والسورة تضم المورد وغير المورد، وهي قاعدة عامة للإنسان في كل زمان ومكان. وبخاصة أنّ في هذه السورة وردت كلمة "كل"، فالويل لكل هُمَزة لُمَزة، لا لشخص واحد. كما أنّ في نهاية السورة عندما نقرأ: {عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ}، معنى "عليهم" الجمع وليس الفرد، إذاً السورة للجميع.
                          ثانياً: الملاحظ في القرآن الكريم أنّ الله يبشّر بجنتين وجزاءين، وينذر بعذابين.
                          الجزاء الأول: الجنة العاجلة والسعي المنتج في هذا العالم، والجزاء الأدنى والسعي المرئي فوراً، هذه الأمور مقابل العذاب الأدنى، ومقابل ظهور الفساد في البر والبحر {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41). بالإضافة إلى أنّ القرآن يؤكد أنّ بعض أنواع العذاب، والمصائب العاجلة في هذه الدنيا، هي نتيجة أعمال الإنسان. إذاً، هناك جزاء سريع من خير أو شر، نتيجة عمل الإنسان، ينعكس على حياته الحاضرة. والجزاء الثاني: الجزاء الأوفى، والجنة المأوى، والآخرة التي هي خير من الأولى، مقابل العذاب الأخرى، والنار، وجهنم، وأمثال ذلك.
                          كثير من المفسرين عندما يقفون أمام آيات الجزاء يلفتون نظر الإنسان إلى الجزاء في الآخرة، وينسَون ويُهملون الجزاء السريع. مع العلم أنّ القرآن الكريم، والإسلام بصفته نظاماً أيضاً، يهتم جداً بنتائج أعمالنا في حياتنا هذه. وفي هذه الآية بإمكاننا أن نعتبر أنّ جزاء الإنسان الذي جمع مالاً وعدّده، وحسب أنّ ماله أخلده، فاحتقر الإنسان أخاه، جزاؤه، بإمكاننا أن نجده في هذه الدنيا من الجزاء الأدنى، وبإمكاننا أن نجده في الآخرة من الجزاء الأولى. ولا بأس إطلاقاً في أنّ هذه الآيات وغيرها تضم المعنيين معاً.
                          والآن، نقف أمام هذه الصورة المدهشة المعجزة المربية، التي تظهر من خلال هذه السورة المباركة، لنرى الجزاء الذي أعدّه الله للمنحرفين، في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضاً بعبارة واحدة وبجملة واحدة. إنّ الذي يجمع مالاً ويعدّه، ويحسب أنّ ماله أخلده، أي الذي همّه جمع المال، إنه يعشق المال ويعتز به ويعيش معه، ومع عدّه، يعتبر نفسه فوق البشر، ويعتبر ماله هذا خلوده أيضاً. وبسبب هذا الحب الذي يشبه العبادة يرى نفسه كبيراً. فيتكبر ويحتقر الآخرين، ويعتبر أنّ مصائر البلاد والعباد بيده. فبماله يشتري كل شيء، وبماله يسخّر كل شخص، وبماله يغيّر كل حقيقة، وبماله يطوّر كل ما يشاء لمصلحته، فيهمز من البشر بلسانه وبحركاته، في حضورهم وفي غيابهم.
                          هذا الإنسان المتكبر، عابد المال، المحتقر للآخرين سيجعله الله رب العالمين في عذاب يحطمه، لأنه يحتاج إلى التحطيم، ولأنّ المرض تجاوز عينه ولسانه ويده، بل دخل قلبه أيضاً. فالعذاب تحطيم له، وهو نار الله الموقدة. والنار قليلاً ما تضاف إلى الله. أضيفت إليه (سبحانه وتعالى) زيادة في الترهيب والتعظيم.
                          إذاً، نار الله الموقدة تحرق الأفئدة، الباطن إلى جانب الظاهر، فتدخل في القلوب. والإنسان هذا سيُربط بالأعمدة الممتدة في غرفة العذاب، وبابها مؤصدة، كالبهائم. فجزاء الكبرياء والاحتقار للآخرين والطمع في الخلود بطريق منحرف، أن يحطّم ويحترق ويُحرق وجوده جميعاً، ويُربط كالبهائم في أماكن العذاب. هذا بالنسبة إلى جزاء الآخرة.
