بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
وبعد
توضيحاً لما وقع فيه الهرج والمرج حول موضوع كون النبي (ص) أجيراً لرعاية الغنم، نرى ان من المناسب توضيح بعض الامور فنقول والله المستعان:
أولاً: وردت عدة روايات عند الشيعة والسنة تفيد بأن النبي (ص) قد رعى الغنم، بل أنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم (من مصادر الشيعة :الكافي ج3 ص233، علل الشرائع للصدوق ج1 ص32، بحار الانوار ج16 ص223-224)
ويظهر من هذه الروايات أن الرعي كالزراعة مستحب في نفسه وليس بعنوان التكسب كما صرح بذلك بعض فقهاء الشيعة (كالسيد الخوئي في مصباح الفقاهة ج1 ص54 و السيد الروحاني في فقه الصادق ج14 ص25)
وليس في هذا ضير بعد كونها مستحبة وبعد أن جعلها القوم في ذلك الزمان مفخرة يتفاخرون بها كما روى الحلبي في سيرته ج1 ص206 : ووقع الافتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم أي عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستطال أصحاب الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث موسى وهو راعي غنم...
ثانياً: وقع الاشكال في كون النبي (ص) قد آجر نفسه لرعاية الغنم، فقد وردت رواية عند السنة عن أبي هريرة عن النبي (ص) : كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة (كتاب البخاري ج3 ص48)
ووردت رواية عند الشيعة عن الإمام الرضا عليه السلام في حقه (ص): ومن آياته انه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا (عيون أخبار الرضا للصدوق ج2 ص150)
فادعى جماعة أنه (ص) كان يؤجر نفسه لرعي الغنم، وادعى آخرون انه لا يمكن ان يؤجر نفسه خاصة لأهل مكة من المشركين.
وللوقوف على حقيقة المسألة ينبغي أن ننظر أولاً إلى ثبوت كون النبي أجيراً (ولو في غير الرعي) لنكمل البحث فنقول والله المستعان:
روى الكليني في الكافي ج5 ص90 في باب (كراهية إجارة الرجل نفسه):
- عن المفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول: من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق.
وفي رواية أخرى: وكيف لا يحظره وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره .
- عن عمار الساباطي قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه اعطى ما يصيب في تجارته.
فقال : لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق الله عز وجل ويتجر فإنه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق.
فثبت بهذا أن اجارة الرجل لنفسه مكروهة من قبل المولى عز وجلّ.
فهل آجر النبي (ص) نفسه فعلاً ؟ وإن لم يكن قد آجر نفسه فما معنى الحديث المروي عن الإمام الرضا (ع) : راعياً أجيراً ؟
لبيان ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة.
ثالثاً: إجارة الرجل لنفسه في مدة معينة (أي كونه أجيراً خاصاً) تجعل للمستأجر سلطنة على الأجير، فله أن يمنعه عن غير ما استأجره في هذا الوقت.
وهذا بخلاف المضاربة، ومعناها أن يدفع شخص مالا لشخص ويعمل الثاني، فالمال من الأول والتجارة من الثاني، والربح يقسم بينهما بحسب الاتفاق، ولا سلطنة فيها بالمطلق.
بعبارة أخرى أن المضاربة (وتسمى قراضاً) تعني أن لكل منهما نسبة يتم الاتفاق عليها، بخلاف الإجارة فإن فيها المسمى أي ما يتم تحديده والاتفاق عليه.
وكثيراً ما يحصل التساهل في الاستعمال بين التعبيرين فيقال : الاجارة، ويقصد : المضاربة.
وقد يطلق أحدهما ويراد به الآخر.
وهذا واضح حتى في النصوص التي تتحدث عن النبي (ص) ومضاربته بمال خديجة قبل البعثة، ففي سيرة ابن اسحاق ج2 ص59 : وكانت خديجة ابنة خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه.
فإن الجملة نفسها تحتوي على عبارة (تستأجر الرجال) ثم (وتضاربهم) فالمقصود من الإجارة هنا المضاربة.
وقد ورد في تفسير الإمام العسكري عليه السلام ص155 : فان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسافر إلى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد.
وذكر اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 21 : وأنه ما كان مما يقول الناس انها استأجرته بشئ ولا كان أجيرا لاحد قط.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية ج6 ص318: وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربة.
هذا عدا عن تعبيرهم عن الاجارة نفسها بالبيع (كبعتك منفعة الدار).
فإذا كانت إجارة الرجل لنفسه مكروهة، وكان قولنا (اجيراً) قابلاً للحمل على المضاربة التي لا إشكال فيها بل ومستعملاً في هذا المعنى منذ ذلك الزمن، فإن هذا يفتح الباب لنا لنفهم المقصود من حديث الإمام الرضا عليه السلام : راعياً أجيراً، فيرتفع الاشكال بالكامل.
فإنه صلى الله عليه وآله كان يضارب كما فعل مع خديجة وما كان يؤجر نفسه لأحد.
هذا كله في أصل الإجارة.
أما كونه (ص) قد آجر نفسه للكافرين والعياذ بالله، فيكفي للرد عليه قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (النساء 141)
وقد ذكرنا أن الإجارة الخاصة تجعل للمؤجر على الأجير سبيلاً.. ولذا يفتي الفقهاء بعدم صحتها.. فإذا لم تصح للمؤمن كيف تصح لخاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق من ولد آدم أجمعين ؟!