                          وإذا حاولنا أن نفهم من السورة المباركة الجزاء الأدنى، نجد تماماً أنّ طغيان المال في هذه الحياة، واستضعاف الآخرين، والمس بكرامتهم، هذه المشاعر عند الإنسان، عند الحاكم، عند فئة، تؤدي إلى انعكاسات سلبية، والى ثورات دموية تؤدي إلى تحطيم هؤلاء الأشخاص، وتحطيم فئتهم ومجتمعهم. فتنفجر نار الغضب والأحقاد والانتقام لدى الناس، فتحرقهم وتحرق قلوبهم باستلاب الأموال، وتحرق كراماتهم وتجعلهم في سجن دائم مربوط بالعَمَد الممدة.
                          إذاً، السورة الكريمة تعبّر عن نتائج هذه النوعية من المسلك ومن المشاعر ومن الثقافة والفكر. جزاؤهم في الدنيا: الانحرافات والأخطار والثورات الدموية والصعوبات، وجزاؤهم في الآخرة أخزى كما سمعنا.
                          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                          تعليق


                          • #28
                            الدرس الأول
                            بسم الله الرحمن الرحيم
                            وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
                            صدق الله العظيم
                            علينا أن نتذكر أننا أمام كلمات الله، الذي وسع علمه كل شيء. ولذلك فإنّ المعاني المستفادة من القرآن الكريم، ظاهره ونصه والمستفادة منه، مع مراعاة لغة القرآن ومصطلحه الذي يستفاد من موارد استعمالات القرآن الكريم للكلمات في معانيها الظاهرة، وبمساعدة القرائن المتصلة أو المنفصلة الثابتة، هذه المعاني كلها، هي مفهوم للتفسير الصحيح. وقد تكون هذه المعاني متعددة، ذات مصاديق كثيرة أو متطورة، حسب تقدّم الفكر البشري عبر القرون والعصور. فالقرآن كلام الله، وكتاب الخلود، وكتاب الشمول، والمعاني المستفادة من القرآن مختلفة ومتفاوتة ومتطورة. وبإمكان الإنسان على ضوء فكره ومستوى ثقافته، ومقدار إحاطته، وقدر حاجته أن يستفيد من القرآن الكريم.
                            أما البحث في هذه السورة المباركة، سورة "العصر"، هذه السورة كان أصحاب الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام)، عندما يلتقي أحدهم بالآخر، يقرأ له هذه السورة، في حالة الوداع، أو في بداية اللقاء. فكان لهذه السورة شأن كبير في بناء الإنسان المسلم وفي بناء المجتمع الإسلامي.
                            أما السورة فهي تبدأ بكلمة "والعصر"، والعصر قَسَم. وفي القرآن الكريم نجد في موارد كثيرة أمثال هذا القسم. نجد القسم بالموجودات الطبيعية، وبالأحداث وبالأشياء. ومن نتائج القَسَم، أنّ القرآن الكريم يعطى المقسَم به شأناً رفيعاً يستحق أن يكون موضع القَسَم.
                            وهذا الأسلوب بوجه عام، أسلوب ثقافي وتربوي، يكشف عن رؤية القرآن ونظرته للموجودات كلها. فالقرآن الكريم، كما نشاهد، يقدّس الموجودات الطبيعية. فيقول عنها إنها ساجدة لله، وإنها تصلي لله، وإنها تسبّح لله. إذاً لا يرى القرآن الكريم الموجودات الكونية موجودات ساكنة صامتة، بل يراها فاعلة، متحدثة، متحركة تؤدي دوراً ورسالة. وفي هذه الآية وأمثالها، بالإضافة الى شأن القَسَم نجد دائماً أنّ القسم ذو دلالة ترتبط بالمضمون الذي يرد بعد القسم، والذي يؤكده القسم هذا.
                            أما كلمة "العصر" فشأنها شأن الكثير من الكلمات، لها معانٍ متعددة، يربط في الغالب بعض المعاني بالبعض الآخر، مفهوم عام مشترك. فالعصر في هذه السورة المباركة بعد الدراسة يدل على معانٍ عديدة.
                            الأول: العصر عامة. فالعصر هو الزمان الذي يحصل فيه الجهد والنشاط، لا الزمان المجرد، ولا الدهر، ولا الأيام. فالعصر هو الزمان المشغول، والزمان الذي يجري فيه العمل. وهنا نجد المفهوم المشترك، بين الكلمة بمفهومها الزمني وبين معناها المصدري، من عَصَر الشيء: يعصره. فكأنّ الزمان يختزل في طياته الأحداث والنشاطات والتواريخ.
                            إذاً، والعصر! بمعنى والزمان! فالقَسَم بالإضافة إلى التأكيد على احترام الزمن الذي يحتوي على سعي وإنتاج، دون العمر الفارغ والزمان العابر، القَسَم هذا تمهيد لمضمون الآيات التالية التي تتضمن: العمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، وتأكيد عليه، وإشارة خفية إلى أنّ الذي يريد أن ينسجم مع الزمان الحقيقي، وهو العصر، مع الخلق الإلهي، وهو الكد والعمل. فعليه أن يسلك هذا السبيل.
                            وهذا المعنى الشامل للعصر يحتوي على عصر الرسول الأكرم، وهو خير العصور، وأولاها بالقَسَم. كما يتضمن كل عصر يعيش فيه الإنسان المؤمن العامل المتواصي الذي وحده ليس خاسراً.
                            إذاً كلمة "والعصر" القَسَم بالزمان، لا بكل زمان، بل بالزمان الذي يسعى فيه الإنسان ويعمل ويجتهد.
                            وللكلمة معانٍ أخرى نتحدث عنها في الحلقات القادمة إن شاء الله.
                            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

                            تعليق


                            • #29
                              سـورتـا الضـحـى والإنـشـراح

                              بسم الله الرحمن الرحيم
                              وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
                              صدق الله العظيم
                              هذه السورة المباركة، والسورة التي تليها سورة "الشرح" المبدوءة بالآية الكريمة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.
                              لهذه السورة قصة طريفة، وهي أنّ الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام)، كان ينتظر الوحي الإلهي لكي يبلّغ الناس. والوحي كان يأتيه متتالياً، منظماً، في كل وقت. وفي بعض الأوقات، مرّت عليه أربعون يوماً. انقطع عنه الوحي، فشعر بالاضطراب والقلق الشديد. والسبب في ذلك، أنّ رسول الله، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في الحقيقة كان يتحدى العالم أجمع، فهو كان يتحدى الناس في نظامهم الاجتماعي، وسلوكهم. كان يتحدى العرب، وغير العرب، ولم يكن له من حليف ولا حامٍ غير الله. كان له حماة من القبيلة، ومن عشيرته، ولكنه لم يكن له حامٍ ودافع فكري، وروحي، ولذلك فهو كان يستأنس بالوحي، ويتقوى به، ويشعر بالقوة، والراحة، والصمود، عندما يوحى إليه. حتى إذا انقطع الوحي عنه، شعر بالقلق، لأنه وجد أنه منقطع أمام العالم، وأمام تحديات العالم. فشعر بقلق شديد، واستمر القلق حتى تعذّب عذاباً شديداً. ولعل السبب في انقطاع الوحي، كان سبباً تربوياً، يُقصد بذلك التأكيد على الرسول الأكرم، أنّ الوحي ليس منه، وأنه من الله. والتأكيد على الناس بأنّ الوحي ليس من صنع محمد، وإنما هو من الله (سبحانه وتعالى) تربية له وللناس.
                              استمر العذاب مدة طويلة، ثم نزلت هذه السورة المباركة، بهذه البداية الدافئة. و{وَالضُّحَى} اليمين بالضحى، والوقت المناسب المشرق الدافئ من النهار. {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} واليمين بظلام الليل، المناسب الملائم، الذي هو سبب الراحة والاطمئنان للإنسان. اليمين بالليل والنهار، وبالحالات الملائمة الناعمة في الليل والنهار.