نكتفي بهذا المقدار.. وإن خطر شيء بالبال يحتاج إلى مزيد بيان عدنا إليه بإذنه تعالى..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شعيب العاملي
والحمد لله رب العالمين
وبعد
توضيحاً لما وقع فيه الهرج والمرج حول موضوع كون النبي (ص) أجيراً لرعاية الغنم، نرى ان من المناسب توضيح بعض الامور فنقول والله المستعان:
أولاً: وردت عدة روايات عند الشيعة والسنة تفيد بأن النبي (ص) قد رعى الغنم، بل أنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم (من مصادر الشيعة :الكافي ج3 ص233، علل الشرائع للصدوق ج1 ص32، بحار الانوار ج16 ص223-224)
ويظهر من هذه الروايات أن الرعي كالزراعة مستحب في نفسه وليس بعنوان التكسب كما صرح بذلك بعض فقهاء الشيعة (كالسيد الخوئي في مصباح الفقاهة ج1 ص54 و السيد الروحاني في فقه الصادق ج14 ص25)
وليس في هذا ضير بعد كونها مستحبة وبعد أن جعلها القوم في ذلك الزمان مفخرة يتفاخرون بها كما روى الحلبي في سيرته ج1 ص206 : ووقع الافتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم أي عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستطال أصحاب الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث موسى وهو راعي غنم...
ثانياً: وقع الاشكال في كون النبي (ص) قد آجر نفسه لرعاية الغنم، فقد وردت رواية عند السنة عن أبي هريرة عن النبي (ص) : كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة (كتاب البخاري ج3 ص48)
ووردت رواية عند الشيعة عن الإمام الرضا عليه السلام في حقه (ص): ومن آياته انه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا (عيون أخبار الرضا للصدوق ج2 ص150)
فادعى جماعة أنه (ص) كان يؤجر نفسه لرعي الغنم، وادعى آخرون انه لا يمكن ان يؤجر نفسه خاصة لأهل مكة من المشركين.
وللوقوف على حقيقة المسألة ينبغي أن ننظر أولاً إلى ثبوت كون النبي أجيراً (ولو في غير الرعي) لنكمل البحث فنقول والله المستعان:
روى الكليني في الكافي ج5 ص90 في باب (كراهية إجارة الرجل نفسه):
- عن المفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول: من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق.
وفي رواية أخرى: وكيف لا يحظره وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره .
- عن عمار الساباطي قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه اعطى ما يصيب في تجارته.
فقال : لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق الله عز وجل ويتجر فإنه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق.
فثبت بهذا أن اجارة الرجل لنفسه مكروهة من قبل المولى عز وجلّ.
فهل آجر النبي (ص) نفسه فعلاً ؟ وإن لم يكن قد آجر نفسه فما معنى الحديث المروي عن الإمام الرضا (ع) : راعياً أجيراً ؟
لبيان ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة.
ثالثاً: إجارة الرجل لنفسه في مدة معينة (أي كونه أجيراً خاصاً) تجعل للمستأجر سلطنة على الأجير، فله أن يمنعه عن غير ما استأجره في هذا الوقت.
وهذا بخلاف المضاربة، ومعناها أن يدفع شخص مالا لشخص ويعمل الثاني، فالمال من الأول والتجارة من الثاني، والربح يقسم بينهما بحسب الاتفاق، ولا سلطنة فيها بالمطلق.
بعبارة أخرى أن المضاربة (وتسمى قراضاً) تعني أن لكل منهما نسبة يتم الاتفاق عليها، بخلاف الإجارة فإن فيها المسمى أي ما يتم تحديده والاتفاق عليه.
وكثيراً ما يحصل التساهل في الاستعمال بين التعبيرين فيقال : الاجارة، ويقصد : المضاربة.
وقد يطلق أحدهما ويراد به الآخر.
وهذا واضح حتى في النصوص التي تتحدث عن النبي (ص) ومضاربته بمال خديجة قبل البعثة، ففي سيرة ابن اسحاق ج2 ص59 : وكانت خديجة ابنة خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه.
فإن الجملة نفسها تحتوي على عبارة (تستأجر الرجال) ثم (وتضاربهم) فالمقصود من الإجارة هنا المضاربة.
وقد ورد في تفسير الإمام العسكري عليه السلام ص155 : فان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسافر إلى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد.
وذكر اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 21 : وأنه ما كان مما يقول الناس انها استأجرته بشئ ولا كان أجيرا لاحد قط.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية ج6 ص318: وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربة.
هذا عدا عن تعبيرهم عن الاجارة نفسها بالبيع (كبعتك منفعة الدار).
فإذا كانت إجارة الرجل لنفسه مكروهة، وكان قولنا (اجيراً) قابلاً للحمل على المضاربة التي لا إشكال فيها بل ومستعملاً في هذا المعنى منذ ذلك الزمن، فإن هذا يفتح الباب لنا لنفهم المقصود من حديث الإمام الرضا عليه السلام : راعياً أجيراً، فيرتفع الاشكال بالكامل.
فإنه صلى الله عليه وآله كان يضارب كما فعل مع خديجة وما كان يؤجر نفسه لأحد.
هذا كله في أصل الإجارة.
أما كونه (ص) قد آجر نفسه للكافرين والعياذ بالله، فيكفي للرد عليه قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (النساء 141)
وقد ذكرنا أن الإجارة الخاصة تجعل للمؤجر على الأجير سبيلاً.. ولذا يفتي الفقهاء بعدم صحتها.. فإذا لم تصح للمؤمن كيف تصح لخاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق من ولد آدم أجمعين ؟!
نكتفي بهذا المقدار.. وإن خطر شيء بالبال يحتاج إلى مزيد بيان عدنا إليه بإذنه تعالى..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شعيب العاملي
تعليق