                              {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . ثم يؤكد بعد هذه التسلية، اللطيفة، الإلهية، يؤكد له أننا لا يمكن أن نقطعك، وقد وجدناك يتيماً فآويناك، ووجدناك جاهلاً فهديناك، ووجدناك فقيراً فأغنيناك. ولذلك، فنعمتنا كانت مستمرة منذ الطفولة الى اليوم، فلا يمكن أن ننساك.
                              ثم يؤكد عليه بأننا أمام هذه النعم، نطلب منك شكراً عملياً يكون بمستوى النعمة. فوجدناك يتيماً وآويناك، ولذلك عليك أن لا تقهر اليتيم. ووجدناك ضالاً، أي جاهلاً فهديناك، ولذلك فعليك أن لا ترد سائل العلم فتعلّمه كما علّمك الله. ووجدناك فقيراً عائلاً فأغنيناك. ولذلك، عليك أن تشكر نعم الله وتتحدث لساناً وعملاً، بنعمة الله (سبحانه وتعالى) حتى يكون هذا شكر نعمتك.
                              وهنا علينا أن ننتبه الى نقطة طريفة، وهي أنّ سبب تذكير الرسول بأنه كان يتيماً سبب تربوي أيضاً. فالرسول كقائد أمة، عليه أن يلمس آلام الناس، ومتاعب الناس، ومشكلات الناس. ولمس هذه المتاعب والصعوبات بالتفكير التجريدي يختلف عن الإحساس المباشر. فالزعيم الذي كان يتيماً، وكان جاهلاً، وكان فقيراً، فتحسّن وتغلّب بعناية من الله، فهو يشعر آلام الأيتام ومشكلات الجاهلين، ومصائب المعذبين في الأرض. أما الذين لا يشعرون بهذه المشاعر فعليهم أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق الموجودة في داخل الناس حتى لا يترفّعوا عنهم، وحتى لا يتجاهلوا واقعهم.
                              وللقرآن الكريم أيضاً أسلوب طريف في هذه النقطة. عندما يجد الإنسان القائد، وكل إنسان راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، يجد القرآن الكريم أنّ الإنسان الذي لم يكن يتيماً أو فقيراً أنه قد لا ينتبه الى آلام الناس، فيخاطبه بالآية الكريمة: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا} (النساء:9).
                              مؤكداً أنّ الإنسان، ولو لم يكن يتيماً، ولكنه يخاف من أن يصبح أولاده يتامى. وهذا الشعور يهز مشاعر الإنسان ويدفعه الى أن يساعد الأيتام، وأن يكوّن وسيلة اجتماعية لإيواء الأيتام، ولخدمة الأيتام، حتى إذا صادف وأصبح أولاده يتامى، الموجة الخيرة، والمؤسسات الحسنة تأوي أيتامه، وتصلح شأنهم ولا تهملهم.
                              وتتابع السورة المباركة، سورة أخرى، سورة "الإنشراح"، والتي قال فقهاؤنا إنها وسورة "الضحى" سورة واحدة، لا يجوز الاكتفاء بإحداهما في الصلاة. وسورة "الإنشراح" أيضاً، استمرار لهذا الرفق الإلهي، والتسلية الإلهية لقلب رسول الله، ومزيد من الأمل والثقة.
                              بسم الله الرحمن الرحيم
                              أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
                              سورة الانشرح :
                              فكن يا محمد بأمل كبير، وبثقة، بأنّ الله معك، يجب عليك أن تتحسس آلام الآخرين، وتعرف أنّ مع كل مصيبة سهولة ويسر. ولذلك فعليك أن تستمر في الجهاد والسعي معتمداً على الله، متكلاً عليه. فلا يمكن إلاّ أن تصل، الى أن تؤدي الرسالة، وأن تتوفق بإرضاء الله (سبحانه وتعالى).
                              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              أنشئ بواسطة مروان1400, 03-04-2018, 09:07 PM
                              ردود 13
                              2,137 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة مروان1400
                              بواسطة مروان1400
                               
                              أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 31-08-2019, 08:51 AM
                              ردود 2
                              343 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة وهج الإيمان
                              بواسطة وهج الإيمان
                               
                              يعمل...
                              X